الرواية

أحدثت الرواية غضبًا عارمًا، الفتاة في الثالثة والعشرين من عمرها، مجهولة الأب، ليس لها أسرة ولا شهادة ولا بطاقة مختومة، كانت هي روايتها الأولى، تكتبها بقلمها دون أن تكون كاتبة، دون أن تقرأ أساطير الأنبياء ولا الشعراء ولا الأدباء، لم يندرج اسمها ضمن الكاتبات.

قوامها ممشوق من طول المشي سعيًا وراء الرزق، يرتكز على عمود فقري صلب، تقاطيع وجهها بارزة حادة من شدَّة النحافة، منحوتة في عظام قويَّة كالصخرة.

كان موسم الانتخابات على الأبواب، تسبقه فضائح الجنس والفساد للمرشحين والمرشحات، تحظى النساء بنصيب أكبر بطبيعة الحال.

وكان هناك مجلس للشيوخ يسمُّونه مجلس الشورى، يضمُّ الحكماء من الذكور المسنين، والحكيمات من النساء المسنات، بطل الرواية عضو بالمجلس، في الرابعة والخمسين، أصغر الأعضاء سنًّا، يبدو شابًّا رياضيًّا، يمارس لعبة الجولف كلَّ يوم، بشرته ملوحة بالشمس، عيناه يكسوهما بريق، يرتدي بدلة أنيقة، وربطة عنق زاهية الألوان، حليق الوجه بلا شارب ولا لحية، تفوح منه رائحة معجون الحلاقة «لافندر»، خطوته واسعة سريعة يعمل في مؤسَّسة صحفيَّة كبيرة، صدرت له ثماني روايات، مشغول بكتابة الرواية التاسعة، اسمه «رستم».

كان رستم يتمشَّى على كورنيش النيل في الليالي القمريَّة الدافئة، يتوقَّف أمام الكشك على الناصية، يسمُّونه «بوتيك»، صاحبه شاب من أبناء الشهداء، يرتدي جلبابًا أبيض ولحية طويلة سوداء، تتدلَّى المسابح فوق واجهة البوتيك، والمصاحف ذات الأغلفة الذهبية، والمباخر وإمساكيات رمضان وأحجبة النساء.

يتهلَّل وجه الشاب كعادته حين يرى رستم قادمًا: أهلًا سعادة الباشا!

يناوله الشاب القطعة الصغيرة مما توضع في الشيشة أو تحت اللسان، والرواية الملفوفة داخل حجاب سميك من الورق لا يشف العنوان، وإمساكية الصيام. كان شهر رمضان على الأبواب، ومعه معركة الانتخابات.

– الأخبار إيه يا محمد؟

صوت رستم فيه بحَّة ذكوريَّة خشنة، مملوءة بالرجولة مع الدخان الكثيف، تجذب الشابات الصغيرات القارئات لرواياته الشائعة.

– الدولار طالع يا سعادة الباشا والجنيه نازل يرف.

يناوله رستم مظروفًا بُنِّي اللون مرسومًا عليه رأس النسر، مُغلَّفًا بشريط من السيليوتيب، يحمله الشاب بيدَيه الاثنتَين بعناية شديدة، كأنَّما طائر يخشى أن يحلِّق بأجنحته ويطير، ثم يختفي وراء قبو خشبيٍّ داخل البوتيك، بعد دقائق قليلة يخرج حاملًا كيسًا من البلاستيك الأسود.

– عدهم يا سعادة الباشا.

– أعد وراك يا محمد؟

– يلزمك كم إمساكية يا باشا؟

– حسب الناخبين … ألفين … ثلاثة … أربعة.

– الناس كلها معاك وربنا معاك.

– ربنا فوق الجميع.

في الليل قبل أن ينام ينزع رستم الغلاف السميك عن الرواية، كأنَّما ينزع الملابس عن امرأة، يعشق القراءة مع الدخان والكأس، تتحرَّك شهوته للمحرمات، مثل الآخَرين والأخريات، وكلُّ ممنوع مرغوب كما يقولون.

فوق ظهر الغلاف كانت صورة المؤلفة الشابة، داخل مربع صغير، تسمَّرت عيناه فوق ملامح الوجه، التقاطيع الحجريَّة البارزة، عيناها ثابتتان في عينَيه ثاقبتان قاطعتان كحدِّ السكين، في الثالثة والعشرين، تصغره بواحد وثلاثين عامًا، وُلدت في الجائزة الأولى، تسلمها في حفل كبير من يد الرئيس قبل اغتياله بخمسة شهور.

وأصبحت صورة الفتاة تظهر له في الحلم وهو نائم.

•••

هربت الفتاة إلى مكانٍ بعيدٍ تكتب فيه الرواية، لم تأخذ معها إلَّا حقيبة بها ملابسها وأوراقها، والجنين تحمله في أحشائها، سافرت إلى الشاطئ البعيد لتقترب من البحر المفتوح، تنشد الفرار من ظلام الجدران، وقرار القبض والإعدام. أرادت أن تهب الحياة لطفلتها، ثمرة الحب المقدس، النطفة الإلهية في رحم العذراء.

في الليل حين تسكن الريح وتنام مياه البحر، ترقد الطفلة غير المولودة في أعماقها، غير المعروفة النسب، مثل روايتها الأولى، لا تعرف اسمها.

كان الناس يعيشون في رعب. أكثر ما يرعبهم المجهول، والأشياء غير المعروفة الاسم، حتى الشيطان عرفوا اسمه «إبليس»، والآلهة أيضًا عرفوا أسماءها، وسقطت عنها الحجب.

تضغط الفتاة على مفتاح النور بجوار سريرها، تعود بذاكرتها إلى مدينتها … اجتازت عرض البحر من الجنوب إلى الشمال لتبتعد عنها، تحتاج الرؤية إلى بعد المسافة، بعيدًا عن الضجيج والأصوات الزاعقة، بعيدًا عن الأزقة ولهيب الصيف، تنزع التلافيف الملفوفة حول رأسها، تنظر إلى وجهها المكشوف لضوء الشمس، جسدها يسبح في البحر كالسمكة الفضية، عيناها مفتوحتان على الأفق دون سقف.

في أذنها طنين يذكِّرها بالذباب في حيِّ السيدة زينب، ودقَّات المنبه القديم بجوار وسادتها، وابتهالات الشحاذين والشحاذات أمام باب المسجد، يطلبون الرحمة والعدل من السماء، دون جدوى، تبقى السماء ممدودة فوق رءوسهم في صمتها الأبدي، إلَّا بعض لحظات نادرة في الشتاء، تنذر بصوت الرعد، يتساقط رذاذ مطر خفيف، لا يلبث أن يجف.

كانوا يجلسون في المقهى الصغير بالقرب من ميدان التحرير، يرشفون النبيذ. بعد الكأس الأولى تنتابها نشوة حزينة. إلى جوارها يجلس سميح، داخل بدلة رمادية من دون ربطة العنق، وجهه شاحب نحيف، عيناه خضراوان. أمامها تجلس كارمن، داخل ثوبها الملوَّن، شعرها بُنِّي اللون كثيف، يهتزُّ مع رأسها وضحكاتها المنطلقة. إلى جوارها رستم بوجهه الملوح بالشمس، داخل بدلة سماويَّة، وربطة عنق حمراء بها دوائر زرقاء، عيناه شاردتان، يملأ الكئوس الفارغة، يناولها كأسها، تتلاقى عيونهما في لحظة سريعة ثم يعود إلى شروده، تُبقي عيناها في عينَيه، وإنْ غابت، ثابتتين ثاقبتين قاطعتين كحدِّ السكين … مقلتان كبيرتان زُرقتهما سوداء، مثل أعماق المحيط، تذوب فيهما الألوان والأجناس تكسبهما جاذبيَّة خاصة تعلو فوق الجنس.

مدينة القاهرة في الليل مؤنثة الاسم، عقلها الظاهر في النهار يؤمن بالإله الذكر، عقلها الباطن تعيش فيه الإلهة الأنثى، تجوب شوارعها سيرًا على قدمَيها، أو داخل السيارة المرسيدس، بلون البدلة، يقودها رستم، أول مرة يدعوها وحدها، كانت كارمن في نيويورك تشارك في مؤتمر عن الرواية «ما بعد الحديثة»، سميح كان في أسيوط يُلقي محاضرة في الجامعة عن «بيولوجيا الثقافة».

في شارع الهرم تعلَّقت عيناها بقمم الأهرامات، تلمح وجه رستم … أنفه مرفوع فيه كبرياء، شفتاه ممتلئتان غليظتان كالشفاه الأفريقية، يداه كبيرتان يُغطِّيهما شَعر أصفر ملوح بالشمس، تتحرَّكان فوق عجلة القيادة في ثبات وثقة.

المرة الأولى يدعوها وحدها، تعوَّدوا أن يكونوا معًا هم الأربعة، شيء خفي يحدث بينهما، تيَّار من الأحاسيس المُبهَمة تثير القلق.

حين تكون الفتاة وحدها يجتاحها إحساسٌ جارفٌ بالحزن، من حولها جدران الشقة الضيِّقة في الزقاق المسدود، تشاركها الشقة «جمالات»، صحافية متوسطة العمر، ضخمة الجسم، شَعرها المصبوغ بالحنة الحمراء ملفوف بطرحة بيضاء، وجهها أبيض سمين تغطيه بالمساحيق والألوان، عيناها سوداوان ترسمهما بالكحل، حاجباها رفيعان مرسومان بسن القلم على شكل قوس، أنفها عريض، وشفتاها رقيقتان مصبوغتان باللون الأحمر.

الشقة من غرفتين، واحدة للفتاة والثانية لجمالات، بكل غرفة سرير عريض من الخشب الكالح، ودولاب قديم للملابس، ومنضدة صغيرة للأكل والكتابة، والضرب عليها بقبضة اليد عند الغضب، الصالة ضيِّقة مُظلِمة، نافذة واحدة تطلُّ على المنور، والمطبخ أشد ظلمة، لا يتَّسع إلَّا لغسل الصحون في الحوض، والوقوف أمام النار للطبخ.

قال رستم وهو يقود سيَّارته المرسيدس، القاهرة مدينة لا تَقهر إلَّا الضعفاء، يتخفَّى فيها الفساد تحت حجاب الشرع، ويرتدي حاكمها ثوب الإله الرب. كانت تشعر بتأنيب الضمير؛ لماذا قبلت دعوته؟ كانت تبحث عن عمل مثل الشباب العاطلين والعاطلات، أملهم الوحيد هو الهجرة، أو السفر خارج الوطن، كلمة الوطن تقف في حلقها كالغصة.

كانت كارمن تأخذها بسيَّارتها حين يسافر زوجها، لم تكن تركب سيَّارته المرسيدس الكبيرة، تفضِّل سيَّارتها الفيات الصغيرة، تخرجها من جراج البيت في جاردن سيتي، تجتاز شارع قصر العيني إلى شارع المبتديان، تدخل الزقاق المسدود في حي السيِّدة زينب، تتوقَّف أمام الباب الخشبيِّ الكالح، تضغط على بوق السيارة مرتين، تهبط الفتاة السلالم المظلمة، تتفادى الدرجة المكسورة قبل الدور الأرضيِّ، تركب إلى جوارها، تنطلق بهما إلى صحاري سيتي، تركن كارمن السيارة أمام الشاليه الصغير وسط الصحراء، تخلعان الأحذية وتمشيان فوق الرمال الناعمة، تحكي لها كارمن عن رواية قرأتها، أو نكتة سمعتها، أو حادث وقع لها …

توقَّفَت فجأةً عن الكلام، دَوَّى صمت الصحراء في أذنها كالصفير الحاد، منذ طفولتها تخاف الظلام. التلال الرملية تبدو من بعيد كالأشباح، كارمن واقفة ثابتة، عيناها تنظران بعيدًا ناحية قمم الأهرامات.

جاءها صوتها خافتًا: رستم يحبك.

– زوجك؟

– أَيْوه.

رغم مرور الأيام بقي صوتها في أذنها، «رستم يحبك»، الارتجافة مع المفاجأة، القشعريرة والرعشة تحت ضلوعها، كيف عرفت ما لم تعرفه هي؟

– أنا لا أعرف شيئًا، أقسم.

– لا داعي للقسم، أنا أصدِّقك.

في غرفتها في زقاق السيِّدة فكَّرَت كيف نطقت الكلمتين «أقسم بالله»، ليس من عادتها أن تقسم بالله، لا تحترم الناس الذين يقسمون بالله، فهم كاذبون لا بد، وإلَّا ما كانوا في حاجة إلى القسم.

عاد رستم من السفر، جاءها صوته عبر أسلاك التليفون يدعوها إلى ندوة عن رواية «بحر سارجوسا»، لكاتبة من الكاريبيان اسمها «جين ريس». كانت تحب حضور هذه الندوات، تُعقد في دار النشر في مصر الجديدة، ورثها سميح عن أبيه، تفرَّغ لها وجعلها مركز إشعاع للأدب والفن. كان سميح يملأ حياتها على نحوٍ ما، تجمعها به علاقة حب، زال عنها الوهج والشوق الجامح، أصبحت مثل نهر هادئ، لا شيء يدقُّ تحت الضلوع، ولا شيء يثير الخيال.

•••

على الشاطئ البعيد كانت المدينة الأخرى، اسمها برشلونة، في الربيع تتغطَّى شوارعها بالشباب والشابات، أجسام ممشوقة رشيقة، لا تعرف نوع الجنس من الملابس أو الشكل الخارجيِّ، لا شيء يفرِّق الأنوثة عن الذكورة إلَّا المشاعر العميقة غير المُدرَكة بالعقل بالواعي، برشلونة مؤنثة الاسم والجسم، وإن ظلَّ عقلها ذكوريًّا، تؤمن بالإله الأب وابنه الذكر، المحمول فوق صدر أمه العذراء، اختفى كيانها تحت اسم الشبح أو الروح القدس.

لم تستطيع كارمن أن تتخلَّص من إيمانها بالمسيح، كما أنَّ زوجها رستم لم يؤمن بإله سماويٍّ، فقد ساعدته علوم الفلسفة على ذلك، سميح أدرك هذه الحقيقية في طفولته، قبل أن يدخل المدرسة.

كانت الفتاة تعاني ما يشبه عقدة النقص، لم تدخل الجامعة ولم تحصل على شهادة، نشأت في الفقر والحاجة إلى العمل، تنظر إلى الكون باعتباره موجودًا منذ الأزل، وباقيًا إلى الأبد، لم يشغلها كثيرًا كيف جاء، لم تقرأ الكتب الدينية، كانت تفضِّل قراءة الأدب والروايات، تحرَّر عقلها وانطلق في الأفق الواسع، بقيت روحها حبيسة الجسد، يستهويها الحوار بين سميح ورستم وكارمن، تشترك فيه بقلب بارد خالٍ من الإيمان، أحشاؤها ترتعش حين ينطق أحدهم بكلمة إلحاد.

كان ذلك في الأيام الأولى لعلاقتهما، قبل أن تعرف أنَّه يحبُّها، وقبل أن تعرف كارمن، أول مَن عرف هو سميح، كانوا يجلسون كعادتهم في المقهى الصغير، يرشفون النبيذ على مهل، سميح يتحدَّث عن بيولوجيا الفلسفة وكيمياء المشاعر.

بعد أن تركها رستم وكارمن تمشَّت مع سميح على كوبري قصر النيل، الموجات على سطح الماء تلمع تحت الضوء كالأسماك الفضيَّة … كان سميح يقول ممسكًا يدها: ألم تلاحظي شيئًا على رستم؟

– تقصد إيه؟

– أظن أنَّه يحبُّك.

اهتزَّ حديد الكوبري تحت قدميها، توقفت، كيف يلاحظ سميح ما لم تلاحظه هي، مع أنَّ الأمر يتعلَّق بها.

•••

تطلُّ الفتاة من نافذتها العالية على ميناء برشلونة، مياه البحر الأبيض تتابعها، تسبح معها جنوبًا وشرقًا حتى شاطئ الإسكندرية، مهما ابتعدت يظل الحنين، ليس لها وطن أو مسقط رأس، ليس لها أهل تعود إليهم، لم تكن لها طفولة ولا حكايات المارد والغولة، ينتابها الحنين أحيانًا إلى القضبان، ورائحة الأرض الأسفلت والمجاري تترامى رائحتها عبر البحر، يمحو الزمن عفونة الماضي، ويستحيل الألم لذةً على نحو ما.

تعيش الفتاة في غرفة صغيرة فوق سطح عمارة عالية، تملكها امرأة اسمها «يولاندا»، تسكن الدور الأول، وتملك محلًّا لبيع الخمور في الدور الأرضي يطل على الميدان، ومطعمًا صغيرًا يشتهر بوجبة «باييلا مارنيرا»، خليط من قواقع البحر والجمبري والطماطم والبصل والثوم، مع الأرز المطبوخ، لونه ذهبي أصفر، يلمع تحت الضوء، يتصاعد منه البخار، يثير شهيَّتها وهي تمشي أمام المطعم، ثمن هذه الوجبة تسعة يورو، لم يكن لها عمل ولا مورد رزق.

يولاندا قصيرة سمينة، حول عينيها دوائر رمادية، بشرتها مترهلة بيضاء، تلفُّ شعرها الأصفر بشريط أسود، تبعثر أولادها وبناتها في بلاد العالم، إلَّا ولد واحد اسمه فرانسيسك، يتقمَّص شخصية «سلفادور دالي» بشاربيه الضخمين، يقف في «الرامبلا» مثل تمثال، جسمه مدهون بمسحوق أبيض، يؤدي حركات البانتوميم الصامتة، ثم يتجمَّد فجأة، يصبح تمثالًا مصنوعًا من الحجر أو الجرانيت، يمر به الناس يرمقونه بإعجاب لا يخلو من الإشفاق، قد يلقي أحدهم بقطعة من النقود في القبعة الراقدة فوق الأرض أمام قدميه.

أول مرة رأت يولاندا كانت جالسة في المطعم، تلتهم صحن الباييلا مارنيرا، رأتها ترمق الجمبري المقلي والأرز الذهبي يتصاعد منه البخار، عقدت معها صفقة قبلتها بحكم الضرورة، أن تشتغل في المطعم أربعة أيام في الأسبوع مقابل الغرفة فوق السطوح.

– ومن أين آكل يا يولاندا؟

قالتها باللغة الكاتالانيَّة الركيكة، مع الإشارات بيدها إلى فمها. هزَّت يولاندا رأسها وأشارت إلى الغرفة الداخليَّة في المطعم. رمقت جسمها الناحل ووجهها الشاحب الطويل: لا أظن أنَّكِ تأكلين كثيرًا يا ابنتي.

نطقت كلمة ابنتي بصوت أموميٍّ، لا ينم عنه مظهرها القاسي، له رنين معدني يشبه الآلة الحاسبة، قدَّمت لها صحنًا من الباييلا الساخنة، بدأت الفتاة العمل في هذا اليوم الأول حتى منتصف الليل، ثم أخذت المصعد إلى الدور الأخير، ومنه صعدت السلالم إلى السطح، توقَّفت لحظة تستنشق هواء البحر، تشهد ميناء برشلونة من بعيد، أطراف السفن الراسية عند الشاطئ، تمثال كريستوفر كولومبس من طرفه، رافعًا ذراعه مشيرًا بإصبعه إلى البحر، ناحية الشاطئ الجنوبي، شمال أفريقيا.

جاءها فرانسيسك ذات ليلة، وقف إلى جوارها فوق السطح يشمَّان الهواء، بدأ يعلِّمها الكاتالانية وهي تعلمه العربيَّة، قال إن كريستوفر كولومبس يشير بإصبعه إلى الاتجاه الخاطئ، لأنَّه سافر شمالًا إلى أمريكا وليس جنوبًا إلى أفريقيا، أمسك يدها بيده، ينظر في عينيها تحت ضوء القمر، عيناه زرقاوان تلمعان، تصبحان في الليل سوداوين، تشبهان عيني رستم، وأحيانًا عينَي سميح.

•••

في النوم تسافر عبر البحر لتعود إلى غرفتها في الزقاق المسدود بحي السيِّدة زينب، تشبه غرفتها في برشلونة، تطبق جدرانها الكالحة على روحها، والسرير الخشبي القديم يئن تحت الجسدين المتلاطمين في الظلمة، تتعرف على أحدهما، إنَّه جسدها، تحمله معها منذ طفولتها حيثما ذهبت، تعرفه عن يقين، تلامسه بأطراف أصابعها بالحنين القديم، تغترب عنه لحظة كأنما جسد امرأة أخرى، ثم تعود إليه تتعرَّف عليه، الأصابع النحيلة السمراء، الأظافر الشاحبة المقصوصة بحسب أوامر يولاندا، الرعشة الخفيفة الناجمة عن الحزن الغامض الغائر في أعماقها.

الجسد الآخر لا تكاد تعرفه، يتقمَّص في السرير حركات البانتوميم، قد يهمس في أذنها باسم يشبه اسمها، ترد عليه من دون أن تعرف اسمه، تناديه فرانسيسك، وأحيانًا رستم، أو سميح، أو اسمًا آخر عالقًا بالذاكرة.

•••

رغم تحرُّرها تقبع في أعماقها امرأة حبيسة، انطلق عقلها وجسدها خارج القضبان، بقي جزء من كيانها أسيرًا، ربما هي الروح العاجزة عن التحرر. كلمة «الروح» مؤنثة في لغة القرآن ومع ذلك ترمز إلى إله السماء.

كان رستم يقول: اللغة أقدم من الدين، حواء هي أصل الوجود، آدم ليس إلَّا الفرع … ثم يرمقها بعينيه ذات البريق، يدرس أثر كلماته عليها، تسبقها زوجته كارمن في الإعجاب به، تصفِّق بيديها البيضاوين الناعمتين كالطفلة: برافو! أنت أجمل رجل في العالم يا رستم.

يرمقها بنظرة سريعة، تتلاقى عيونهما في لحظة ثم تشرد بعيدًا، تنتابها أحاسيس غامضة، بعضها حزن، بعضها فرح، عيناه عسليَّتان كبيرتان، مزيج من دماء الشمال والجنوب، كيمياء الشرق والغرب … درس الفلسفة في كامبريدج، ثم تركها ليكتب الرواية، في كيانه المزدوج تناقض الحياة، شفتاه ممتلئتان بشهوة متدفِّقة، في عينيه نظرة محايدة باردة تشبه القضاء والقدر.

سميح كان مختلفًا، عيناه الخضراوان فيهما نظرة دافئة، شفتاه رفيعتان باردتان، كانت أمه راقصة في ملاهي الإسكندرية، تعشق الفن المصري القديم، بعد أن ترقص لا تعطي جسدها للرجال، تشاركهم الحديث عن الفنِّ والفلسفة حتى يطلع الفجر، وقع في حبها ضابط جيش يملك دارًا للنشر، قتلته قنبلة أثناء العدوان الثلاثي على بورسعيد عام ١٩٥٦، كان سميح عمره ثلاثة أشهر، واصلت أمه مهنة الرقص حتى تخرَّج في جامعة الإسكندرية، أرسلته إلى باريس حيث حصل على الدكتوراه في علم الأنثروبولوجيا وثقافة الأجناس، في أعماقه حنين إلى الفن يشبه الحنين إلى الأم، ورث عنها شقة على البحر في الإسكندرية، وشقة على النيل في جاردن سيتي، وورث عن أبيه دار النشر في مصر الجديدة.

كانت كارمن تترك سيَّارتها الفيات في الجراج أحيانًا، لا تحب القيادة في شوارع القاهرة أثناء النهار، تفضل القطارات تحت الأرض: مترو الأنفاق، من محطة سعد زغلول إلى حديقة الحيوان في الجيزة، تكتب رواية بطلها طبيب بيطري يعالج الحيوانات، كان اليوم دافئًا في شهر أبريل، ترتدي ثوبًا ربيعيًّا يكشف عن ذراعَيها وجزء من الصدر، شعرها البُنِّي الداكن مسدل فوق كتفَيها، في المترو كانت تجلس امرأة تختفي تحت عباءة سوداء، لا يظهر منها إلَّا عينان سوداوان مشتعلتان بالغضب.

فجأة أخرجت المرأة من حقيبة يدها منديلًا كبيرًا أسود، اندفعت بحركة سريعة نحو كارمن لتغطِّي شعرها وعنقها وهي تصيح: الحجاب مثل الصلاة واجب عليك! انتفضت كارمن واقفة، خلعت عن رأسها المنديل وقذفت به المرأة، نشب العراك بينهما، نزعت كارمن عن المرأة حجابها، فانكشف رأسها الأصلع أمام الناس.

ضحك رستم حين سمع الحكاية. ظلَّ سميح صامتًا واجمًا، ثم قال: اللعب بالدين في السياسة كاللعب بالنار. القاهرة تعيش فوق بركان مكتوم.

عناوين الصحف ترمقها كارمن بطرف عين: بعض أعضاء مجلس الشورى يؤيدون عقوبات الرجم والجلد وقطع يد السارق وتحريم شرب الخمر، أربعة عشر من الشباب المهاجرين يغرقون في البحر قرب شاطئ برشلونة، الفتاة الشابة تُقدَّم للمحاكمة بتهمة القتل والحمل السفاح وانعدام مشاعر الأمومة … انهيار الأخلاق في عصر الديمقراطية والإصلاح.

يرمقها زوجها رستم بطرف عين، يتبادلان النظرات من تحت الجفون نصف المُغلَقة، يتبادلان الاتهامات دون صوت، في الليل يتبادلان العناق في صمت، أصبح للزوجة حاسة شمٍّ أقوى من الكلاب، تعرف رائحة المرأة الأخرى، خاصة رائحة الفتاة، عطر الصابون الرخيص في الأسواق، وغسول الشعر الشامبوه من أرخص الأنواع، مع قطرات العرق والتعب، وذرات الشراب في الزقاق المسدود بحيِّ السيِّدة.

•••

يتألق سطح البحر عند شاطئ برشلونة، تتمدَّد الأجسام تحت أشعة الشمس الذهبيَّة، ترتدي الفتاة المايوه الأبيض من قطعتين، تسبح تحت الماء كالسمكة الفضيَّة، مياه البحر دافئة في الربيع، نسيت الفتاة حياتها الماضية، تلاشت الوجوه من ذاكرتها، إلَّا وجه القاضي الجالس فوق المنصة في المحكمة، يدقُّ بالمطرقة فوق المنضدة.

كل شيء في برشلونة يتفتَّح في شهر الربيع والزهور، عيون القطط المغمضة، عذراوات الشرق والطيور المهاجرة، السماء زُرقتها شفافة، سحابة واحدة داكنة تُخفي وراءها العين الساهرة التي لا تنام، تراقب سلوك البنات، لا ينافسها في يقظتها إلَّا عين إبليس، تتخفَّى أيضًا وراء السحابة.

تراقب الفتاة السحابة وهي تزحف، تقترب بحذر من رأس كريستوفر كولومبس، من ورائه الجبل اليهودي، لا يرتفع إلى رأس التمثال الشامخ، في شارع الرامبلا، تتمشَّى الفتاة بين أكشاك الزهور، تحرِّك ذراعيها وترقص على لحن تعزفه مجموعة من الشباب تقوم بأعمال بهلوانيَّة، تطير في الهواء مثل عصفورة، تنثني على الأرض مثل قطعة من العجين، في المقاهي يجلس الرجال والنساء، يرشفون النبيذ والبيرة المثلَّجة، تلمع عيونهم تحت ضوء الشمس، يأكلون على مهلٍ من صحون تتصاعد منها رائحة السمك المشوي وقواقع البحر.

ترتدي الفتاة قميصًا ربيعيًّا خفيفًا وبنطلونًا أسود واسعًا، تنتعل حذاء كاوتش، تجري تسابق الريح، من ميدان كاتالونيا حتى شاطئ الأولمبيك، رائحة العشب واليود تعيدها إلى شاطئ سيدي بشر، كانت تسبح بجوار سميح، يسبقها إلى صخرة ميامي، تحبُّه داخل البحر أكثر مما تحبُّه وهو يمشي فوق الأرض. أما هي! لم تعرف البحر في طفولتها، ولدتها أمها بين الجدران السوداء، مسقط رأسها قطعة من الأسفلت.

بعد العشاء يسيرون هم الأربعة في شارع النيل — رستم وكارمن وسميح وهي — مَرُّوا بواحدة من بنات الليل، واقفة تستند بجسمها الناحل إلى عمود النور، عيناها المكحلتان تتَّسعان لحزن الكون، رمقَها رستم وسميح بنظرة طويلة من الساقين إلى النهدين، مزيج من الشهوة والإشفاق.

قالت كارمن: ينجذب الرجال إلى بنات الهوى، من الإله آمون حتى سيِّدنا موسى وعيسى ومحمد.

رنت كلمة «محمد» في أذنها فانتفض جسدها بالخوف، لم تتخلَّص من رعب الطفولة والأجسام المحروقة في نار جهنم.

تُذكِّرها الأزقة في برشلونة بأزقة القاهرة، الفوانيس المعلَّقة فوق أبواب البيوت العتيقة، الأنوار المتلصِّصة من الدكاكين تحت الأعمدة الحجريَّة، تشبه البواكي في شارع محمد علي، أشباح رجال تمشي في العتمة، بنات الليل يتسكَّعن فوق كعوبهن المُدبَّبة، وجوههن مدهونة بلون الشمع، عيونهن المكحلة تشوبها حمرة، تُدندن إحداهنَّ بأغنية مجهولة الكلمات تنتمي لكلِّ اللغات.

•••

لم تدُم قطيعتها لرستم طويلًا، جاءت كارمن إلى غرفتها في زقاق السيِّدة، فتحت جمالات لها الباب، الفتاة في غرفتها تعاني من الصداع، تبتلع نوعين من الحبوب المانعة للحمل المضادة للاكتئاب، أخرجت جمالات الزجاجة من صندوق تحت سريرها، قالت كارمن وهي ترشف النبيذ من حبات الفول السودانيِّ: أنا لا أملك رستم، وهو لا يملكني.

قاطعتها جمالات: ربنا هو الذي يملكنا يا كارمن!

رنت كلمة ربنا بصوت جمالات الحاد، ارتطمت بزجاجة النبيذ فاهتزَّت فوق المنضدة، ثم استعادت توازنها، انفرجت شفتا كارمن عن ابتسامة ضيِّقة: رستم إنسان حرٌّ يملك نفسه، لا أستطيع أن أمنعه، فالحب يقع دون إرادتنا، هذه لذته وألمه في وقتٍ واحدٍ.

هتفت جمالات بعد أن أصابتها نشوة النبيذ: كلامك عين العقل يا كارمن!

بعد أن خرجت كارمن وتلاشى أثر النبيذ، قالت جمالات: كارمن يمكن تقتلك يا عزيزتي، ما فيش واحدة في الدنيا ما تغيرش على جوزها، ربنا خلقنا من لحم ودم، نأكل ونشرب ونحب ونكره ونموت من الغيرة، ونقتل كمان، ربنا رفع الإنسان فوق الملايكة، ربنا حملنا مشقة جهاد النفس الأمَّارة بالسوء، هي دي الأمانة، حملها الإنسان ولم تحملها الجبال، إيه رأيِك نروح السينما الليلة؟ فيه فيلم هايل اسمه «لهيب الحب»، يلَّا قومي من السرير خلينا نفرفش شوية قبل ما نموت ونروح النار.

•••

جلست جمالات إلى جوارها في الظلمة، أحداث الفيلم تتتابع فوق الشاشة، الرجل العجوز يقع في حب الخادمة الصغيرة، يستولى الحب على قلبه وعقله، تُهدِّده زوجته، يطلِّقها ويتزوَّج الفتاة، تهرب منه في الليل، تخاف العودة إلى أهلها في القرية، تتخلَّص من الجنين في بطنها وتشتغل راقصة في أحد الملاهي حتى القبض عليها.

جمالات تسمع خفقات قلبها إلى جوارها، تلهث أنفاسها مع مشاهد الحب، تضغط بيدها على يد الفتاة، يرتج جسدها لحظة اغتصاب الخادمة في المطبخ، أنينها خافت غير مسموع، تمسح دموعها في الظلام، بعد انتهاء الفيلم وإضاءة الأنوار ترى عينَيها محتقنتين بحمرة الدم، تُحرِّك وجهها بعيدًا عنها، تُحكِم الحجاب من حول رأسها، تظلُّ صامتة واجمة حتى تعودا إلى البيت.

تحت السرير في غرفتها سجادة الصلاة ملفوفة على شكل أسطوانة، جوارها يقبع الصندوق من الكرتون، لم يبقَ به إلَّا زجاجة واحدة، تشدُّها جمالات من عنقها، تضعها فوق المنضدة، تنحني مرة أخرى لتشد سجادة الصلاة من تحت السرير، تفرشها على الأرض، تسير إلى الحمَّام لتتوضأ، بعد أن تؤدِّي الصلاة تظلُّ راكعة رافعةً كفَّيها إلى السقف، تدعو الله أن يغفر ذنوبها.

تحفظ جمالات بعض أبيات عمر الخيام، تُنشدها بصوت متهدِّج، تنشد بعدها قصيدة لأبي نواس، تذكر المرحوم زوجها، تقول عنه المجحوم، تؤكد أنَّ الله سوف يجحمه في نار جهنم، كان واحدًا من الدعاة الإسلاميين المشهورين، أصابته سكتة قلبية في اجتماع مع الرئيس، اكتشفت بعد موته أنه متزوج من امرأة أخرى له منها ثلاثة أولاد ذكور، كتبَ لهم كلَّ أملاكه، لم تَرِث عنه إلا البيت القديم في زقاق السيِّدة.

دخل رستم حياة الفتاة وهي تعيش الاستقرار مع سميح، كانت حياتها مسرحًا لتقلُّبات شتَّى، قشَّة في الهواء تتنازعها الرياح، فتاة بلا عائلة ولا مال ولا جمال، ترمقها جمالات من قمة رأسها حتى القدمين، تمط بوزها إلى الأمام تضرب كفًّا بكفٍّ: اللِّي اسمه إيه بيحب فيكي إيه؟ سودة زي البرابرة وجلدة على عضمة، لله في خلقه شئون!

جمالات ترى نفسها جميلة، بشرتها بيضاء، جسمها مدكوك باللحم، شفتاها رقيقتان، ردفاها سمينان، تحتفظ في مفكرتها بأرقام المعجبين بها بحسب الحروف الأبجدية، «أحمد أحمد أسامة»، يأتي أول الأسماء، يليه «بهاء بهي الدين برعم»، تأتي صديقتها «مريم» الشاعرة تحت حرف الميم. تدعوهما «مريم» في ليالي الصيف إلى السفينة الراسية على شاطئ النيل، الثلاثة يجلسن حول المائدة القريبة من الماء، مفرشها ناصع البياض، يرص الجرسون أمامهن أكواب البيرة، جمالات ومريم تفضلانها في الصيف على النبيذ، تتغنَّى مريم بأشعارها وهي ترشف البيرة المثلَّجة، وتقول، نحن نشرب البيرة لأنَّنا نعطش، لكنَّنا نشرب النبيذ لأنَّنا نحبُّه، يكسو البريق عينيها السوداوين، بشرتها خمريَّة بلون الطَّمْي، شَعرها أسود بلون الليل، صوتها وهي تنشد الشِّعر ينساب هادئًا كموجات النيل.

ليالي الصيف في القاهرة يغلِّفها شيء من السحر، نسمة النيل الدافئة، يتخفَّى ضوء القمر وراء سحابة شفَّافة، تلمع القطرات المُكثَّفة فوق الكئوس البلوريَّة، يرشفن البيرة المثلَّجة على مهل، نشوة التلامس بين البارد والساخن، لذة الارتواء بعد الظمأ، تُمدِّد الفتاة ساقيها فوق سور السفينة الخشبي، تستمع إلى مريم تنشد الشعر، يقترب طفل يبيع عقود الفل والياسمين. وجهٌ طويل مبقع بنقط رماديَّة، فوق عينه اليسرى دائرة بيضاء، أصابعه نحيفة محروقة بالشمس، تبدو سوداء مشققة إلى جوار الزهور الناعمة البيضاء، تفوح رائحة الياسمين، يملأن بها صدورهنَّ، تتنهَّد مريم، وتناوله ورقة بخمسة جنيهات، تلمع أسنانه البيضاء في ابتسامة عريضة، يناولها ثلاثة عقود من الياسمين، تردُّها إليه برقة وحنان: خلِّيهم لك يا شاطر.

تختفي الابتسامة في الوجه الأسمر الداكن، تنفرج شفتاه الشاحبتان عن صوت خافت، مبتور الكلمات: أنا … مش … شحات.

يضع عناقيد الياسمين الثلاثة أمامهن فوق المائدة، ويجري مبتعدًا ينادي بصوت العصافير، الفل والياسمين، الفل والياسمين.

على امتداد شارع الكورنيش تسير أسراب الشباب والشابات في نزهاتهم على شاطئ النيل، الذكور رءوسهم محلوقة، البنات رءوسهن ملفوفة بالطرحة أو الإيشارب الأبيض أو الملوَّن، العيون مكحلة، الشفاه مصبوغة باللون الأحمر، السيقان داخل البنطلون الجينز الضيِّق، يتأرجحن فوق الكعوب العالية الرفيعة، أيديهن متشابكة مع أيدي الشباب، فوق المقاعد يتبادلون القبلات والعناق تحت الضوء المتسلِّل من وراء السحابة، وتتغنَّى مريم الشاعرة بكلمات من تأليفها:

يكسر الحب قوانين الأرض والسماء،
ويسقط الحجاب عن وجه القمر.

تنتفض جمالات وهي نصف مغمضة، تفيق لحظةً من غيبوبة النشوة، تتمتم بصوت خافت: «أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.»

كان رستم يدعو الفتاة إلى العشاء في مطعم صغير فوق هضبة الأهرامات، تدخل متأخِّرة عن الموعد، تتبع نصيحة جمالات.

يتأجَّج شوق الرجل إلى المرأة مع الانتظار،
الانتظار يُشعل الحب مثل الزيت على النار.

تراه جالسًا في يده كتاب، عيناه شاردتان، تتجاوزان رأس أبي الهول والأهرامات، ترك كارمن في البيت تكتب روايتها، يحكي لها عن علاقاته باسم الصدق، يعود إليها بعد منتصف الليل يُعانقها في الفراش، يضاعف لها القُبلات أملًا في الغفران، يؤدي الصلاة بحكم العادة، ينشد التوبة والإيمان.

حين يراها تدخل ينهض واقفًا، يطبع فوق خدها قُبلة بشفتَيه، تحسُّها دافئتين فوق بشرتها، أطراف أصابعها باردة رغم حرارة الجو، تقول لها كارمن، الأصابع الباردة تعني القلب الدافئ، بحسب المثل الإنجليزي، لم تعرف كارمن أنَّها كانت تعاني فقر الدم أو الأنيميا، الناتجة عن غياب فيتامين «ب» في الغذاء، مع نقص الحديد وزيادة الحزن.

يشد رستم الكرسي لها، لا يجلس حتى يراها جلست واستراحت، لم يعوِّدها سميح على هذه المعاملة الرقيقة، ربما فعل ذلك في أيام الحب الأولى، ثم سقطت علاقتهما في بئر الأيام العادية، أصبحت الحياة فاترة مثل ماء الصنبور، راحت رعشة الجسد وخفقة القلب، نسي سميح وعد الزواج أيام الخطوبة وهي تناسته تحت اسم الحرية والاستقلال.

•••

بدأت الفتاة روايتها في الأسبوع الأول لمجيئها إلى برشلونة، الجنين في أحشائها يتحرَّك، قدم صغيرة ناعمة تدقُّ جدار الرحم من الداخل، دقة وراء دقة، كلمة وراء كلمة، رواية مجهولة تحاول أن تكتبها، تستعيد ملامح سميح، كان يُعِدُّ حقيبته ليمضي دون عودة، كارمن كانت ترقد في المستشفى النفسيِّ، مربوطة بالحبال في أعمدة السرير، رأتها تدخل من الباب فأشرق وجهها بالابتسامة، فقدت الكثير من وزنها، انطفأ البريق في عينيها، راحت رنَّة المرح من صوتها، كانت تشكو من جهل الأطباء بحالتها: يتصوَّرون أنَّ زوجي هو مشكلة حياتي، وأنا أقول لهم ليس رستم، وليس أي رجل، المشكلة أكبر من كلِّ الرجال، المشكلة تتعلَّق بي، أنا كارمن، الكاتبة، وليس المرأة!

تفادت الفتاة النظر إلى عينيها، بدَت عيناها مرهقتين يشوبهما حزن دفين منذ الطفولة، تبذل جهدًا كبيرًا في الكلام، مدَّت يدها الناحلة وأمسكت يدها، لا يمكن لرستم أن يفرِّق بيننا، الصداقة بين النساء أقوى من الحب بين الجنسين، رستم يحبُّك يا كارمن، أنتِ حبه الوحيد.

– لا يوجد شيء اسمه حب وحيد، الحياة بالطبيعة متعدِّدة، الوحدانية مرض موروث منذ العبودية.

أشارت بإصبع شاحب بلون الضباب إلى الدولاب في الحائط، افتحيه وخذي أوراق روايتي، أخذوها منِّي بالقوة، أغلقوا عليها بالقفل، يقولون إنها من وحي الشيطان، الفنون كلُّها من وحي الشيطان، حتى قصائد الشعر، الدكاترة في المستشفى مثل البوليس … لولا رستم لأدخلوني السجن.

– لازم تتأكدي يا كارمن من حب رستم.

– الحب لا يشغلني، عندي أشياء أهم.

– رستم لم يكذب عليكِ أبدًا يا كارمن.

– الحب لا يعرف الكذب أو الصدق، الحب فوق الأخلاق.

ابتسمت في إعياء، شردت عيناها الزرقاوان تكسوهما سحابة شفَّافة، من خلال النافذة الزجاجية كانت صحراء حلوان، بحر من الرمال الصفراء الممدودة إلى الأفق، تلمع كمياه البحر الأبيض المتوسط تحت الشمس.

ظلَّت يدها ممسكة في يد الفتاة، أصابعها الطويلة الرشيقة ترتعش قليلًا، إلى جوار سريرها منضدة تحمل زجاجات الأدوية، أسماء كثيرة بالحروف اللاتينية، التقطت عيناها اسم سيروكزات، لمحت هذه الكلمة فوق زجاجة دواء في غرفة جمالات، تأخذ منها حبة قبل النوم تعالج الأرق، أو الكوابيس والخوف من نار جهنم بعد الموت.

•••

كان يومًا من أيام الصيف، بعد رحيل سميح الأخير، تصوَّرت الفتاة أنَّ رستم سوف يعود إلى كارمن، كلمة الفقدان كانت ترعبها، يمكن أن تحتمل فقدان رستم وليس سميح، الصداقة مطمئنة أكثر من الحب، سفينة هادئة في بحر متقلِّب، جيَّاش، كان سميح يقول: كارمن تحبُّ رستم من دون شريك، رغم إيمانها بالاشتراكية، أو الشراكة. ويضحك ساخرًا: الأحادية سمة العقل الناقص، التناقض بين الحب والحرية، الثنائية ومرض الانفصام، كان يتحوَّل في خيالنا إلى الحزن أو الشجن مع النسيان.

•••

في ليالي الوحدة داخل غرفتها الصغيرة لا تعرف الفتاة أين تكون، لا تسمع إلَّا النبض في عنقها، ودقات المنبه بجوار رأسها، تفقد النطق باللغة العربية والكاتالانية، تمتنع عنها الكلمات، لا تستطيع أن تكتب حرفًا واحدًا فوق الورق، تهجرها الرواية كما هي هجرتها، أشياء كثيرة شغلتها عن الكتابة، هتاف المتظاهرين في شوارع برشلونة، في ميدان كاتالونيا، أصواتهم تخترق نافذتها المغلقة، جيرانو جيرانو إيراك بالاستين، جورج بوش أسَّاسين، توني بلير أسَّاسين، أزنار أسَّاسين. كلمة «أسَّاسين» تعني قتلة سفَّاحين، يندفع الدم في عروقها، تحسُّ سخونته في رأسها، تهبط إلى الشارع، تسير بخطوتها السريعة من ميدان أنتونيو لوبيز إلى شارع كولومبس، على جانبيه الأشجار الباسقة، المباني على الطراز الكاتالوني القديم، الأعمدة الضخمة تعلوها التماثيل، أبراج مستديرة تنطح السماء مدببة القمم، تمثال كولومبس ينتصب شامخًا من بعيد، تحوطه تماثيل لها شكل الملائكة ونساء بأجنحة، الأرض تغطيها أجساد البشر، حشود لانهائية من النساء والرجال يسيرون من الراميلا حتى ميدان كاتالونيا، في كل الشوارع يسيرون، من الراميلا حتى ميدان كاتالونيا، في كل الشوارع يسيرون، في كل الميادين يتجمَّعون، آلاف، ملايين، يحملون اللافتات مكتوب عليها بالكاتالانية: جيرانو (لا للحرب) جيرانو. أصواتهم ترجُّ الأرض والسماء، أسَّاسين، أسَّاسين …

يذوب جسدها في الأجساد، يرتفع صوتها مع الأصوات سفاحين، أسَّاسين، تنهمر الدموع من عينيها، تمسحها بيدها خلسة، منذ طفولتها تخجل من دموعها، كأنما هي عورة، تنهمر وحدها لحظة الفرح، ولحظة الحزن تجفُّ وتنحبس، يذوب الفرح في الحزن وتسيل الدموع في هدوء النهر، تعود إليها صورة كارمن مربوطة بالحبال في السرير، عيناها شاردتان في رمال الصحراء، إلى جوارها زجاجة سيروكزات، تسألها بصوتها المتلاشي: أقراص منومة يا كارمن؟

– يسمُّونها مضادة للاكتئاب، ثلاثة ممرضين يفتحون فمي بالقوة، أخفيها تحت لساني أو في حلقي، الحياة مع الاكتئاب أحسن من الحياة في المستشفى، يقولون عنِّي مجنونة.

– عقلك يوزن بلد يا كارمن.

– أفكِّر في الانتحار!

– هذا هو الجنون.

– بل قمة العقل!

يترامى لها صوت كارمن في الليل عبر البحر، أمواج برشلونة تلامس الشاطئ برقة ثم تنسحب عنه، كأنامل الأم الناعسة، تمدُّ يدها لتلمس طفلها، تتأكد من وجوده، تخشى أن تفقده في النوم، تمتدُّ ذراعها فوق السرير، تتحسَّس الجنين في أحشائها، تتأكد أنَّه حقيقة ملموسة باليد، ليس خيالًا ولا وهمًا، قبل أن يدركها الوعي ارتفع بطنها بالحمل، أخذوها إلى عيادة طبية تحت الأرض، ربطوها بالحبال، حقنوها بالمخدر، فتحت عينيها بعد زمن لا تعرفه، رأت قطعة من جسدها في جردل الدم.

الجرح الغائر في أحشائها، تكاد تحسُّه تحت الجلد، كان رستم يقبِّله بشفتَيه قبل أن يقبِّلها. تبتلع كارمن حبوب منع الحمل، وتقول: العالم فيه ملايين الأطفال يموتون بالجوع وفي الحرب، رستم يريد طفلًا يحمل اسم أبيه وجده، يهمس في أذنها وهو يعانقها، عاوز طفل يحمل ملامحك يا كارمن.

•••

من فوق السطح تطلُّ الفتاة على البحر والجبل، وتمثال كولومب «كولومبس» والسفن الصغيرة الراسية عند الشاطئ، الشوارع والميادين تطلُّ منها رءوس التماثيل، لا يخلو شارع من تمثال لرجل أو امرأة من الشخصيَّات التاريخيَّة، أدباء وشعراء وفنانين، معارضهم في كلِّ مكان. تضمُّ لوحات سلفادور دالي، بمناسبة مرور مائة عام على مولده، إعلانات عن فيلم بيدرو ألمودوفار بعنوان «تعليم سيِّئ» (لا مالا إيديو كاسيون).

أناجيل تدقُّ جرس الباب، طالبة في جامعة برشلونة، تأتي يوم الأحد لتمسح السطح والسلم، تدفع لها يولاندا بصحون الباييلا وليس باليورو، تتطوع بمسح غرفة الفتاة دون أجر، تصنع لها كوب شاي أخضر مع قطعة من الكيك، تجلسان فوق الدكة الخشبية على السطح، تغمرهما أشعة الشمس وهما ترشفان الشاي الساخن، تحكي أناجيل بقصتها بالإشارة مع الكلمات، خليط من العربية والكاتالانية، والفتاة تحكي لها قصَّتها.

اسمها أناجيل كارلوس إيزابيل، تحمل اسم أبيها كارلوس، واسم أمها إيزابيل، بحسب القانون في كاتالونيا.

– أنا أعتز باسم أمي أكثر من اسم أبي، وأمي هي التي ربَّتني بعد أن هجرها أبي، وأنتِ أتحملين اسم أمك؟

– القانون عندنا لا يعترف باسم الأم.

– هذه كارثة.

تحرَّكت عينا أناجيل الزرقاوان فوق ارتفاعة بطن الفتاة غير الواضحة تحت القميص الواسع: من أجلها جئت إلى برشلونة؟

وأشارت إلى أوراق روايتها المكوَّمة في غرفتها على الأرض.

– ومن أجلها أيضًا جئت.

لم تكن الكتابة في حياتها شيئًا هامًّا، تبدو لها عملًا عديم الجدوى، كلمات على الورق مثل كلمات في الهواء، لا تتحول إلى فعلٍ حقيقيٍّ مثل كلمات الحب.

أول مَن نبَّهَها إلى الكتابة هي مريم الشاعرة. كانت تقول: لا يمكن لجروحنا أن تلتئم إلَّا بالكتابة، لا شيء يهزم الجنون أو الموت إلَّا الكتابة.

تستعيد صوتها وهي تنطق هذه الكلمات، عيناها السوداوان تتألقان بالضوء في الليل المظلم، لا قمر ولا نجوم، كأنما الضوء ينبع من بؤرة في رأسها خلف العينين، كانت كارمن أقل قوة تستعيدها قبل أن تدخل المستشفى، تريدها أن تكون كما كانت، أن يعود الضوء إلى عينيها، وتستعيد وجه سميح الأسمر الشاحب، عيناه خضراوان صافيتان مثل الزرع في الربيع.

قبل لقائها برستم كانت تعيش حياة هادئة، يمنحها سميح من الحب ما يكفيها ويزيد، تجمعها به علاقة ناعمة متينة كخيطٍ من الحرير الممدود إلى الأبد، ينالها السأم من الأشياء الدائمة إلى الأبد، لم يستطع سميح أن يكسر الشرنقة حول روحها، لم يفجِّر في أعماقها الينبوع المجهول، يستبدُّ بها الضجر من الحياة وهو معها، تشتاق إليه وهو غائب، تختفي من حياته فترة لتفهم نفسها، ثم تعود إليه، تلوذ به من اليأس والرغبة في الموت، تتَّهم نفسها بالجحود وتطلب منه الصفح، يتلقاها بين ذراعَيه كالأم، لا يلومها ولا يؤنِّبها، يقول لها أنتِ إنسانة حرة تذهبين وتعودين كما تشائين … لكنَّ الحرية تبدو لها مثل المرض تريد الخلاص منها، وتمشي في الشوارع جائعة، لا عمل ولا أمل، ولا مكان آمن تنام فيه بعمق، أو تحمي نفسها من عيون الرجال، تمرُّ الأيام دون أن تأكل، يملأ أنفها وفمها تراب الأزقة والشوارع.

دخل سميح حياتها مثل نسمة تدخل صدر المرحوم من الهواء، ألقت نفسها بين ذراعيه بحكم الضرورة، بالرغبة في الحياة والطمأنينة، بالحنين إلى الحب غير الموجود، كالأرض الصحراء تحنُّ إلى قطرات المطر، تلتقطها هدية من السماء، تعجز عن ردِّ الهدية، لانعدام الماء وليس عجزًا عن العطاء.

تعوَّدت أن ترى سميح، أصبحت عيناه الخضراوان جزءًا من حياتها، يحملها بسيَّارته الرمادية الرينو إلى مكتبها، حصلت على وظيفة في ملجأ الأيتام، مبنى آيِل للسقوط في زقاق مسدود، تفضِّل السير على قدميها على ركوب السيَّارة، تقطع المسافة بين بيتها ومكتبها في عشرين دقيقة بالخطوة السريعة، من الزقاق المسدود في حيِّ السيِّدة إلى الزقاق المسدود في فم الخليج.

في الصباح الباكر يكون الهواء منعشًا قليلًا، تبدأ العمل من الثامنة صباحًا حتى الرابعة مساءً، ثماني ساعات تقضيها وسط هياكل أشباح لها وجوه أطفال وعيون عجائز، تجلس معهم في الغرفة المعتمة ذات الجدران السوداء، أو في الفناء الضيِّق تلفحهم الشمس والتراب، يتغذَّى بدمائهم الذباب والبراغيث، ترتدي قميصًا واسعًا وسروالًا من الكتَّان، وحذاءً جلديًّا قديمًا تمشي به، تدخر ثمن الأوتوبيس لتشتري كتابًا أو رزمة ورق أبيض، في خيالها رواية مجهولة، لا تعرف كيف تكتبها وما بدايتها.

مكتبة الشرق كانت عند الناصية، حيث تقاطُع شارع قصر العيني مع فم الخليج، صاحبها اسمه «حافظ»، قصير نحيف مقوَّس الظهر، عيناه جاحظتان تتذبذبان من وراء قعر زجاجة، يرشف الشاي الأسود مع شفطات من دخان الشيشة، يرفع وجهه عن الكتاب حين تدخل، تمرُّ على الرفوف تتطلَّع إلى العناوين، يمسح التراب عن الكتاب قبل أن يناولها إيَّاه، تدسُّ يدها في جيوبها تبحث عن النقود غير الموجودة، تعيد إليه الكتاب، يدفعه إلى يدها في ضجر.

– ادفعي اللي معاكي، والباقي المرة الجاية.

إنْ لم يكن معها شيء يبتسم في إعياء.

– خذيه على سبيل الاستعارة بشرط أن تُرجعيه بعد أسبوع واحد.

قابلت الفتاة سميح أول مرة في هذه المكتبة، كان يتردَّد عليها لشراء الكتب القديمة، يدعوه «حافظ» إلى كوب شاي، يجرُّه إلى الحديث عن الفلاسفة العرب، أهمهم عنده ابن سينا، صاحب القانون في الطب، يسأم سميح الحديث معه، يتأمَّله طويلًا كأنَّما يتأمل قطعة من الآثار القديمة في المتحف، يرشف الشاي الأسود على مضض، دون أن يُظهر الضيق، نوع من المجاملة أو الرقة، والإحساس المُرهَف بمشاعر الآخَرين.

في يوم كانت تتصفَّح كتابًا قديمًا بعنوان «مقدِّمة ابن خلدون»، سمعت الصوت من خلفها: إيه رأيك أهديكِ الكتاب ده؟

لم تكن تعرف شيئًا عن ابن خلدون، ولا تعرف شيئًا عن سميح، رأته مرة وأكثر في المكتبة من دون أن تنتبه، ملامحه هادئة لا تثير الدهشة، لا تُحدث صدمة الإفاقة من بحر الحياة اليومية، كان اليوم يمضي وراء اليوم من دون أن يستوقفها شيء خارق للعادة، لا وجهًا يثير خيالها، ولا كتابًا يحرِّك عقلها، يمضي بها الزمن ساكنًا مثل سطح بركة ماء لا يتحرَّك، مثل النيل في أيام الحر، لا نسمة واحدة تحرِّك أوراق الشجر، الهواء معدوم والشجر مقطوع، البيوت متلاصقة بالخرسانة المسلَّحة، الخضرة متلاشية، الشوارع من الزفت أو القطران الأسود، مدينة القاهرة تقول عنها مريم الشاعرة مدينة الأسمنت المسلَّح، في قصيدة لها بعنوان، قاهرتي.

قرأت الفتاة مقدِّمة ابن خلدون من الغلاف إلى الغلاف، لم تفهم من الكتاب إلَّا القليل، كان هو أول مَن جمعهما هي وسميح، داخل مكتبة الشرق المكتومة الهواء، المكتظَّة بالكتب والتراب ودخان الشيشة من رائحة الحشيش.

كان سميح يختلف عنها، أنيق الشكل والملابس، هي لا تنظر إلى المرآة، تعيش القلق وعدم الاستقرار، يتمتَّع هو بالهدوء والراحة، يسكن في شقة واسعة تطل على النيل في جاردن سيتي، بجوار بيت كارمن ورستم، هي تعيش في غرفة مظلمة داخل الزقاق تحوطها الميكروفونات الزاعقة ليل نهار.

انجذب سميح إليها كما ينجذب الشيء إلى نقيضه، وهي انجذبت إليه كالفراشة تنجذب إلى النور، ليس كالمرأة تنجذب إلى الرجل.

•••

الطلقة ترمقها بعينها الواسعتين كأنما هما عيناها، رأتهما وهي طفلة في المرآة وفي الخيال، جلبابها بلون الأرض، ذراعاها الناحلتان بلون الخشب المحروق، عظام ركبتيها بارزة صخرة، يتيمة وحيدة في الصحراء، مقلتاها السوداوان نجمتان تلمعان في سماء مظلمة.

مديرة الملجأ وراء مكتبها الخشبي الكالح، يحتلُّ نصف مساحة الغرفة، يختفي جسمها الضخم تحت خيمة سوداء من الرأس إلى القدمين. عيناها ثقبان غائران داخل الخضم الأسود، عينا ثعلب أو فأر داخل المصيدة، لا تكفَّان عن الحركة والذبذبة، في يدها عصا من الخيزران طويلة رفيعة مثل الكرباج، تلسع بها أرداف الأطفال، تشبه الغولة والمارد الأسود الجبَّار في الأساطير وقصص ألف ليلة وليلة، وحكايات الجان والعفاريت الزرق.

في أيام الحر ولهيب الصيف، تجلس في الفناء تحت ظل شجرة الكافور، ترفع نقابها الأسود عن فمها لترشف الشاي الأسود، تمسح حبَّات العرق عن أنفها بيد داخل القفاز الأسود، تدس بوز الشيشة في فتحة فمها، ليخرج الدخان من ثقبي عينَيها. لو رآها «سلفادور دالي» يرسمها على شكل خفَّاش ضخم أو قنفد أسود.

– شايفة البنت اللي واقفة هناك وعينيها بتطق شرار خلي بالك منها، أصلها بنت حرام، شوفي واقفة تبحلق إزاي وكل عين تندب فيها رصاصة!

– دي بنت غلبانة يا أبلة بعبع.

– إيه؟ بتقولي إيه؟

– متأسِّفة يا ست المديرة، زلة لسان!

– يعني إيه زلة لسان يا اسمك إيه؟

– غلطة يا ست المديرة، سبحان مَن لا يسهو.

اشتعلت عيناها المدفونتان في الحفرتين بالغضب، كان الأطفال ينادونها «أبلة بعبع» من وراء ظهرها، كلمة البعبع تعني المُرعب، نادتها الفتاة بالاسم من دون أن تنتبه، بسبب السهو، وسبحان مَن لا يسهو، تُردِّد هذه العبارة حين تنسى شيئًا، الله سبحان وتعالى هو الذي لا يسهو. تتظاهر المديرة بنسيان اسمها، تحت حجة مشاغلها الكثيرة:

اسمعي يا اسمك إيه، أنا لا أسمح مطلقًا إنك تنطقي كلمة أبلة بعبع دي تاني … مفهوم؟

تظل شفتاها مطبقتين، لا تهز رأسها وتقول، أَيْوَه مفهوم، لا تريد الاستسلام لجبروتها كما تفعل المرءوسات، يظل جسدها الضخم ينتفض تحت الخيمة السوداء … مفهوم؟!

زوجها يشبهها على نحو مدهش، ضخم الجثة، يرتدي عباءة سوداء فوق جلباب أبيض، رأسه كبيرة يغطِّيه شَعر أسود أكرت، يختفي وجهه تحت غابة سوداء من الشعر الكثيف، عيناه ضيِّقتان غائرتان داخل خضم السواد، لحيته كثيفة طويلة تتدلَّى فوق صدره، شعرها نافر منتصب كالأسلاك.

يجلس في غرفة مكتبها، ينتظرها حتى تنتهي من أعمالها الهامة، تتعمَّد أن تنشغل عنه بالأوراق المكدَّسة فوق مكتبها، تدق الجرس وتنادي على الشغالات والمرءوسات، تصدر إليهنَّ الأوامر والنواهي، يرتفع صوتها بالتأنيب والتوبيخ، ترمق زوجها بطرف عين، تنتفض أحشاؤها بالبهجة، تمارس السلطة أمام عينَي زوجها، يمارس عليها السلطة في البيت، لا تعرف كيف تنتقم منه إلَّا بهذه السلطة في مكتبها وبطريقة غير مباشرة.

اختفت الطفلة من الملجأ ذات يوم، عيناها انحفرت في ذاكرة الفتاة، البريق مثل لمعان النجم، تقاطيع الوجه الصخريَّة، كان اسمها صباح، سألت عنها المديرة، تذبذبت عيناها داخل الثقبين، شوَّحت بيدَيها داخل القفاز الأسود: هربت راحت في ستين داهية!

كان في الملجأ مئات الأطفال، يلفظهم العالَم إلى الملجأ كما يلفظ الكلاب المشرَّدة، لا أحد يزورهم، لا أحد يعالجهم إنْ مرضوا، لا أحد يدفنهم إنْ ماتوا، لا أحد يبحث عنهم إنْ هربوا، أو تم بيعهم في سوق الرقيق … عصاباتها داخل المافيا، تحت الأرض وفوق الأرض، تشبه سوق السلاح والمخدرات والجنس، يتغير أسعار الأطفال مع تغيرات العملة والبورصة، ورحلات النساء العاقرات من الشمال إلى الجنوب، لشراء طفل أو طفلة، سمراء عيونها سوداء، تحت اسم الأمومة.

تقبض السيدة المديرة المبلغ بالعملة الصعبة، تشتري تذكرة إلى مكة كل عام، تطوف بالكعبة، تُقبِّل الحجر الأسود، ترمي إبليس بالجمرات في مِنى، تشرب من بئر زمزم، تعود طاهرة الذيل، ذنوبها ممسوحة كالمولودة من بطن أمها.

قال سميح وهو يعانقها: الوظيفة في الملجأ لا تليق بكِ، تستحقين عملًا أفضل. قالت: العمل الأفضل يحتاج إلى واسطة كبيرة! قال: سأبحث لكِ عنها.

كان رستم قد دعاهم لتناول الغداء في النادي حول المائدة في «الليدو»، حمَّام السباحة الصغير، جلست هي وسميح ورستم، كانت كارمن تسبح في البيسين، جسمها ممشوق داخل المايوه الأحمر فيه زهور بيضاء، تتحرَّك ذراعاها وساقاها تحت الماء كزعانف السمكة الذهبيَّة.

ترفع الفتاة وجهها نحو الشمس وعيناها مغمضتان، تترك الأشعة الدافئة تمشي فوق جفونها، الهواء محمَّل برائحة الشجر والماء والكلور، أجسام النساء والرجال ممدودة فوق الكراسي، يتجاذبون أطراف الحديث، يدلِّكون بشرتهم بالكريم، يرشفون الليمون المثلَّج على مهل، أمامهم صحون الفراخ المشوية، مكرونة في الفرن، رِيَش ضاني محمَّرة، صلاطة خضراء يلمع فيها الخيار والخس والطماطم الحمراء، تتصاعد رائحة الشواء مع الضحكات، تنتقل الفتاة من زقاق السيِّدة إلى الليدو في النادي كأنما تسافر من بلد إلى بلد، يأتي الجرسون حاملًا قائمة الطعام «المينيو»، شاب نحيف طويل، تلمع أسنانه البيضاء في وجهه الأسمر، يناولها رستم «المينيو»، مكتوبًا بلغة لا تعرفها، وأنواع أطعمة لم تسمع عنها. تتطلَّع إلى سميح. مُستغرِق في الحديث مع رستم حول رواية بحر سارجوسا، للكاتبة «جين ريس»، من منطقة الكاريبيان.

الإحساس بالغربة يزحف على جسدها كالهواء البارد، ينتابها الحنين إلى غرفتها في الزقاق، رائحة شوربة العدس تتصاعد من المطبخ، صوت جمالات يرتفع يناديها: أنا عملت شوية شوربة تاكلي صوابعك وراها.

جاءها الجرسون يسألها ماذا تطلب. من فضلك، شوربة عدس وصلاطة خضراء. سميح طلب سمكًا مقليًّا وصلاطة طحينة، رستم طلب لنفسه ولكارمن مكرونة اسباجتي وإسكالوب بانيه، وشيئًا آخر لم تلتقط اسمه.

خرجت كارمن من الحمَّام، تمدَّدت تحت الشمس يتقاطر من جسمها الماء دهنت ذراعها وساقَيها بالكريم، يتحرَّك جسمها داخل المايوه على نحو طبيعيٍّ، كأنَّما ترتدي ملابسها كاملة، التهمت الطعام بشهيَّة الطفلة، ثم ألقت بنفسها في الماء من جديد، غطست مسافة طويلة ثم ظهرت. سَمِعَتها تناديها: تعالي خدي غطس المية حلوة!

همس سميح في أذنها: تحاول أن تغيظك، تجاهليها.

غربتها كانت أشد في ملجأ الأيتام، مُعلَّقة كالقشَّة بين الأجواء، لا تحب الفقر ولا الثراء، تريد أن يضمَّها قلبٌ كبيرٌ دافئ وبيت صغير هادئ، تريد أن تنام بعمق دون أن تلدغها البراغيث، دون أن تزعجها الميكروفونات، تريد أن ترى الشجر من نافذتها ومياه البحر، تريد أن تحقِّق حلم طفولتها الذي لا تعرفه، لم تكن لها طفولة، لا أم ولا أب، لا إخوة ولا أخوات، ولا جدة تحكي لها قصة الشاطر حسن، وتلعب معها التعلب فات فات.

كان سميح يقول: أنتِ تتكلَّمين عن الحرية دون أن تتحرَّري، تفكِّرين في المستقبل وتعيشين في الماضي، أنا وأنتِ تعاهدنا على الصدق والاختيار الحرِّ، لا أجبركِ على شيء، أنتِ حرَّة تمامًا، حرَّة!

كلمة «حرَّة» ترنُّ في أذنها «عرة»، الفرق بين حرف الحاء والعين يتلاشى. في أعماقها ترقد المرأة الأسيرة، لا تعرف الحريَّة، لا تملك جسدها، لا تُعطي نفسها دون ورقة مختومة ومبلغ من المال، المهر والخاتم، ودفع ثمن الكهرباء والسرير والإيجار.

جمالات تقول: الرجل لا يعرف قيمة امرأة لا يدفع فيها ثمنًا غاليًا، كلَّما ارتفع ثمنك ارتفعت قيمتك، تعترض مريم الشاعرة، لا! أنا قيمتي تعلو فوق العقارات والمال، أنا لست بضاعة في السوق للبيع والشراء.

تضحك جمالات في سخرية وتهزُّ رأسها الملفوف بالحجاب: ومَن أنتِ يا عزيزتي؟

– أنا مريم الشاعرة!

يرنُّ صوتها في أذن الفتاة قويًّا مملوءًا بالكرامة: أنا مريم الشاعرة. عيناها السوداوان يشتدُّ بريقهما، بشرتها الخمريَّة بلون طَمْي النيل، شَعرها يهتزُّ بثقة فوق كتفَيها، يتحرَّك رأسها بكبرياء وهي تنشد:

أنا مريم الشاعرة،
خرجت كالزرع من بطن الأرض،
لا أسرة ولا أم ولا أب،
لا وطن ولا عشيق ولا زوج،
إلَّا الشِّعر!

جالسة في كازينو النيل، تحسُّ جسدها يرتفع فوق المقعد، ومعه روحها وعقلها، كأنما قوة مجهولة ترفعها فوق السفينة والنهر، فوق أسطح البيوت والعمارات العالية، فوق مدينة القاهرة وحقول الدلتا، تغمض عينيها كأنَّما في النوم، تحلِّق في الفضاء دون أجنحة، تطير فوق السحاب، فوق مياه البحر الأبيض المتوسط، ترسو على شاطئ جديد لا تعرف اسمه، كل شيء من حولها جديد حتى وجهها.

تنظر إلى وجهها في المرآة، ليس هو الحزين القديم، تهبط السلالم جريًا تلتهم الباييلا الساخنة، تجتاز شارع كولومبس، تسير في الرامبلا بين الزهور وأسراب الشباب، تدخل من شارع إلى شارع، تتأمَّل المباني التي تشبه المتاحف، لا بيدريرا، بالوجويل، كازاميلا في شارع جراسيا، الفنان أنتونيو جاودي مات منذ سنين، لكنَّه يعيش في كلِّ عمل تركه وراءه، حتى البناء الضخم الجديد، يسمُّونه «ساجرا فاميليا» مات قبل أن يكمله.

في المكتبة الكبيرة خلف ميدان كاتالونيا تقضي الساعات، تقرأ قصة دون كيشوت، أشعار كارلوس باربل ولوركا، تتأمَّل لوحات بيكاسو، وسلفادور دالي، وجون ميرو. قبل العودة إلى بيتها تسير إلى شاطئ الأولمبيك، تخلع ملابسها إلَّا المايوه الصغير، لا يُخفي عن أشعة الشمس إلَّا شعر العانة الأسود، تأخذها أناجيل إلى شاطئ آخَر لا يرتدي فيه الناس المايوه، تسري الأشعة الذهبيَّة الدافئة إلى الجسد كله، نساء ورجال يسبحون في البحر كالأسماك، يتمدَّدون تحت الشمس دون غطاء، لا أحد ينظر إلى أحد، يتحرَّكون على نحو طبيعيٍّ، كما ولدتهم أمهاتهم، أقدامهم تترك على الرمال علامات متشابهة، لا فرق بين ذكر وأنثى وفقير وغني وملحد ومؤمن وأسود وأبيض.

تنهيدة طويلة تخرج من أعماقها، راقدة فوق ظهرها تتلقَّى شعاع الشمس، يتخلَّل ثنايا جسدها ويفتح المسام المسدودة، منذ آلاف السنين، منذ الفرعون الأول حتى الفرعون الأخير، يطاردها وجهه في النوم، تتسرب صورته في الجريدة من تحت عقب الباب، تلتقطها جمالات بأطراف أصابعها من فوق البلاط، كأنَّما تلتقط صرصارًا ميتًا، تمرُّ بعينيها نصف المغلقتين على الصورة في الصفحة الأولى، تفتح فمها الواسع تتثاءب، تطقطق عظامها بصوت مسموع، وتقول: الطاغوت ربنا يأخذه … يا رب!

ثم تُلقي بالجريدة على الأرض، تدوس عليها بكعب شبشبها البلاستيك كما تدوس على الصرصار. كانت الشقة مليئة بالصراصير، مثل غيرها من الشقق في حيِّ السيِّدة، تنتمي إلى فصيلة الحشرات الزاحفة، تطوَّرت عبر الزمن وأصبح لها أجنحة مثل الفراشات، لونها أسود أو أصفر داكن كالحديد الصدئ، تتغذَّى بالبراغيث والنمل والجبن والزبدة، تدخل البالوعة وتسبح في الماء دون زعانف، شواربها مثل قرون الاستشعار، تعرف رائحة الطبيخ الحامض، تمرُّ عليه دون أن تأكل، تجذبها رائحة المسك في وسادة جمالات، قبل أن تنام تخلع شبشبها البلاستيك، تنهال فوق الصراصير، تضربها واحدًا وراء الآخَر، وهي تصرخ: إلهي تأخذ الصراصير يا رب … ومعاهم الطاغوت.

لا يستجيب الله لدعائها، بل يرسل إليها مزيدًا من الصراصير، يتوالدون في غرفتها تحت السرير، ويظل الطاغوت جالسًا فوق العرش، يسير الله معه في كلِّ خطوة، يبارك أعماله المجيدة، يتدخَّل عند اللزوم لإنقاذه من ورطة، يضاعف خيراته وأصواته في الانتخابات الحرَّة. تصرخ جمالات وهي تضرب الصرصور: الحرة وإلَّا العرة؟!

مريم الشاعرة تندهش حين تسمع جمالات تخاطب الصراصير، أو حين تسمعها تدعو الله أن يأخذ الطاغوت.

– يا جمالات ربنا مع كل الطواغيت بره وجوَّه!

– أستغفر الله العظيم من كلِّ ذنب عظيم!

تنطلق ضحكة مريم الشاعرة في الجو، ترن في أذن الفتاة صافية رقيقة كالماء المقطر، تخرج من قلبها وأعماق صدرها، لا تستطيع أن تضحك مثلها، إن ضحكت تخرج ضحكتها مبتورة، مكتومة، ترتفع يدها إلى فمها، تكاد تخفيه، تحول بينه وبين الضحك، كأنما الضحك متراكم في صدرها منذ الطفولة، ما إنْ تفتح فمها حتى ينطلق متدفِّقًا دون توقف.

حين تشكو جمالات من الصراصير، تقول لها مريم، احمدي ربك لأنَّها مجرَّد صراصير وليست عقارب ولا تعابين.

– أعوذ بالله يا مريم من العقارب والتعابين، جسمي يرتعش إذا سمعت اسمها، كأنِّي أسمع اسم إبليس.

– عمرك شفتي إبليس؟

– أبدًا والحمد لله.

– عمرك شفتي عقرب أو تعبان؟

– أبدًا والحمد لله.

– عشان كده بتخافي منهم يا جمالات.

تقرأ مريم قصيدتها بعنوان «الخوف» … نحن نخاف الله لأننا لا نراه، نحن نخاف الشيطان لأننا لا نراه، نحن نخاف الموت لأنَّنا لا نراه … لهذا يتخفَّى الله وراء السحابة، ويتخفَّى الشيطان، ويتخفَّى الموت، ويتخفى صاحب العرش داخل القصر العالي الجدران، يتمكَّن الخوف منَّا في الطفولة، ومعه الجهل، تغيب عن عقولنا البديهيَّات، ولا نعود نرى الضوء في النهار.

قبل أن تنام الفتاة تجلس جمالات على طرف سريرها، تقدِّم لها النصائح كالأم: لا تسمعي كلام مريم الشاعرة، الشعراء يغويهم الشيطان، الله أمركِ بتغطية كل شيء إلَّا وجهكِ وكفَّيكِ، الحجاب قبل الحساب، واجب عليك مثل الصلاة، إنْ أردتِ دخول الجنَّة يا عزيزتي.

لم تؤمن جمالات بالنقاب الذي يغطِّي الوجه، حجابها من النوع الحديث، يتطوَّر مع العصر ويتغيَّر شكله وألوانه، تعشق الزينة والتجميل، الله جميل يحبُّ الجمال يا عزيزتي، وإذا بُليتم فاستتروا، القبح عورة تستوجب الستر مثل رأس المرأة.

تنتقل جمالات من الدنيا إلى الآخرة بكلمة أو حرف، هزَّة واحدة من رأسها المحجب، تصبح في السماوات العليا، حركة خفيفة برمشها الصناعيَّة تعود إلى الأرض. تغمز بعينيها المكحَّلتين وتقول: ساعة لربِّك وساعة لقلبك، اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبدًا، وأعمل لآخِرتك كأنَّك تموت غدًا.

كانت جمالات تعمل في جريدة حكومية إسلامية، مكتبها في عمارة عالية بالقرب من الكوبري، نافذتها تكشف القاهرة من قمم الأهرامات إلى جبل المقطم وقلعة محمد علي، فوق مكتبها تتكدَّس الأوراق والصحف والمجلات، تختلط صور رؤساء الدول بصور الراقصات والحاملات سفاحًا، لها عمود أسبوعي بعنوان «يا رب العالمين»، فوق الجدار كلمة الله جلَّ جلاله، معلَّقة داخل برواز ذهبيٍّ، المصحف الكريم غلافه مشغول بخيوط الذهب، يرقد في أحد أدراجها إلى جوار علب البودرة والكحل، وأقلام الروج والحنَّة الحمراء، والمسك والعطور والقرنفل والنعناع واللبان الدكر والنتاية.

لا يكفُّ جرس التليفون عن الرنين، ولا يكفُّ الزوار عن الدخول والخروج، صحافيُّون وأدباء وشعراء، نساء ورجال من نجوم القاهرة، يتبادلون الأخبار والفكاهات، يحكي أحدهم آخِر نكتة، يهمس بها في أذنها، يدبُّ الصمت لحظة، ثم تدوي ضحكتها العالية كاشفة عن صفَّين من الأسنان البيضاء بين الشفتين الحمراوين الرقيقتين: الله يجازي شيطانك يا بهي!

اسمه بهي الدين برعم، يندرج في مفكرتها تحت حرف الباء، له باب ثابت في الجريدة بعنوان «النقد الأدبي»، مُربَّع الجسم الأبيض البشرة، أنيق الملابس، حذاؤه لامع بوزه طويل مدبَّب، أنفه طويل ومدبَّب يشبه بوز حذائه.

مريم الشاعرة هي التي اكتشفت التشابه، تقول: يمكن الكشف عن شخصية الرجل من شكل أنفه وحذائه … تخالفها جمالات، تقول: لا يكشف عن شخصية الرجل إلَّا أصابعه.

– أصابع يدَيه يا جمالات؟

– أعني أصابع قدمه، على العموم هناك تشابه بين الاثنين.

كانت كارمن ترى الأمر على نحوٍ آخَر، ربما لأنَّها تعيش في جاردن سيتي، تتمشَّى على الكورنيش حيث يتمشَّى الأثرياء مع كلابهم، تتريَّض في النادي حيث تتريَّض الطبقة العليا … كلٌّ منهم يجرُّ كلبًا مربوطًا في السلسلة.

– أنا لاحظت الشبه الكبير بين الكلب وصاحبه يا جمالات.

– هذه نكتة يا كارمن.

– لأ، حقيقة علمية، لأنَّ الكلب وصاحبه يعيشان في مناخٍ واحدٍ تحت سقف واحد، مثل الرجل وزوجته، بعد العِشرة الطويلة يتشابهان. تقهقه مريم بالضحك وتسألها جمالات: يعني رستم يشبهك يا كارمن؟

– أنا ورستم لا نعيش تحت سقف واحد، لا يمكن أن أعيش إلَّا وحدي، مع أوراقي وكتبي، رستم يفهمني، لأنه بيكتب، وفاهم يعني إيه الكتابة.

يعني إيه الكتابة؟ السؤال يدور في رأس الفتاة وهي نائمة، تبدو الكتابة عسيرة على الفهم، أغلب الناس يعيشون دون كتابة، يتزوَّجون وينجبون دون كتابة، ينجحون في أعمالهم ويمتلكون العقارات والأراضي والأموال دون كتابة، يعيشون ويموتون ويذهبون إلى النار أو الجنَّة دون كتابة، وفي جنة عدن لا توجد أوراق ولا أقلام.

يعني إيه الكتابة؟

يدقُّ السؤال رأسها كالمطرقة وفوق الأرض بجوار سريرها ترقد الرواية، أكوام من الأوراق المتراكمة يغطِّيها التراب، جثَّة هامدة فاقدة الحياة، إن لمحتها بنظرة خاطفة تسري في جسدها قشعريرة باردة كالموت.

لم تعُد بها رغبة في الحياة، تفتقد القوة على المقاومة، مشلولة العقل والجسم والروح، عاجزة عن كلِّ شيء حتى الحب، انقطعت عن رؤية سميح ورستم وكارمن ومريم، تغلق باب غرفتها في وجه جمالات، الحياة لا تساوي شيئًا، لا تستحقُّ أن تعيشها! فما بالُ أن تبذل جهدًا في الكتابة.

دقَّ جرس الباب، كان ساعي البريد يحمل رسالة مسجَّلة، مكتوبة بحبر أسود، مختومة بالنسر، موقَّعة من مديرة الملجأ: «نظرًا لتغيُّبكم أكثر من خمسة عشر يومًا، فقد تمَّ الاستغناء عن خدماتكم، وتفضلوا بقبول وافر الاحترام. المديرة العامة».

أمسكت الورقة بإصبعين كما تمسك جمالات الصرصار الميت، ألقت بها في بالوعة المرحاض، تنفَّست الصعداء، أخذت حمَّامًا بالماء الساخن والصابون، تغتسل من وظيفتها بالحكومة، تمسح عن ذاكرتها خيمة المديرة السوداء، ووجوه الأطفال الأحبة، وعيونهم الذابلة، إلَّا عينين محفورتين في ذاكرتها، تطلان عليها في النوم، في الحلم، في المرآة وهي طفلة، كأنَّما هما عيناها.

•••

تسير جمالات إلى مكتبها على قدميها، تخرج من الزقاق إلى شارع المبتديان، يعرفها الجميع في الحيِّ، أصحاب الدكاكين والبوَّابين، أكشاك السجائر والصحف والمجلات، مطاعم الفول والطعمية، محلات عصير القصب والباعة الجائلين والشحاتين. تسكن جمالات هذا الحي قبل أن يشتهر اسمها في عالم الصحافة، يلجأ إليها العاطلون من الشباب، يعتبرونها واسطة لدى السلطان للحصول على وظيفة بالحكومة أو القطاع الخاص، أو عقد عمل بالخارج، يُقبلون عليها وهي تمشي بحجابها الأبيض الملفوف حول رأسها، وثوبها من القماش السميك الذي لا يشفُّ ولا يرفُّ، صيف شتاء، يرتجُّ تحته جسمها السمين، وحقيبة يدها الجلدية الصفراء، بلون حذائها ذي الكعب العالي، وجهها المستدير الأبيض، حاجباها الرفيعان المقوَّسان، عيناها الكبيرتان المكحلتان، شفتاها الحمراوان منفرجتان في ابتسامتها الدائمة وهي تحييهم بالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تبدو جمالات كأنَّما هي روح من السماء نزلت إلى الأرض لتحقِّق أحلامهم، ثم تصعد إلى السماء، حيث تخلع عنها جسدها وتصبح روحًا غير مرئية، لم يكن أحد في الحيِّ يعرف شيئًا عن حياتها الأخرى، إلَّا أنَّ زوجها مات شهيد الله والوطن وهي أرملته الطاهرة أخلصت له في الحياة والموت ولم تتزوج من بعده أبدًا.

تعرَّفت الفتاة أكثر على حياة جمالات الأخرى منذ شاركتها الشقة، جعلتها تطَّلع على مفكرتها الخاصة، كانت تمنحها الثقة، تعاملها كابنتها أو أختها الصغرى، تقدِّم لها النصائح في أمور الحب، بدت لها دائرة معارف في أمور الجنس، تشرح أدقَّ الخفايا في شخصية الرجل، ترسم فوق الورق ما يشبه التشريح العلمي لأعضاء الذكورة والأنوثة، وتحكي تجاربها بدقة بعد أن تنتشي بالنبيذ، تتغنَّى بعمر الخيام وأبي نواس ورجوع الشيخ إلى صباه.

هي ابنة الشيخ الإمام الجمالي، الداعية الإسلامي الكبير، اشتهر اسمه بعد معاهدة كامب ديفيد الأولى، أصبح نجمًا في أجهزة الإعلام، امتلك العمارات والعقارات، ثم تغيرت الأحوال بعد أحداث الاغتيالات ومقتل السيَّاح الأجانب، إذ تمَّ القبض عليه بتهمة الشذوذ الجنسيِّ والفساد السياسي، مات في السجن من الكمد، توزَّعت أملاكه على زوجاته القديمات والجديدات وأبنائه الذكور، لم يُعرف عددهم بالضبط … كانت جمالات ابنته الوحيدة من الزوجة الأولى، تنازلت عن حقوقها خوفًا من إخوتها الذكور، ماتت أمها قبل أن تحصل على وظيفتها في الصحافة، لم يكن معها شهادة عليا، أصبح عليها أن تشقَّ طريقها بالسلاح الوحيد الذي تملكه، الأنوثة الفيَّاضة وحجاب الفضيلة.

تحوَّل مكتبها في المجلة إلى مكان للترفيه وقتل الوقت، ترشف القهوة المحوجة بالحبهان، تصنعها هي بنفسها على بابور سبيرتو تخرجه من درج مكتبها السفليِّ، مع الكنكة وبرطمان البُنِّ البرازيلي، وعلبة سجائر كليوباترة. في السنوات الأخيرة ظهرت الشيشة في الركن بجوار المكتبة، تمتلئ غرفتها بالدخان ورائحة البنِّ والبودرة، تتراكم أعقاب السجائر في الطفاية فوق مكتبها، شفتاها مطبوعتان باللون الأحمر فوق كل عقب، لا يكفُّ الزوَّار عن الدخول والخروج، أصدقاء وصديقات، معجبون وعشَّاق، وبعض العشيقات من النساء، إن أصبحت وحدها تقرأ الصحف والمجلات، أو تفتح الراديو أو التلفزيون الصغير المُعلَّق على الرفِّ بالجدار، أو تطل من نافذتها العالية على الكوبري وميدان التحرير.

كانت جمالات تكتب عمودًا أسبوعيًّا بعنوان: «يا رب العالمين»، يكتبه لها بهي الدين برعم، يدخل في مفكرتها الخاصة تحت حرف الباء، يرتدي بدلة أنيقة صيف شتاء، بشرته بيضاء لم تلمسها الشمس، قامته قصيرة مربَّعة، عيناه ضيقتان غائرتان، أنفه طويل مدبَّب، قدماه صغيرتان داخل حذاء أنيق من الطراز الحديث ذي البوز الطويل المدبَّب.

يمتلك بهي الدين برعم باب «النقد الأدبي» في الجريدة، ينتفض جسده حين يرن التليفون المحمول في جيبه، ينهض مسرعًا إلى الركن البعيد، يده اليسرى مرفوعة فوقه أذنه اليسرى، يهمس كلمات في الجهاز الصغير المختفي في بطن يده، أذنه اليمنى ناحية المكتب حيث تجلس جمالات، عينه اليمنى ترى النظرة الخبيثة في عينَيها، وضحكتها تتصاعد في الجوِّ مع دوائر الدخان: بتكلم مين يا بهي يا واد شقي!

لم ترث جمالات الفساد عن أبيها، كانت تحنُّ إلى الفضيلة لو امتلكت الدوافع، تعاني الفتور وغياب الحماس، مع الحنين إلى الشبق واللذة المفقودة، تدور حياتها حول محور واحد، الرجل، مثل النساء المكبوتات، الواقعات في براثن الحب المستحيل، الأسيرات الأبديَّات داخل قبضة الرجل الحِمِش، الغيور الفظ، الذي لا يقبل الشريك.

الرجل بالنسبة لها ليس جسدًا تشتهيه ليلةً أو عددًا من الليالي المنتهية، بل هو الكون اللامتناهي، الأكتاف القوية تحت حشو البدلة المتين، الصدور العريضة يطلُّ شعرها الأسود الغزير من فتحة القميص، الانتصابة تحت السروال أسفل البطن، الصوت الخشن يدغدغ الأذن بعبارات الفاحشة المبدعة، الأصابع ذات المفاصل البارزة الزاحفة فوق الجسد، والعيون السود أو الزرق أو الخضر أو العسلية، المليئة بالفجر، بالفضيلة، بالغضب، بالرضا، بالترغيب، بالترهيب.

ما أكثر ما عرفت جمالات من أنواع الرجال، تقول إن ما يجذبها في الرجل هو الإنسان وليس القضيب، لا تفرِّق بين الرجال على أساس الطبقة أو المهنة أو العائلة، لا تفرق بين عربيٍّ وعجميٍّ إلَّا بالتقوى، عرفت رئيس التحرير كما عرفت سائق سيَّارته، عرفت الأمير كما عرفت الجرسون في مطعم الفول، ورثت عن أمها وجدتها فنون المخادع والجِماع، تعلَّمت على يد البلانة إعداد الفراش والحمَّام، دهان الأجساد وتدليك المناطق الحساسة، وأكثر الحركات إثارة وخلاعة، وكيف يهيج الذكر ويضيع عقله، وماذا تقول ومتى، وكيف تخرج الأصوات من فمها وأنفها، بعبارات عامية وسوقية، أو كلمات راقية فصحى. ضاجعت جمالات الرجال من الطبقة العُليا والسفلى، وخبراء أجانب، ورؤساء مؤسسات، وأزواج النساء المرموقات في العلم أو الأدب، أو الزوجات المحصنات في البيوت، وشباب الجامعة العاطلين، وتلاميذ الثانوي المتمرِّدين، وعمَّالًا وفلاحين وجنودًا من فئات الشعب العامل.

تضحك جمالات وهي تقارن بين طريقة الوزير في الجِماع وطريقة الجرسون في المطعم، أراد الوزير المرعوب أمام الرئيس أن يطفئ النور، كان يخاف الضوء ويخجل من جسده العاري، وانكماش عضوه من طول الكبت، ويخشى على محفظته المملوءة بالنقد، بخلاف الجرسون الذي خلع ملابسه في الضوء، ألقى بالفانلة والسروال على الأرض، مطبوع فوقهما الحرف الأول من اسم طويل تظهر حروفه في الضوء، الحرف وراء الحرف، م. ا. ك. د. و. ن. ا. ل. د. تضيء كلها لتصبح «ماكدونالد» ثم تنطفئ وتعم الظلمة.

تقول جمالات: الرجال الساعون إلى الحُكم ضعفاء في الفراش، متردِّدون، غير واثقين في أنفسهم، أمَّا الرجال الفقراء الزاهدون في السلطة فإنهم يتمتَّعون بقوة وسخونة عارمة، ويبذلون أقصى جهدهم لإمتاع النساء.

تحكم جمالات على ذكورة الرجل من شكل أصابعه وأنفه. يتميَّز أصحاب السلطة بأصابع قصيرة وأنف مُكوَّر تنقصه الحِدَّة والارتفاع، يكاد يكون قضيبهم نسخة من الأنف، قصير ومكوَّر، متوسِّط أو أقل من المتوسط في الارتفاع أو الانتصاب … وتقول: القوة في الفراش لا علاقة لها بالسلطة، لأنَّ الفحولة لا تحتاج إلى قوة خارجية.

تدرَّبَت جمالات على إدراك خفايا الرجال، ترهف أذنيها وهي تنصت إلى الخطب السياسية، تؤكد أنَّ صوت الرجل يعكس شكل جسده، الصوت الوقور القوي النبرة الضاغط على الألفاظ، في السرير يؤكِّد العكس، أما الرجل الدون جوان، الذي يسمُّونه زير النساء، الذي ينتقل من امرأة إلى امرأة، فهو أكثر الرجال هزيمة داخل الفراش.

سنوات من عمرها قضتها الفتاة في شقة جمالات، درَّبَتها على الصلاة، خمس مرات في اليوم. قالت: الصلاة تمسح الذنوب مثل زيارة قبر النبيِّ في مكَّة المكرَّمة، لكنَّ الصلاة لا تحتاج إلى تذكرة طيران ولا إلى مصاريف، مجرد الممارسة اليومية حتى تصبح عادةً لا يمكن اقتلاعها.

أخذت عنها عادة الصلاة وعادة التدخين، تشتري لها السجائر مقابل بعض الخدمات، ليلة الخميس هي ليلة السهر، ليلة المتعة، ساعة لقلبك وساعة لربِّك، يوم الجمعة هو يوم الرب والصلاة في المسجد والتوبة.

ليلة الخميس يهدأ الزقاق وشارع المبتديان، حي السيِّدة يصبح هادئًا، يقبع الفقراء في البيوت يستريحون من عناء العمل طول الأسبوع، يشربون الشاي الأسود من دخان الشيشة، تدلِّك أقدامهم نساؤهم بالماء الساخن والملح، تصعد أياديهنَّ المشقَّقة لتدلِّك أجسادهم المكدودة، يسري الدم في الأعضاء المرهقة المتهدِّلة، قد يحدث الإنعاش أو الانتصاب بقدرة الله الواحد الأحد.

تكون جمالات قد نامت نصف النهار، أعدَّتْ غرفتها لسهرة الخميس، تسمِّيها ليلة الفرج، تتعطَّر بالمسك بعد الحمَّام، تجلس على الشلتة فوق الأرض، التليفون المحمول فوق أذنها اليسرى، أذنها اليمنى مرهفة لسماع جرس الباب.

كان سميح يأتي دائمًا حين تحتاج إليه الفتاة، يدخل حياتها مثل نسمة هواء في جوٍّ خانق، لحظة الإفراج من طول الاحتباس، كان مثلها في أزمة يريد الخروج منها، يعاني الاثنان اليأس، وصل كلٌّ منهما إلى نهاية الطريق المسدود، لم يكن أمامهما إلَّا أن يُلقي أحدهما نفسه فوق صدر الآخَر، كالغريق تُلامِسُ أصابعه شاطئ النجاة.

كانت له امرأة أخرى يحبُّها، تركته إلى رجل آخَر، ثم تركها الرجل الآخَر إلى امرأة أخرى، أرادت أن تعود إلى سميح، كاد أن يصفح عنها ثم تراجع، صفح عنها مرتين، هذه المرة الثالثة لن يصفح ولن يعود، كان اسمها سوزان، اختصارها سوزي.

يقول عنها مجنونة بالرغبة لتحقيق ذاتها، مثل كارمن، ضميرها غير مستريح، تبحث عن منطق لحياتها، تراودها أفكار غريبة لا تنتمي لعالم المرأة.

– وما هو عالم المرأة يا سميح؟

– لا أعرف.

علاقة الفتاة برستم دخلت مرحلة الخطر والتناقضات، يسعى كلٌّ منهما إلى تحطيم الآخَر عبر الحب، هناك علاقة بين الحب والموت والجنون.

الجنون عند رستم يقوده إلى تدفُّق الأفكار والكتابة، تتغلَّب الفلسفة على الفنِّ في رواياته، يتأمل الكون، يتساءل، يُعيد الأسئلة القديمة منذ أرسطو وأفلاطون، يحاول علاج الفجوة بين الروح والجسد، أو بين الخير والشر، تشرد عيناه بعيدًا ويسألها عن التناقضات في الحب.

صوته تعتريه بحَّة السعي إلى الحقيقة، مبحوح بذكورة مشروخة، مع القلق المدمِّر إلى حدِّ الخوف، والرغبة في إنقاذ نفسه بأيِّ شكل، وإنقاذ كارمن معه، كان يحبها أكثر لأنهَّا كاتبة ولأنَّه كاتب مثلها.

– أنتِ أنثى وأنا ذكر وقعتُ في حبِّك لأنقذ حبِّي لكارمن، لا أريد أن أفقدها ولا أريد أن أدمِّر نفسي، أما أنتِ؛ أنتِ من نوع لا يدمِّره الحبُّ.

– أيُّ حب يا رستم؟

جذبها إلى رستم ضعفه، تناقضه، تخبُّطه، تردُّده، لم يكن مثل سميح قادرًا على إخفاء حقيقته.

– الحب بيننا يا رستم شيء مختلف، جزء من شيء أكبر.

– وما هو الشيء الأكبر من الحب؟

لم تعرف الفتاة أبدًا لماذا بعد كل قطيعة يعودان إلى اللقاء، هي ورستم، يستغرقان في الحديث طول الليل، يسيران حتى الفجر في شوارع القاهرة، سيرًا على القدمين أو داخل سيَّارته المرسيدس، يجلسان في المقاهي الصغيرة، في الأحياء الفقيرة، يشربان الشاي الأسود والشيشة، يحاولان الاختفاء عن عيون كارمن وسميح، ضميرها يؤنِّبهما في كلِّ لقاء، ويقرِّران القطيعة، يقتربان أكثر بعد كل ابتعاد، يقرِّبهما الافتراق أكثر من اللقاء، تتشابك أيديهما مثل الأطفال ويمشيان، يقزقزان اللبَّ والترمس على شاطئ النيل، يجلسان فوق الحجر والدكك الخشبية، يستأجران الغرف على ساحل البحر، يتعانقان طول الليل ينشدان إفراغ الشحنة، دون جدوى، كأنَّما الحب ليس الهدف، ولا الجنس، ولا أي شيء، إلَّا اكتشاف المجهول، دون جدوى، يظل المجهول مختفيًا وراء السحابة، يشعران بالحزن بعد العناق، مرارة الواقع وضرورة الفراق، الحب الكبير يحتويهما، ومع ذلك يظل صغيرًا لا يكفيهما.

في ذاكرتها رغم المسافة رائحة معجون الحلاقة «لافندر»، عناوين كتب الفلسفة فوق رفوف المكتبة، الجدل بطول الليل عن وجود الله، حين تقبِّله لا يغمض عينيه، بل يفتحهما أكثر، يملؤهما شكًّا أكبر يشبه الجنون، يحوط نفسه بكتبه ورواياته، مثل مريض يحوط نفسه بعلب الأدوية، أو بزجاجات الخمر والنبيذ. في الليل تسمع أنفاسه تتردَّد، شيء في رأسه يدقُّ، يمشي الدم في عقله بصوت مسموع، مثل النبض ودقات الساعة فوق معصمه، تسمع فقرات عنقه تطقطق، جفونه مسدلة ينبعث من تحتها ضوء، كأنَّما يرى وهو مغمض العينين، يطلُّ في أعماقه على بؤرة القلق … يغلبها النوم ساعة أو أكثر، تفتح عينيها لتراه صاحيًا، عيناه مفتوحتان محملقتان في وجهها، يدرس ملامحها في النوم، يحاول اكتشاف شيء لا يراه في الضوء.

كانت كارمن تقول: لا يمكن أن أعيش تحت سقف واحد مع رستم، لا أريد أن أنام تحت عينه المفتوحة، ترقبني مثل عين الله الساهرة لا تنام، لا شيء يقتل الحب إلَّا الحياة تحت سقف واحد، المشاركة في السرير، الاقتراب إلى حدِّ التلاصق، الحملقة في وجهك أثناء النوم، اقتحام غرفتك أثناء الكتابة، يأكل معك كلَّ يوم ثلاث مرات، يخترق جسدك في الليلة الواحدة مرتين، ينام بعمق، يمنعك شخيره من النوم، يدخل معك الحمام، ترين عظامه البارزة المعوجة، يجلس أمامك فوق المرحاض، تسمعين صوت أمعائه وحشرجة الكبد والطحال، والكحة والسعال، يؤلمك الصوت إلى حدِّ الأرق.

وكان رستم يقول: عشت حياة الحرية والاستقلال منذ طفولتي، لم يشاركني أحد غرفتي، لا أستطيع الالتزام بقيود الحب أو الزواج، لا أسمح لأحد أن يسألني إلى أين أذهب، مع مَن أسهر، ماذا أشرب وماذا أكتب، لا شيء يقتل الحب إلَّا التلازم الدائم أكثر من اللازم، وجود شخص آخَر تحت غطائي، وجود امرأة تحت جلدي، أسمع أنفاسها طول الليل، يزعجني انتظامها دون انقطاع، بقدر ما يزعجني انقطاعها.

•••

على شاطئ برشلونة تتمدَّد الفتاة فوق الرمال تحت الشمس، يخرج من صدرها زفير طويل محمَّل بالدخان والتراب، تأخذ شهيقًا عميقًا من هواء نقيٍّ، عبرت البحر الأبيض المتوسط من الجنوب إلى الشمال، حملتها الطائرة أربع ساعات إلى عالم آخَر، المباني المزينَّة بالتماثيل، اللوحات الأصلية للفنانين، الكتب المطلة من نوافذ المكتبات، الموسيقى والغناء وأضواء المصابيح، مطاعم السمك وقواقع البحر، المناضد فوقها مفارش مكوية بيضاء كالثلج الأطباق نظيفة لامعة تبرق، الفوط مطوية على شكل الزهرة، الملاعق والسكاكين والشوك معقَّمة ملفوفة، الكئوس البلورية تتألق تحت أشعة الشمس، زجاجات النبيذ الكاتالاني «ألباريتو ألبارينو» وبتريا شاردونيه، أناجيل تحب النوع الأول، فرانسيسك يحبُّ النوع الثاني، اختاروا منضدة بجوار البحر، كان فرانسيسك يمرُّ بفترة اكتئاب، يريد أن يفعل في حياته شيئًا غير الوقوف كالتمثال في الشارع، يرى نفسه في الحلم فنانًا مشهورًا مثل سلفادور دالي، يقيم معارضه في بلاد العالم، يصبح من الأثرياء، تتهافت عليه الفتيات قالت له أناجيل: هذا حلم ذكوري مريض.

كانت أناجيل تتألق بالسعادة، كتفاها ناعمتان عاريتان تحت الشمس، ترتدي بلوزة رقيقة تكشف عن بطنها الضامر، بنطلونها من الجينز الضيِّق مثل القفاز، مشدود تحت الخصر بحزام عريض من الجلد الأخضر، تمطَّت وهي تفرد ذراعَيها عن آخِرهما.

أخيرًا وجدتُ نفسي في كتابة الشعر، كنت ضائعة في الحياة حتى قرأت «ماريا ميرسيه مارسال»، جاءت من القرية طفلة إلى برشلونة، كانت فقيرة مثلي، استطاعت أن تقهر الفقر والعالم بأبيات الشعر. أحب قصيدتها التي تقول فيها:

تلقيتُ من الحياة هدايا ثلاث،
أنَّني وُلدت امرأة،
وفقيرة،
ومقهورة …
مما جعل تمُّردي ثلاثة أضعاف.

ماتت ماريا ميرسيه مارسال في ريعان الشباب مثل الزهور. قبل أن تموت، التقت أناجيل بها صدفة، انحرفت ملامحها في عقلها، وقعت في حبِّها دون وعي، اكتشفت أنَّ أمها الميِّتة لم تمُت، إنَّها تعيش وتمشي على قدميها، تقرأ ديوانها وسط الآلاف، وفي الليل تحوطها بذراعيها تعيدها إلى طفولتها ورحم الأم.

يفرغ فرانسيسك كأسه في جوفه، ينهض واقفًا هادرًا كالبحر الغاضب، ينطق الكاتالانية بحروف حادَّة كالرصاص، لا يطيق سماع أناجيل وهي تحكي عن حبيباتها النساء، يمطُّ بوزه في اشمئزاز: هؤلاء النسوة الليزبيَّات السحاقيَّات الباردات العاجزات جنسيًّا المقطوعات البظر!

لم تكن أناجيل مقطوعة البظر، كانت مكتملة الجسد، تقول إن فرانسيسك عاجز مثل الرجال في الشمال، ينبع العجز من الخوف، أنا أحب ماريا مارسيه مارسال لأنَّها شاعرة وليس لأنَّها امرأة، تستولي على خيالي أكثر من الرجال، رغم كونها ميِّتة، هناك شيء أكبر من الحب يا فرانسيسك!

تذكِّرها أناجيل بمريم الشاعرة على شاطئ النيل، أثارت خيالها منذ لقائها الأول بها، بشرتها خمرية بلون الفخار، صوتها وهي تُلقي الشِّعر ناعمًا وصلبًا كالرخام، ممشوقة القامة متينة البنيان مثل شجرة جذورها في الأرض ورأسها في السماء، شَعرها كثيف بلون الليل، عيناها كبيرتان تتألقان تحت الضوء، يتغير لونهما مع حركة القمر، عنقها طويل قوي، يحمل رأسها دون عناء، يتحرَّك جسمها على نحو طبيعيٍّ، لا يمثِّل ثقلًا ولا عبئًا، كأنَّما مصنوع من مادة أخرى غير اللحم والعظم، ربما هي الروح.

كانت الفتاة يائسة، عاجزة عن تحقيق نفسها، يصيبها اليأس بالضعف والهزال، يفقد جسدها مناعته الطبيعية ضد الأمراض، تهاجمها الفيروسات صيف شتاء، تتصبَّب عرقًا في ليالي البرد، وفي وطأة الحر ترتعش بالبرودة، انقطعت عن رستم وسميح وكارمن، تشاركها جمالات الشقة كأنَّما تشاركها جسدها، تعيش معها تحت سقف واحد، يتوالد الصراع من طول الاحتكاك، التلازم الزائد بين اثنتين عن الحد اللازم، ترى وجهها المترهِّل كل صباح بلا حاجبين وبلا رموش، تسمع صوتها في الحمام تبسمل وتحوقل، تشغل المرحاض طويلًا بسبب الإمساك المزمن، صوت الغاز المكتوم في الأمعاء، الدهون المتراكمة مع الفول والطعمية والكوارع، شخشخة الأساور حول معصميها، وحبات السبحة تصطك بين أصابعها، وصرير ضروسها وهي تردد أسماء الله الحسنى، تشعر بالبهجة حين ترى الفتاة مريضة في الفراش، تزداد قوة بازدياد ضعفها، تتزيَّن وتتعطَّر وتتبخر أمامها وهي راقدة، تليفونها المحمول ملتصق بأذنها، تطارد الرجال من عشاقها، تفتتح حديثها بسم الله والسلام عليكم، وتخمته بالصلاة على سيِّدنا محمد، يرنُّ صوتها العالي وإن أغلقت الفتاة الباب، وإن سدت أذنيها بالقطن، وإن دفنت رأسها تحت الوسادة، يأتيها صوتها المتأجِّج باللذَّة، يغلي الدم في عروقها، إقبالها على الحياة يؤكِّد اكتئابها، إحساسها بالمرح يزيد من حزنها، تفتح الباب وتجلس على طرف سريرها، تفوح منها رائحة البودرة والمسك والعطور، حول حجابها عقد من اللؤلؤ، بين شفتَيها الحمراوين سيجارة مشتعلة، يدخل دخانها في صدرها يزيدها مرضًا. تنقلب على الجنب الآخَر تعطيها ظهرها، خشب السرير يئنُّ تحت ثقلها كحيوان مريض.

تحاول جمالات التخفيف عنها، تقول لها إنها تذبل مثل زهرة لا يرويها إلَّا الإيمان، والمرض يأتي عبر الشيطان: كفاية يا جمالات أرجوكِ!

– تحجَّبي تسلمي، لا تسمعي كلام إبليس، أنا كنت مثلك قبل أن يهديني الله، الإيمان حماية من الأمراض، الله يعاقبك في الدنيا وفي الآخرة، ولا علاج لكِ يا عزيزتي إلَّا بالحجاب.

خرجت جمالات إلى مكتبها، تسلَّلت الفتاة إلى غرفتها تبحث عن زجاجة الحبوب المنِّومة، فوق المنضدة إلى جوار سريرها أدوية متعدِّدة الأنواع، مكتوبة بحروف أجنبيَّة مع الترجمة العربية، حبوب طاردة للغازات، حبوب تمنع الحمل، حبوب مضادة للاكتئاب، مانعة للإمساك، مسهلة للهضم، حبوب السعادة … أخيرًا وقعت يدها على الحبوب المانعة للأرق، أخذت ثلاث حبات مع كوب ماء وسقطت في غيبوبة النوم.

•••

أفاقت على صوت أناجيل، اليوم عيد سان جوردي، لا أحد يبقى في البيت، إنه يوم الحب، شربتا النبيذ فوق السطح تحت أشعة الشمس هبطتا السلالم حتى الدور الأرضي، الساعة الثانية عشر ظهرًا، يولاندا جالسة في المطعم تلتهم صحن الباييلا الساخنة، تمثال أنتونيو لوبيز لا زال منتصبًا داخل المعطف، عن يمينه قصر ضخم، له برجان عاليان، قمَّته تزيِّنها التماثيل، ملائكة ونساء لهن أجنحة، أربعة أعمدة مستديرة ترتفع فوق المدخل، السلالم رخامية بيضاء، حروف كاتالانية منقوشة على الحجر: correos y telegrafos، تذكَّرَت أنَّ سميح ينتظر منها ردًّا على رسالته.

– أريد أن أرسل فاكس إلى القاهرة يا أناجيل.

دخلتا إلى البناء الضخم، كتبت الفاكس بالقلم الأسود الجاف:

«عزيزي سميح،

أشكركَ على رسالتك الرقيقة، وعلى جهودك من أجل العثور لي على عمل لائق، لم أحصل هنا على أيِّ عمل، لم أكتب شيئًا في الرواية، سأعود إلى القاهرة بعد أن أضع مولودتي، سأعطيها اسمي واسم أمي، القانون هنا لا يفرِّق بين اسم الأب والأم، أغلب الأطفال يحملون أسماء أمهاتهم حتى رئيس الحكومة الجديد «زاباتيرو»، كلمة «زاباتيرو» هي اسم أمه يا سميح، أيأتي يوم في بلادنا يحمل فيه الرجل اسم أمه دون أن يشعر بالعار؟»

أمسكت أناجيل بيدها، سارَتَا تشقَّان الزحام في شارع الرامبلا، عيد سان جوردي هو عيد الحب، الأرض مفروشة بالزهور والكتب، يشتري الرجل زهرة حمراء، يُهديها إلى المرأة التي يختارها من دون النساء، تشتري المرأة كتابًا تختاره من دون الكتب، تهديه إلى الرجل الذي تختاره من دون رجال العالم، توقفت أناجيل أمام مكتبة بلاسا كاتالونيا، اشترت ديوان ماريا مارسيه مارسال، أهدته للفتاة مع الوردة الحمراء، هي اشترت ديوان شعر الخنساء باللغة العربية، أهدته لأناجيل مع وردة حمراء، أصبحت أناجيل تقرأ وتكتب بالعربية، كانت تعدُّ دراسة مقارنة بين الشعر العربي والكاتالوني، في مجال الحب والحرية، حفظت عن ظهر قلب قصائد الخنساء، تقول عنها الشاعرة العربية الحرَّة، لم تخضع لحكام في القبيلة أو زوج في الأسرة، أكثر ما أعجب أناجيل في التاريخ العربي القديم هو شجاعة النساء حتى الجاريات.

– أتعرفين هذه الحكاية؟

– أي حكاية يا أناجيل؟

– دخلت على أمير المؤمنين جاريتان إحداهما جارية قديمة لديه والأخرى جديدة اشتراها حديثًا، اشتعلت نار الغيرة بين الجاريتين، قالت الجارية القديمة: إن الله فضَّلني على تلك الأخرى بقوله «والسابقون الأولون»، ردَّت الجارية الجديدة: بل فضَّلني الله على القديمة بقوله «والآخِرةُ خير لك من الأولى»، ضحك أمير المؤمنين واستلقى على قفاه من شدَّة الضحك، وأمر بالمساواة بين الجاريتين القديمة والجديدة، كما كان رسول الله يفعل.

ترن ضحكات أناجيل في أذنها، تتذكر ضحكات جمالات في بابها الثابت في الجريدة، تحت عنوان: «يا رب العالمين»:

بعد أن استمعت إلى بيان الحكومة في مجلس الشعب حول مشروع الخطة العامة للدولة والموازنة، وهي حكومة مجاهدة في سبيل الله من أجل الإصلاح على الطريقة الأمريكانية، لا أملك إلا أن أرفع كفي إلى السماء داعية المولى عزَّ وجل أن يفرج عنَّا الغلاء الفاحش، ويأخذ إليه سبحانه وتعالى المتاجرين باللحوم الفاسدة والمبيدات السامة، والشركات المباعة، وعرق الشعب الكادح، والاستثمارات الوهمية، والشباب المهاجر، والجنيه المصريِّ المنكمش خزيًا أمام الدولار الفاحش، والآثار المنهوبة في الغرف المظلمة، ونواب القروض ومهرِّبي البلايين، وطوابير النسوة أمام الطوابير، وفقاقيع الوعود المتبخرة في الهواء، يا رب العالمين يا أرحم الراحمين يا سميع يا كريم.

– ومَن هي جمالات؟

– شريكتي في البيت.

رمقتها أناجيل بنظرة متسائلة، كلمة «شريك البيت» تعني بالكاتالونية الزوج أو الزوجة، أو العشيقين دون عقد زواج، الأسرة عندنا لها شكل واحد يا أناجيل، رجل وامرأة يعيشان تحت سقف واحد، يجمعهما عقد زواج مكتوب مختوم، أما جمالات فهي صديقة تشاركني الشقة، تكتب بابًا أسبوعيًّا في الصحافة، تنفِّس به عن غضبها، وهي مؤمنة بالله والرسول محمد بحسب المذهب السُّنِّي، تغضب لأن المسلمين الشيعة يورِّثون البنت مثل الولد، ولأنَّ المسلمين في الصين يصلُّون الظهر ست عشرة ركعة، والمفروض أنَّها أربع ركعات، ما عدا صلاة الجمعة فهي ركعتان، وهي شديدة التمسك بالحجاب والوحدانية في أمور الدين، أما في أمور الدنيا فهي تؤمن بالتعدُّدية.

كان الزحام شديدًا في شارع الرامبلا، ضاعت أناجيل في الزحام، جرفتها أجسام الناس بعيدًا، بينما توقَّفت الفتاة تتطلَّع إلى امرأة واقفة مثل التمثال، تؤدِّي دور البانتوميم، بشرتها مدهونة بلون أسود يشبه القطران، ملابسها بيضاء شفافة، فوق رأسها مظلَّة بيضاء مفتوحة، رموشها ثابتة كثيفة سوداء. تجمَّع حولها الأطفال فابتسمت، ظهرت أسنانها بيضاء مشرقة كالشمس، عيناها سوداوان مليئتان بالسواد، ثم تجمَّدت مرةً أخرى مثل تمثال من الحجر، ألقى الأطفال بعض النقود في القبعة البيضاء الكبيرة عند قدميها.

وسط الأطفال رأتها، ترتدي ثوبًا زاهي الألوان، حول عنقها عقد من الزهور، عيناها الكبيرتان يكسوهما البريق، نجمتان تلمعان بالضوء، تقاطيع وجهها بارزة كأنَّما منحوتة في صخرة، في عينيها النظرة الحزينة وإن ابتسمت، تراها في النوم منذ طفولتها، تطلُّ من المرآة منذ نظرت إلى وجهها في المرآة.

– صباح؟

التفت الطفلة ناحيتها مندهشة، متردِّدة، شدتَّها من يدها امرأة ضخمة الجسم، ترتدي قبعة رمادية فيها ريشة حمراء، فوق عينيها نظارة سوداء، تشبهان العينين المدفونتين داخل ثقبَيِ النقاب الأسود.

قضت الفتاة الليل مفتوحة العينين، تسترجع الوجوه في ملجأ الأطفال، في الصباح جاءت أناجيل، قالت أرخص الأطفال من إثيوبيا ومصر والسودان، أغلى الأطفال من روسيا والصين وإسرائيل، وفي المتوسط لا يقل ثمن الطفل أو الطفلة عن ثلاثين ألف «دولار».

•••

جاءتها رسالة من سميح، يطلب منها العودة، ينتظرها بشوق كبير ومعها طفلتها، «هي طفلتنا ألا تذكرين! وبأيِّ اسم تختارين، «زباتيرو» يحمل اسم أمه، وهو أفضل من الملوك والرؤساء الحاملين لاسم الأب.»

وجاءتها رسالة من كارمن، تطلب منها العودة إلى الوطن، ومعها الطفلة، «هي طفلتنا نحن الثلاثة، أنتِ وأنا ورستم، أنتِ الأم الأصلية وأنا الأم الفرعيَّة، والأب الأصليُّ هو رستم، وإن شئت يمكن إضافة سميح، هذه الطفلة محظوظة لها أمَّان اثنتان وأبوان.»

•••

الحنين إلى الوطن تحسُّه تحت ضلوعها، ضربات القلب القويَّة في تتابع وانتظام، مع الضربات الأخرى تحت جدار البطن، داخل الأحشاء تحوَّلت فلذة الكبد إلى طفلة تشبهها، رأت صورتها من خلال الأشعة، وابتسم الطبيب الكاتالاني، مبروك يا نورية، كان يناديها باسم أمها «نورية»، «ستكون طفلة جميلة ماذا تسميها؟» قالت «سيكون لها اسم أمي»، قال الطبيب، «يمكنكِ إضافة اسم أبيكِ إنْ شئتِ»، «لم يكن لي أب»، ضحك الطبيب، «أنتِ محظوظة مثلي، لم أعرف إلَّا أمي مثل «زباتيرو» … أحمل اسمها وأشعر بالفخر.»

•••

حملقت يولاندا طويلًا في عينَي الطفلة السوداوين يكسوهما البريق، ثم شهقت، باسم الأب والابن والروح القدس، هذه الطفلة هي حفيدتي، عيناها بالضبط هما عيناه، حين كان طفلًا، ابني فرانسيسك، هاجر إلى أستراليا، انقطعت عنِّي أخباره، رسمت يولاندا الصليب على صدرها، الحمد لله والشكر لك يا رب، عوَّضتني عن ابني بهذه الطفلة، عيناها بالضبط هما عيناه، كأنما أراه أمامي، ابني، فلذة كبدي.

حضنت يولاندا الطفلة بذراعيها، دموعها تنهمر، أنفاسها تلهث، صوتها يرتعش متمتمة بآيات من الإنجيل، «أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك في السماء كذلك على الأرض، لك الملك والمجد إلى الأبد … آمين»، تجهش بالبكاء، تغيَّرت يولاندا منذ نظرت في عينَي الطفلة، كأنما عثرت على نفسها الضائعة، كأنَّما استردت أبناءها وبناتها المهاجرين، في بلاد العالم، أبوها المسيح هو الذي ردَّهم إليها دفعة واحدة، في نظرة واحدة من عينَي الطفلة، اسمها نورية باسم ابنتها الغائبة، باسم الإلهة الكاتالانية القديمة نورية، لك الملك والمجد إلى الأبد يا رب العالمين.

وأرسلت إليها مريم الشاعرة قصيدة بعنوان نورية الشجاعة، التي جاءت إلى الدنيا رغم أنف الدنيا، ضد إرادة الجميع، جاءت نورية مثل شعاع الشمس، لا تقدر القوى النووية أن تمنع ظهور الشمس، خفقة القلب تحت الضلوع، فلذة الكبد في الأحشاء، وكلمة الحب في قصيدة الشعر.

أما جمالات فلم ترسل شيئًا، إلَّا الباب الذي تكتبه في الجريدة كل أسبوع، أعطت له عنوان: ضياع شرف الأمة الإسلامية. يا رب العالمين أنقذ شرف الأمة من الضياع، تزايد الفساد في بلادنا وامتلأت الملاجئ والشوارع باللقطاء والأطفال غير الشرعيين، يا رب العالمين أنقذ شرف الرجل من عبث النساء السافرات، خلقت المرأة من ضلع أعوج كما قال الرسول عليه السلام، إنْ حاولنا إصلاحه انكسر، فارحمنا يا رب العالمين، ولا تكشف الفضائح والمخازي وانتهاك العرض في سجن أبي غريب، واحتلال الأرض في فلسطين، وخديعة رئيس الحكومة لمجلس الشعب، وعجز الموازنة وتضخُّم الديون، وعدم تطبيق الشريعة القوانين، وانصر يا رب رجال المقاومة في العراق ونساءها، فالمرأة المسلمة المقاتلة تنقذ شرف الأمة، سبحانك يا رب تضع سرَّك في أضعف خلقك، وتجعل شرف الأمة في يد الأنثى، تنقذه إن ماتت شهيدة الوطن، وتهدره إن سقطت وغواها الشيطان.

•••

وهما ترشفان الشاي فوق السطح تحت أشعة الشمس، قالت أناجيل: لا تعودي أبدًا يا نورية، إن عدتِ ربما تتعرَّض طفلتك للخطف أو للقتل، وهي مولودة بريئة لم تفعل شيئًا، وأنتِ أيضًا ستنالين العقاب، أرجوكِ لا تعودي، أنتِ هنا في وطنك، فالوطن هو حيث يكون الحب وحيث تكون الحرية.

يولاندا حوَّطت الطفلة بذراعَيها، حفيدتي الوحيدة ليس لي في الدنيا غيرها، لا تعودي وإن عدتِ فهي ستبقى هنا في وطنها وسط أهلها، هذا حقها ولن تسلبها هذا الحق أية قوة وإن كانت نووية.

في الليل يرفرف الشيء تحت ضلوعها، يعود إليها وجه سميح ورستم وكارمن ومريم، حتى جمالات تعود بحجابها الملفوف حول رأسها، وحاجبيها الرفيعين المرسومين بسنِّ القلم، وضحكتها المجلجلة، وصوتها يقول: ألف مبروك على الشغل الجديد يا حبيبتي.

كان سميح قد عثر لها على وظيفة، أمينة المكتبة في النادي الرياضي، اشترت الفتاة حذاء كاوتش متينًا، أصبحت تمشي في الصباح الباكر أربعين دقيقة من بيتها إلى عملها، تخرج من الزقاق الغارق في المجاري إلى شارع المبتديان، تغرق في الزحام، والتراب المتصاعد تحت عجلات السيَّارات والأتوبيسات والموتوسكلات والدراجات وعربات الكارو، تجتاز شارع قصر العيني كمَن تغوص في دوَّامة البحر، تظهر على البرِّ في الناحية الأخرى، تنفض عنها الغبار والهلع، تدخل إلى حيِّ جاردن سيتي كأنَّما تدخل إلى مدينة أخرى في عالم آخَر، حيث يعيش الناس في هدوء، وراء الأسوار العالية تظللها الأشجار وزهور البوجانفيليا الحمراء دم الغزال، المباني الحديثة أو القصور القديمة ذات الأعمدة الرخامية أو الحجرية على الطراز الأوروبي، السفارة البريطانية بأسوارها العالية تشبه القلعة في العصور الوسطى، السفارة الأمريكية أسوارها أكثر ارتفاعًا، تعلوها الأسلاك المكهربة والعيون الإلكترونية وأجهزة المراقبة والرادار، تخرج من مدينة الحديقة (جاردن سيتي) إلى كورنيش النيل، تملأ صدرها بالهواء، تمشي فوق الرصيف، فندق الميريديان الضخم يحجب السماء، سائحات أمريكيات بالقبعات الملوَّنة والصدور العارية، رجالهم يرتدون الشورت والتيشرت، ونساء خليجيات تحت الخيمة السوداء، تبرق عيونهن السُّود من الثقوب، رجالهم يرتدون البدل أو الجلابيب مع اللحى والذقون، أصابع أقدامهم تطلُّ من الصنادل المفتوحة، وحبات السبحة الصفراء تتراقص بين الأصابع، بحسب المذهب أو الحزب، يمين أو يسار أو وسط، يتأرجح رستم بين اليسار واليمين، ينتقل سميح ما بين المعارضة والحكومة، تقف كارمن على الحياد، وتقول الفن للفن وليس للسياسة، أما مريم الشاعرة فهي تنشد قصيدتها بعنوان: عصر الهزيمة والنفاق، يعقدون الصفقات في لندن ونيويورك وتل أبيب، يدبجون المقالات الطويلة عن التنمية والاكتفاء الذاتي، يتنافسون على تقبيل يد الرئيس والسيِّدة الأولى … وأنا اسمي مريم باسم العذراء الطاهرة، ابنة حواء الآثمة، أعاقر الخمر وأعاشر الشيطان، لأكتب الشعر.

قبل كوبري قصر النيل، ترقد العوامات فوق الماء، تتثاءب في استرخاء، وقوارب صغيرة مزركشة بالألوان والأعلام جاهزة لنزهات السيَّاح، يحرسها صبية من الصعيد، عظامهم بارزة تحت البشرة السوداء المقشفة، عيونهم صفراء واسعة مملوءة بالحزن. عن اليمين فندق شبرد الأبيض، مكان الفندق المحروق منذ نصف قرن أو أكثر، يوم حريق القاهرة في نهاية العصر الملكيِّ، يبدو قزمًا إلى جوار فندق الإنتركونتنال الضخم مكان سميراميس القديم، تنحرف إلى اليسار فوق الكوبري المهيب، يحرسه الأسدان المتوحِّشان، ترتفع فوقه الأعلام وصورة الرئيس، بالحجم الطبيعي، معلقة فوق قوس النصر، يلفحها الهواء الشمال والجنوب، ومن الشرق والغرب، لكنَّ الله سبحانه وتعالى كما تقول جمالات يثبتها بالمسامير، وبالانتخابات الحرَّة والاستفتاءات، حيث يقول الشعب الوفيُّ الأمين، نعم، نسبة ٩٨٫٨٠٪، تطورت الأحوال في عصر الديمقراطية، وانخفضت النسبة عن ٩٩٫٩٠٪.

مبنى الأوبرا الأبيض يظهر عند نهاية الكوبري، ينتصب على أبوابه الحرَّاس من الطبقة الدنيا، ملابسهم لامعة، عيونهم شاحبة، لا يدخل الأوبرا إلَّا النخبة، المثقفون والمثقفات، المفكِّرون والمفكِّرات، يدخلون الانتخابات تحت اسم فئات، من التيارات والأحزاب المتعدِّدة، يرتدي الرجال ربطات العنق الملوَّنة، يسمُّونها الكرافتة، ترتدي النساء فساتين السهرة مع حجاب الرأس، المتطوِّر على شكل التيربون، وقد يكون الشعر عاريًا دون غطاء والعنق مكشوفًا حتى الشق العميق بين النهدين، وكلمة «الله» تتدلَّى فوق الصدر من سلسلة ذهبية، وخمسة خميسة لصدِّ عين الحسود.

تسير في الشارع المظلَّل بالأشجار حتى الباب الخلفيِّ، تدخل منه مع العمَّال في النادي، أصبحت لها بطاقة عليها صورتها واسمها الثلاثي وحالتها الاجتماعية، متزوجة، أو مطلقة أو عذراء، والحالة الانتخابية، عمال أو فئات، وغيرها من الخانات، الديانة ومهنة الأب والزوج، وعدد الأطفال، وبصمة الإبهام والخلو من السوابق، كانت تترك هذه الخانات خالية، حتى خانة الجنس، أنثى أو ذكر لم تكتب فيها شيئًا. حملق الحارس في بطاقتها طويلًا متشكِّكًا وسألها: إنتي جديدة هنا؟

– أَيْوه.

– بتشتغلي إيه؟

– في المكتبة.

– مع سيادة اللوا صبحي باشا.

أربع كلمات مرعبة مرهبة، أكثرها رعبًا ورهبة هي «باشا»، من الألقاب القديمة في عصر الإمبراطورية العثمانية، كان يحملها الوزراء ورؤساء الوزراء والمماليك وقيادات الجيش، وكلمة «اللوا» بالعامية تعني «اللواء» بالفصحى، من ألقاب الجيش الرفيعة في عصر الجمهورية تحت الحكم العسكري، لا تقل رهبة عن «الأميرالاي» في العصر الملكي.

تشقُّ طريقها عبر مشتل الزهور، عن يسارها نادي الفروسية، طفل مدلَّل (في فمه بزَّازة) يركب حصانًا صغيرًا أبيض، يجره السايس، رجل عجوز نحيف الجسم محروق بالشمس أسود مجفف مقشف، يبربش بجفون متآكلة سقطت رموشها.

تواصل السير في الممر المخصَّص لسباق الخيل، يسمُّونه «التراك»، عن يسارها وعن يمينها تمتدُّ المساحات الخضراء الواسعة لملاعب الجولف، تخرج من التراك إلى الساحة الكبيرة حيث مدخل النادي الرئيسي، تسير إلى المبنى الآخَر حيث المطعم الجديد واللاونج المكيَّف في الدور الأول، تصعد السلالم الرخامية العريضة إلى الدور الثاني، حيث المكتبة.

أصبحت تجلس في غرفة المكتبة النظيفة المطلة على حديقة الشاي، يسمُّونها في النادي «تي جاردن» كلمة «تي» تعني شاي بالإنجليزية، لم يتغيَّر الاسم منذ الاحتلال البريطاني في نهاية القرن قبل الماضي، أصبحت جمالات من عضوات النادي، تمارس رياضة المشي بحجابها الأبيض، تسْبح في الماء، بحجاب أسود غير قابل للبلولة، تنطق كلمة «تي جاردن» بطرف لسانها، وكلمة أخرى «الليدو» تنطقها بصوت خافت، كأنَّما هي كلمة نابية، تقول «الليدو» أصلها في العربية «اللايده»، وهي المرأة المصابة بالنيمفومانيا.

– يعني إيه نيمفومانيا يا جمالات؟

– يعني لايده.

– لايده يعني إيه؟

– يعني ليدو بالمذكر.

تضحك جمالات حتى تدمع عيناها، تمسحهما بطرف طرحتها البيضاء، عرفت الفتاة أنَّ كلمة «الليدو» تعني حمام السباحة الصغير المخصص للكبار من أعضاء النادي، وعضواته، لم يكن مسموحًا للعاملات أو العمال في النادي أن يسبحوا في الحمام الصغير أو الكبير، ولا أن يجلسوا على الكراسي في اﻟ «تي جاردن» أو أي مكان آخَر، أو يستخدموا دورات المياه المخصَّصة للأعضاء والعضوات ولا المطاعم ولا الملاعب. غرفة المكتبة أصبحت المكان المحدَّد للفتاة، تبقى داخلها من الثامنة صباحًا حتى الرابعة بعد الظهر، الساعات نفسها التي كانت تقضيها في ملجأ الأطفال بفم الخليج، لكنَّ المكتبة نظيفة خالية من البراغيث، تحوطها الرفوف المليئة بالكتب، تطلُّ من النافذة الكبيرة على الأشجار وحديقة الشاي، من خلفها ملاعب الكروكيه، كلمة الكروكيه تنطقها جمالات الكركوبة، تقول إنَّ الكركوبة تلعب الكروكيه، فهي لعبة العجائز غير القادرين على الجري، المسنين والمسنَّات في مجلس الشورى أو المجالس الأخرى العليا، أغلبهم من الطبقة المستريحة، خطوتهم على الأرض بطيئة، أجسامهم سمينة وأردافهم ثقيلة، من طول الجلوس في المقاعد الوثيرة، يتناقشون في أمور السياسة، بعضهم في حزب الحكومة، بعضهم في حزب اليسار، وبعضهم في الحزب الإسلامي، أصبحت جمالات من لاعبات الكروكيه، تنثني بجسمها السمين فوق الكرة مسافة متر واحد أو نصف متر، تتبعها جمالات بخطوات بطيئة، شامخة رأسها الملفوف بالتيربون الأنيق، يتبعها من خلفها ردفاها الكبيران محشورَين داخل السروال الجينز الضيِّق.

لم يكن يتردَّد على المكتبة إلَّا القليل النادر من الأعضاء والعضوات، يتغيَّب سيادة اللوا صبحي باشا معظم النهار، مربع الجسم أصلع الرأس يرتدي البدلة الرياضيَّة لونها أصفر فيها خطوط سوداء، يسمِّيها «تريننج سوت» يضع بين شفتَيه سيجارًا من هافانا، يقول عن نفسه إنه بطل ثورة يوليو وليس عبد الناصر، عنده الوثائق والبراهين، يعرف أسرار النظام التي يشيب لها الولدان، يمنعونه من الكلام في أجهزة الإعلام، كان بطل التنس والاسكواش، وظيفة أمين المكتبة لا تليق بمكانته، لم يقبلها إلَّا لأنَّها في النادي العريق، يأتي إليه كلَّ يوم من أجل الرياضة ومقابلة الأصدقاء والصديقات.

لم يكن أمامها إلَّا القراءة، في تمام الرابعة بعد الظهر تحمل حقيبة يدها الصغيرة، تهبط إلى الدور الأول، تمرُّ على المطبخ في المطعم، لتشرب كوب ماء، يقدِّمه لها جرسون اسمه محمد، شاب طويل نحيف في عينيه حنان، تسير تحت المظلَّة الخشبيَّة حيث ترقد السيَّارات، كالتماسيح النائمة في الظلِّ، ظهورها المقوَّسة لامعة، تجتاز المساحة الخضراء الكبيرة لملاعب الجولف، كلمة «الجولف» ترنُّ في أذنها غريبة، تحورها جمالات إلى كلمة «جلنف»، تقول الجلنف يلعب الجولف، تعني به رئيسها في الصحافة، كان أبوه ماسح أحذية يجلس أمام باب السيِّدة، حصل على الابتدائية ودخل الصحافة وهو صبي صغير، يجري في الشوارع بين السيَّارات يبيع الجرائد، تعرَّف إلى صبي يعمل شيَّالًا في محطة السكة الحديد، نَمَتْ بينهما صداقة، بعد سقوط الملكية تسلل عبر الصداقة إلى الجمهورية، أصبح يحمل لقب رئيس تحرير، كان صديقه قد دخل الجيش وأصبح يحمل لقب الرئيس.

في يوم لمحت «رستم» من ظهره يلعب الجولف، كان واقفًا مستعدًا لضرب الكرة، ساقاه طويلتان مشدودتان داخل بنطلون أسود، ضرب الكرة بحركة قوية رشيقة، طارت مثل البيضة الصغيرة، حلَّقت في الجو وهو يتابعها بعينيه حتى هبطت بعيدًا بالقرب من نادي الفروسية، انطلق يسير إليها بخطوات واسعة، من خلفه يهرول الصبي يجرُّ العربة الصغيرة، تطلُّ منها المضارب الطويلة النحيفة. وجه الصبي طويل نحيف محروق بالشمس، يشبه الوجوه في ملجأ الأيتام.

أسرعت الفتاة الخطى تخفي وجهها بحقيبة يدها، تخشى أن يلمحها رستم قبل أن تخرج من الباب الخلفي، تسير بالخطوة السريعة مسافة عشر دقائق حتى كوبري قصر النيل، تتراخى عضلاتها وهي تمشي فوق الكوبري، تتأمل الأمواج الصغيرة المتعاقبة كالأسماك الذهبية تحت الشمس، تقف عند منتصف الكوبري تملأ صدرها بالهواء، تتطلَّع بالهواء، تتطلع إلى المباني العالية على جانبَي النيل، أكثرها ارتفاعًا فندق سميراميس إنتركونتننتال، ترفرف الأعلام من حوله، تسير حتى نهاية الكوبري، تنحرف إلى اليمين في شارع الكورنيش، تعود في الطريق ذاته الذي جاءت منه، تخترق حي جاردن سيتي الهادئ إلى شارع قصر العيني الصاخب، تدخل إلى شارع المبتديان ثم إلى زقاق السيِّدة زينب، كأنما تنتقل من شاطئ إلى شاطئ.

ذات صباح دخل رستم المكتبة، كان يرتدي تريننج سوت رمادية وحذاء كاوتش أديداس، كانت الفتاة مستغرقة في القراءة، رفعت عينَيها من فوق الكتاب رأته أمامها واقفًا، بشرته ملوحة بالشمس، عيناه يكسوهما بريق القوة والصحة.

تتَّسع عيناها في دهشة، يسألها عن سبب القطيعة! كان القرار هو قرارهما معًا في لقائهما الأخير، كيف ينسى، مشاغله الكثيرة، الانتخابات ومجلس الشورى، الرواية الجديدة التي يكتبها، مشاكله في البيت مع كارمن؟

– إزاي نسيت يا رستم؟

– نسيت إيه؟

– القرار كان قرارنا إحنا الاثنين وبإرادتنا.

– وهل الحب يخضع للإرادة يا حبيبتي؟

– يمكن.

– إرادة خارج إرادتنا؟

– مش عارفة.

– هل فيه إرادة خارج إرادتنا؟

– يمكن.

– قصدك قوة إلهية؟

– مش عارفة.

لم يكن رستم يؤمن بوجود الآلهة، لكنَّه يعتقد أنَّ هناك قوة ما خارج الإنسان، يقول عنها رُوحية، تسأله الفتاة عن معنى الروح، تشرد عيناه بعيدًا، يتنهَّد طويلًا، ويهمس، علمها عند ربي، يكاد يشبه جمالات حين تشرد عيناها في السماء وتقول، الروح لا يعلمها إلَّا الله، لكنَّ سميح لم يكُن مذبذبًا، لديه يقين أن لا شيء يتجاوز الإنسان، كارمن مثل سميح تؤمن بالعقل، أما مريم الشاعرة فهي تتساءل دائمًا لماذا تنتصر إرادة إبليس دائمًا ولماذا يخرج الشِّعر الجميل من وحي الشيطان؟ أما الحب فهو مثل الشعر يعلو على الرذيلة والفضيلة، لا يخضع إلَّا لقانونه الخاص!

كلمات مريم الشاعرة تشجِّعها على الحياة، تملأها شجاعة الإقدام على كل شيء تحبه، كانت الفتاة تحبُّ الجلوس على شاطئ النيل تحت ضوء القمر، تستمع إلى أبيات الشعر وكلمات الحب، تعشق القراءة والسباحة في البحر، لم يكن مسموحًا بحسب قانون النادي أن تسبح في حمَّام «الليدو» أو أي حمَّام آخَر، يسمُّونه «البيسين»، لم يكن مسموحًا أن تجلس على الكراسي في حديقة الشاي، «تي جاردن»، ولا أن تشرب فنجانًا من القهوة في أيِّ مكان يجلس فيه الأعضاء والعضوات، كانت تحمل في حقيبتها ساندويتش، إنْ شعرت بالجوع تلتهمه بسرعة جالسةً في المكتبة، مع كوب الماء من المطبخ، أو كوب شاي يحمله الجرسون محمد، بشرته السمراء بلون طَمْي النيل، أسنانه البيضاء تلمع كإشراقة الشمس في وجهه النحيل، عيناه سوداوان مليئتان بالحنان، تخرَّج محمد في جامعة القاهرة، كلية الآداب، حصل على الماجستير في الأدب العربي المعاصر، لم يعثر على عمل إلَّا جرسونًا في مطعم النادي، لا يحصل على راتب شهري، يعيش على ما يقدِّمه الأعضاء والعضوات من «البقشيش»، كلمة يلفظها بطرف لسانه، «بقشيش»، لا يتلقاه إلَّا الخدم، أراد أن يتحرَّر من الفقر والمهانة، مزَّق شهادته الجامعية وألقى بها في صفيحة القمامة.

يختلس محمد بضع لحظات، يقفز السلالم إلى الدور الثاني، يدخل من باب المكتبة مترددًا، وجهه مشرق بالابتسامة، يستعير كتابًا لمدة يوم أو يومين، يناولها كوب الشاي الساخن، يتبادل معها وهو واقف بضع كلمات، قبل أن يراه أحد من الملاحظين، يُطلَق عليهم في النادي اسم «الكونترول».

•••

ذات يوم رفعت عينَيها من فوق الكتاب، رأتها واقفة أمامها متحفِّزة كالنمرة، أول مرة تراها، رسمت ملامحها في خيالها كما وصفها لها سميح، كانت وحدها بالمكتبة، وقفت صامتة ترمقها بعينين نفاذتين، ساقاها مفتوحتان داخل بنطلون ضيِّق من جلد النمر، لم ترَ في حياتها نمرًا إلَّا في الصور، ظلَّت واقفة ترمقها، من قمة رأسها حتى القدمين، توقفت عيناها عند حذائها القديم المعفَّر بتراب السيِّدة زينب، إصبعها أبيض له ظفر أحمر طويل مُدبَّب يشير إليها.

– جربوعة زيك تاخد سميح منِّي أنا؟

لم تستطع أن تنظر في وجهها المبقع بالمساحيق، بيضاء وحمراء وظلال خضراء على الجفون، خطوط بالقلم الأسود حول العينين، بياضها جاحظ، صفراوين تشوبهما حمرة، شَعرها أصفر منقوش أطرافه حمراء، شفتاها رفيعتان مصبوغتان بالروج، منفرجتان عن أسنان مُدبَّبة لامعة، أنفاسها تلهث، صوتها حادٌّ له رنة معدنية: أنتِ جربوعة!

– وانتي مين؟

– أنا ستك وتاج راسك سوزان هانم.

كأنما مشهد كوميدي في المسرح، وهي جالسة في مقعد ضمن المشاهدين، ليس لها علاقة بالمسرحية.

قدمت لها مقعدًا لتجلس، تردَّدت مندهشة ثم جلست بحركة قوية، واضعة ساقها اليمنى فوق اليسرى، قدمها المرفوعة تهتزُّ أمام وجهها بحركة لا إرادية، داخل حذاء أحمر لامع، له بوز مدبَّب.

تعلقت عيناها بذبذبة القدم، لم ترفع عينَيها إلى وجهها المبقع بالمساحيق.

– انتي يا … اسمك إيه؟

تذكَّرَت صوت المديرة في ملجأ الأطفال، اللهجة نفسها والطريقة وحركة الرأس وملامح الوجه المختفي تحت حجاب من القماش أو طبقة سميكة من المساحيق، تلاقي الأضداد في مشهد واحد، توقَّفت قدمها عن الاهتزاز حين رأتها تبتسم. منذ التحقت بالمكتبة قرَّرت الانسلاخ عن حياتها القديمة، توقفت عن لقاء سميح ورستم وكارمن، أدركت أنَّهم ينتمون إلى طبقة أخرى لا تريد الانتماء إليها، ربما عقدة النقص، أو الإحساس بالذنب، أو لأنَّها اكتشفت عالمًا جديدًا داخل المكتبة، عالم القراءة والكتابة، كأنَّما عثرت على نفسها الضائعة منها، متعة جديدة تفوق متع الحياة الدنيا، عالم جديد ينفتح أمامها، تسير فيه إلى الأمام لا تنظر إلى الخلف، عالم القراءة والكتابة، كأنَّما تولد من جديد، من أم أخرى من وطن آخَر، شاطئ جديد ترسو عليه بعد الضياع في المحيط.

– لازم تقطعي علاقتك بسميح!

رنَّت كلمة سميح في أذنها فانتبهت، بدت كلمة غريبة بصوتها المعدني كادت تسألها مَن هو سميح، ثم عادت إليها الذاكرة، رأت وجه أمها وهي طفلة تحبو، كأنما «أمها وسميح» اسم واحد لشيء في الماضي البعيد.

أطرقت طويلًا تبتلع الدمعة الحبيسة، أغمضت عينيها كأنَّما تسقط في النوم، أفاقت على صوت خائر منهزم، أنا غلطت في حق سميح، عرفت قيمته بعد ما فقدته، أرجوكِ ساعديني لأسترده.

اختنق صوت سوزان، حرَّكت رأسها نحو النافذة وابتلعت الدموع، نهضت واقفة تشدُّ عضلات جسمها الممشوق، رأسها مرفوع تهزه بقوة، كأنَّما تنفض عن نفسها لحظة الضعف، خرجت من الباب تدقُّ الأرض بكعب حذائها من دون أن تستدير.

كانت الفتاة تلتقي بها أحيانًا وهي تلعب الجولف، تجتاز المساحة الخضراء بسرعة لتخرج من الباب الخلفي، إنْ لمحتها تهزُّ رأسها بالتحية، تهزُّ سوزان رأسها بحركة سريعة لا إرادية، ثم تنثني بجسمها الرشيق لتضرب الكرة، تتبادلان الابتسام حين تلتقيان وجهًا لوجه، ذات يوم توقَّفَتا لحظة على وشك الحديث، دون أن تملكا الشجاعة، لم يكن هناك ما تتحدثان عنه إلَّا سميح، وهو اسم تحاول كلٌّ منهما أن تنساه.

رأتها الفتاة مرة جالسة تحت ظلِّ الشجرة، على أطراف ملاعب الجولف، تستريح بعد الجهد، جالسة على الحشيش الأخضر، فوق فوطة النادي البيضاء أطرافها خضراء، محنية على نفسها، جفونها مغلقة، كأنَّما ناعسة، نهدها الأيمن متهدِّل تحت قميصها الأبيض، ركبتها اليسرى مرفوعة يستند إليها كوعها، رأسها مُطرِقة يستند إلى كفها.

بدت وحيدة حزينة، أرادت الفتاة أن تربت على رأسها بحنان، أن تُلقي رأسها فوق صدرها وتبكي، ما إنْ فتحت سوزان جفونها حتى ابتعدت الفتاة لتخرج من الباب الخلفي دون أن تراها.

تمنَّت الفتاة في يوم أن تحظى بالثقة في نفسها، أن تخطو على الأرض كما يخطو رستم وهو يمشي، يدخل إلى المطعم الصغير فوق هضبة الأهرامات، يشقُّ طريقه بين الموائد الصغيرة ذات المفارش البيضاء، يجلس إلى المائدة عند الحافة العالية المطلَّة على المدينة، من خلال النافذة تشرد عيناه بعيدًا، يحركهما نحو المدخل من حين إلى حين، يتوقع مجيئها كما وعدَتْ.

كانت تفي بالوعد رغم قرار القطيعة، لا يؤدي التباعد إلَّا لمزيد من التواصل، شحنة من الطاقة في الروح، في الجسد، في العقل … أو شيء آخَر، تتجمَّع في بؤرةٍ ما داخل الصدر، تضغط على القلب مثل الدم المحبوس، ثم تندفع في لحظة مفاجئة بقوتها الذاتية كالبخار يحرِّك القطار. تذهب إليه متأخرة عن الموعد، علَّمتها جمالات بعض فنون النسوة: «الحلوة تتأخَّر، كلَّما تأخرتِ اشتد شوق الرجل إليكِ، دعيه ينتظركِ طول العمر، في أعماق الذكر تقبع غزيرة الصياد، لا تثيره الفريسة السهلة السقوط.» وتقول جمالات: لا تكوني غبية مثل الحور العين أو حبة العنب في جنة عدن، تسقط وحدها من الشجرة في فم الرجل الصالح، دون أن يبذل أيَّ جهدٍ! ثم تطلق ضحكتها المجلجلة المحمَّلة بالجراثيم مثل الأمراض المعدية، ينتاب الفتاة الضحك رغم إرادتها كالمرض المفاجئ، تضحك معها دون وعي حتى تغرق عيونهما في الدموع.

يملأ رستم كأسَيْهما بالنبيذ، يملآن صدريهما بهواء الصحراء، تتملَّكها رغبة جارفة للحديث، يتبادلان الأفكار فيما يقع من أحداث، الحرب في العراق وأفغانستان، المذابح في فلسطين، مآسي المهاجرين والمهاجرات، الفساد والرشوة في جهاز الدولة، الأكاذيب المنشورة، انهيار الأخلاق وزيادة الجرائم تحت اسم الشرف، والانتخابات القادمة في مجلس الشورى.

يتحدَّثان مثل الصديق والصديق، يبدآن بأحداث السياسة والحرب، ينتهيان بأخبار الفنِّ والأدب، كان يكتب رواية طويلة لا يعرف نهايتها، وهي تكتب روايتها الأولى لا تعرف بدايتها، لا تكاد تذكر من هذه الأحاديث شيئًا، إلَّا ضوء القمر المنعكس على تلال الرمال البعيدة، تشبه موجات البحر الصغيرة، رائحة الصحراء المحمَّلة برائحة النبيذ، مع نكهة كولونيا ما بعد الحلاقة، اللافندر، حين يقرب وجهه من وجهها، قبل أن يُقبِّلها، محفورة هذه اللحظات في ذاكرتها رغم مرور السنين، تعود إليها تقتحم خيالها أكثر من لحظات العناق، والشبق المجنون في الفراش، راحت هذه اللحظات في العدم رغم ما كان فيها من عنفوان، لم يبقَ في الذاكرة إلَّا اللمسات الرقيقة، ونكهة النبيذ الخفيفة، وكولونيا اللافندر المتلاشية في الهواء، كأنَّما هي اللحظات الحقيقية الوحيدة.

تسترجع الفتاة هذه اللحظات وهي على الشاطئ الآخَر من البحر الواسع، تحاول الإمساك بها تحت سن القلم، دون جدوى، تكسبها الحروف بريقًا على الورق ثم تطفئها كما تنطفئ النجوم في ضوء الشمس، لتولد من جديد من رحم الليل، لتعود تنطفئ.

في غرفتها بشارع المبتديان كانت تنام بين ذراعَي سميح فوق السرير الخشبي القديم، يئنُّ تحت جسمَيهما مع تبادل العناق، يترامى إليهما من خلال الباب المغلق شخير جمالات، خافتًا منتظمًا مثل دقات المنبِّه بجوار السرير، قبل أذان الفجر يصحوان على خرير الماء في الحمام، وصوتها يردِّد أسماء الله وهي تتوضأ، تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، يُزحِّف شبشبها البلاستيك فوق البلاط، تشدُّ سجادة الصلاة من تحت سريرها، تفرشها على الأرض في اتجاه الكعبة في مكَّة، ينطلق صوت يؤذن لصلاة الفجر، تتبعه آلاف الميكرفونات المعلَّقة على الجوامع القديمة والجديدة، تدوي في الجو مثل طلقات المدافع.

سميح ينام بعمق لا يؤرقه شيء، تتأمله وهو مغمض العينين، يبدو هادئًا وادعًا مبتسمًا في النوم، يحلِّق في الأحلام، مثل طفل مطمئن إلى وجود أمه وأبيه، مثل ملاك من السماء لا يعرف إلَّا الخير.

كان رستم مختلفًا، تنطوي أعماقه على شيء من الشر، له أعمال نبيلة وله سقطات كبيرة، يمكن أن يكون قاسيًا مثل قطعة حجر، ربما كان يشبهها أكثر من سميح …

في أعماقها قسوة على نفسها والآخرين، يمكن أن تقول لرستم دون أن يطرف لها جفن: «علاقتنا يجب أن تنتهي»، تدرك خطورة ما تموج به أعماقها، تريد تجميد ما بينهما عند العقل، يقول إنه أخطر ممَّا يحدث في الفراش.

كارمن كانت حُبَّه الكبير، تشعر الفتاة نحوها بالحب، يرتعد خيالها لهذه الفكرة وهي معه، جالسة إلى جواره في المطعم فوق الهضبة، عيناها شاردتان بامتداد الصحراء، تقول لنفسها: ما جدوى هذه العلاقة؟ عاملة فقيرة منهوكة القوى بلا شهادات، وأستاذ كبير ينتمي إلى الطبقة الحاكمة، زوجته كاتبة مرموقة من النخبة الرفيعة، تتنبأ الفتاة بوقوع فضيحة، تضجُّ بها المدينة، تتحطَّم حياته وحياتها، ثم ينتهي الأمر إلى القطيعة، بإرادتهما أو بغير إرادتهما، تعبِّر الفتاة عمَّا يجول في خاطرها، جالسان يطلان من الحافة الصخرية العالية إلى الهاوية السحيقة، ترقد بيوت القاهرة في القاع المظلم، ترتعش الأنوار الصغيرة المتناثرة، نجوم توشك على الانطفاء.

يحرِّك عينيه بعيدًا عنها، يقول بعد صمت طويل: وهل الأمر باختيارنا؟ صوته تعتريه بحَّة خشنة، أدمنت أذناها سماع هذه البحَّة الذكورية، لها وقع خاص يسري في أعماق الجسد، يحرِّك شيئًا مجهولًا في أعماق العقل.

– لا أنا ولا أنتِ نملك القوة للاختيار، لأنَّها خارج إرادتنا، ليست خارج إرادتنا تمامًا، بل هي جزء من إرادتنا الكامنة في العقل الباطن.

يدبُّ الصمت بينهما، يسمعان أزيز طائرة في الجوِّ، بوق سيَّارة من بعيد، يشعل سيجارة بعود كبريت، يتركه مشتعلًا، يتأمل اللهب بعينَيه الكبيرتين، تنعكس الشعلة الحمراء على المقلتين الزرقاوين، تذوب الحمرة في الزُّرقة، كما يغرق قرص الشمس عند الغروب في مياه البحر، ويطغى اللون الأسود على عينيه الشاردتين، ينتبه فجأة حين يحرق اللهب أصابعه، يطفئه بنفخة واحدة، تعمُّ الظلمة ولا تكاد الفتاة تراه، فقط تسمع صوته المبحوح: وَعَدتُ كارمن مائة مرة، وفي كلِّ مرة أخون الوعد وأعود إليكِ.

أطرقَ برأسه طويلًا، دبَّ صمت الصحراء في أذنها صفيرًا ممدودًا، مثل رياح من الرمال تهبُّ من الشرق في الربيع.

– وسميح! ما رأيه؟

كان سميح يقول: هذه أمور لا تنفع فيها الوعود ولا النيات الحسنة، لا يمكن أقف بينك وبين رستم كما تفعل كارمن، ليس لأنَّها تحبُّ رستم أكثر ممَّا أحبك، وليس لأنَّني أعقل منها، فهذه الأمور تتجاوز العقل.

– أنت يا سميح لا تؤمن بشيءٍ يتجاوز العقل.

– أعني العقل الكلي، ويشمل الجسم والروح واللاوعي.

– اللاوعي؟

– أعني الذاكرة المنسية الجماعية.

يدور الحوار بينها وبين سميح في الفراش، يتبادلان الكلام بلذة أكبر من تبادل العناق، يقول إنها مصابة بالبرود الحسي رغم رهافة الحس وسخونة العقل، لم تكن علاقتها برستم تؤلمه، بل يراها ضرورية.

– أنت من معدن يتجاوز الرغبة في الامتلاك، وعقلك يتَّسع لأكثر من شخصية أو ثلاثة أو أكثر.

يبتهج عقلها في الحوار معه داخل الفراش الدافئ، تغمرها لذة تفوق الجنس، تعلو فوق الروح، فوق مشاعر الحب والذكورة والأنوثة، لكن هذا الابتهاج يظلُّ ناقصًا لا يتجاوز اللحظة الحاضرة، لا يكاد يهبط من رأسها إلى جسدها، تحت ضلوعها تحسُّ شيئًا ينخس كالإبرة، تحت الرئة اليسرى، تحت الشريان الذي يغذِّي القلب بالدم، كأنَّما دمها مسمَّم بمرض مزمن، عميق ومجهول، صوت في أعماقها يهمس، سميح لا يحبك، لا يؤلمه أن تقعي في حب رجل آخَر. تخبط صدرها بقبضة يدها، تريد أن تصد عنها هذا الصوت، هذا الفحيح الواصل إليها من الزمن السحيق، وعصر الجواري والعبيد.

•••

أناجيل تمسك يدها، تسيران في شوارع برشلونة، الشمس ساطعة في الربيع، أصوات الآلاف تهتف، جيرانو جيرانو، أسَّاسين أسَّاسين، إيراك بالاستينا، الشوارع تغطيها أجساد النساء والرجال والشباب والأطفال، يحملون اللافتات مكتوب عليها، جيرانو، لا للحرب، جورج بوش أسَّاسين، توني بلير وشارون وأزنار، أسَّاسين!

بدأت المظاهرة في الساحة الكبيرة عند فونتانيلا في شارع لوتانا، سارت إلى قلب المدينة، تلتحم بها مظاهرات قادمة من جميع الشوارع والميادين، يذوب جسدها في الأجساد، صوتها المشروخ تخنقه الدموع، تختلط الكلمات العربية بالكتالانية، والضحك بالبكاء، تبكي على نفسها المفقودة ووطنها الضائع، ويغمرها الحزن والفرح في آنٍ واحد، جيرانو جيرانو، إيراك بالاستينا، يهتفون للعراق وفلسطين، رغم أنَّهم على الشاطئ الآخَر في الشمال، من أجناس أخرى وأديان أخرى وألوان أخرى، لا يفرِّقهم شيء، ملايين الأجسام مثل أمواج البحر، ترتفع وتتلاقى في موجة واحدة تنطح السماء، طائرات هيلوكوبتر تحلِّق في الجوِّ، ترقب المظاهرة بالعيون البوليسية، يتلاشى أزيزها الحديدي في هدير الأمواج البشرية … جيرانو جيرانو، أسَّاسين أسَّاسين!

كانت الشمس عمودية ثم انكسرت ومالت نحو الغروب، جفَّت حلوقهم والتهبت أقدامهم من المشي، قالت أناجيل، ما رأيك نستريح ونأكل ساندويتش؟

كان المقهى يواجه مبنى البرلمان، طلبت الفتاة فنجان شاي بالنعناع مع ساندويتش بيض وجبنة. طلبت أناجيل قهوة باللبن مع ساندويتش جانبوه، بينما هما تأكلان سألتها أناجيل: هل رأيتِ البرلمان؟

– لا.

– هل عندكم برلمان؟

– أَيْوه، لكن …

لم تكمِل الفتاة العبارة، أرادت أن تقول: لكنَّ البرلمان عندنا يختلف عن البرلمان عندكم، الانتخابات عندكم لا يمكن تزويرها، استطعتم في الانتخابات الأخيرة إسقاط أزنار.

– نجح زباتيرو وقرَّر سحب جنودنا من العراق، كان أزنار مثل جورج بوش وتوني بلير، أسَّاسين.

– أسَّاسين يعني سفاحين.

– زباتيرو اسم أمه.

– عندكم انتخابات حقيقية وبرلمان حقيقي، لكن …

أطبقت الفتاة شفتَيها، عادت إليها صورة المبنى في شارع مجلس الأمة، ومن خلفه المبنى الآخَر يحمل اسم مجلس الشورى، رأت رستم خارجًا من المبنى يمشي على مهل، شاردًا بعينَيه، بين أصابعه السبحة، حبات السبحة الصفراء ناعمة، تشبه السبحة في يد جمالات، وقد دخلت جمالات أيضًا مجلس الشورى، كما دخلت النادي الرياضي، أصبحت من الأعضاء والعضوات.

توقفت الفتاة أمام البرلمان لحظة دون أن تدخل، المبنى أبيض له أعمدة على الطراز الكتالاني، أمامه بحيرة صغيرة زهورها وأوراقها الخضراء طافية فوق سطح الماء كالأسماك الميتة، وسط البحيرة تمثال من الحجر لامرأة جالسة، محنية على نفسها بحركة منكسرة، جسدها العاري يلمع تحت رذاذ المطر، رأسها مدفون في صدرها بين ذراعيها الممدودتين إلى الأمام، ركبتها اليمنى ترتكز فوق الأرض، ركبتها اليسرى مرفوعة تحاول أن تخفي بها شعر العانة أسفل البطن، نهدها الأيسر يختفي، والنهد الأيمن يطل من تحت ذراعها على استحياء، عنوان التمثال محفور على القاعدة الحجرية بحروف كاتالانية، دسكونسول (Desconsol) وتعني «الحزن»، إنه أحد تماثيل الفنان جوزيف ليمونا (Joseph Limona) نحته عام ١٩٠٣، منذ قرن كامل.

توقفت الفتاة أمام المرأة المحنية، تذكَّرت سوزان وهي جالسة تحت الشجرة في النادي، محنية على نفسها في هذه الجلسة الحزينة، أدركت لأول مرة أنَّ حبها لسميح كان أكبر من حبها له، كانت تفتقده أكثر منها، كانت تستحقه أكثر منها، تذكَّرت سميح بعد أن أعدَّ الحقيبة، ظلَّ واقفًا عند الباب، لم ترفع وجهها إليه، تركته يمضي دون عناق، دون كلمة وداع أخيرة، كانت تخشى أن تنظر إليه، إن التقت عيونهما ربما يغلق الباب ويعود، فالحب الكبير يبقى محفورًا في شغاف القلب، كالجرح العميق الغائر في الجسد.

في المستشفى النفسي كانت كارمن غاضبة من الأطباء، تقول بصوت خائر: هؤلاء الأغبياء يفرضون عليَّ ابتلاع حبوب السعادة، يمنعوني من منبع سعادتي، سعادتي الوحيدة تنبع من الكتابة، يشرب الناس النبيذ بحثًا عن السعادة وأنا أرشفه ليغمرني الحزن، لا شيء ينقصني بعد أن عاد رستم إليَّ، لكنَّ جروح القلب لا تلتئم مثل جروح الجسد، إنها غائرة تحت الدماغ، فيما وراء العقل، ربما هي جروح الروح.

ترنُّ كلمة «الروح» في رأس الفتاة مثل حجر يُلقى في بحيرة، يُحدث الدوائر بلا عدد، الكبيرة داخلها دوائر صغيرة، وهذه داخلها دوائر أصغر، والكبيرة من حولها دوائر أكبر، لا نهائية، تدور الدوائر حول بؤرة عميقة في الوسط مثل دوامة البحر، ويدقُّ السؤال في رأسها الدائر بسكرة النبيذ الأحمر، وما هي الروح يا كارمن؟ السؤال المزمن منذ الأزل.

•••

سميح كانت تجري في عروقه دماء مختلطة، أبوه كان مؤمنًا بالله والرسول، أمه كانت تؤمن بالثالوث — الأب والابن والروح القدس — يحقُّ للرجال المسلم أن يتزوَّج أيَّ امرأة بشرط أن تكون من أهل الكتاب.

يمشي سميح بخطوة هادئة ثابتة، يعرف بالضبط أين يضع قدمه، ملامح وجهه عاقلة موزونة، يؤمن بالعلم والبرهان، والتجربة والاستنتاج، والخطأ والصواب، عيناه خضراوان بلون الزرع في حقول دلتا النيل، فيهما سكون أو حركة خفيفة مع نسمة الهواء، تلمع تحت الضوء حين تسطع الشمس.

جمالات كانت تقول ملامحه علمية … عقلانية خالية من العواطف، تسمِّيه «البروفيسور»، تؤكِّد للفتاة أنَّه انجذب إليها بالعقل وحده، ترمقها من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، تمط بوزها الأحمر، عيناها المكحلتان تضيقان تبحثان في كيانها عن شيء مما تسميه الأنوثة تضرب كفًّا بكفٍّ … لله في خلقه شئون. مقاييس جمالها لا تنطبق على الفتاة، تراها نحيفة جلدة على عضمة، سمراء زرقاء مثل الأقباط … تقول عنهم كفرة، عضمة زرقاء. صوتها مبحوح فيه شرخة ذكورية، ليس لها ثديان بارزان، ولا ردفان مثل ردفَيها المكوَّرين يرتجان بالأنوثة في كلِّ خطوة.

أول مرة زارها سميح رمقته جمالات من باب غرفتها الموارب، بعد أن خرج سألته: مسلم ولَّا قبطي؟

– لا كدة ولا كدة.

– يا خبر أسود! يهودي؟

– لأ.

– بوذي ولَّا هندوكي؟

– لا كدة ولا كدة.

– يا مصيبتي … يا خرابي؟

لم تتصوَّر جمالات أنَّ واحدًا من البشر يمكن أن يعيش من دون هوية دينِّية، فما بال أن يكون من سكان القاهرة، مدينة الألف مئذنة، التي توالدت لتصبح مليونًا وأكثر.

ثلاثون عامًا تغيَّرت فيها المدينة والناس، لم تكن جمالات ترتدي الحجاب في الستينيات، كانت تصفِّف شعرها عند الكوافير، ترفع صوتها بكلمات الاشتراكية وتذويب الفوارق بين الطبقات، تردِّد عبارات الاتحاد الاشتراكي، تخرج طرف لسانها وتقول يعني واللا … وما إلى ذلك، ثم انقلبت في يوم وليلة مع المنقلبين في عصر الرئيس المؤمن، أصبحت من الداعين إلى الإسلام والانفتاح، والتعدُّدية والعلم والإيمان، تسافر في موسم الحج لتزور قبر الرسول والسوق الحرة، تعود محمَّلة بالبضائع المستوردة والأحجبة والمسابح والمباخر، وملابس أنثوية داخلية من القماش الشفاف المشغول بالدانتيلا، وأشرطة فيديو من الممنوعات … وفي موسم الانتخابات تحمل المنشورات عن تاريخها المجيد، وأخيها الشهيد، توزِّعها على الناخبين والناخبات، مع إمساكية شهر رمضان. وبعد حادث المنصة والاغتيال تبرأت من الطاغوت القديم، انزلقت مثل الصابونة الناعمة إلى الحزب الجديد، يحمل اسم القومي الوطني العروبي الإسلامي المعتدل، يؤمن أعضاؤه بالواقعية والشراكة في كل شيء إلَّا الشرك بالله، حزب حكومي ونصف حكومي، ومعارض شرعي … يقولون في الانتخابات «نعم»، وفي أجهزة الإعلام والصحف يقولون «لا»، يعارضون الجميع إلَّا الله والرئيس، أغدق الله عليهم النعم، لا أحد يحاسب أحدًا، فالمال مال الله، والله يعطي مَن يشاء بغير حساب!

لم تكن جمالات من المقربين إلى الله، رغم صَلاتها كل يوم وحجابها السميك. لم تنَلْ جمالات من متاع الدنيا إلَّا الباب الأسبوعي في الجريدة، وراتبًا شهريًّا من المجلس، ومكافأة رمزية من اللجنة الدائمة. تمط شفتيها الحمراوين وهي تتمتم، ولا داوم إلَّا الله سبحانه وتعالى.

سميح كان يملك دار النشر في مصر الجديدة، ورثها مع البيت في جاردن سيتي، شغلته أعماله الطباعة والنشر والتوزيع عن حلم حياته، كان يرى نفسه في الحلم روائيًّا مثل تولوستوي أو دوستوفيسكي، يؤرِّقه الحلم في الليل، في النهار يؤلمه العمل، ورثه عن أبيه وجده، كالسلسلة الحديدية تربطه بالماضي، يُلقي بنفسه في خضم «البيزنس» وتجارة الكتب، يكره الحسابات والأرقام ومقادير الربح والخسارة، يخسر أكثر مما يكسب، يزداد وجهه نحولًا وشحوبًا، كأنَّما ينزف الدم من القلب وهو جالس في مكتبه.

كان يزور الفتاة في غرفتها بزقاق السيِّدة، يبدو غريبًا عن المكان بحذائه النظيف اللامع والبدلة المكوية، يميل إلى الألوان الزرقاء الفاتحة أو الرمادية الهادئة، تزوره في دار النشر أحيانًا، تراه جالسًا وراء مكتبه الكبير بجسمه الناحل ووجهه الشاحب، كالحبيس داخل الجدران، غارق في الأوراق، حوله رفوف الكتب من الأرض حتى السقف، يرفع وجهه ويراها، ينهض مبتسمًا، قامته صلبة، ظهره مستقيم، يصافحها برقة تنُمُّ عن قوة الإرادة، نظرته مباشرة ليس فيها التواء، تجمعه بالعاملين معه صداقة حميمة كأنهم زملاء.

في الصالة الكبيرة كانت تعقد الندوات، عن الكتب والروايات، يشارك فيها الكثيرون، رجال ونساء، منهم رستم وكارمن، تراهما جالسين وسط الجمهور، رأسه إلى جوار رأسها، يدخلان معًا ويخرجان معًا ذراعه تحوط خصرها، جاء وحده ذات يوم، كانت الندوة عن رواية «بيت الأشباح» لإيزابيل أليندي، أدار الحوار ناقد معروف، قال إنها رواية من الأدب النسائي، لا تغوص في صلب المشاكل الإنسانية، وتضيع في التفاصيل النسوية الصغيرة.

كان سميح قد أعطاها الرواية من قبل، عاشت الفتاة مع الرواية عددًا من الليالي والأيام، قرأتها جمالات ومريم الشاعرة، تجتمع الصديقات الثلاثة في السفينة على شاطئ النيل، يتحدَّثن عن الرواية، قالت مريم إنها رواية جميلة، لم تقرأ رواية مثلها منذ سنين طويلة، قالت جمالات إنها رواية هابطة، تتعارض مع ثوابت الدين والأخلاق، أما الفتاة فقد قرأت الرواية أكثر من مرة، توقفت عند بعض الأجزاء لتعيد القراءة، لتستعيد المعنى وراء الكلمة، تحت السطر، أو ما بين السطر والسطر، ثم قرأت عن حياة المؤلفة إيزابيل أليندي، من شيلي في أمريكا اللاتينية.

كان الناقد الكبير جالسًا فوق المنصة، قصيرًا سمينًا أبيض البشرة، تلمع صلعته الحمراء تحت الضوء، ربطة عنقه فاقعة الألوان، يُخرج طرف لسانه ويقول: رواية نسوية فيمنيست.

رفعت الفتاة إصبعها وأخذت الكلمة، عارضت الناقد الكبير، لم تكن المعارضة مألوفة إلَّا بين الكبار من النخبة، رمقها بنظرة جاحظة من وراء النظارة السميكة، لم تكن هيئتها تنم عن الانتماء إلى النخبة، فتاة مجهولة الاسم شاحبة الوجه … شوَّح بيده كأنَّما يطرد عن وجهه ذبابة.

غمرها العرق والإحساس بالمهانة، كأنَّما تلقَّت صفعة على وجهها، أصبحت تجري كأنَّما تطاردها الأشباح، توقفت عند نهاية شارع الحرية، كان هناك مقهى صغير يبيع الساندويتشات، جلست تستردُّ أنفاسها، من خلال الزجاج كانت ترى الشارع، وأشعة الشمس الغاربة من وراء المباني، بيوت مصر الجديدة لها أعمدة حجرية تشبه البواكي القديمة، شرفتها كبيرة، نوافذها واسعة تتدلَّى فوقها الستائر، من خلفها يتحرَّك أفراد الأسرة السعيدة، آباء وأمهات وأطفال يضحكون، أولاد وبنات، أمامهم فوق المائدة صحون الطعام، يتصاعد البخار في الجو ومعه الضحكات.

تُطرِقُ الفتاة في الحزن، خيالها يئن بالألم، ليس لها أسرة، لم تكن لها طفولة، لم تأكل شيئًا منذ الصباح، جاء الجرسون، على وجهه ابتسامة حانية كالأم، يسألها ماذا تطلب، اختنق صوتها بدموع حبيسة.

– ساندويتش جبنة بيضة وزيتون أخضر، وكوباية شاي من فضلك.

وهي ترشف الشاي رأت من خلال الزجاج سيارة مرسيدس تتوقف عند الرصيف، هبط رستم من بابها الأمامي، تركه مفتوحًا، اتَّجه إلى باب المقهى بخطوات واسعة سريعة، وقف أمامها متَّكئًا بيده فوق المنضدة، صوته متحشرج مبحوح قليلًا: كلامك أعجبني جدًّا، الرواية مدهشة … والناقد ده معروف إنه مالوش في الأدب، خصوصًا الأدب النسائي!

كان بين أسنانها زيتونة خضراء، سقطت من فمها قبل أن تردَّ، تدحرجت الزيتونة فوق المنضدة حتى لامست يده، التقطها بإصبعين وقذف بها في فمه وهو يضحك: باحب الزيتون الأخضر أوي.

•••

أنا سايب العربية دايرة، هاتي الساندويتش والزيتون وتعالي معايا أعرفك بكارمن مراتي، وسميح جاي بعد ما يخلص الشغل.

•••

جلست الفتاة في المقعد الأمامي إلى جواره، تحرَّكت المرسيدس في نعومة مثل سفينة بيضاء تنزلق على الماء، موسيقى خافتة تنبعث من مكان ما، استرخى جسمها المرهق داخل المقعد المريح، زجاج النافذة عن يمينها مزدوج متين، يحجب عنها الضجيج، تبدو القاهرة في الخارج كالبحر المتلاطم الأمواج، زحام البشر والسيَّارات والدراجات والموتوسكلات، تموج المدينة بالحركة تراها دون أن تسمعها، كالصور المتحرِّكة في فيلم قديم، قبل أن تصبح السينما ناطقة. عن يسارها ترى وجهه من الجانب، «البروفيل»، جبهته عريضة ملوحة بالشمس، عظمة الأنف قوية مملوءة بالثقة، شفتاه مطبقتان في استغراق، عيناه شاخصتان إلى الطريق فيما يشبه الشرود، جذور الشعر في وجهه نابتة لم يحلق منذ أيام.

يتبادلان الكلمات القليلة من حين إلى حين، يتابع أدب أمريكا اللاتينية، الرجال منهم والنساء يعتبر إيزابيل أليندي في مستوى جابرييل جارسيا ماركيز، تستحقُّ جائزة نوبل، لو أن هناك عدالة.

فجأة رأتها تمشي في الشارع، جمالات، قبل أن تنحرف السيارة يمينًا في شارع قصر العيني إلى جاردن سيتي، كانت خارجة من محل البقالة على الناصية، يتدلَّى من يديها كيسان كبيران من البلاستيك الأسود، رأسها ملفوف بطرحة بيضاء، ظهرت صورتها أمامها فجأة كأنَّما تخرج من بطن الأرض حيث كانت تعيش معها في الماضي السحيق.

توقفت السيارة أمام فيلا بيضاء اللون تطلُّ على كورنيش النيل، باب الحديقة الحديدي تتدلَّى فوقه فروع شجرة البوجانفيليا الحمراء دم الغزال، رائحة الياسمين والفل، والممر الطويل حتى باب البيت، في المدخل بهو له أعمدة حجريَّة منقوشة، تتدلَّى من السقف نجفة كبيرة لمباتها الصغيرة كثيرة كالنجوم، فوق الجدران لوحات وصور داخل براويز ذهبية، صالة صغيرة تقود إلى صالة كبيرة، ثم صالة أخرى بها المائدة، الشموع فوقها مضاءة، سفرجي أسود الوجه بلون الليل، ثوبه أبيض كالثلج، حزامه أحمر من القطيفة، يرص الكئوس البلورية والملاعق والشوك والسكاكين الفضية.

كانت كارمن، في غرفة المكتبة، ممدودة فوق الأريكة الجلدية تقرأ، من حولها صفوف الكتب تطلُّ من وراء الزجاج تتصاعد حتى السقف، سجادة عجمية مزركشة من الصفوف الناعم تلين تحت حذائها.

نهضت كارمن بحركة بطيئة تتمطَّى، بدت طويلة القامة ممشوقة أنيقة نضرة مستريحة، الفتاة منكمشة داخل ثوبها القديم وحذائها المعفر بالتراب وحقيبتها الباهتة تفوح منها رائحة الزيتون المخلَّل وساندويتش الجبنة.

غمرها شعور بالخزي، كارمن صافحتها على نحو طبيعيٍّ، فتح رستم زجاجة النبيذ، تصاعدت رائحة الشواء من غرفة الطعام، أصابها حزن يشبه الحنين إلى جوِّ الأسرة الحميمة داخل بيت من الطمأنينة.

جلست كارمن على رأس المائدة، عن يمينها جلس رستم، والفتاة عن يسارها، بدت كارمن رب البيت، بدا رستم إلى جوارها منطفئًا، وأكثر شرودًا.

دار الحديث حول الندوة ورواية إيزابيل أليندي، والناقد المعروف. ضحكت كارمن، وقالت مالوش في الأدب، ثم سألتها، هل أنت من الكاتبات الشابات الجديدات؟ هزَّت رأسها علامة النفي.

– أنا مش كاتبة يا أستاذة.

– أرجوك بلاش أستاذة دي.

– أنا مش كاتبة.

– ناقدة؟

– ولا ناقدة.

– أمال إيه؟

– ولا حاجة.

تأمَّلتها كارمن طويلًا بعينيها الكبيرتين، من القدمين إلى الرأس، نظرتها تكاد تشبه جمالات، حين تفتِّش بعينيها في جسمها عن شيء يجذب العين، لم تجِد شيئًا ذا بال، فانسحبت نظرتها إلى زوجها، كأنَّما تراه لأول مرة، تفحصه جيِّدًا بعينيها البرَّاقتين، توقفت نظرتها عند ربطة العنق الزاهية الألوان، مربوطة بعناية شديدة، لا يربطها بهذا الاهتمام إلَّا في مناسبات معيَّنة، في موسم الانتخابات وموسم الربيع حين تتفتَّح الزهور ويخفق الشيء تحت الضلوع.

هبطت عيناها إلى صدره داخل القميص الحريري، وبطنه المشدود بالحزام الجلديِّ له مقبض فضي مغلق، وأزرار البنطلون الأربعة مغلقة، أصبح زوجها مثل الكتاب المفتوح تحت عينيها، تقرأ الشيء في عينيه قبل حدوثه، تعرف متى ينسى إغلاق الزر الرابع في البنطلون، يحدث ذلك حين يشرد طويلًا في قصة حب جديدة، أو بسبب ضيق الوقت أيام الانتخابات مع ضيق المرحاض في بيوت الناخبين والناخبات.

كان رستم جالسًا في استرخاء، يرشف النبيذ على مهل، فاتحًا ساقَيه، وكارمن عيناها ثابتتان فوق الشيء تحت البنطلون المشدود، ترمقه بنظرتها الفاحصة، مع خيالها الأدبي، تكشف بوضوح عن أسراره الخفية.

انتبه رستم من شروده على كارمن تقول: أنت روائي كبير، موهبتك الأدبية نادرة، لكنَّك لا تعرف بها، وتضيِّعها في الانتخابات والعلاقات. ضحكت بعد أن أفرغت الكأس في جوفها، خصوصًا النساء، لا أقول إنك زير نساء، على الإطلاق. ثم تحرَّكت عيناها نحو الفتاة تخاطبها، رستم إنسان يحترم المرأة ولا يمكن أن يُسيء إليها أو يُسبِّب لها أيَّ ألمٍ.

أطبقت الفتاة شفتَيها في صمتٍ طويلٍ، لم تسمع فيه إلَّا احتكاك السكين بالصحن الصيني في يد كارمن وهي تقطع من اللحم المشوي قطعة صغيرة، أمسكتها بأسنان الشوكة دون أن تقرِّبها من فمها، أصابعها الرشيقة تهتزُّ قليلًا والشوكة معلَّقة في الهواء، تقول بصوت خافت كأنَّما تكلِّم نفسها، رستم إنسان رقيق حساس، ثم قذفت بقطعة الشواء في فمها.

•••

جمالات في شقة السيِّدة لا يفوتها شيء، مثل رجال المباحث، تعرف عن حياة الفتاة أكثر ممَّا هي تعرف، تبدو جمالات مخيفة بعد أن تغسل وجهها من المساحيق، يصبح وجهها أبيض مفلطح مثل بطن قدمها، يختفي الحاجبان تمامًا والرموش والعينان والشفتان، الملامح كلها تختفي على نحو غريب، شعر رأسها بعد أن تخلع الحجاب يبدو خفيفًا منقوشًا مصبوغًا بالحنة الحمراء، تغسله بالشامبو مرة واحدة في الأسبوع، ليلة الجمعة المفترجة، يتساقط شعرها مع رغوة الصابون ويسدُّ بالوعة الحمام، تتركها مسدودة حتى تسلكها الفتاة وهي تلعنها، الله يلعن حجابك يا جمالات، ما له الحجاب يا سافرة يا كافرة! الحجاب سبب سقوط شعرك لأنَّه بيمنع عنه الشمس والهواء، فين الهواء ده؟ قصدك التراب والقرف والزفت وخطب الطاغوت، اسكتي يا جمالات الحيطان لها ودان، ودان إيه يا عزيزتي، إنشالله يكون لها أنياب هيعملوا فينا أكثر من كده إيه؟

تضحك جمالات بصوتها العالي المرح، تبدو سعيدة لا تعرف الاكتئاب، إلَّا لحظات قليلة تغرق عيناها في حزن مفاجئ وهي ترسمها بالقلم الأسود، أو حين تحلق ذراعيها وساقيها بالموسى، أو حين تمسك طرفَي الفتلة لتنزع الشعر عن حاجبيها، تتقلص عضلات وجهها بالألم، تتذكر أمها التي حرقت نفسها في الحمام، تتنهَّد بعمق وتشير بإصبعها إلى رأسها، المرحومة أمي طار عقلها لما أبويا اتجوز عليها، كان راجل مؤمن صالح، ربنا حلَّل له الجواز بأربعة، أمي اعتبرتها خيانة عظمى، أستغفر الله العظيم يا رب، كفرت أمي وحرقت نفسها بالجاز، أبويا مات بعدها بأسبوع واحد من الحزن.

تقهقه بالضحك حتى تدمع عيناها، يتهدَّج صوتها في نشيج يرتجُّ له جسمها الممتلئ، تتقطَّع أنفاسها يخرج صوتها مشروخًا، أبويا لم يُخلِص لأمي إلَّا بعد ما ماتت، الله يرحمه ويحسن إليه … يا رب!

جمالات تأخذ من الفتاة نصف راتبها ثمن إيجار الغرفة، تضيف مصاريف الكهرباء والماء والغاز، لا يبقى للفتاة إلَّا ما يكفي الوجبات الثلاث، في الفطور فنجان الشاي مع نصف رغيف بالجبنة البيضاء، في الغداء نصف رغيف بالبيض والزيتون الأخضر بدون فنجان شاي، أو مع كوب شاي يحمله إليها محمد جرسون النادي، في العشاء رغيف كامل محشو بالفول المدمس أو الطعمية، تعرَّفت جمالات على كلِّ مَن تعرفهم الفتاة، لها طريقتها في الدخول إلى عمق حياتها، تتشمم علاقات الحب قبل أن تقع، تدخل غرفتها تدسُّ أنفها في وسادتها وتقول: سميح كان عندك إمبارح؟

لديها حاسة شمٍّ قوية، يهتزُّ الشعر الأسود في فتحة أنفها الغليظ الأفطس، يكاد يشبه أنوف الكلاب البوليسية، تقرأ سورة يس فوق سريرها لتطرد عنه الشياطين غير المسلمة، تقول إن شيطانها مسلم مثل شيطان النبي عليه الصلاة والسلام، وتردِّد الحديث النبوي الشريف، تنظر في حقيبة الفتاة، تسألها إنْ كان معها ورقة بعشرة أو عشرين جنيه، حين لا تجد شيئًا تمصمص شفتيها، يعني مش عارفة تاخدي حاجة من سميح أو رستم، قصدي سلفة قابلة للسداد مثل قروض البنك الدوليِّ، أو منحة لا ترد مثل المعونة الأمريكية! تطلق ضحكتها المرحة الصاخبة، كانت الفتاة تغضب وتطردها أحيانًا من الغرفة، ثم تعوَّدت على طريقها في المزاح، تقول جمالات عنه مزاح إسلامي بريء، على غرار الذبح على الطريقة الإسلامية، تذبح الفرخة في حوض المطبخ وهي تقرأ شهادة ألا إله إلَّا الله، تفصل رأسها عن عنقها من دون أن يطرق لها جفن، تضعها في الماء المغلي، تنتف ريشها بأصابع ثابتة قوية كما تنتف حاجبيها وشعرات الشنب فوق شفتها العليا.

كانت جمالات تتقبَّل الهدايا من أصدقائها الرجال، أو قروضًا طويلة الأجل. تقول: النبي قبل الهدية يا عزيزتي. أراد سميح أن تترك الفتاة الغرفة وتعيش معه في شقته بجاردن سيتي، التي تطلُّ على كورنيش النيل، واسعة من سبع غرف وثلاثة حمَّامات، يسكن فيها وحده بعد انفصاله عن صديقته سوزان، كانت رسَّامة تشكيلية أقامت عروضًا داخل الوطن وخارجه، جدها الأكبر كان من البشوات في العصر الملكيِّ، يملك الأراضي والعقارات، أقيمت عليه الحراسة في العصر الجمهوري، آلت أملاكه إلى مؤسسة الرئاسة، مات بانفجار في المخ. عاش أبوها وأمها في الفقر، تمرَّدت سوزان في الطفولة عن طريق الرسم، لمع اسمها وهي طالبة في معهد الفنون الجميلة، تعرَّف عليها سميح في أحد المعارض الفنية، جذبها إلى دار النشر لترسم أغلفة الكتب، وجذبته إلى الفراش في شقتها في حي المهندسين، أصبحت تنتمي إلى الطبقة العُليا، تسبح في الحفلات والمهرجانات الثقافية، في عروقها تجري دماء البشوات، اشتهر اسمها في المجتمع الراقي باسم سوزي هانم.

كانت سوزي مثل سميح لا تؤمن بقانون الزواج، تقول عنه قانون متخلِّف من بقايا العبودية، جمعهما الحب دون ورقة، بدأ ساخنًا ملتهبًا وانتهى باردًا متجمِّدًا، وأصبح كلٌّ منهما يتطلع إلى شيءٍ جديدٍ، أو خفقة ما تحت الضلوع.

•••

أشارت جمالات بإصبعها إلى ثديها الأيسر، فوق القلب مباشرة، وقالت، هنا الألم ينخس مثل الإبرة، تصوَّرت الفتاة أنَّ الأمر يتعلَّق بحب جديد، لكنَّ الطبيب قرَّر دخولها المستشفى، لعمل الفحوصات والأشعات، هناك ورم ينمو في ثديها، من النوع الخبيث، أصبحت جمالات تبكي ليل نهار، تخفِّف عنها الفتاة وتقول، الله سبحانه وتعالى أعلم من الأطباء يا جمالات، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٍ، يقول للشيء كن فيكون، وأنتِ مؤمنة ومحجَّبة تواظبين على الصلاة والصيام، لن يخذلك الله يا جمالات وسوف يقول للورم كن حميدًا فيكون.

تجفِّف دموعها، تبتسم في إعياء، تهمس بصوتٍ خائرٍ، كلامك يُعيد إليِّ الثقة بالله، فقدت الثقة فيه، إزاي يبتليني بالمرض ده؟ إن كان امتحان يا رب يبقى امتحان صعب، أصعب من الثانوية العامة، أنا ساقطة في الثانوية، كنت بكره المدرسة كُره العمى، كرهت القِراية والكتابة طول عمري، كنت طايشة وعملت ذنوب كثيرة، وأنت يا رب غفور رحيم، بتغفر الذنوب جميعًا إلَّا أن يُشرك بك، وأنا يا رب لم أُشرك بك، ليه تعاقبني بالشكل ده؟ يعني كنت بتضحك عليَّ يا رب، أستغفر الله العظيم من كلِّ ذنبٍ عظيمٍ، يظهر إني كفرت يا إله العالمين يا أرحم الراحمين، اغفر لي يا رب وابعد عني الشيطان والمرض الخبيث.

خرجت جمالات من المستشفى بعد أيام قليلة، كأنَّما وُلدت من جديد، كانت الفتاة في غرفتها تقرأ حين سمعت باب الشقة يفتح، رأت جمالات أمامها مشرقة بالفرح، حوَّطتها بذراعَيها وهي تشهق!

– ربنا كبير سمع دعوتي، والورم طلع حميد والحمد لله.

راحت الفرحة بعد دقائق قليلة.

– دفعت للمستشفى ألف جنيه وباقي ألف جنيه. ألفين جنيه يا رب على شوية تحاليل فاضية؟ وأجيب الألف التانية منين يا رب؟

– ربنا كريم يا جمالات.

– أيْوه ربنا كريم في كلِّ حاجة إلَّا الفلوس يا عزيزتي!

– أستغفر الله العظيم.

– بلاش كلام كثير، السماء لا يمكن تمطر جنيهات، روحي لسميح والَّا رستم وهاتي سلفة بألف جنيه.

– أنا عمري ما استلفت فلوس من حد، أنا أفضِّل الجوع عن إني أستلف من حد خصوصًا سميح أو رستم.

– السلف مش حرام ربنا حلل الاقتراض!

لم تكُفَّ جمالات عن الإلحاح، حتى طلبت الفتاة الألف جنيه من سميح، كان سميح أقرب إليها، وعلاقتها برستم لا تزال متأجِّجة بمشاعر الحب المتناقضة، ما بين الإقبال والإدبار، والقطيعة والوصال، وتضخم الكرامة مع انكماش الإرادة، محاولة التحرُّر والاستغناء مع الخضوع والاستسلام للرغبة، وموجات التقلُّب بين الألم واللذة، والعار والإثم.

علاقتها بسميح هادئة باردة، خالية من المشاعر الجيَّاشة، كالعلاقة الزوجية الناجحة المستقرة، ناولها سميح الألف جنيه على نحو عادي، كأنما هو أمر طبيعي، لم تفتح المظروف، أخفته كالعورة، ما إنْ وصلت البيت حتى تخلَّصت منه، فتحت جمالات المظروف بأصابع قوية ثابتة، عدَّت الجنيهات الألف لا تنقص شيئًا، ثم دسَّتها في حقيبة يدها وهي تصيح: يا ريتني طلبت ألف وخمسمية!

•••

الفيلا في جاردن سيتي كانت تمتلئ بالزوار والضيوف، تتلألأ الأنوار في الصالة داخل الصالة، تتألق الوجوه بالسعادة، تتصاعد الضحكات مع دوائر الدخان والقفشات المضحكة والأصوات الناعمة مع نكهة الياسمين والعطور الأنثوية وماء الكولونيا، تسبح كارمن في الجوِّ كالسمكة الفضِّية تجيد السباحة، رستم يرشف النبيذ شاردًا كعادته، سميح ينهمك في الحديث في أحد الأركان، جمالات ومريم الشاعرة تقفان في الشرفة تطلان على النيل وتتهامسان، الفتاة جالسة وحدها كعادتها تشعر بالغربة، تتمشَّى أمام المكتبة الكبيرة، تتطلع إلى صفوف الكتب، تنشغل بقراءة العناوين، يأتي رستم يتمشَّى إلى جوارها، كأس النبيذ في يده اليسرى، والسيجار بين شفتَيه: هربانة دايمًا كده؟

يخاطبها دون أن ينظر ناحيتها، وهو ينفث الدخان، عيناه تدوران على الكتب، تتوقفان أمام عنوان، يشدُّ الكتاب ويناوله لها، الرواية دي جميلة جدًّا، أحب أناقشك فيها بعد ما تقرئيها.

خلسة تلمح كارمن ترمقها بطرف عينها، ترن ضحكتها في الجو، مَرِحة مجلوَّة كرنينِ إناء من الفضة، منهمكة في الجدل مع بعض الضيوف، رستم منهمك في النظر إلى صفوف الكتب، يخاطب الفتاة دون أن ينظر ناحيتها: إيه رأيك نتعشَّى سوا ونتكلم في الرواية، مشغولة الخميس الجاي؟

– أَيْوه.

– مشغولة بإيه؟

– حاجات كتير.

تتصاعد رائحة الشواء، ترتفع الأصوات تدعوهم إلى العشاء، تجلس كارمن على رأس المائدة، رستم يفتح زجاجات النبيذ، تطلب جمالات عصير فاكهة لأنَّ الله حرم الخمر ولحم الخنزير، يهمس سميح في أذنها، صديقتك دمها خفيف. تعزف الموسيقى لحنًا جميلًا لا تعرفه، تقول كارمن، اسم المؤلف تشايكوفسكي، تهزُّ رأسها، تمرُّ بعينَيها على الوجوه، تلتقي عيناها بعينَي رستم، يبتسم يرفع كأسه نحوها قائلًا «في صحتك».

مرة بعد مرة ضاع رونق هذه الدعوات، أصبحت الفتاة تشعر بالملل والاغتراب، لا تنتمي إلى هذه الفئة، وإن اشتاقت أحيانًا لما يدور فيها من أحاديث، تلبِّي دعوة رستم للعشاء، تشعر بالإثم مع اللذة وهما يتحاوران حول رواية من الروايات، يتمشيان معًا في الظلمة، يدخلان إلى الشاليه البعيد في الصحراء، يخلع رستم عن وجهه القناع، يخلع ربطة العنق والحذاء، يمشي فوق الرمال حافيًا، يلعبان كالأطفال «التعلب فات فات، وفي ديله سبع لفات»، يعانقها تحت ضوء القمر شاردًا بعينَيه في السماء، «سئمت حياتي المليئة بالنفاق، أرجوكِ خديني.»

هو الذي يقول خديني، كأنَّما هي الرجل وهو المرأة، يصبح بين ذراعَيها شخصًا آخَر، لا تكاد تعرفه، يطفئ اللهب في جسدها، لم تتدرَّب في حياتها على أن تأخذ الرجل، تجربتها في الحب أحادية، يأخذ الذكر الأنثى وليس العكس، كان يدرِّبها على أشياء جديدة، يفتح عينَيها على حقائق لا تعرفها، وروايات لم تقرأها، وموسيقى لم تسمعها، بدأت الحياة تبدو لها أكثر ثراءً، ألوانها متعدِّدة مثل الطيور، مثل الزهور البرية في الغابات تنمو وحدها وتتشعَّب وتعلو دون أسوار.

في مكتبة النادي كانت تقضي النهار في القراءة، إنْ أصابها الملل أو التعب تتمشَّى قليلًا في حديقة الأطفال، تتبادل الحديث مع خادمة أو مربية يسمُّونها «دادة ماجدة»، لا تجلس بجوار حوض الرمل، حيث يلعب الأطفال، لم يكُن مسموحًا لها أن تجلس فوق الكراسي التي يجلس عليها الأعضاء والعضوات، نَمَت الصداقة بينهما، اسمها ماجدة، اختصار ماجدولين، وُلدت في قرية قرب لاهور، من أب باكستاني مسلم وأم هندوكية، اغتصبها ابن عم أبيها وهي في الحادية عشرة، ارتفع بطنها بالحمل، هربت قبل أن يقتلها أبوها، ركبت القطار في ظلمة الليل إلى لاهور، تخلَّصت من الجنين وأصبح اسمها ماجدولين بدلًا من خديجة، حذفت اسم أبيها، قالت لها صاحبة مكتب التشغيل أنا أمك فوفو، ترسل إليها نصف راتبها كلَّ شهر بحسب العقد.

لا تكف ماجدة عن الكلام، في أعماقها مخزون من الحكايات، عيناها سوداوان مسحوبتان، فيهما بريق جذاب، خليط من دماء آسيوية عربية إسلامية هندوكية، ومسحة من الشجن أو الحزن الجميل، خيالها واسع، سافرت إلى بلاد العالم عبر أسواق الرقيق، من لاهور إلى مانيلا في الفلبين، ومن الرياض إلى مكة إلى إسرائيل، ومن لندن إلى باريس إلى نيويورك إلى بيروت ثم القاهرة، تعرف أسرار القصور والبيوت، دخلت الفراش مع الوزراء والسفراء والسفرجية والطبَّاخين والزبَّالين، تسرد الحكايات عن أعضاء النادي وهي جالسة في حوض الرمل، عيناها ترقبان الطفلين بانتباه رغم استغراقها في الحكاية، أبوهما شخص مهم في المجلس الأعلى، يشاركها الفراش حين تسافر زوجته، عجوزٌ متصابٍ يصبغ شعره وشنبه بالحنة البغدادي السوداء، يبتلع حبوب الفياجرا الزرقاء، ترى صوره أحيانًا في الصفحة الأولى مع الرئيس. له ابن من زوجته الأولى خبير بالبورصة، وابن من الزوجة الثانية رجل أعمال يشارك أبناء الرؤساء في الشركات الكبرى، أما الزوجة الثالثة فهي قريبة وكيل المجلس النيابي، المسئول عن المرشحين ونتائج الانتخابات، لا أحد ينجح دون جهوده، كان من المعدمين أصبح من ذوي البلايين.

كانت ماجدة تزوِّدها بالحكايات، وقِطع من تورتة الشكولاتة (بلاك فورست)، وأنواع الفاكهة المجفَّفة مع اللوز والفستق، وأشياء أخرى لا تقول عنها سرقة، بل جزء من حقِّها المسلوب، تضحك وتهزُّ شعرها الأسود الطويل الناعم، ضريبة الحب المجاني في غياب ست البيت، تقولها بمزيج من العربية والإنجليزية والباكستانية، ثم تنهض تنفض عن ثوبها الرمل، تمسك الطفلين، كل طفل في يد، يحاولان الفكاك من قبضتها الحديدية، عيناها وهي ترمقهما تمتلئان بالكراهية، تصفع أحدهما على قفاه، تلكز الآخر في كتفه، ثم تجرهما وراءها كالأرنبين من الأذنين.

•••

كانت ليلة صيفية دافئة، السيارة المرسيدس يقودها رستم، القمر غائب وراء غلالة شفافة، تملأ الفتاة صدرها بهواء الصحراء في الليل، جاف وناعم كالحرير، يملأها بالحنين إلى شيء مجهول، أوقف السيارة عند باب الشاليه، جلسا فوق الرمل يرشفان البيرة المثلَّجة مع قطع الخيار المخلل الأخضر والزيتون الأخضر، كان شاردًا وكانت صامتة، ترقب السماء والشعاع الأبيض يتسلَّل من وراء السحابة، وجه القمر من الفضَّة اللامعة في خضم السواد، تعلوه ابتسامة ماكرة متنكِّرة وراء الإله، كان يتنكَّر على شكل القمر، يتألَّق في السماء ثم يهبط في بطن الأرض، ليصبح إله الموت، تذكرت أمها الميتة، كل شيء مصيره الموت حتى هي، عقلها عاجز عن استيعاب الفكرة، أن تموت وتنتهي مثل هذه النملة الزاحفة بين الرمل، عقلها عاجز أيضًا عن استيعاب فكرة البعث أو الحياة بعد الموت، اجتاحتها رغبة عنيفة أن يحوطها ويغرقها بالحب قبل أن تموت.

– هل فكرتِ في كتابة رواية؟

فاجأها السؤال، صوته مبحوح فيه ذبحة، كأنَّما يعاني ألمًا في صدره، أو التهابًا في الحنجرة، واهتزَّ رأسها وحده علامة النفي، لم تفكِّر أبدًا في كتابة رواية أو أي شيء آخَر، ربما خطرت لها الفكرة وهي غارقة في النوم، أو في الطفولة قبل أن يدركها الوعي، فكرة غامضة تتسلَّل من وراء سحابة سوداء، ترعبها الفكرة كالموت.

سمعته يتنهَّد بصوته كالأنين.

– آه من الكتابة، هي الجحيم بعينه، عذَّبتني طول حياتي، خيالي عاجز بارد بالنسبة لسخونة الأحداث، كل يوم فيه حدث سياسي مهم، ومشاغل المجلس والانتخابات، الكتابة عاوزة معاناة وتعب وجوع وشقاء، وأنا شبعان ومستريح أربعة وعشرين قيراط، ويعني الكتابة بتعمل إيه؟ كلام على الورق، مجرد تنفيس عن الغضب المكبوت زيِّ العادة السريَّة.

رنَّت كلمة العادة السرية في أذنها نابية، لم يعوِّدها على سماع هذه الكلمات الخارجة عن الأدب.

– أنا آسف إذا كنت جرحت شعورك.

قالها وهو يقترب منها بجسده، يلتصق بها كالغريق يتشبَّت بقارب نجاة، أنفاسه تلهث، الكلمات تخرج من بين شفتَيه مبتورة متقطعة.

– أحيا… أحيانًا … با… با… باحسدك.

– ليه؟

– لأنك سعيدة.

– أنا؟

– على … الأقل … غير مؤرَّقة … غير مؤرقة … باﻟ… باﻟ… بالكتابة.

أصابعه ترتعش باردة كالثلج، عيناه متسعتان شاردتان ينعكس عليهما ضوء القمر الخافت، شفتاه منفرجتان عن ابتسامة واهنة: أنا تعبان … أنا غير … غير مخلوق للكتابة … أنا في الحقيقة … في الحقيقة … غير … غير موهوب … عملوني كاتب كبير بالوراثة … بالواسطة … بالفلوس … وحفلات العشا والخمرة والنسوان …

رنَّت كلمة النسوان في أذنها نابية، لم تسمعها منه من قبل، كلمة سوقية تنمُّ عن عدم احترام النساء، وهي واحدة منهنَّ، كان يحوطها بذراعَيه يحاول الضغط بشفتَيه الباردتين على وجهها الساخن، سرت البرودة في جسدها كالقشعريرة، دفعته بيدها بعيدًا عنها، شدَّها إليه بقوة، حاول اغتصابها بعنف وقسوة، كأنَّما ينفِّس عن غضبه المكبوت في جسدها، نجحت في الإفلات من قبضته، فقدت شهيَّتها للحب، ابتلعت المرارة والإحساس بالمهانة … تذكَّرَت كارمن، كانت تقول لها: رستم ضعيف، متناقض، طفل كبير يبحث عن ثدي أمه، يعجز عن حب المرأة فما بال الكتابة؟

محاولة فاشلة لاختراق جسدها، عقلها منتبه منتصب يسد عليه الطريق، وتهمس الفتاة بصوت مخنوق: أنت طفل يا رستم.

– كل الرجال أطفال بين ذراعَي المرأة.

– أرجوك لا تتكلم مثل سميح.

– وأرجوكِ لا تتكلمي مثل كارمن.

– كارمن كاتبة موهوبة.

– وأنا مش موهوب؟

– في السياسة.

– وفي الكتابة؟

– لأ، يا رستم.

يقبض على جسدها بعنفوان الغضب، وعنفوان الحب، كأنَّما الحب والغضب وجهان لشيء واحد، كأنَّما الحب بالوعة تمتص الغضب والحسد والغيرة واليأس والحزن الموروث في الطفولة، كأنَّما الحب ليس بين اثنين، هي وهو، ولكن بين أربعة أشخاص كارمن ورستم وسميح وهي، يزيد عليهم الأربعة الآخرون، أو صورة كلٍّ منهم عن نفسه، يزيد عليهم صورة كلٍّ منهم عن الآخَر، يصبح العدد الكليِّ اثنَي عشر شخصًا، لكلٍّ منهم وجه مزدوج، تتراءى لها الوجوه كلها وهو يعانقها، شفتاه باردتان وأنفاسه ساخنة، تلامس عنقها مع نسمة الصحراء الجافة في الليل، صوته يهمس في أذنها كأنَّما من مكان بعيد: باحبك، باحبك، إلى الأبد.

ترن كلمة إلى الأبد في الفضاء خاوية كالصحراء، يتردَّد الصدى في أذنها، تذكر مريم الشاعرة، وهي تنشد قصيدتها على شاطئ النيل في الليل تحت ضوء القمر:

ما معني أن تقول إلى الأبد؟

هل نعيش إلى الأبد ولا نموت؟

وإن عشنا فكم من الزمن نعيش؟

خمسين أو سبعين أو مائة سنة؟

لا يقاس العمر بالأعوام والسنين، قد تساوي لحظة الحب في ضوء القمر، ألف عام.

يتسرَّب ضوء القمر إلى جسدها من تحت الثوب الخفيف، كانت راقدة فوق الرمال، عيناها شاخصتان إلى السماء، ترقب القمر يختفي وراء السحابة ومعه الرب، إلى جوارها يرقد جسد شخص لا تعرفه عن يقين، ربما هو رستم أو شخص آخَر من الاثني عشر، عاريًا كما ولدته أمه، قطرات العرق تلمع فوق ظهره تحت ضوء القمر، كأنَّما هي فصوص من اللؤلؤ. يعود إليها صوت مريم تتغنَّى: لحظة الحب في ضوء القمر تساوي ألف عام، أعذب الحب أكذبه مثل الشِّعر.

وكانت مريم تقول الحُب مثل الشِّعر يعلو فوق الصدق والكذب، لا توجد فضيلة ولا رذيلة في الشعر والحب، ولا خير ولا شر، ولا إله أو شيطان، إن أراد الرب أن يهبط إلى الأرض فسوف يكون شاعرًا غارقًا في الحب مثل قيس مجنون ليلى، يعارضها سميح ويقول إن أراد الرب أن يهبط إلى الأرض فلا بد أن يهبط على شكل رغيف الخبز وإلَّا أعرض عنه الملايين، أما كارمن فكانت تقول، لو كان هناك رب في السماء فسوف لا يموت الأطفال من الجوع أو في الحروب … يبتسم رستم في إعياء ويقول: أتمنَّى أن يهبط الرب على شكل النائب العام ليقبض على المسئولين وأعضاء مجلس الشورى.

في القاعة الفسيحة كانت مريم تنشد قصيدتها، آلاف العيون تتطلَّع إليها، تتغنَّى بالحب مثل كوكب الشرق، تخفق القلوب مع النبض في عروقها، تلتهب كفوفهم بالتصفيق، ترتجُّ أجساد الرجال والنساء بالنشوة، ينزعون عن رءوسهم كل الأغطية، طرابيش وبرانيط وأحجبة وعقالات وطاقيات من أرض الحجاز، وعمائم بيضاء ملفوفة حول رءوس الشيوخ، وسوداء اللون ممَّا يرتديها القس في الكنائس.

كانت مريم تتألق تحت الأضواء، مرتدية ثوبها الأخضر المزركش بزهور الياسمين البيضاء، حول شَعرها الأسود الغزير عقد من اللؤلؤ، حول عنقها الطويل عقد من الفل الأبيض، يتنافس على حُبِّها الرجال والنساء، كانت زاهدة في كل شيء إلَّا الشِّعر، محصَّنة ضدَّ الإغراءات في أي حزب، رفضت دخول مجلس الشورى والمجلس الأعلى للشعراء، وجوائز الرئيس والتفوق، يتطلَّعون إليها كالنجم في السماء صعبة المنال، امتلاكها من المحال.

ترمقها جمالات بحسد، تقول عنها ملحدة مصيرها نار جهنم، تضحك مريم وتسألها: وانتي مصيرك إيه يا جمالات؟ تؤكد جمالات أنَّ مصيرها جنة عدن خالدة فيها إلى الأبد، تمطُّ الفتاة شفتيها حين تسمع كلمة إلى الأبد، كانت النساء الثلاث جالسات في كازينو السفينة على شاطئ النيل، ترشف مريم النبيذ مع حبات الفول السوداني، تكسو عينيها دموع حبيسة، تلمع تحت ضوء القمر، تعود إليها صورتها وهي طفلة، كانت في العاشرة من عمرها حين فتحت عينيها في ظلمة الليل، رأت أمها واقفة منتصبة داخل ثوبها الأسود، لم تكن ترتديه إلَّا في الكوارث.

وتسألها جمالات وهي منتشيه بعد الكأس الرابعة أو الخامسة.

– كوارث زي إيه يا مريم في حياة الست والدتك؟

– مثلًا موت أمها اللي كانت جدتي، أو انتحار أختها اللي كانت خالتي، أو دخول أبوها السجن اللي كان جدي، أو قيام الحرب، أو خناقة كبيرة بينها وبين جوزها. وتسألها جمالات بلسان ثقيل وعقل نصف غائب: وجوز أمك كان أبوك؟

– أَيْوه، وكان دايمًا يتخانق مع أمي على أقل حاجة، لو أنَّها بصَّت من الشباك، لو أنَّها اتنهدت أو نسيت ورسمت على صدرها الصليب … أصلها كانت قبطية وهو مسلم، دبَّت بينهم خناقة كبيرة ليلة ميلادي، أبويا صمَّم يسميني «خديجة» على اسم السيدة خديجة أم المؤمنين، أمي صمَّمت تسمِّيني «مريم» على اسم العذراء الطاهرة، استمرت المعركة بينهم وأنا في اللفة ستة أيام، في اليوم السابع عملوا هدنة مؤقتة، ومعاهدة صلح، على أساس إن أبويا يسمِّي الأولاد، وأمي تسمى البنات، أبويا تصوَّر إنه خرج منتصرًا من المعركة، لأنَّ الولد أهم من البنت عند الله بحسب الآية «وليس الذكر كالأنثى»، وأمي تصوَّرت إنها انتصرت على أبويا، لأنَّ مريم لها سورة كاملة في القرآن، هي الوحيدة من دون نساء العالمين ذكرها الله في القرآن باسمها، حتى السيِّدة خديجة أم المؤمنين ربنا ما جبش سيرتها في آية واحدة.

كان النصف الثاني من عقل جمالات قد غاب من الكأس التاسعة أو العاشرة، يصبح لضحكاتها رنين في الجوِّ مثل الآنية الفضيَّة المجلوة، ومريم تشاركها الضحك ورأسها مرفوع في ثقة بالنفس، إلى جوارهما تجلس الفتاة منكمشةً حزينةً، لم يكُن لها أب وأم يتعاركان حول اسمها، لا أحد يذكر اسمها، وهي نفسها تنساه، حتى سمعت الطبيب في برشلونة يناديها نورية، رنَّ اسمها في أذنها جميلًا، نورية، اسم نادر مثل قطرات المطر في الصحراء، وسألها الطبيب عن اسم ابنتها، قالت ستحمل ابنتي اسم أمها نورية كما يحمل زباتيرو اسم أمه.

•••

في برشلونة تتفتَّح الزهور في الربيع، يتغيَّر الطقس في الفصول، في الخريف تتساقط الأوراق عن الأشجار، قبل أن تسقط تكتسب جميع الألوان، الأحمر والأصفر والأخضر والبرتقالي والذهبي والفضي والزمردي والياقوتي والمرجاني، يتغلب الأحمر متفجِّرًا يملأ السماء بحمرة الدم، والأرض تصبح مفروشة بألوان الطيف.

تدوس الفتاة فوقها وتمشي، تتحرَّك الأوراق الملوَّنة تحت قدميها مثل الكائنات الحية، تتلوَّى تنثني تنتصب يشتدُّ لمعانها تحت أشعة الشمس، تعلوها قطرات الندى ورذاذ المطر الخفيف في الربيع.

انتزعت يولاندا الطفلة من حضنها، ملامحها تشبه ابنها الغائب فرانسيسك، تحاليل المعمل والحامض النووي يمكن أن تثبت علاقات الدم، أرضعتها يولاندا من ثديها، وضعت الحلمة السوداء في فمها، انهمر اللبن غزيرًا مثل النهر، أو الشلال تسقط أمامه السدود، تغيَّرت يولاندا، عاد إليها الشباب وغريزة الأمومة، لم يَعُد في حياتها شيء إلَّا هذه الطفلة، اسمها نورية، باسم أمها وجدتها، تستعيد يولاندا وجه أمها وجدتها، تنظر في وجه نورية فترى ابنها الغائب وابنتها المهاجرة، وكل أولادها وبناتها المبعثرين في بلاد العالم.

– سأعطيك نصف المطعم والشقة في العمارة وآخذ نورية.

– اسمعي يا يولاندا، أنا لا أبيع ابنتي!

– سأعطيك ثلاثين ألف يورو نقدًا.

– ابنتي ليست للبيع.

– ليست ابنتك وحدك، ابني فرانسيسك هو أبوها.

– ليس لها أب لا فرانسيسك ولا غيره. وأنا الأم أقرِّر مَن هو الأب!

لم تكن جمالات تحبُّ الربيع في القاهرة، تقول عنه موسم الخَمَاسين والزَّعابيب، تهبُّ الرياح من الصحراء محمَّلة بالرمال، يصبح الكون لونه أصفر، تلتهب عيناها يصبح بياضهما أحمر.

ترتدي نظارة سوداء، ترى كلَّ شيء أسود، تلعن الدنيا والدين وكل شيء، بما في ذلك نفسها.

– أنا منافقة زي كل الناس، لازم أكذب عشان أعيش، لازم أكتب الباب بتاعي كل أسبوع، لازم أقول أي حاجة حسب الجو، والجو في بلدنا ملوَّث بالسموم والتراب والدخان، حتى الربيع، موسم الحب والزهر والفرح في العالم، أصبح عندنا موسم القرف والزفت والقطران!

ثم تنفجر بالبكاء والضحك، تدمع عيناها الحمراوان، تمسحهما بمنديل من الورق، تشدُّه من فتحة العلبة الكرتون المستطيلة، مكتوب عليها «كلينكس» بحروف أجنبية، تتحوَّل الضحكات المبتورة إلى نشيج متقطِّع، صوتها متحشرج يخرج من أنفها الذي يرشح مثل صنبور ماء بليت جلدته، تجفِّفه بمناديل الورق تملأ بها صفيحة القمامة.

– حتى الزكام بييجي في الربيع، وفيروس سي، وفيروس الأبيض المتوسط، ومشروع الشرق الأوسط الكبير، حتى المناديل اللي بنمسح بيها مناخيرنا ما نعرفش نعملها، نستوردها بالعملة الصعبة من أمريكا زي القمح والعيش والفول المدمس، الله يخرب بيتك يا طاغوت ويخرب بيت صاحبك في البيت الأبيض!

دقَّ جرس الباب، دخل بعض أصدقاء جمالات وزملائها في الصحافة، منهم بهي الدين برعم، يحمل باقة ورد ملفوفة بورق شفاف، في يده الأخرى كتاب جديد من تأليفه في النقد الأدبي، يشتمل على فصل كامل من الكاتبة الكبيرة جمالات، جلس على المقعد إلى جوارها وهي مريضة في الفراش، يقرأ لها مقدمة الفصل.

– تختلف الكاتبة الكبيرة جمالات عن غيرها من الكاتبات النسويات، فهي لا تكتب عن الجنس، أو الرغبات الجسدية للمرأة، لديها اتزان أدبي رفيع، وحرص على الأخلاق والأسرة وقِيَم الدين الحنيف، تتوجَّه في بابها الأسبوعي دائمًا إلى الله خالق الكون، وإلى الرئيس الحبيب حامي الوطن، وإلى السيِّدة الأولى للبلاد محرِّرة النساء وقائدة الثقافة والإصلاح والتنوير.

لطمت جمالات خدَّيها وهي تصرخ، كان الزكام والصداع يسدُّ أنفها وأذنيها، رنَّت الكلمة الأخيرة في رأسها «التزوير»، نهارك إسود يا بهي يا برعم، عاوز توديني في داهية؟!

لم تطمئن جمالات حتى ناولها الكتاب، ارتدت نظارة النظر ذات الشنبر الذهبي، تأكدت عن يقين أنَّ الكلمة هي التنوير وليس التزوير، وضعت الكتاب تحت وسادتها، عاد الدم إلى وجهها الشاحب، وعاد المرح إلى صوتها.

– اللغة العربية خطيرة جدًّا، نقطة واحدة على حرف واحد تدخلك السجن، ودي غلطة مطبعية مقصودة مية في المية، عمال المطبعة بقوا من أتباع العرب الأفغان والقاعدة وأسامة بن لادن، عاوزين يشتموا النظام على حسابي وحسابك يا بهي، منافقين وجبناء وعملاء لرئيس التحرير، الدنيا كلها بقت ملخبطة وأنا عيانة ودماغي واجعاني!

من الشارع يرى سميح النور مضاءً في غرفتها، كانت الفتاة تحاول الكتابة أو تقرأ رواية، يصعد إليها حاملًا كيس برتقال أو موز، أو رزمة ورق وأقلام سوداء جافة، كان يشجعها على الكتابة، في أيام الصيف يأخذها إلى الإسكندرية، ورث عن أمه شقة تطلُّ على البحر في سيدي بِشر، كان يعلِّمها السباحة، تبدو الأمواج مخيفة مثل الكتابة، تحاول أن تكسر الخوف دون جدوى، لا تعرف كيف تطفو فوق الماء، في الليل تواجهها الصفحة البيضاء مرعبة مثل سحابة فوق عينيها.

تتمشَّى مع سميح على كورنيش البحر، الهواء النقي وهدوء الليل بعد أن ينام الناس، يتمشيان حتى تظهر نجمة الصباح، أحيانًا ترتفع الأمواج، تصبح مخيفة في الليل، مثل جبال من الرمال السوداء، هديرها يدوي، يرجُّ السماء، مثل هتاف المظاهرات في الشوارع وميدان التحرير، يحوطها سميح بذراعَيه كالأم الحنون، أنامله الرقيقة تلامس وجهها، تضع رأسها فوق صدره وتنام بعمق، تفتح عينيها في الظلمة، يدها تلمس يده، تريد التأكُّد أنَّه جسم حقيقي وليس فكرة في الخيال، في الصباح بعد الفطور، يصنع الشاي بعناية، والخبز التوست، مربى البرتقال أو الفراولة، اللبن المنزوع الدسم، البيض المسلوق أربع رقائق، تبدو الحياة مستقرة تخضع لنظام ثابت، تغمض جفونها في استرخاء، تودُّ أن تستمرَّ الحياة المُطْمئِنَّة إلى الأبد، أن تلد منه أربعة أطفال، ولدين وبنتين، تودُّ أن تعبِّر له عن كل ما في نفسها، وحبِّها لرستم، كأنَّما علاقتها برستم شيء خارج حياتها الحقيقية، مجرد قصة أو رواية فوق الورق تحكيها لسميح وتنتهي منها.

كان سميح مثل الجدار تستند إليه، يحميها من الوحدة والحزن والفقر، في الأعياد يأخذها إلى الحدائق، في شم النسيم، في العيد الكبير والصغير، يتمشيان في حديقة الحيوان، وحديقة الأورمان، يمسك يدها في يده وسط الزحام، قريب منها إلى حدِّ التلاصق، هي وهو وحدهما في العالم الكبير، يشتري لها اللب الأبيض والفول السوداني، على شاطئ النيل، يسيران المسافات دون أن ينال منهما التعب دون أن يشعرا بمرور الوقت، يجلسان على الدكك الخشبية يقزقزان اللب، تمرُّ بهما الطفلة الشحاذة، يناولها سميح قطعة من النقود، تدعو الله أن يحميهما من الأشرار، يأتي الصبي الذي يمسح الأحذية، يُعطيه سميح قطعة أخرى من النقود دون أن يمد له قدمه، يشعر بالحرج، كيف يمكن لأحد أن يمسح لأحد حذاءه! وتذكَّرت قصيدة لمريم الشاعرة بعنوان الزعيمة:

أعلنت الزعيمة والفخر يملأها،
أنَّها تمسح حذاء زوجها كلَّ صباح،
وتركع له كلَّ ليلة بعد صلاة العشاء،
فالزوج يأتي في المرتبة بعد إله السماوات.
وقال الرسول عليه الصلاة والسلام،
لو أمرتُ أحدًا أن يسجد لغير الله،
لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها.

كانت قصائد مريم ممنوعة بقرار من اللجنة الدائمة العليا بالأزهر، جاء في مذكرة المنع أنَّ الشاعرة تتجاوز حدود الشريعة، وتحرِّض النساء على عدم الطاعة، وظلَّ القرار حبرًا على الورق، وكل ممنوع مرغوب، تتلهف الجماهير لانتهاك المحاذير، تسعى إلى الممنوعات والمحرَّمات. والقرارات التي تصدر لتحريم الرقص والغناء وشرب الخمر، لا تؤدي إلَّا لمزيد من الرقص والغناء وشرب الخمر. تُطلق جمالات ضحكتها المجلجلة وهي تفرغ كأسها في جوفها، وداوني بالتي كانت هي الداء يا بهي يا برعم، يا برغل، يا أبهى خلق الله، اسقني مما أعطانا الله حتى نسمع أذان الديك في الفجر، فالخمر ليست محرَّمة بل هي مكروهة فقط، وأنا أكرهها وأحبُّها مثلك يا بهي، وهل هناك حبٌّ دون كرهٍ، هل هناك ليلٌ دون نهار؟ هل هناك جنَّةٌ دون نار؟

وسأل رستم الفتاة أكثر من مرة: هل فكرتِ في كتابة رواية؟

كانت تسأله: ماذا يهمُّه في أن تكتب فتاة مغمورة مثلها رواية؟ وإنْ كتبتها هل يقرأها أحد؟ في المكتبة وهي جالسة وحدها ترمق رفوف الكتب من الأرض إلى السقف، مئات الكتب، لا أحد من أعضاء النادي يدخل إلى المكتبة، وهي تمشي في الشارع ترى مئات الكتب مفروشة فوق الأرصفة، آلاف الكتب، ملايين الكتب تطلُّ من الأكشاك والمكتبات وأرصفة الشوارع والأزقة، يمرُّ بها الناس بعيون مغمضة، تتوقَّف طوابيرهم أمام المخابز يتقاتلون ويتدافعون بالمناكب، تخرج المرأة منهم أو الرجل مكرمش الملابس معفَّر الوجه يتصبب عرقًا، يلعن الدنيا والدين، يتدلَّى من يده كيس بلاستيك أسود مملوء بالأرغفة.

تقول الفتاة لنفسها في الليل وهي غارقة في النوم، سأكتب الرواية حين أصحو، في الصباح تطبق شفتَيها لا تستطيع أن تنطق الكلمة: «رواية»، كأنَّما هي سر دفين لا تبوح به لأحد حتى نفسها، إلَّا في غيبوبة الحلم، كأنَّما هي عورة تستوجب الإخفاء، مثل الثقب الصغير في بطن حذائها القديم.

في دار رستم أثناء الندوة، تجلس الفتاة بين رستم وسميح، يبدو رستم أكثر تألُّقًا، أقل شحوبًا من سميح، يقترب سميح منها أكبر ممَّا كان، يمسك يدها في يده، أصابعه نحيلة رقيقة، يغمرها الحنين إلى ذارعَيه والحنان، حين تراه جالسًا وراء مكتبه الضخم، يمتلئ قلبها بالشفقة عليه، كالسجين بين الجدران، يراجع الحسابات والأرقام، يبدو رستم تحت الأضواء بعيدًا عنها، مثل بطل قصة قرأتها في كتاب منذ زمن بعيد.

في الليل تتأمل وجه سميح الشاحب، تعلوه نظرة حزينة وهو نائم، تقبِّله فوق خده فيفتح عينيه، يحكي لها عن طفولته وحلم حياته، كان يمكن أن يكون كاتبًا كبيرًا مثل رستم، لو امتلك الوقت، لكنَّه مرهق في دار النشر، يكره التجارة وحسابات المكسب والخسارة، يودُّ أن يغلقها إلى الأبد، دون أن يملك الشجاعة، مثل زوج يعيش مع زوجة يودُّ فراقها دون أن يملك الإرادة، كالمدمن يتجرَّع السمَّ كلَّ يوم يحاول التخلُّص منه دون جدوى، ويهمس في أذنها وهو يعانقها في الفراش: أنتِ تستحقين رجلًا أفضل منِّي!

– مَن هو؟

– مش عارف.

– يمكن مش موجود!

– يمكن.

وتشرد عيناه الحزينتان بعيدًا عنها، ترقد إلى جواره غارقةً في الصمت، غارقة في العرق في ليالي الصيف، تشعل سيجارة بعود كبريت، مكتوب على العلبة اسم كيلوباترة، سرقتها من خزين السجائر في غرفة جمالات، أصبحت تعشق الدخان، تنفثه من أنفها وفمها إلى السقف، لم يكن سميح يحبُّ رائحة السجائر، خاصة من نوع كليوباترة، تذكِّره بجمالات، يشدُّ السيجارة من بين شفتَيها، يحملها معه إلى الحمام، يغسل لها ظهرها بالليفة والصابون، يرشُّها بالماء ويضحكان كالأطفال يلعبون على شاطئ البحر في إجازة الصيف.

– إيه رأيك نعيش سوا في شقتي؟

– تحت سقف واحد؟

– أَيْوه.

– إلى الأبد!

– أَيْوه.

– مستحيل.

– ليه؟

– مش عارفة.

بعد أن يمضي سميح تستلقي الفتاة، من حولها البشكير الأبيض، تدفن وجهها في الوسادة التي نام عليها، تستعيد رائحة شعره وأنفاسه، ينتابها الحنين إلى جسده من جديد، تشتاق إليه في غيابه أكثر من حضوره، تبدو اللحظات الماضية خارج عمرها، خارج قدرتها على الإمساك بها، تنزلق من بين أصابعها كالسمكة في الماء، تذوب في أعماق الذاكرة مثل فص الملح في البحر.

ويعود إليها صوت كارمن: لا يمكن للمرأة أن تعيش مع الرجل تحت سقف واحد فما بالُ الكتابة؟ يدور السؤال في رأسها، وما الفرق بين المرأة والكاتبة؟ وهل تُغيِّر الكتابة من فصيلة الإنسان؟

لم تكن موارد الفتاة تسمح لها أن تعيش وحدها، كانت حياتها تحت سقف واحد مع جمالات أمرًا مزعجًا، لا تكفُّ جمالات عن إطلاق الأصوات، من غرفتها، ومن الصالة ومن المرحاض، ربما هي جمالات السبب في عجزها عن الكتابة، ما إنْ ترى وجهها في الصباح بلا حاجبين حتى ينتابها الفزع، لكنَّ الانتقال إلى شقة سميح تفزعها أكثر، وأكثر ما يفزعها أن تعيش مع زوج إلى الأبد، لم تعرف في حياتها زوجين سعيدين، كان رستم يقول الزواج مؤسسة التعاسة، وتقول كارمن لا يستمر الزواج السعيد إلَّا بسبب العادة أو الكسل، يتنافس الاثنان رستم وكارمن على قلب الفتاة، تنجذب إليهما الفتاة بدرجة متساوية، يكشف كلٌّ منهما عن عيوب الآخَر، تنصت إليهما كأنَّما ابنة تنصت إلى شكوى أبيها من أمها، وشكوى أمها عن أبيها، تحفظ السرَّ لا تبوح به لأيٍّ منهما، تُدرك عن يقين أنَّهما بعد كل خصام يتصالحان، وتصبح هي الضحية وحدها.

يضع رستم رأسه فوق صدرها، يكبرها بثلاثين عامًا، من عمر ابنه محمد إدريس، لم تعرف شيئًا عن هذا الابن، كان ينساه بإرادته وبغير إرادته، تسمع صوت أنينه وهو راقد إلى جوارها، ينفض عن ذاكرته الماضي، يدفن وجهه بين نهدَيها، يصبُّ في جسدها أحزانه القديمة، يهمس في أذنها بصوته المبحوح: الماضي ميِّت والمستقبل غير موجود، هذه اللحظة الحاضرة هي عمرنا الوحيد، هي كل ما نملك، علينا الاستمتاع بها حتى نفقد الوعي.

وينسى اسمها لحظة فقدانه الوعي، يُناديها باسم كارمن، وأحيانًا يقول لها يا كريمة، بطلة روايته الأولى، كان شابًّا في مقتبل العمر، يرى في الحلم فتاة أحلامه، ابنة خاله الباشا، سوف يتزوَّجها بعد عامين اثنين، حين يتخرَّج في الجامعة ويحصل على الشهادة، عامين كاملين ينتظرها على حرارة الجمر، يعانق في الليل جسدها، لا يرى وجهها في الظلمة، لا يريد أن يرى وجهها، يتعانقان خلسة من وراء الوعي، بعيدًا عن العيون بما فيها عينيه، لا يملك شجاعة النظر في عينيها، فهي واحدة من الخادمات في البيت، فتاة فقيرة من الريف، لا تعرف القراءة ولا الكتابة، تناديه وهي راقدة تحته سيدي رستم، عيناها مغمضتان لا تملك الشجاعة لتفتحهما وتنظر في عينيه، أنفاسه الساخنة تلفح وجهها، وصوته يسري في أذنها متحشرجًا كأنين حيوان مريض، يسترد عافيته بعد أن ينفث فيها السم، ويصبُّ في جسدها الأنين، ينهض من فوقها بحركة سريعة، مستعيدًا قوته ومكانته الأولى.

لم تكن الضحية واحدة، بل اثنتين أو ثلاثة أو أكثر حتى حصوله على الشهادة العليا، وكانت خالته تطرد الخادمات، الواحدة بعد الأخرى، تختفي كلٌّ منهن في غياهب الدنيا والآخرة، لا أحد يعرف مصيرها، قد تصبح راقصة بطن في أحد الملاهي، أو خادمة سرير لأحد العجائز أو واحدة من بنات الهوى، أو تعود إلى أهلها ليغسلوا العار بدمها، أو تركب البحر مع الطيور المهاجرة إلى الشاطئ الآخَر.

إلَّا واحدة منهنَّ أكثر سذاجة، كانت في الخامسة عشرة من عمرها، طفلة بريئة من الريف، حين يزورها رستم في الليل تظن أنَّه الإله، وهي العذراء الطاهرة، تحمل نطفته المقدَّسة في رحمها، لم تفقد براءتها إلَّا بعد أن ولدت الطفل، حملته فوق صدرها وذهبت إلى سيِّدها تزفُّ النبأ، طردها من القصر في جاردن سيتي هي وابنها، أصابتها الصدمة بهبوط في القلب، ماتت وتركت الطفل لرعاية الله، أصبح يقضي الليل والنهار فوق الرصيف، تحت قبَّة السماء بلا غطاء ولا طعام، مثل أطفال الشوارع، أصبح يسرق ليأكل، ويشمُّ مع الشمَّامين من أجل النسيان، لم يبقَ بذاكرته إلَّا اسم أبيه والعنوان، كانت أمه قبل أن تموت قد اعترفت بالحقيقة، حين أدركه الوعي ذهب إلى أبيه يطلب الرعاية، منعه الحراس من الدخول، صفعه أحدهم على قفاه، ضربه الآخَر في بطنه، فسقط على الأرض، حوَّطه البوابون والسفرجيَّة والخدم، جاء رجال الآمن، وحملوه إلى القسم، كان يلعن الدنيا والدين، ويكيل السباب لأبيه وأم أبيه التي ولدته من ضلع أعوج، ضربه رجال البوليس ووضعوه في التخشيبة.

– اسمك إيه يا ولد؟

– محمد إدريس ابن رستم باشا.

– اخرس يا ابن الشرموطة.

– أمي كريمة وأبويا هو الشرموط.

لم تكن كلمة «شرموط» مألوفة في اللغة، فهي في الأصل مؤنثة غير قابلة للتذكير، وانتشرت الحكاية في المدينة، تلقَّفَها المنافسون لرستم في مجلس الشورى، كان موسم الانتخابات على الأبواب، تسبقه فضائح المرشحين والمرشحات، ظهرت منشورات مجهولة المصدر بعنوان القرموط (على وزن الشرموط)، وكان محمد إدريس قد خرج من السجن، أخذوه في حزب المنافسين لأبيه، يحملونه معهم في جولاتهم الانتخابية، كان نسخة طبق الأصل من أبيه: الوجه، الجبهة، العينان، الحاجبان، الأنف، الشفتان، القامة، الصوت بالبحة الذكورية الجذَّابة للنساء، وما إنْ يظهر محمد إدريس أمام الناخبين حتى يهلِّلون: «رستم باشا» طبق الأصل، وأمه كريمة بنت الدايرة، كان مرشح الدائرة يضرب عصفورين بحجر واحد، غريمة الأول رستم، وغريمته الأخرى كريمة، إحدى الصحفيات من زميلات جمالات، يقولون عنها بنت الدايرة، تعني باللغة العامية ابن امرأة «دايرة على حل شعرها، أيْ عاهرة» وتعني باللغة الفصحى «ابنة الدائرة»، الانتخابية للمجلس الموقر.

•••

وكانت كارمن تتابع الحملة من بعيد، لم تكن تعرف أنَّ لزوجها ابنًا غير شرعي، حكى لها عن مغامراته قبل الزواج، إلَّا حكاية كريمة التي أعطت الطفل اسم أبيها إدريس وأضافت إليه اسم محمد، بأمل أن يضفي اسم النبي على ابنها الشرف والشرعية، دون جدوى … ظلَّ محمد إدريس فاقدًا الشرف والشرعية حتى مات، بعد انتهاء الانتخابات، صدمته سيَّارة وهو يجري في الشوارع يوزِّع الصحف والمجلات، سقط تحت العجلات، من حوله تناثرت الأوراق، غارقة في الدم والحبر، وصدى صوته يردِّد: أهرام أخبار جمهورية وخطبة الرئيس في العيد.

•••

في الليل يدفن رستم رأسه في صدر كارمن، يحاول أن ينسى وجه ابنه، والمنشور الملزوق فوق الجدران على الورق المصقول: انتخبوا القرموط، السابح مع التيَّار في كلِّ العصور، من الاشتراكية إلى الخصخصة إلى القصقصة وكتابة الروايات، الشديد الجاذبية للنساء، من ملعب الجولف إلى حرب الخليج وخريطة الطريق، من البورصة إلى إسرائيل إلى مكة، يمسح ذنوبه في موسم الحج، وفي شهر رمضان يُزكِّي عن أمواله بموائد الرحمن.

تحوطه كارمن بذراعيها، تهدهده كالأم، لم تكن تؤنِّبه، ولم يكن يعتذر عن شيء. يقول لها، وهو في حضنها: الخيانة الزوجية ليست خيانة، فالرجل كما خلقه الله لا تكفيه امرأة واحدة، لا يذكر الله إلَّا في هذه الحالة حين تكتشف زوجته القصة الجديدة، وكانت كارمن تعرف متى تكون البداية، يبدو رستم مهمومًا مملوكًا للشعور بالإثم، يتعمَّد أن يؤلمها حتى تغضب، لتنفجر بالغضب وتلعن اليوم الذي عرفته فيه، يتراخى جسده ويسقط في نوم عميق، يصحو خفيفًا كأنَّما تخلَّص من العبء. تقول له كارمن: اسمع يا رستم، أنا سئمت هذه اللعبة، عليك أن تتحمَّل آثامك ولا تحمِّلني أنا مسئولية تطهيرك منها. يحملق في وجهها كأنَّما يراها لأول مرة، يفزعه أن تكشف عن أعماقه الخفية، يدخل في حضنها كالأم، يدفع وجهه في صدرها ويجهش بصوته المتحشرج: اغضبي مني يا كارمن، طهريني من ذنوبي لأحبك أكثر، ثم يضيف بلا صوت، ولأكرهك أكثر.

تدفعه بيدها بعيدًا عنها ثم تشده إليها، تنجذب إليه وتنفر منه في آنٍ واحد، ينهض من الفراش ويجلس بجوارها ينفث الدخان إلى السقف، ثم يرتدي ملابسه ويخرج، كان يلتقي بالفتاة إنْ لم يجد امرأة سواها، إن غابت أو تمنعت يجول بالمرسيدس في شوارع المدينة، يلتقط واحدة من بنات الهوى، يحملها إلى الشاليه في صحاري سيتي، يفرغ فيها الغضب والهوان، يضغط بأسنانه على شفتيها حتى تنزف، يعضها في كتفها مثل كلب مسعور، إن تأوَّهَت يضربها بقبضة يده، في صدرها وبطنها، تتوهَّج ذكورته بازدياد أنينها، يتحشرج صوته هامسًا في أذنها، خديني يا لبوة، وتصعد الفتاة فوقه وتأخذه بالقوة كما يأخذ الرجل المرأة … كانت جمالات تقول: لا يشعر الرجل باللذة إلَّا مع امرأة تؤلمه، يتلاشى الفاصل بين الألم واللذة. وتقول مريم الشاعرة: المرأة مثل الرجل تتأرجح بين الخضوع والاستبداد إلَّا النساء اللبؤات، الأكثر قوة من الأسد.

•••

كان يومًا من أيام الشتاء الممطرة، تتحوَّل الأزقة في حي السيدة إلى بِرَك صغيرة، تختفي الفئران والصراصير داخل الشقوق، ويأوي الناس في الشقق المغلقة منذ الغروب، كانت الساعة تجاوزت منتصف الليل، الظلمة كثيفة بلا قطرة ضوء، هبَّت الفتاة من نومها على الصرخة، رأت جمالات واقفة عند الباب بملابس الخروج، وجهها متهدِّل شاحب بلا مساحيق ولا حاجبين، تلطم خدَّيها بيديها الاثنين: ليه يا رب؟ ليه يا رب؟!

– حصل إيه يا جمالات؟!

لم يكن هناك وقت للإجابة، انطلق بهما التاكسي يشقُّ الأزقة الغارقة في الوحل والظلمة، يلعن السائق الدنيا والدين، جمالات صامتة على غير عادتها، الفتاة جالسة إلى جوارها غارقة في أفكارها، توقَّفَ التاكسي داخل زقاق في مدينة الموتى أسفل جبل المقطم، لم تستطع السيَّارة التحرُّك إلى أكثر من ذلك، هبطت جمالات ومن خلفها الفتاة، غاصت أقدامهما في الطين من زقاق إلى زقاق، ثم توقفت جمالات أمام شقٍّ في الجدار، أخرجت من جيبها منديلًا وضعته فوق أنفها، كانت الرائحة غير محتملة، تشبه اللحم المشوي مع العظام والشعر والأظافر والجلد، في المدخل كانت امرأة واقفة ترتدي خيمة سوداء، عيناها تطلان من الثقبين الغائرين في السواد، إلى جوارها رجل داخل جلباب أبيض طويل، وثلاثة رجال بملابس البوليس، تقدَّم أحدهم نحو جمالات، يسلِّط على وجهها كشاف النور: إنتي أمها يا مدام جمالات؟

– أَيْوه.

نطقت الكلمة أَيْوه كأنَّما تلفظ النفس الأخير، تساقط جسدها إلى الأرض، رفعوها لتنهض واقفة، بدأت تنقل القدم وراء القدم وهم يسندونها، تتوقَّف متردِّدة تلتقط أنفاسها، من خلفها الفتاة تتحرَّك كمَن في النوم، الظلمة شديدة إلَّا من ضوء الكشَّاف الصغير على شكل دائرة صفراء، سقطت فوق كتلة متفحِّمة بحجم الطفل المولود، إلى جوارها كتلة أخرى أكثر تفحُّمًا أكبر حجمًا، شعر رأسها محروق، لم يبقَ من وجهها إلَّا العظام، احترقت بعض أجزائها وانطفأت داخل بركة من الماء والطين، إلَّا شيء واحد كالجمرة تحت الرماد، بلون الدم الأحمر، يلمع في الظلام، عين مفتوحة بلا رموش ولا جفون ترمقهم دون أن تطرف.

•••

رقدت جمالات في الفراش ليل نهار، لا تخرج إلى مكتبها ولا تقابل الزوار، نشرت إحدى زميلاتها القصة باسم مستعار، وهي قصة شائعة متكرِّرة، الابنة غير الشرعية تخلَّصت منها أمها، تركتها أمام باب الجامع، التقطها رجل من الزبالين عاشت البنت داخل القمامة كالجرذان، قفز عليها الذكور منهم قبل أن يدركها الوعي، أصبحت أمًّا وهي طفلة، أفزعتها الحقيقية إلى حد الموت، بإرادة الله، أو بعود كبريت.

تماثلت جمالات للشفاء، نهضت من الفراش، مدَّت ذراعها تحت السرير وشدت الزجاجة من عنقها، أفرغت الكأس وراء الكأس في جوفها، خاطبت الرب حين غاب عنها الوعي، تسأله السؤال القائم منذ الأزل، ليه يا رب؟ ولا يأتيها الرد إلى الأبد.

في الليل تتقلَّب الفتاة في فراشها، في أحشائها شيء ينمو، لا تعرف ما هو، وكيف تسرَّب إلى أعماقها، تظنُّه وهمًا مصنوعًا من الخوف، أو ورمًا من الأورام الحميدة أو الخبيثة. تذكر لقاءها الأول بسميح، كان ذلك في دار النشر في مصر الجديدة، تمتلئ الدار بفتيات من الهاويات الحالمات بالكتابة، والفتيان الهاوين الحالمين، يحدث النقاش في الندوات حول القصة والرواية، كانت الفتاة تسعى إلى المعرفة، لم يكن الحب هدفها بل زيادة الإدراك، ومن أجل الكتابة كانت تضحِّي بالجسد، يتضاءل جسدها إلى جانب إشباع العقل.

ما تصوَّره سميح شبق الحب لم يكن إلَّا شبق المعرفة، تلقي نفسها بين ذراعَيه ليس لأنَّها امرأة، بل لأنَّها كاتبة، لم تكتب شيئًا في حياتها، ولا أحد يعرف أنَّها كاتبة، حتى هي لا تعرف، وإن عرفت فهي تخفي السرَّ في أعماقها كالعورة.

ربما هو رستم، الذي كشف لأول مرة عن عورتها، قال لها وهو يحوطها بذراعيه، عقلك متقد مثل كارمن زوجتي، نحن نتعانق عناق الكاتب للكاتبة، داخل عالمنا الخاص، عالم الكلمات، ترتفع فيه لذة الخيال على الواقع …

كانا يتعانقان حتى بلوغ القمة، تنحبس أنفاسهما عند الذروة، يتجمَّدان في الفراش دون حراك، يخشى كلٌّ منهما إنْ تحرَّك أن ينطفئ الوهج، وكانت كارمن تقول: أنا ورستم تجمعنا علاقة مدمرة لنا نحن الاثنين، وأنا لن أهدأ حتى أدمره تمامًا، وأحوِّله إلى رواية من رواياتي، وهو بالمثل لن يهدأ حتى يدمِّرني.

كانت مباراة للتدمير من أجل ما يمكن أن يبقى، محاولة للبقاء بعد الموت، لم يكتشف أحدهما السر، ربما كان هو الحب وليس الكتابة، أراد الاثنان إخفاءه تحت اسم الأدب، وإضفاء هدف نبيل للدخول معًا في السرير.

كان رستم يعرف أنَّها تحبُّ رجلًا آخَر، وكارمن تعرف أنَّه يحب امرأة أخرى، تجاهل الاثنان مشاعر الغيرة أو الامتلاك تحت اسم الحرية أو التعددية، تتملكهما أحيانًا غريزة الاستطلاع، يحاول كلٌّ منهما أن يعرف أسرار الآخَر، ربما بدافع المعرفة وليس الغيرة، يريد رستم أن يعرف مَن أقدر منه على إقناع زوجته، وهي تريد أن تعرف مَن أقدر منها على إقناع زوجها، وكان إشباع الجسد أكثر سهولة من إشباع العقل.

كانت كارمن تقول: الكتابة شيء جميل لإخفاء أشياء قبيحة، في روايتها انتقمت من زوجها، جعلته مؤرقًا بالغيرة، يستأجر الجواسيس لمعرفة حياتها السرية، يطارد أيَّ رجل تحبُّه بمسدس مكتوم الصوت. وتقول مريم الشاعرة: نحن نكتب لنعبِّر عن الخرس في أعماقنا، نخاف اللامنطوق أكثر من الموت، ولا تفكِّر في الانتحار إلَّا حين نعجز عن الكتابة.

تطوَّعت جمالات للتجسُّس على حياة رستم، كانت تحبُّ الكشف عن الجرائم الخفية، تجد فيها نوعًا من السلوى، وتقول: خلق الله الخير والشر، وخلق الشيطان من أجل الغواية والضلال. تضحك جمالات وهي ترشف النبيذ، وخلق الله الخمر من أجل سعادتنا يا عزيزتي، وإلَّا لما امتلأت الجنَّة بأنهر من الخمر. اكتشفت جمالات قصص الحب في حياة رستم، بطلاتها من الفتيات المجهولات الاسم في عالم الكتابة، تسعى الواحدة منهن إلى الشهرة من خلال الحب، ينتقل رستم من امرأة إلى امرأة كما ينتقل من رواية إلى رواية، يخلط بين الحلم والواقع، يقول في إحدى رواياته على لسان البطل: أنا رجل مثل الأنبياء ينطوي على فحولة خمسين رجلًا، فهل أكتفي بأربعة نساء؟

وتحكي جمالات عن المرحوم زوجها، ضبطته ذات ليلة في فراشها مع امرأة أخرى، لطمت خدَّيها صارخةً: في فراشي وفي بيتي يا خائن؟ صوتها كان عاليًا، قفز زوجها من فوق المرأة، أغلق فمها بيده، اسكتي يا جمالات اسكتي وإلَّا سمعك الجيران! جيران إيه وزفت إيه يا راجل، صحيح الخيانة في دمكم، على رأي المثل، «يا مآمنة للرجال يا مآمنة للمية في الغوربال.» وتقول مريم الشاعرة حين تسمع الحكاية: لا يشبع الرجال من ثلاثة: المال والسلطة والنساء، ولا تشبع النساء من ثلاثة: الألم والندم والعار.

•••

في برشلونة كان الربيع هو مهرجان الحب، جاءت أناجيل إلى الفتاة في صباح مشرق وقالت: هنا رجل يحبُّك اسمه جوردي، رآكِ وأنتِ تمشين على الشاطئ، أتؤمنين بالحب من أول نظرة؟ قالت الفتاة: الحب ليس له قانون عام، لكلِّ قصة قانونها، ولكلِّ رواية أسلوبها الخاص. وقالت أناجيل: جوردي شاب من عمركِ، يحاول الكتابة مثلكِ دون جدوى، يدق الطبلة في الرامبلا أمام المطاعم ويغنِّي، تتطلَّع إليه عيون النساء، يجذبهن الفن والفقر، كلاهما ساحر في عيد الحب.

– وما هو عيد الحب يا أناجيل؟

هو عيد سان جوردي، كان شابًّا فقيرًا حالمًا أنقذ الأميرة الجميلة من الغول، أو المارد المتوحِّش، الذي أحبَّ الأميرة وأراد افتراسها، لكنَّ الشاب انتصر عليه، انتزع منه الأميرة، حملها فوق حصانه الأبيض، وطار بها إلى شاطئ الحب في برشلونة، أهداها في عيد زواجهما وردة حمراء، وهي أهدته كتابًا، كانت الأميرة تعشق القراءة والكتابة، وأصبح الناس في برشلونة يحتفلون بعيد سان جوردي، يسمُّونه عيد الحب، يتبادلون الزهور الحمراء والكتب.

وأقبل جوردي يحمل إليها الوردة الحمراء، يشبه فتى أحلامها وهي طفلة تمشي على شاطئ النيل، قال لها أنا جوردي، وأنتِ؟ قالت طفلتي اسمها نورية أخذتها يولاندا. وقال جوردي: الأطفال في كل مكان يولدون ويموتون ويولودون من جديد، أنتِ في غير حاجة إلى الولادة مثل الأرنبة، أنت في حاجة إلى شيء آخَر، هل حاولتِ الغناء أو الرقص أو النحت أو الكتابة …؟

– الكتابة؟!

ترنُّ الكلمة في أذنها فتصحو من النوم، تراه واقفًا أمامها يكاد يشبه سميح أو رستم أو فرانسيسك أو اسمًا آخَر عالقًا بذاكرتهما المنسية، يكاد يشبه كارمن ومريم وجمالات، ملامحهم جميعًا تذوب في الوجه الواحد، يجمع بين الرجولة والأنوثة، أمه من برشلونة وأبوه من طنجة، طويل القامة نحيف، بشرته سمراء تشوبها حمرة، بلون الصخور الفاصلة ما بين شمال أفريقيا وجنوب إسبانيا، عند مضيق جبل طارق، يتكلَّم العربية والكاتالانية، يدرس النقد المقارن بين الأدب العربي والأدب الكاتالاني، يشتغل في المساء في المطعم «موروكا كاتالانا» يقدِّم الوجبات المغربية والكاتالانية، في زقاقٍ صغيرٍ متفرِّع من الرامبلا كاتالونيا … ويحدِّثها جوردي عن ابن بطوطة، وابن رشد، عن أدب الأندلس، وعن روايته الأولى يكتبها، بدأت الفتاة تتقن اللغة الكاتالانية، وهي أقرب إلى اللغة الفرنسية منها إلى اللغة الإسبانية، لأن فرنسا أقرب إلى كاتالونيا من مدريد. يشرق وجهه الأسمر بالابتسامة حين يراها، تذكر ابتسامة محمد الجرسون في النادي، تقول له: أحب ابتسامتك يا جوردي، كلمة «سومري»، بالكاتالانية تعني ابتسامة، قريبة من كلمة ابتسامة بالفرنسية «سوري» أنت تعيد إليَّ الأمل في الحياة يا جوردي، كلمة أمل بالكاتالانية هي «إسبرانسا» قريبة من كلمة أمل بالفرنسية، وتحتفل برشلونة بعيد الأمل في نهاية أبريل، بعد انتهاء عيد الحب.

في الاحتفال بعيد الأمل تسير الفتاة مع جوردي على شاطئ برشلونة، الرجال والنساء الأطفال والشباب والعجائز يتمدَّدون على الرمال تحت الشمس، أجسادهم عارية تلمع برذاذ الماء، يتساوى الجميع بصرف النظر عن العمر أو اللون أو الجنس أو الجنسية، تمدَّدت الفتاة فوق الرمل ترمقهم من بعيد، يمتلئ قلبها بالحزن الغامض، تبكي دون دموع على أمها الميتة، وأختها المحروقة في الحمام، وجارتها الملفوفة تحت الخيمة السوداء، ثم تنهض فجأة، تنفض عن جسدها الرمال، تقذف بنفسها في البحر، تسبح مع جوردي داخل العمق، يحوطها بذراعَيه تحت الماء، يسألها عن الحزن في عينيها، لا تعرف الرد على السؤال، ربما هو الحنين الجديد المتجدِّد، رغم الألم والحزن يا جوردي، أحلم بالعودة إلى الأهل، وهل ينفصل الظفر عن اللحم؟

كان جوردي يسْبح أمامها، يضرب الماء بذراعيه، يذكِّرها بسميح، الملامح تتشابه والحركة مع الرقة، يتسابقان تحت الماء مع مجموعة من الشباب والشابات، يضحكون ويلعبون مع الأمواج، يخرجون إلى الشاطئ ينفضون رذاذ الماء تحت أشعة الشمس، يجلسون في المطعم يأكلون الشرائح «المشوية»، شرائح من السمك اللذيذ يعيش بين الصخور، اسمه «لييورنا» وتعني السمكة المضيئة، تكسبها الصخور مع الماء المالح قوة ورشاقة، يرشفون النبيذ الكاتالاني، اسمه كريستين ديسروش نوبل كورت، يتبادلون الورود الحمراء والكتب والروايات … ويسأل جوردي: ما العلاقة بين الوردة الحمراء والكتاب في عيد الحب؟ وهل هناك علاقة بين الحب والكتابة؟

تتذكر الفتاة لقاءها الأول مع رستم، كان ذلك في دار النشر في مصر الجديدة، كان جالسًا وحده يقرأ، شَعره أسود غزير تتناثر فيه شعرات بيض، يُكسبه الشيب المبكِّر نوعًا من السحر، جذبتها إليه خطوته الحائرة بين رفوف الكتب، كان شاردًا حزينًا وحيدًا، رأسه مطرق مُثقَل بالأفكار، لم يكن هو رستم عضو مجلس الشورى، ولا هو الزوج ورجل الأعمال، كان شخصًا آخَر ضمن أشخاص آخَرين يسكنون جسده، بدا لها روحًا مُحلِّقة بين الكتب والروايات، لم تملك الشجاعة لتتحدث إليه، وهي فتاة مجهولة مغمورة بلا أب ولا أم.

لم يكن سميح مثل رستم، كان يفهمها أكثر، يعرف أنَّ في أعماقها حنينًا إلى شيء آخَر أكبر من الحب، ليس الحب بين الرجال والنساء، شيء آخَر في خيالها حبيس لا يخرج إلى الواقع، ويقول لها سميح: أنتِ تبحثين من خلال الحب عن نفسك، عن معنى الحياة، عن الحكمة الأبدية، ما يسميه الناس «الله»، هذا البحث الطبيعي، يفعله كل إنسان وكل إنسانة، بوعي أو بدون وعي، أنتِ لا تقعين في الحب من أجل الجنس، ولكنك تفعلين الجنس من أجل هدف آخَر، ليس ولادة الأطفال، بل هدف آخَر ربما يتعلَّق بالكتابة، أو …

– الكتابة؟!

أو شيء آخَر تعرفينه أكثر مني، لا يمكن لرجل أن يملأ خيالك أو يشبع عقلك أو حتى جسدك، ربما لهذا السبب لا يمكن للحب أن يحوِّلك إلى زوجة أو جارية أو عبدة، أو أن يتخلَّى عنكِ المنطق، عقلكِ هو الشاطئ الأخير حيث ترسو عواطفك الجارفة، أنتِ عشتِ الألم والحزن والفقر، تحاولين التعويض عن الحب والحرية بالكتابة، تدخلين أيَّ تجربة حتى الموت من أجل المعرفة، لا تخلصين إلَّا لعقلك، ولا تشعرين بالطمأنينة إلَّا مع نفسك.

– وأنتَ يا سميح؟

– أنا أعطيكِ حنان الأم الغائبة، لا تشعرين معي أنَّكِ في حاجة إلى سياج العقل، ولا السلاح الذي تُشهرينه في وجه رستم، أنت ترينني مثل الحصن تحتمين فيه من الوقوع في الحب، فأنا لست فتى أحلامك.

تُطرِق الفتاة في صمت طويل، كان رستم أقرب إلى فتى أحلامها من سميح، يتكوَّن فتى الأحلام في حياة البنات من قصص الأفلام، من القيم السائدة عن الذكورة والفحولة، يتكوَّن خيال البنت من الشبق أو الحنين لرجل يغتصبها، تتراكم صور الخضوع في ذاكرتها منذ الطفولة كالمرض المزمن.

– لكنِّي أحبكَ يا سميح، يمكن أن أعطيك كلَّ شيء، أن أهبك حياتي كلها، فأموت من أجلك كما يموت الشهيد أو الشهيدة فداء الله والوطن.

– الحب ليس هو الموت فداء شيء آخَر، نحن لا نموت حبًّا في الله أو الوطن بل خوفًا منهما، لا أحد يذهب إلى الحرب إلَّا تحت سلطة التجنيد، ولا أحد يذهب إلى الكنيسة أو الجامع إلَّا خوفًا من النار، لا يموت في الحروب إلَّا أبناء الفقراء، ولا تكتظُّ الكنائس والجوامع إلَّا بالعجائز والمرضى والمريضات.

في أعماقه كان سميح يتساءل، لماذا هي قادرة على الموت من أجلي وليست قادرة على أن تحبني؟ لماذا لا تشعر نحوي بالشبق؟ لماذا تتَّجه شهوتها إلى رجل آخَر مثل رستم لا يعرف المبادئ ولا الأخلاق؟

وتقول الفتاة لنفسها: عاطفتي لسميح أقوى من العواطف الأخرى كلها، ربما لأنَّها تتعلَّق بشيء آخَر غير الجنس، ربما بالروح، الأسمى من الجسد، أو هي الجسد في التحامه بالروح.

وكانت كارمن هي المرأة التي أحبَّها رستم، ولم يكن هو الرجل الذي تحبه، كانت مشغولة برجل آخَر لا تكاد تعرفه، وفي أغوار نفسها مشاغل أخرى تصرفها عن الجنس والحمل والولادة، لم تكن الأمومة في نظرها غريزة بل قانون مفروض، وكان لديها غريزة أخرى ضرورية، تدفعها إلى البُعد عن زوجها، غريزة تجبرها على أن تعيش وحدها، أن تفكِّر بعقلها، أن تتطلَّع نحو الكتابة بشهوة تفوق الشهوات الأخرى.

في خياله كان رستم يتخيَّلها في الفراش مع الرجال الآخَرين، لم تكُن مُدرَّبة على إثارة شهوة الذكور، كانت أقرب إلى الفتاة العذراء، لا تفقد عذريَّتها وإن تعدَّدت تجاربها مع الرجال، أو مع النساء، تخرج من كلِّ تجربة بمزيد من خيبة الأمل مع الصداع، عجز الأطباء عن شفائها من الصداع المزمن، والاكتئاب الذي تستسلم له كأنَّه الحب، أصبحت أدراج مكتبها مملوءة بزجاجات الأدوية، وكذلك أدراج الدولاب، والمنضدة بجوار سريرها، أصبحت الأقراص المانعة للصداع والمضادة للاكتئاب تحوطها مثل الكتب والأوراق والأقلام، تحتمي فيها من ضجيج الأصوات، وعناوين الصحف، والزحام وصراخ الأطفال، تجلس وراء نافذتها المغلقة بالزجاج المزدوج، تطلُّ على المدينة من بعيد، ترى الناس من دون أن يراها أحد، مثل الإله في السماء تعاني الوحدة، تعشقها وتكرهها في آنٍ واحد، تنفر من الناس ويستبد بها الحنين إليهم، تنادي في الليل على رستم، فيأتي إليها، ما إنْ تراه حتى تبتعد وتقول: آه ليس أنت. وإن جاءها الشخص الآخَر تقول: ليس أنت. تبكي وحدها لأنَّها وحيدة، تبحث عن الحب دون جدوى، تبدو لغزًا لكلِّ مَن يعرفها، مثل الحياة، مثل الموت، مثل كل شيء غائب وحاضر! يقول عنها رستم: هي رمز لكلِّ شيءٍ صعب المنال، هي رمز لشيء بعيد جدًّا كالنجم في السماء، لا يمكن امتلاكها، وكلما ازدادت بُعدًا ازداد الشوق إليها حتى الموت.

وكتبت كارمن في إحدى رواياتها على لسان البطلة تقول: الموت في الحب ليس إلَّا رمزًا لشيء آخَر، ومن الغباء أن يموت الإنسان من أجل الرمز.

وكانت كلمة الرمز مقدَّسة، فهي ترمز إلى كلِّ ما يعبده الناس من المهد إلى اللحد، إلى كلِّ ما يحفظه الأطفال عن ظهر قلب، وما ينشدونه في طوابير المدرسة كل صباح، الثالوث المقدَّس، الأب والابن والروح القدس، أو الله والوطن والملك، وقد تم حذف كلمة الملك بعد سقوط الملكية، وحلَّ مكانها كلمة أخرى هي الرئيس، دائمًا كان هناك فرد مقدَّس.

وكان موسم الانتخابات على الأبواب، لم تهدأ حكاية الابن غير الشرعي حتى بدأ المتنافسون في مجلس الشورى ينقِّبون عن فضائح أخرى، عثر بعضهم على نسخة من الرواية بخط زوجته كارمن، توقَّفت عيونهم عند العبارة الأخيرة: «من الغباء أن يموت الإنسان من أجل الرمز»، في اليوم التالي ظهرت المنشورات والملصقات فوق الجدران في الشوارع، أصبحت الزوجة متَّهمة بالعداء للرمز المقدَّس، وانتقلت التهمة إلى زوجها، فهو المسئول عن زوجته، وكل راعٍ مسئول عن رعيَّته، أصبح رستم عدو الله والوطن والرئيس.

دبَّ العراك بين رستم وكارمن في البيت، يضرب الهواء بقبضة يده غاضبًا، أنتِ السبب في كلِّ المشاكل، أنت السبب في فشلي في كل حاجة، في السياسة والأدب والكتابة …

في أعماقه جرح عميق لا يلتئم، جرح قديم مُزمِن لا يعرف متى بدأ، منذ أول لقاء أصابه السهم، والألم في صدره بدأ كالإبرة تنخس، لا يهدأ الألم حتى يراها تبتسم في وجهه، وتعترف أنَّها تحبُّه، لم تكن تعترف وتسأله يعني إيه الحب؟ يرد برسالة يكتبها إليها، يصِف لها خفقان قلبه، تسأله عمَّا يعني بالقلب؟ وهل ينفصل عن الجسد والعقل؟ يرد في رسالة أخرى يسألها ماذا تعني؟ وتقول كارمن، كلنا مرضى بالانفصام بين الجسد والقلب والعقل والروح، ويدور الحوار بينهما من ليلة الزفاف حتى الموت، لا شيء يشفيهما من المرض إلَّا كلمة الحب، مع رشفات النبيذ في الشرفة المطلَّة على النيل، كان رستم حائرًا بين العقل والوجدان، يؤمن بوجود روح خالقة ليس لها جسد، وكانت كارمن ترى أن الكون تطوَّر عبر ملايين السنين، على شكل الدائرة وليس الخط المستقيم، ويقول رستم في البدء كانت الكلمة، تسأله كارمن: أي كلمة؟ يقول كلمة الله. يعترف وهو بين ذراعيها أنَّ الفكرة لم تدخل عقله لكنها دخلت وجدانه العميق منذ الطفولة، تسأله كارمن عمَّا يعني بالوجدان! يتحيَّر رستم قليلًا ثم يقول: الوجدان هو الشعور أو اللاشعور، حيث تسكن الروح جسد الطفل وتنمو معه من المهد لتفارقه بالموت.

يذوب الخلاف بينهما في الفراش مع العناق، يلتحم الجسدان في جسدٍ واحدٍ، تصبح الكلمات بلا معنى، وتهمس كارمن عند بلوغ القمة: في البدء كان الجسد وليست الكلمة يا رستم، أعني الجسد الكلي ويشمل العقل والروح والقلب والوجدان والنخاع والعظام، ويكون رستم قد أعياه الجهد وراح في النوم العميق.

وقالت كارمن للفتاة حين زارتها في المستشفى النفسي: ما جدوى أن يربطوني بالحبال في أعمدة السرير؟ ما جدوى أن يحبسوا روايتي في الدولاب المُغلَق بالضبة والمفتاح؟

كانت كارمن راقدة في الغرفة رقم ١٤٣٨، بعد أن سلَّط الأطباء على عقلها التيَّار الكهربائي، لم تفقد الذاكرة رغم قوة الكهرباء، تعرَّفت على وجهها في ملامح الفتاة، تشبه ابنتها الغائبة من الذاكرة، ولدتها في مكان وزمان لا تدري عنهما شيئًا، راقدة وحدها في الغرفة المغلقة الأبواب بالقضبان الحديدية، تشبه الزنزانة في السجن، على رأس السرير تتدلَّى ورقة مكتوب عليها اسم المرض، زارتها الفتاة في وقت متأخر من الليل، بدت المستشفى جسدًا أبيض راقدًا في الفراغ، المرضى نائمون غائبون عن الوعي، مُخدَّرون بالسم المَحْقون في الدم، أو التيَّار المُسلَّط على الدماغ، يبدو المكان مهجورًا والزمن منتهيًا، المبنى كله غارق في غيبوبة النوم أو الموت، مرضى ومريضات، أطباء وممرضات، إلَّا هي كارمن كانت واعية صاحية تنتظر الفتاة، لم يَعُد أحد يزورها إلَّا الفتاة، ملامحها تشبه طفلة رأتها في الحلم، أو في المرآة، وهي طفلة صغيرة، كانت راقدة مربوطة بالحبال، إلى جوارها فوق المنضدة علبة الأدوية والحبوب المُنوِّمة والأقراص المضادة للاكتئاب، وإبريق الماء وصحون طعام، وكل ما يحتاجه الإنسان إلَّا الورقة والقلم، وفوق جبينها المكتوب قبل أن تولد، قرار الاتهام والإدانة …

لم يعُد في إمكانها أن تنام رغم المنوِّمات، تسرق من الليل ساعةً أو نصف ساعة، ثم تفتح عينَيها المفتوحتين منذ الولادة، وتبقى شاردةً في الأفق حتى تظهر نجمة الصباح، يصبح النهار طويلًا كالعبء تحمله وتمشي به، رغم أنَّها راقدة في السرير، تركب سيَّارتها الفيات الصغيرة وتجول بها في شوارع المدينة، إلى جوارها تجلس الفتاة، يختلسان من وراء الزمن ساعة أو نصف ساعة، يغار زوجها من الفتاة كأنَّما هي العشيق السري، أو الورقة والقلم والصفحة البيضاء، يتقرَّب إليها بأمل إبعادها عن الكتابة، من دون جدوى. ظلَّت الرواية تطاردها حتى الموت، وكانت الغرفة في المستشفى مظلمة، صف طويل من الغرف المغلقة، أبوابها من الخشب المطلي باللون الأبيض، كل شيءٍ في المستشفى أبيض حتى الكفن، وأعمدة السرير والأروقة، والأنين المسموع وراء الجدران، وكعوب أحذية الأطباء فوق البلاط، وجاء رستم في زيارة بوجه كالملاك ثم تلاشى تحت الضوء مثل سحابة الصيف. وقالت كارمن للفتاة وهي مربوطة بالحبال: افتحي الدولاب واقرئي الرواية، إنَّ الكتابة تمرين منذ الولادة حتى الموت، وتدريب على النطق من دون خوف، وهذا مستحيل لأنَّنا نعيش ونموت في خوف، النار الحارقة والكهرباء الصاعقة والأقراص المانعة للاكتئاب.

وتواصل كارمن الكلام، لا خلاص ولا أمل إلَّا بالكتابة، ترى الفتاة في عينيها الدموع، لم تهزمها إلَّا دموعها، تبقى إلى جوارها متجمِّدة داخل السكون، إنْ مدَّت يدها لتلامسها تنتفض وتصحو من الغيبوبة، تبتسم في وجهها فتدرك أنها ابنتها الضائعة منها، تريد أن تطلق سراحها من أكذوبة الحب، كأنَّما في يدها أن تطلق سراحها، وفي يدها مفتاح سجنها!

لعبة الحب كانت ترهق رستم، مثل لعبة الكتابة والانتخابات. كان يقول: الثلاثة تنقصها الأمانة وصدق النوايا، أقبح ما في الثلاثة أنَّ وجوه اللاعبين تنم عن الجد والرصانة، يتشدَّقون بكلمات فخمة مفخَّخة بالعدل والحرية، يتناثر لعابهم في الجو من شدَّة ما يضغطون على الألفاظ، يستعيرون من كتب الله ما يشاءون ويتركون ما يشاءون، كلُّهم ضحايا وآثِمون، رجال خونة، إلَّا زوجته الوحيدة دون العالمين يحبها، بعد أن يغرقها في الحب يسرع إلى نساء أخريات، كأنَّما الخيانة ليست إلَّا تأكيدًا للحب، يريد أن يشرب كئوس العالم ليعود إلى كأسه المفضَّل، وهي تكتب عنه روايتها، تناديه باسم رجل آخَر، تخلقه بشكل آخَر يروقها، لم تجذبها ملامحه الحقيقية، ولا رواياته المجلدة بأغلفة برَّاقة، ولا صورته المنشورة على الناس، تحاول التخلُّص منه في صورة الرجل الآخر، تهزُّها دموعه حين يعود إليها تائبًا، يركع بين يدَيها كأنَّما يصلي، يطلب الرحمة والمغفرة، كالطفل الباكي بين ذراعَي أمه، أو العبد المؤمن بين يدي الإله المعبود، وفي الصباح تفتح عينَيها لتجده بين ذراعَيها، تنفرج شفتاه عن ابتسامة حين يراها، ابتسامة خاصة به وحده، لا تشبه ابتسامة أي رجل آخر، تدرك عن يقين أنَّها تحبه، لن تحب أحدًا غيره، تريد منه أن يرتدي ملابسه ويخرج دون عودة.

وقال رستم للفتاة ذات يوم: أنتِ وكارمن نقيضتان، لا شيء يجمعكما إلَّا جنون الكتابة، لا يتَّسع فراش الواحدة منكما لرجل أو نصف رجل؛ فالمساحة كلها مشغولة بأوراق الرواية، والأقلام المقصوفة والدموع الجافة، تحتضن كلُّ واحدة منكما روايتها وهي نائمة كأنَّما رجل تعشقه، تريد أن تلتهمه حتى النخاع، لتلد منه طفلها ثم تُلقيه بعيدًا مثل مُصاصة قصب.

لم تكن مريم الشاعرة مثل زوجته، يشعر الرجال في حضورها أنَّها لا تشبه النساء، لا تنطبق عليها مقاييس الأشياء، لا يمكن لرجل أن يملكها وإنْ كانت بين ذراعَيه، لم تكُن زوجة ولا عشيقة ولا حبيبة ولا عاهرة ولا فاضلة، كانت هي مريم الشاعرة، وما هو غير ذلك، كانت المستحيل والسراب الذي يجري وراءه الرجال والنساء من دون جدوى، كانت قادرة على الاستغناء عن كلِّ ما يقود إلى الفناء مثل الخنساء، أو الشاعرة الزباء، تُردِّد أبياتها بعد أن اختارت الزباء الشعر بدلًا من أملاك الأرض وخزائن الخلق:

أمِنْ بعد أن أُمسي وأُصبح حرةً
وليس عليَّ للرجال يدانِ
أصير لزوجٍ مثلَ مملوكة له
لَبئسَ إذَن ما يكتبُ الملكانِ
لَعيشٌ بضُرٍّ أو بضنكٍ وحاجةٍ
مع العزِّ خيرٌ من صروفِ لسانِ

وشاعرة أخرى، هي عائشة القرطبية، قالت لرجل يريدها ولا تريده:

أنا لبوةٌ لكنَّني لا أرتضي
نفسي مناخًا طولَ دهري من أحَد
ولَوَ انَّني أختارُ ذلك لم أجبْ
كلبًا وكم غلَّقتُ سمعي عن أسَد

كانت الشاعرة تقول عن نفسها اللبوة التي لا تقبل إلا بالأسد، وهي أكثر من ذلك، لأنَّها لا ترضى أيضًا بالأسود.

عائشة القرطبية كانت من قرطبة، جرت في عروقها دماء عربية وإسبانية، عاشت الحرية وكتبت الشعر، والشاعرة عفيرة الشموس، اغتصبها عمليق الطاغوت، فخرجت إلى الناس تسبُّ الرجال من دون الإحساس بالعار:

أَيجمُلُ ما يُؤتى إلى فتياتِكُم
وأنتمْ رجالٌ فيكمُ عددُ النملِ
ولو أنَّنا كنَّا رجالًا وكنتمُ
نساءً لكنَّا لا نُقِرُّ بذا الفعلِ
فموتوا كرامًا أو أميتوا عدوَّكم
ودبُّوا لنار الحرب بالحطبِ الجزلِ
فَلَلبينُ خيرٌ من تمادٍ على أذى
وَلَلموتُ خيرٌ من مُقامٍ على ذلِّ
فبُعدًا وسُحقًا للذي ليس دافعًا
ويختالُ يمشي بيننا مشيةَ الفحلِ

وتنشد مريم الشاعرة أبيات الخنساء، التي ترفض الزواج من رجل يقولون عنه سيِّد العرب، وهي تراه غير ذلك:

معاذَ الله ينكحني حَبَرْكي
قصيرُ الشِّبرِ من جُشمِ بنِ بكرِ
ولو أصبحتُ في جُشمٍ هديًّا
إذَن أصبحتُ في دنسٍ وفقرِ

والشاعرة هند أم الخليفة معاوية، شاركت في حروب قريش ضد النبي محمد، وبقرت بطن عمه حمزة:

شفيتُ من حمزةَ نفسي بأحَد
حتى بقرت بطنه عن الكبد

والشاعرة ليلى الأخيلية فرضوا عليها الزواج من رجل لا تريده فاستمرت على حبِّها للرجل الآخر واسمه توبة، تلتقي به في العلن وليس الخفاء، وتكتب له أبيات شعرها، كانوا يرونه رجلًا قبيحًا وهي تراه أجمل البشر:

لو رأيت توبة بأم عينيك لتمنيت أن تحمل منه كلُّ امرأة في بيتك طفلًا.

وسألها الخليفة عبد الملك بن مروان: ما رأى توبة فيكِ حين هويك؟ قالت: ما رآه الناس فيك حين ولوك.

والشاعرة أم الورد التي سخرت من زوجها وقالت: والله لا يمسكني بضم ولا بتقبيل ولا بشم.

والشاعرة رابعة العدوية، اغتصبوها وهي طفلة في سوق الإماء، هجرت الرجال وأجسادهم، وعاشت مع الشعر وحبها لرمز العدل، والله:

قد هجرتُ الخلقَ جمعًا أرتجي
منكَ وَصْلًا فهو أقصى مُنيتي

تتألق مريم الشاعرة وهي تنشد أبياتها، وأبيات غيرها من الشاعرات، يشرئب عنقها الطويل وهي واقفة خلف الميكروفون، تتألق تحت الأضواء، يضمر لها الرجال والنساء الكراهية والإعجاب، يرمقونها بحسد، عيناها تتجاوزان رءوسهم، ترتفع فوق الأنوثة والذكورة وحدود الأشياء، يقولون عنها مزدوجة الجنس متعدِّدة الهويات، يفتِّشون في حياتها عن شيء يخدش الحياء، أو فضيحة تمس الكبرياء، يغتابونها من خلف ظهرها، يكيلون الثناء في حضورها، لا تهتم بالمديح أو الهجاء، تستمد قيمتها من نفسها، ولا يعرف رأسها الانحناء.

•••

فوق رمال الصحراء في ليلة دافئة، قال رستم للفتاة وهي بين ذراعيه: عاوز أعترف لك بشيء لم أعترف به لنفسي. لم ترَ في عينيه مثل هذه الدموع، قلبه كان ينوء بإثم ثقيل، في العاشرة من عمره كان راقدًا في السرير، إلى جواره خالته، زوجها كان في السجن بتهمة قلب نظام الحكم بالقوة والعنف، لم يحمل زوجها في حياته آلة قتل، كان يحمل القلم ويكتب قصائد شعر، أحد أبياته قال فيه: نحن شعب من العبيد، نسعى وراء لقمة الخبز، في ظل صاحب الجلالة، الجالس فوق العرش مدى الحياة. همست خالته في أذنه، أنت جميل يا رستم، لم تكن أمه موجودة بالبيت، قال أبوه إنها تركته من أجل رجل آخر، وقالت خالته إن العكس هو الصحيح، طلَّق أبوه أمه بسبب امرأة أخرى، لم يعرف رستم الحقيقة وهو طفل، تحوطه خالته بذراعيها الحانيتين، يبكي فوق صدرها على أمه الغائبة، وهي تبكي فوق صدره على زوجها المحبوس، تمسح دموعه بشفتيها وهي تقبِّله في خدَّيه، تهبط شفتاها إلى فمه تلثمه وتهمس، أنت جميل يا رستم، ينام فوق صدرها وهي تهدهده، يغمض عينيه متظاهرًا بالنوم، مستسلمًا لذراعيها، مستشعرًا لذة تلامس الجسد بالجسد، يدرك على نحو غامض أنَّها من جنس آخر، ربما هي الأنثى وهو الذكر، ربما تكون اللذة آثمة عقابها النار بعد الموت، لم تكن فكرة الموت تطرأ له وهو طفل، فما بال وجود نار بعد الموت، ينام في حضنها حتى الصباح، تعد له الفطور واللبن الحليب، يشربه وهو مطرق الرأس، لا يقوى على النظر في عينيها، يراها الشيطان الذي أخرج آدم من الجنة، في الليل تبدو له كالملاك الطاهر، تسري الحرارة من جسدها إليه، تهمس في أذنه: أنت جميل والله يحب الجمال … تقترن اللذة بالجمال بالحب بالله وخالته، ماتت بعد عام واحد من موت زوجها في السجن، ارتدت ملابس الحداد السوداء، بدت له امرأة غريبة لا يعرفها، لم تَعُد تحوطه بذراعيها في الليل، ولم يَعُد يشعر باللذة مع امرأة غيرها، يستعيدها بعد موتها عن طريق الخيال، كانت حبه الأول والأخير، انحفرت صورتها في وجدانه، مع صوتها الهامس في أذنه.

– وأنتِ ما ذكريات طفولتك؟

– لم تكُن لي طفولة.

– أنتِ محظوظة.

– ليه؟

– ليس عندك ذكرى مؤلمة تشوِّه لذة الحب، والرجل في حياتك إنسان من البشر، لكنَّ المرأة في حياتي مجرَّد وسيلة لاستعادة لذة قديمة في الطفولة.

– غياب الطفولة يعني غياب الجذور، يعني شجرة معلَّقة في الهواء تذروها الرياح.

– أو هووه! أنت من تلميذات سيجموند فرويد! الطفولة ليست كل شيء، أعظم المبدعين في العالم لم تكُن لهم طفولة، لم تكُن لهم أسرة، لا أب ولا أم ولا شيء، تنشأ الإرادة الإبداعية من الحرمان وليس من الشبع، أنا أعاني من الشبع وفقر الروح.

يدور الحوار بينهما داخل حلقة مفرغة، ينتهي دائمًا بكلمة غامضة، مثل الروح، تحسُّ به بعيدًا عنها، رغم وجوده معها في الفراش، كأنَّما هو روح بغير جسد، غير قابل للإمساك به، وإن مدَّت ذراعها وأمسكت به يظلُّ بعيدًا عنها، يزيد البُعد من شوقها إليه، تتأجَّج شهوتها لجسده حين لا يكون جسدًا، تفكِّر في هذا التناقض وهي بين ذراعَيه، تريد أن تعيش الحب دون أن تفكِّر، تريد أن ينفصل عقلها عن جسدها من دون جدوى، ربما كانت تنشد امتلاكه من خلال الحب، أو تنشد تحرير نفسها من فكرة الامتلاك، رغم استحالة الشيء، أصبح رستم في حياتها ضرورة لا تستطيع الاستغناء عنه، رغم ضرورة الاستغناء، تضعف إرادتها مع كل قطيعة وابتعاد، تعود إليه أكثر خضوعًا وأكثر حبًّا، وأكثر غضبًا منه ومن نفسها، وأكثر كراهية له ولنفسها.

وقالت جمالات: هذا الحب مريض يا عزيزتي، اخلعي هذا الرستم من حياتك، اخلعيه كما تخلعين الحذاء، اجعليه حذاءً في قدمك ليجري وراءك، ولا تجعليه تاجًا فوق رأسك ليلوي عنقك.

إن جاءها صوته عبر أسلاك التليفون فسوف تتلاشى نصائح جمالات في الفضاء، مثل أوراق الشجر في الخريف تذروها الرياح، ويعود إليها صوت مريم الشاعرة، لحظة الحب في ضوء القمر تساوي ألف عام … وفي المستشفى النفسيِّ تقول لها كارمن: الحب مثل الحياة لا يعرف إلَّا الأمل، ولا يكف عن ولادة الحياة من جديد. لم تكُن كارمن تطيق كلمة الولادة، تقول: النساء يفكرون في الولادة طول الوقت، أعني ولادة الأطفال، تخاف الواحدة منهن كلمة عاقر كالموت، وأخطر منها كلمة عانس، تجري النساء وراء الرجال ليس بسبب الحب، ولكن من شدَّة الخوف، ليس له علاج إلَّا …

وتطبق كارمن شفتيها في إعياء، تتعلَّق بهما عينا الفتاة، قلبها يدق تحت ضلوعها، تلهث وهي جالسة إلى جوارها، المستشفى غارقة في الظلمة والصمت، الكون كله نائم إلَّا هي جالسة في مقعدها، وكارمن راقدة في سريرها، يأتيها صوتها كأنَّما من أفق بعيد، كأنَّما تمسك روحها بيدها، وتحلِّق بها فوق المدينة، تنفرج شفتاها عن صوت هامس كمَن تتكلَّم في النوم، تخشى إنْ رفعت صوتها أن تصحو: إلَّا إيه يا كارمن؟

ويأتيها الرد بصوت لا يشبه صوت كارمن قبل أن تدخل المستشفى، قبل أن يسلِّطوا على رأسها تيار الكهرباء: إلَّا الكتابة يا ابنتي.

ترن كلمة ابنتي في أذنَيها، أول مرة تسمعها بصوت كارمن، صوتها أصبح ضعيفًا خائرًا، مثل صوت امرأة مكسورة الجناح، زوجة مهجورة أو أم مكلومة، ليست هي كارمن التي عرفتها.

كانت الفتاة حائرة، يدور السؤال في رأسها، هل تختلف أحزان المرأة عن أحزان الكتابة؟ ويسألها رستم وهل تختلف أحزان الرجل عن أحزان الكاتب؟

تلجأ الفتاة إلى سميح، يقول لها: الكتابة ترفع الرجل عمَّا يُسمى الرجولة، وترفع المرأة عمَّا يُسمى الأنوثة، الكتابة ترفع الإنسان إلى مستوى أعلى من الفروق القائمة بيننا.

وتقول مريم الشاعرة: يضحِّي النساء بالكتابة من أجل الرجل، وبالحرية من أجل الحب! منتهى الغباء.

كلمات مريم ترفع الفتاة إلى أفق جديد، كأنَّما تمسك روحها بيدها وتحلِّق بها فوق السحاب، تسبقها في التحليق فوق قمم الأهرامات، ثم تتركها خلفها تتخبَّط بين السماء والأرض، مُعلَّقة في الفضاء مثل السؤال المُعلَّق في رأسها، هل أحبَّ رستم خالته ولم يحب امرأة غيرها؟ كان يقول عنها أجمل امرأة، لم يعرف امرأة أرق منها، لم يكن ما فعلته إثمًا، بل الحب النادر، أكبر من حب الأم، تعيده إليها لتلده مرة أخرى أكثر تجدُّدًا.

تنهشها الغيرة من خالته الميتة، غريمتها ليست امرأة لها جسد، بل خيال أو صورة يحلم بها رستم في الليل! فهل يمكن لها أن تنافس خيالًا أو صورة تعيش في ذاكرته مثل الروح؟ وتقول جمالات: أنتِ مجنونة ومكانك المستشفى مع كارمن. ويقول سميح: الكتابة مثل الحب تنبع من قمة الجنون. لكن مريم الشاعرة تقول: الكتابة مثل الحرية تنبع من قمة العقل.

•••

كان يومًا من شهر أغسطس، أسفلت الشارع يلين تحت حذائها من شدَّة الحرارة، التراب يتصاعد إلى أنفها مع رائحة المجاري وزيت يغلي على النار، الزحام شديد، وجوه شاحبة مبلَّلة بالعرق مثقلة بالحزن، نظرات غاضبة مكتومة تختفي تحت غطاء أملس ساكن مثل سطح البركان، رءوس النساء ملفوفة بحجاب أبيض أو أسود، أو متعدِّد الألوان، عيونهم مُطرِقة إلى الأرض، خطواتهم ثقيلة بطيئة، السيارات تتسابق وأصوات الأبواق تزعق مع أصوات الميكروفونات وصراخ الأطفال، وعويل النسوة وراء نعش ميت، الشمس عمودية ترسل لهبًا، الرطوبة بلغت ذروتها وضاعفت الحرارة.

توقفت الفتاة لتمسح العرق عن وجهها بمنديل من الورق، لمحت في هذه اللحظة رأس رستم داخل السيَّارة المرسيدس، شَعره الأسود الغزير تتخلَّله الشعرات البيض، بشرته الملوحة بالشمس، يداه فوق عجلة القيادة تتحرَّكان بثقة وثبات، إلى جواره امرأة شعرها أبيض، ينظر إليها ويداه فوق عجلة القيادة، في عينَيه ابتسامة لم ترها أبدًا، سألته عنها حين التقت به في الليل، أنكر أول الأمر، ثم اعترف أنَّها صديقة له منذ سنين طويلة، تجمعه بها علاقة خاصة، وقال خاصة جدًّا.

بصوتها الخائر في المستشفى كانت كارمن تقول: رستم كان يعيش أسيرًا للماضي، مثلي، كنت حبيسة الخيال الذي يعجز الواقع عن بلوغه، أحاول عن طريق الكتابة أن أسدَّ الهوة بين الخيال والحقيقة، من دون جدوى، ما إنْ أنتهي من كتابة رواية حتى أبدأ رواية أخرى، كأنَّما الكتابة محاولة لتحرير الجسد من قبضة الروح.

– الروح؟!

– أحاول البحث عن كلمة أخرى غير الروح، لأنَّ الكلمات القديمة لم تعُد صالحة، الماضي حقيقة ميتة، نحاول إحياءها بالخيال عن طريق الكتابة، وكان رستم يخلط دائمًا بين الأشياء، مثلي تمامًا، نحن نتوارى خلف الكتابة لنفعل ما نشاء، لنعيش الحرية بصرف النظر عن الأخلاق.

– وما هي الأخلاق؟

– الوفاء بالوعد أو الإخلاص في الحب، لأنَّ الحب لا يخلص إلَّا للحب، والصدق لا يخلص إلَّا للصدق حتى في الخيال.

تطرق الفتاة برأسها في صمت طويل، تفكِّر في هذه الكلمة: الصدق! لم تعرف في حياتها الصدق، لم تحب رستم ولا سميح، في خيالها رجل من مادة أخرى غير الجسد وغير الروح، تتفادى كلمة الصدق في روايتها، ربما لأنَّها ليست كاتبة مثل كارمن، ولا شاعرة مثل مريم، ولم تقرأ كلمة الله كما قرأتها جمالات، لا تستطيع أن تخلق من خيالها قصة حب لم تحدث، تبدو لها قصص الحب من وحي الخيال المصنوع بأوهام الطفولة.

كان سميح يبعث في نفسها الطمأنينة، تلجأ إليه حين يستبد بها الوهم، حين يشتد حنينها إلى رستم تسعى إلى سميح، يعرف أنَّها لا تقصده هو بالذات، ليس هو الوحيد في حياتها، وليست هي الوحيدة في حياته.

الشمس غربت في ليلة صيف رقيقة، والفتاة تمشي على الشاطئ في جاردن سيتي، لمحت الضوء في غرفة رستم المطلَّة على النيل، ترددت لحظة، هل تسير إلى بيته وتدقُّ الجرس؟ تخيَّلته جالسًا يكتب، أو شاردًا يرشف النبيذ وحده، توقفت عند الباب، ارتفعت يدها نحو الجرس ثم هبطت، الأفضل أن تستدير وتعود من حيث أتت، كان سميح في معرض الكتاب في دمشق، وكارمن في المؤتمر الأدبي في نيويورك، يبدو الحي خاليًا من سكانه، يهربون من الحر إلى الساحل الشمالي، أو شواطئ البحر جنوب أوروبا، جمالات كانت تقضي الصيف مع أختها في رأس البر، تصبح الشقة لها وحدها، تأخذ حمَّامًا بالماء الساخن وتتمدَّد في سريرها، تغمرها لذة الوحدة، تشعر برغبة في شيء غامض، تمتد يدها إلى القلم، ترسم فوق الورقة وجوهًا بلا ملامح، وأشكالًا لا معنى لها.

وهي جالسة ممسكة بالقلم سمعت دقة الجرس، دخل رستم يرتدي قميصًا أبيض ناصع البياض، جدران الشقة بدت داكنة سوداء، في يده وردة حمراء وكتاب غلافه أزرق، كان عائدًا لتوِّه من شاطئ البحر، بشرته ملوحة بالشمس، صوته متحشرج قليلًا كأنَّما أفرط في شرب النبيذ، وحرقته الشمس مع مياه البحر المالحة، كلماته تتلعثم على لسانه، ثم قال بصوت قاطع: عاوز أقولك كلمة أخيرة.

اخترقت كلمة أخيرة أذنها مثل شفرة المُوسَى، بدت الصالة ضيِّقة مكتومة الهواء، جدرانها كالحة مبقَّعة، المقاعد مهترئة، برزت أسلاكها من القماش الأصفر الباهت، قميص نومها مكرمش أكمامه ممزَّقة، تفضح فقرها، نامت فيه وبكت أكثر من ليلة، ربما تفوح منه رائحة عرق ودموع، لم يكُن عندها وقت لترتدي شيئًا آخَر، فوق المنضدة ورقة بيضاء مرسوم عليها نغبشة وحروف مبتورة، تفضح عجزها عن الكتابة.

هرب الدم من وجهها وهي جالسة، تتلقى كلمته الأخيرة مثل مطرقة، تضرب رأسها ضربة واحدة، ويدب الصمت، لم تسمع إلَّا خرير ماء يتساقط من الصنبور البالي فوق بلاط الحمَّام، ومن شارع المبتديان جاء صوت ميكروفون حاد، ثم عاد الصمت ثقيلًا، وهي جالسة وهو إلى جوارها جالس، داخل الجدران الأربعة، كأنَّما يضمهما سجن واحد.

الصالة والشقة كلها تنتمي إلى جمالات، تحلِّق روحها عليهما من السقف والجدران، باب غرفتها مفتوح، سريرها عريض يعلوه لحاف أحمر لامع، فوق نافذتها ستارة سميكة رمادية بلون حجابها، ثلاثة أحذية تحت السرير، كعوبها عالية رفيعة مُدبَّبة، حذاء منها مقلوب فوق وجهه، كعبه مكسور، التسريحة بجوارها النافذة، فوقها باروكة شَعر ومكحلة وأصابع روج وعلب بودرة وقلم حواجب وزجاجات عطر، عود بخور منطفئ عند المنتصف، وفنجان قهوة رشفت نصفه قبل أن تخرج، وتركته فوق المنضدة، مرسوم على حافته آثار شفتَيها الحمراوين.

غمرها الحنين إليها وهي جالسة صامتة، بدا رستم داخل المكان الأليف رجلًا غريبًا، لا ينتمي إليها ولا تنتمي إليه، من جنس آخر وزمان آخر أو ربما من كوكب آخر.

لأول مرة تشعر أنَّ جمالات أقرب إليها من رستم، تلفُّهما عاطفة حقيقية، كالأم وابنتها، ورستم مجرد طيف، يظهر ويختفي، ولا يمنحها إلَّا الخيال.

اقترب منها وأمسك بيدها، حوَّطها بذراعَيه، تركت له جسدها مثل وسادة يضع عليها رأسه وينام، لم تشعر بشيء إلَّا أنَّ الجسد شيء ما تملكه مصنوع من الوهم، وتذكَّرَت كارمن، كانت تراقبهما من بعيد، استأجرت جاسوسًا يتبع زوجها أينما يذهب، يرقبهما من منظار في السقف له عدسة سحرية، كان يعانقها وهي تفكِّر في كارمن، يصرفها التفكير عن الإحساس باللحظة الحاضرة، صوته مشروخ متحشرج تخنقه دموع، كلماته مبتورة:

أخيرًا … فكَّرتُ … الحل الوحيد … نقطع العلاقة … تمادينا فيها … أكثر من اللازم … دي كلمتي الأخيرة … الأخيرة …

كلمة الأخيرة مثل السوط يضرب به وجهها المرة بعد المرة، تلتقي الضربات بشيء من الألم لا يخلو من اللذة، تدرك عن يقين أنَّها لن تكون الأخيرة، وإن ردَّدها مئات المرات، آلاف المرات، لن تكون أبدًا الأخيرة. وتهمس بصوت غير مسموع: أنتَ تتلاعب بالكلمات لتنال ما تشتهي، ويغمرها بقبلات محمومة، فوق رأسها وشَعرها وعنقها، يزحف بشفتَيه الساخنتين فوق جسدها، والدموع في عينيه، مسحتها بكف يدها، قبَّلته بحنان الأم، ابتعد عنها وهو يساوي شعره ويعدل قميصه الأبيض: آسف، أنا مجنون، وأنتِ عاقلة جدًّا، عاقلة زيادة عن اللزوم، أنتِ كاتبة فعلًا.

وقال لنفسه بلا صوت: هي باردة مثل كارمن، أو فاترة، كانت المرة الأولى التي يُقبِّلها فوق الشفتين، ربما هو الخجل مثل العذراوات، أو الخوف، أو شيء آخَر تراه في عينيه وعيناها مغمضتان، أصابعه ترتعش زاحفة فوق جسدها، عيناه مغمضتان وذاكرته مفتوحة على الماضي، يقبِّلها بحرارة الذكرى الطفولية، ابتعدت عنه قليلًا وهي تساوي شَعرها المنكوش، صوتها لا يكاد يُسمع: نسيت اللي قلته؟

– قلت إيه؟

– قلت لازم نقطع علاقتنا.

– آه صحيح.

اعتدل في جلسته وابتسم، ذاكرتك قوية تُحسَدين عليها، وهي موهبة تساعدك على الكتابة.

– آه صحيح، لازم نقطع هذه العلاقة، لا يمكن أن نخون ثقة كارمن وسميح، دي أنانية مطلقة خالية من الضمير!

– الضمير؟

– أَيْوه الضمير!

– الحب لا يعرف شيء اسمه الضمير، الحب هو الضمير نفسه.

– أرجوك كفاية تلاعب بالكلمات.

•••

قبل أن تدخل كارمن المستشفى قرَّرت أن تُنهي الرواية، بدت لها رواية خالية من الأحداث العظيمة، الحرب في العراق والمذابح في فلسطين، المظاهرات الشعبية في بلاد العالم، حركات المقاومة ضد الحرب، وضد الفقر والعولمة، رواية تافهة غارقة في حياة أفراد لاهين بالحب والنبيذ والخيانات، أمسكت الرواية لتُلقي بها في صحيفة القمامة، ثم تذكَّرت أن رستم كان يخوض معركة الانتخابات، وهي معركة حامية تشبه الحرب في ساحة القتال، زمن الحرب عند رستم هو زمن الحب، في طفولته يغمره الحنين إلى أمه وهو يهتف في المظاهرات: لا للحرب لا للاستبداد.

•••

استيقظت الفتاة من النوم على صوت المفتاح يدور في الباب، كعب جمالات العالي يدُّق بلاط الصالة، تهمس بصوت خافت وهي تدخل الحمَّام، بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تطرد الأرواح الشريرة القابعة في جدران المرحاض، تتشمَّم الإثم في هواء الشقة الراكد، ترتدي شبشبها البلاستيك، تزحف قدماها فوق البلاط، تبسمل وتحوقل، تمط أنفها هنا وهناك تتشمم الهواء.

– رستم كان هنا؟

تتفادى الفتاة النظر في عينَيها، تهزُّ رأسها علامة النفي أو الإيجاب، سيان، لم تعُد جمالات تحتل في عقلها مساحة كبيرة، لم تفهمها على حقيقتها أبدًا، تتربَّع في سريرها في ليالي الشتاء متدثرة بلحافها الأحمر، إلى جوارها فوق الكوميدينو طفاية السجاير، مليئة بالأعقاب حتى الحافة، تدسُّ السيجارة بين شفتيها الحمراوين، تتمتم بآيات القرآن، ترشف النبيذ الرخيص يلسع الحلق كالسبيرتو، تتبع كل رشفة بشفطة دخان، تكيل الحمد لله على ما أعطاها من نعم الدنيا، وما يغفر لها في الآخرة من ذنوب، تُفسح للفتاة مكانًا إلى جوارها في السرير، وتحكي عن المرحومة أمها وزوجها المجحوم.

– كان جوزي راجل حِمش، في ليلة سمعني بتكلم وأنا نايمة، كان المسدس تحت مخدته من أيام ما كان في الجيش، يظهر سمعني بحلم بواحد غيره، الدم غلي في راسه وضربني بالنار، ربنا ستر والطلقة طلعت أوت، قال لهم في التحقيق إنه عمره ما سمع مراته بتتأوه معاه زي ما سمعها بتتأوه مع الراجل الثاني، ودمهم غلي زي دمه وطلَّعوه براءة، قوليلي إنتي بتكتبي رواية؟

– رواية؟

تتفادى الفتاة النظر في عينيها، تهزُّ رأسها علامة النفي، لم تفكِّر أبدًا في كتابة رواية، تحذِّرها جمالات من الكتابة، الله يلعن الكتابة واللي عمل الكتابة، ممكن أشيل الحجر على ضهري أسهل من الكتابة، لولا الواد بهي برغل ما كانش الباب بتاعي يطلع كل أسبوع، طول عمري أكره القراية والكتابة، لكن أعمل إيه؟ ربنا كتب عليَّ إني أكون جمالات الكاتبة الكبيرة … وتُطلق جمالات ضحكتها العالية المرحة، تبدو جذَّابة في عين الفتاة حين تضحك، يكسو البريق عينيها حين تتحدث عن الحب، تهوى قصائد العقَّاد وشوقي ورامي، تدندن بأشعار مريم وهي في الحمَّام.

ذات ليلة والفتاة جالسة إلى جوارها في السرير، امتدت يدها إلى جسدها، أرادت أن تدربِّها على ما تسميه فنون الحب، حوطتها بذراعيها وقبَّلَتها فوق الشفتين قُبلة حارة طويلة، ثم زحفت يدها إلى صدرها وبطنها، حتى المنطقة المحرَّمة.

شدَّت الفتاة جفونها لتفتح عينيها، كأنَّما تصحو من حلم أو كابوس، وسمعت جمالات تقول: الحياة الدنيا محطة قصيرة بين النوم والموت، والإنسان حيوان وقف على قدمين، إيه رأيك تدخلي معانا المجموعة.

– مجموعة إيه؟

– مجموعة بحث في علم الروح.

– الروح؟

– ورستم معانا في الجمعية.

– لا يمكن!

– ليه؟

لم تملك الفتاة الشجاعة لترد على السؤال، لم يؤمن رستم بوجود إله سماوي، فهل يؤمن بوجود الروح؟ ترنُّ كلمة الروح في أذنها مراوغة غامضة تتخفَّى وراء غلالة، تكاد تشبه وجه رستم حين يقرِّبه من وجهها، تلامسها شفتاه لحظةً ثم تنسحبان مثل الخيال أو الوهم، لا شيء يبدو حقيقيًّا إلَّا رائحة ماء الكولونيا اللافندر، تبقى في ذاكرتها مع نكهة النبيذ في الهواء، يجمع بينهما الفراق أكثر من اللقاء، يقرِّر كلٌّ منهما أن يفارق الآخر من دون عودة، ثم يعودان بقوة أكبر من إرادتهما، لا يعرفان ما هي، ومن أين تأتي، من السماء، من الأرض، من الجسد، من الروح، من شيء آخَر لا تعبِّر عنه الكلمات؟

يرتعش صوت رستم حين تسأله عن الجمعية، يقول إنه عضو غير عامل، لا يرشِّح نفسه ولا يدخل معركة الانتخابات، لا يؤمن بوجود الروح إلَّا في الخيال، في طفولته كانت خالته هي الروح المحلِّقة فوق رأس السرير، كأنَّما هي أمه الغائبة أو أبوه، تكاد تشبه صورة الله في خياله، يحبُّها ويخافها في آنٍ واحد، يتغلَّب الخوف على الحب مع إدبار الطفولة، لم يَعُد يحب النساء في شبابه، لا ينجذب إلى أجسادهنَّ، لا تُثيره أردافهن الممتلئة المهتزة مع كل خطوة، ولا عطورهن النفَّاذة، رغم قوتها لا تخلو من نكهة الحيض، ربما ينجذب أكثر إلى أجساد الشباب والفتيان، عضلاتهم مشدودة، سيقانهم رشيقة خالية من الشحم، وأردافهم نحيفة قوية.

وتضرب جمالات المنضدة بقبضة يدها، هذا الرستم عرفته من أول نظرة، يشتهي الرجال أكثر من النساء مثل قوم لوط، ثم تضحك حتى تدمع عيناها، تمسحهما بمنديل ورق كلينكس، قوم لوط ذكرهم الله في القرآن، مما يؤكد وجودهم في الحياة الدنيا، مصيرهم نار جهنم يا عزيزتي، لن يدخل جنة عدن إلَّا الرجال الصالحون الذين ينجذبون للنساء فقط، والنساء الصالحات المنجذبات للرجال فقط، لكن معصية الرجال أكبر من معصية النساء، لأنَّ قوم لوط ورد ذكرهم، أما اللوطيَّات من النساء فلم يذكرهم الله على الإطلاق في أي آية من الآيات … إيه رأيك تدخلي معانا المجموعة، عندنا اجتماع الجمعة الجاية، تعالي معايا شوفي بنفسك وبعدين قرري على مهلك.

•••

في الزقاق المظلم وراء جامع السيِّدة، داخل غرفة سقفها منخفض معبَّأة بالدخان، ورائحة المسك والبخور، الشيشة المُعمَّرة تدور عليهم بالدور، جمالات تجلس في الوسط، حيث بقعة الضوء الساقطة من لمبة معلقة، حول السلك الكهربائي ذباب أسود ميت، فوق الأرض البلاط كليم رصاصي اللون، مفروش من الجدار إلى الجدار، يتربَّعون فوقه على شكل الدائرة، تحت أردافهم شلت مربعة ملونة، أمامهم مائدة منخفضة مستديرة تشبه الطبلية، من حولهم رفوف خشبية مشقَّقة، تحمل الكتب والمجلات، وأوراق قديمة صفراء، ومصاحف جديدة مصقولة الأغلفة، ومسابح ومباخر وإمساكية الصيام، وخمسة وخميسة لطرد عيون الحساد.

أعضاء المجموعة ثلاثة وعشرون رجلًا وامرأة، لا شيء يجمعهم إلَّا الرغبة في كشف سر الرُّوح. امرأة في الثمانين من عمرها، حفيدة لأحد الأمراء القُدامى من أسرة محمد علي، طالب في العشرين من إندونيسيا يدرس الفقه في الأزهر، أرملة متوسِّطة العمر من الإسكندرية مات زوجها في الحرب، وزير سابق من مصر الجديدة هرب بأمواله ثم عاد، كيميائي صاحب صيدلية يعمل في مؤسسة الأدوية، راقصة من التائبات المعتزلات مريضة بسرطان الثدي، أستاذ جامعي متخصِّص في الطب النفسي، شيخ جامعي من حي الزمالك، قسيس كنيسة من شبرا البلد، و…

جمالات تتربَّع فوق الشلتة، يتسرَّب الوجع من جسدها والقلق، تسري في روحها طمأنينة، تشعُّ من حولها هالة من الضوء، يتطلعون إليها بعيون نصف مغلقة، تبدو لهم مثل الروح المحلقة.

كانوا صامتين وهي تتكلَّم، صوتها في الضوء الخافت كأنما يأتي من عالم آخَر، فيه بحَّة منتزعة من شيء في صدرها تحت الضلوع، ليس القلب ولا الرئة ولا الكبد ولا الطحال، لا ينتمي إلى أعضاء الجسم، كأنما يخرج من الروح.

– الروح لا يعلمها إلَّا الله، الروح غير محدودة بشكل أو جوهر أو مكان أو زمان، عقلنا غير قادر على اختراق الجسد ونزع الحجاب عن الروح.

كلامها قديم ومكتوب منذ الأزل، لكنَّ صوتها وبريق عينيها، وطريقة نطقها الكلمات وترتيبها، الكلمة وراء الكلمة مع حركة الأصابع واليدين، كأنما تعزف على آلة موسيقية غير مرئية، تخرج الكلمات العادية من فمها غير عادية، تُحدث في رءوسهم رنينًا أثيريًّا مثيرًا للحنين القديم، ونوعًا من الخدر الغامض اللذيذ، مع شفطات الشيشة العميقة حتى القاع، ورشفات النبيذ المُعتَّق منذ بداية الزمن، ويبقى صوتها في رءوسهم حتى تكفَّ عن الكلام. تتوالى أمام عيونهم ذكريات الطفولة حتى يغادروا المكان.

كان رستم متربِّعًا فوق الشلتة، متجمِّدًا في جلسته، لا يحول بصره عنها، مشدودًا بصوتها والبريق في عينيها، كأنَّما هي الساحرة في ألف ليلة وليلة، أو العرَّافة القديمة التي كشف الله عنها الحجاب، تعود إليه صورة أمه أو خالته الميتة، وصوت أبيه حين كان يرتل الآيات في مولد النبي.

وكانت هي ليلة المولد، يعود إليه صوت أبيه يشبه صوت جمالات وهو طفل صغير، كرَّم الله الرسول محمد في بطن أمه، رأت أمه في المنام كأنَّما خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وقيل لها إنكِ حملتِ بسيِّد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي: أعيذه بالواحد من شرِّ كل حاسد. وقال أبوه إنه رأى في منامه كأنَّ سلسلة من فضة خرجت من ظهره، لها طرف في السماء وطرف في الأرض، وطرف في المشرق وطرف في المغرب، ثم عادت كأنَّها شجرة على كل ورقة منها نور.

وتتَّسع عيناه الكبيرتان كعينيه وهو طفل، مع دوائر النور الساقطة من السقف، ورائحة البخور والصندل المحروق والند، وظلال الأشباح المنكسة على الجدران، والتمتمة الهامسة بالآيات المقدَّسة، والإحساس الطاغي بالإثم، يضمُّ ركبتَيه وهو جالس فوق الشلتة، كما كان يفعل وهو طفل في الفراش، يتكوَّر كالقنفذ حول نفسه، يستشعر اللذة والخوف من الله، والحنين إلى أمه، تتجسَّد أمامه على شكل أختها التوأم، يعود جنينًا في بطنها، تهمس في أذنه، أعوذ بالواحد من شرِّ حاسد، رأيت في المنام كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهري، لها طرف في السماء، وطرف في الأرض، ثم أصبحت شجرة على ورقة منها نور، ستكون يا رستم سيد هذه البلاد تنقذها من الطغيان والفساد.

وتذكَّر رستم حلم طفولته، كان يرى نفسه نبيًّا حملت به أمه تنفيذًا لأمر الله، من أجل إنقاذ العالم، أراد أن يدخل الجيش ويتدرَّب على السلاح، لم يكُن يحب القتل ومنظر الدماء، كان عقله مرتبًا يميل إلى التفكير العميق، وقراءة كتب الفلسفة والروايات، لم يستطع إنقاذ العالم عن طريقة الفلسفة ولا كتابة القصص … وقال سميح: لا يمكن إنقاذ العالم إلَّا عن طريق مجلس الشورى أو النواب.

•••

لم تدخل مريم الشاعرة هذه المجموعة، لم تكن تبحث عن الروح، تجمعها بجمالات صداقة قديمة منذ الطفولة، عرفت جمالات الحرمان والشقاء والاغتصاب، كانت طفلة في الحادية عشرة حين أصبحت أمًّا لطفلة غير شرعية، لم تنظر في وجهها بعد أن ولدتها إلَّا لحظة خاطفة، انحرفت فيها عيناها إلى الأبد، تراهما وهي في غيبوبة النوم، وتراهما وهي تمشي في الشارع، أي شارع وأي زقاق، حين تلتقي عيناها بأي طفل أو طفلة. لم تلجأ إلى الله أو الصلاة من أجل الغفران، بل بهدف النسيان، من دون جدوى، بقيت العينان في عينيها ثابتتين، قاطعتين كحدِّ السكين، وإنْ أغرقَتْ عقلها بالنبيذ، وأحرقت صدرها بالدخان، وداست على قلبها بالحذاء، ونامت مع النساء والرجال، وضحكت وقهقهت وتهتَّكَت وتعرَّت وتحجبت وفعلت الخير أو الموبقات، تظل العينان في عينيها كأنَّما أصبحت جزءًا منهما أو كأنما هما عيناها.

وتبتلع مريم الشاعرة دمعة كبيرة حبيسة، تخفي بيدها عينيها لحظة طويلة كأنَّما نامت، تتحرَّك يدها قليلًا من شدَّة الإعياء، تظهر عين واحدة، واسعة وحمراء، شاخصة إلى السماء ثابتة لا يطرف لها جفن، كأنما بلا جفون ولا رموش، كأنما احترقت جفونها ورموشها من البكاء، تكاد تشبه عين الفتاة المحروقة بالكبريت والجاز.

تنحدر الدمعة الحبيسة فوق وجه مريم الجالسة مثل تمثال، لا شيء يتحرك فيها إلَّا شفتاها … جمالات صديقة عمري، أحبُّها بجنونها، وهي مشعوذة مثل قارئات الكف والفنجان، وضاربات الودع والكوتشينة، قرأت في المدرسة وهي طفلة شيئًا في علم النفس، تدرَّبت على أن تلمس في الناس نقطة الضعف، تعزف عليها مثل الوتر المشدود في العود، تحاول من خلال المجموعة أن تكسر قوقعة الحزن، أن تحطِّم جدران الخوف، أن تطلق سراح ذاكرتها الطفولية، أو روحها الحبيسة.

رنَّت كلمة «روحها» في أذن الفتاة، اتَّسعت عيناها بذهول كأنَّما تصحو من نوم طويل عميق، تردَّدت الكلمة في رأسها: روحها، روحها. أتؤمن مريم الشاعرة بوجود الروح؟ ترى السؤال في عينيها، تواصل كلامها كأنَّما سمعتها.

– الروح هي الحرية، نحن ننشد الحرية منذ الولادة حتى الموت، نحن ننشد الحرية في الحب وفي الكره، حتى يصل الجسد إلى قمَّة اللذة أو قمَّة الألم، تنطلق المعرفة الحبيسة في العقل على شكل الصرخة الممدودة إلى الأبد، لا تختلف صرخة اللذة عن صرخة الألم، فالهدف واحد، الانطلاق من القيود والأغلال المزمنة منذ الأزل.

وتنهَّدت مريم الشاعرة تنهيدة عميقة، وأنشدت بصوت الحالمة في النوم، قدماها ممدودتان على حافة السور الخشبي للسفينة على شاطئ النيل:

الحرية هي المعرفة،
والهدف من كلِّ شيء،
حتى الشعر والرواية!
وإلَّا لماذا
تكون الطبنجة في السجن
أكثر براءة
من الورقة والقلم؟

مطار القاهرة يكاد يكون خاليًا قبل طلوع الفجر، سحابة سوداء وشبورة كثيفة تمنع الرؤية، الجو مشبع بالرطوبة والدخان وبخار الماء، منتصف شهر أغسطس، صوت عجلات الطائرة تنزلق فوق أسفلت الممر بسرعة الضوء، تنفصل عن الأرض في لحظة خاطفة وتحلِّق في السماء، كأنَّما يفرد سميح ذراعَيه ويطير بجناحين، يرتفع فوق بيوت المدينة، والعمارات والمآذن والأبراج، وكل الأشياء، يدب رجال البوليس بكعوب حديدية على الأرض، يظهرون ويختفون كالأشباح، والصحف الصفراء تغرق الأسواق بلون الوباء الكبدي، تتوالد وتتكاثر مثل الذباب، العناوين الكبيرة بالحبر الأحمر، عن الدم المراق في فلسطين والعراق وأفغانستان، والأموال المُهرَّبة خارج البلاد، وتزايد الفقر والهوة بين العبيد والأسياد، وانتشار كلمة الهوية في الكتب والمقالات، والتسابق لنشر الأخبار عن بنات الهوى والحمل السفاح، ومخادع الرؤساء والملوك في العصور السابقة، أو في البلاد البعيدة فيما وراء البحار.

عند بوَّابة المطار وقفت ثلاث نسوة بالجلاليب والطرح السود، ينتظرن وصول الميت داخل الصندوق، ورجل عجوز محني الظهر يمسك بيد طفلة ناعسة تبربش بعينيها فيما حولها من دون وعي، والفتاة كانت واقفة عند باب الخروج تحملق في ظهر سميح وهو يمشي، يجرُّ من خلفه حقيبة كبيرة لها عجلات، ملمس شفتيه على وجهها لحظة الوداع، شفتان دافئتان ناعمتان تنسحبان عنها في رقة الهواء، كانسحاب الروح من الجسد.

– سميح؟

توقَّف لحظة ثم استدار، رآها واقفة عند الباب، عيناها شاخصتان إليه، ثابتتان، قاطعتان كحدِّ السكين، انفرجت شفتاها وابتسمت، لوَّحت له بيدها، رفع ذراعه ولوَّح بيده، صوته يسري في أذنها منذ الليلة الماضية، في جيبه الورقة مكتوب عليها العنوان بخط يدها، اسم يولاندا واسم الشارع، ورقم البيت، والمطعم، سوف تدعوه يولاندا إلى صحون الباييلا مارنيرا والنبيذ الكاتالاني وتمنعه من الانفراد بالطفلة، تخشى أن تهرب بها إلى المطار، تتشبَّث بها وتقول بكلمات كاتالانية وإشارات بيدها إلى قلبها، وسميح يرد عليها بالإشارات وكلمات عربية.

– نورية حفيدتي ابنة ابني فرانسيسك.

– نورية ابنتي أنا.

– ومَن أنت؟

– أنا سميح … أبوها.

– وكيف عرفت أنَّك أبوها؟

– ملامحها تشبهني بالضبط، نسخة طبق الأصل منِّي.

وتضحك يولاندا في سخرية، تلفظ كلمة «ملامح» بطرف لسانها، ليس عندنا كلمة ملامح في القانون الكاتالاني، فالملامح تتشابه؛ يخلق من الشبه أربعين كما يقولون عندنا في كاتالونيا، القانون عندنا يعتمد على حقائق العلم.

تقصدين تحاليل الدم واﻟ… DNA؟

– أَيْوه، أثبت التحليل في المعمل أنَّها ابنة فرانسيسك.

– العلم مثل أي شيء في الحياة لا يمكن أن يكون مائة في المائة، هناك دائمًا ما ينقص الشيء ويمنعه من أن يكون كاملًا إلَّا الله، هو وحده الكامل.

– أتؤمن بوجود الله يا سميح؟ نحن هنا في كاتالونيا لا نؤمن إلَّا بالعلم والحقيقة.

– الحقيقة ليست مطلقة يا يولاندا، الحقيقة نسبية وهناك دائمًا شيء ينقص الحقيقة يمنعها من أن تكون كاملة.

تتذكَّر الفتاة هذه العبارة الأخيرة، كان رستم يقولها عن الحب، إن هناك دائمًا ما ينقص الحب ليكون صادقًا، وما ينقص الفضيلة لتكون فضيلة. وكانت كارمن تقول: هناك دائمًا ما ينقص الرجل ليكون رجلًا، ورستم يسعى لتبرير الفساد بنظرية النسبية.

•••

فوق السرير في المستشفى رأتها راقدة في غيبوبة، فكوا عن جسدها الحبال، رأسها مربوط بتيَّار الكهرباء، ذراعها مرفوعة فوق الوسادة، داخل الوريد إبرة تنقل إليها السائل من زجاجة معلَّقة في الهواء، شفتاها لونهما أبيض، صدرها ساكن إلَّا من حركة غير مرئية.

نادت بصوت خافت: كارمن ارتعشت رموشها المتلاصقة فوق الجفون المغلقة، لم تنفرج شفتاها عن صوت، جلست إلى جوارها على طرف السرير داخل الصمت كأنَّما إلى الأبد، بدت اللحظة الحاضرة ممدودة في الماضي الميت والمستقبل غير الموجود، مدَّت يدها لتلمسها فارتجفت، كأنَّما تلمس جسدًا ميتًا، جاءت الممرِّضة وهمست في أذن الفتاة: كانت بتسأل عنك طول الوقت.

– عني أنا؟

– كنت فين؟

– في برشلونة.

– كلِّميها يمكن تسمعك.

– هي صاحية؟

– عقلها صاحٍ، كلِّميها يمكن ترد عليكِ.

ناولتها الممرضة شيئًا وعيناها ترقبان الباب، وضعته في يدها، وهمست في أذنها، افتحي الدولاب قبل ما يوصلوا، الرسالة أمانة، خدي الرواية واهربي، كان نفسها تشوفك وطول الوقت تسألني بنتي راحت فين.

كان الظلام يهبط، والمستشفى يصبح في الكون الأسود نقطة بيضاء، والرجال الثلاثة داخل سيَّارة طويلة سوداء، تتحرَّك على مهل من وراء الحجاب، تبدو من بعيد كالشبح، أو الروح القدس، وكان الشارع مليئًا بالحفر والمطبات، على حافة بين الأرض الأسفلت ورمال الصحراء.

من النافذة رأتهم الفتاة، واقفة منتصبة مثل تمثال، تقاطيع وجهها حجرية بارزة، عيناها ثابتتان ثاقبتان قاطعتان كحدِّ السكين، من خلفها سمعت صوت كارمن يهمس، بكلمات مبتورة: … إﻫ… إهر… اهربي … يا … يا … ﺑﻨ… بنتي … يا بنتي. رنَّت كلمة «بنتي» في أذنها وهي واقفة وراء النافذة، كان ضوء الكشَّاف يسقط فوق رأسها، اهتزت خلية في عقلها، تدور فيها كلمة واحدة مثل نقطة ضوء في الظلام: أمي.

فوق السرير كان الجسد الميِّت يتحرَّك، انفتحت عيناها الكبيرتان عن آخرهما، رأت الرجال الثلاثة يدخلون من الباب على أطراف أصابعهم، يتقدَّم الأول في يده الكشَّاف، لا يظهر منه إلَّا قبعة فوق رأسه، أو شيء مما يرتديه رجال الجيش أو البوليس، يده ممدودة أمامه ممسكة بشيءٍ أسود مُدبَّب، رأس الرجل الثاني ملفوفة بالقماش، اللفة، مثل تلافيف العمامة، أو شيء مما يرتديه الرجال من ذوي القداسة، الرجل الثالث كان عاري الرأس، بين شفتيه سيجار سميك لونه بني داكن، ساقاه الطويلتان الممشوقتان داخل بنطلون جينز ضيِّق، لم تره إلَّا من ظهره بعد أن دخل، ووقف خلف الفتاة فاتحًا ساقيه المشدودين داخل البنطلون الجينز الأزرق، رافعًا يده اليمنى، مصوِّبًا الشيء الأسود المُدبَّب إلى ظهرها، وقبل أن تسمع طلقة النار، سقط ضوء من خارج النافذة كاشفًا إليتيه المضغوطتين تحت الجينز المستورد، الشبيه بجلد النمر، فوق الإلية اليمنى قطعة مربَّعة من القماش ذاته، لونها أكثر زرقة، مُثبَّتة في البنطلون كأنَّما قطعة منه، تعلوها حروف بارزة مشغولة بخيوط حمراء، يظهر الحرف وراء الحرف حتى تكتمل الكلمة، مثل الإعلانات فوق الأعمدة في الشوارع والأزقة، تضيء كلها بقوة، ثم تنطفئ لتضيء من جديد، من الحرف الأول إلى الأخير حتى تكتمل الكلمة، ثم تنطفئ ويظلم الكون.

أضاء عقلها كأنَّما لأول مرة، قبل أن تنطلق الرصاصة، تحرَّكت ذراعها اليمنى من فوق السرير، امتدت يدها إلى الزجاجة المُعلَّقة فوق رأسها في الهواء، أمسكتها بأصابعها الخمسة، كان السائل يرتج داخلها، جدرانها من الزجاج الشفاف اللامع، يتدلَّى منها خرطوم طويل أسود، ينتهي بالإبرة المغروسة في ذراعها اليسرى، كانت هي لحظتها الأخيرة لإنقاذ ابنتها، لا شيء بعدها إلَّا العدم، وانتزعت القوة من براثن الموت، قوة خارقة للعادة، لا يعرفها إلَّا الموتى قبل النفس الأخير، يتلاشى الخوف من الموت والنار والسجن والجوع والجنون وكل شيء، تنطلق الروح الحبيسة بقوة غير بشرية، كأنَّما قوة إلهية أو شيطانية أو الاثنتان معًا.

وبهذه القوة قذفت كارمن الزجاجة باتجاه الرجل، انطلقت كالقذيفة بسرعة أكبر من سرعة الضوء، ثم انفرجت في مؤخرة رأسه، محدثة صوتًا خارقًا لقوانين الصوت، أيقظ الأطباء والممرضات من النوم، وأفاق المرضى والممرضات، الغائبين والغائبات عن الوعي.

واختفت الفتاة في تلك اللحظة، لم يلحق بها أحد، ابتلعتها شوارع المدينة والأزقة، كأنَّما هي جزء من المدينة والأزقة، تشق الليل بجسمها النحيف الممشوق، تقاطيع وجهها كأنما نحتت في الحجر، عيناها ثابتتان ثاقبتان قاطعتان كحدِّ السكين، وكانت السماء سوداء إلَّا من الشفق الأحمر، عند خط الأفق البعيد، يتصاعد في بطء مع نور الفجر.

•••

عندما صدرت الرواية كانت الأرض غارقة في الدماء، وكانت السماء زرقاء صافية، غير مبالية بما يحدث فوق الأرض، والقتلى يتساقطون والقتيلات، تختلط أجسادهم بعضها بالبعض الآخر، لا يمكن التعرُّف على الذكر من الأنثى، أو المسلم من القبطي، أو العربي من الأعجمي، وبدا الموت جميلًا في عيون الأطفال، لأنَّه لا يفرِّق بينهم. كانت الطفلة تلعب في الشارع، حين برز فوق صدرها ثديان صغيران، وضغط الرجل الكبير على ثديها قبل أن يدركها الوعي ثم رفع بيده جلبابها القديم، فانكشف عنها الغطاء، رمقته بعينَيها الثاقبتَين، وانحفرت نظرته في ذاكرة الطفلة إلى الأبد، أصبحت تعرفه وتتعرف عليه وإن تغيَّر وجهه، لم يكن له وجه واحد، كانت الوجوه متعدِّدة مع تعدُّد الأحزاب وتعدُّد المجالس القومية العليا والانتخابات الحرة، يتغير وجهه من موسم إلى موسم … لا يتعرَّف عليه أحد إلَّا هي، تعرفه من عينيه، من رائحة معجون الحلاقة، ودون بقية الملامح.

وأحدثت الرواية غضبًا عارمًا. المؤلفة صغيرة مجهولة الاسم، بلا أب ولا أم، ولا هوية مختومة ولا ملامح معروفة، لا تعرف القراءة ولم يندرج اسمها ضمن الكاتبات، قوامها ممشوق من طول المشي سعيًا وراء الرزق، يرتكز على عمود فقري صلب، وكان موسم الانتخابات على الأبواب، والصحف الصفراء تتكاثر كالذباب، وهناك المجلس القومي يسمُّونه المجلس الأعلى، بطل الرواية عضو اسمه رستم، في الخامسة والخمسين، يبدو شابًّا رياضيًّا، يمارس لعبة الجولف كلَّ يوم، يرتدي بدلة أنيقة، وربطة عنق سوداء علامة الحداد، يتمتع بسمعة طيِّبة، والوفاء لزوجته الميتة، حليق الوجه تفوح منه رائحة الكولونيا «لافندر».

توقَّف رستم تلك الليلة القمرية أمام الكشك على الناصية، صاحب الكشك شاب من أبناء الشهداء، تتدلَّى المسابح والمصاحف فوق واجهة البوتيك، والمباخر وإمساكيات رمضان وأحجبة النساء. تهلَّل وجه الشاب كعادته حين رأى رستم: أهلًا سعادة الباشا.

يناوله الشاب الرواية الممنوعة ملفوفة بحجاب، وقطعة صغيرة مما توضع في الشيشة أو تحت اللسان.

– الأخبار إيه يا محمد؟

– اليورو طالع يا سعادة الباشا والدولار نازل.

يناوله رستم المظروف، يختفي الشاب وراء القبو الخشبي، ثم يعود حاملًا الكيس البلاستيك الأسود.

– عدهم يا سعادة الباشا.

– عيب يا محمد.

– يلزمك كم إمساكية يا باشا؟

– مالوش لزوم يا محمد، النجاح مضمون.

– الدولة كلها معاك يا باشا وألف مبروك ع الجايزة.

– الله يبارك فيك يا محمد.

في الليل، قبل أن ينام، ينزع الحجاب عن الرواية، كأنَّما ينزع الملابس عن امرأة، كان يعشق القراءة مع الدخان والكأس، تتحرَّك شهوته للمحرَّمات، بحسب المثل الشائع: كل ممنوع مرغوب.

على الغلاف كانت صورة المؤلفة الشابة، داخل مربع صغير، تسمَّرت عيناه فوق العينين الثاقبتين، كأنَّما رآهما من قبل في الحلم وهو نائم، أطفأ النور بجوار السرير، دفن وجهه في الوسادة وراح يبكي حتى سقط في النوم.

•••

صدرت الرواية وأحدثت غضبًا عارمًا، زعقت الأصوات عبر الميكروفونات، وأبواق السيَّارات وصفارات البوليس. انتشر رجالٌ بالسراويل الكاكي في الشوارع والميادين، والأزقة المسدودة، يفتِّشون عن الرواية داخل المكتبات والأكشاك، فوق الأرصفة على النواصي، تحت مراتب الأسِرَّة في البيوت، إلَّا بيت رستم، كان يتمتَّع بالحصانة كعضو في مجلس الشورى، لا أحد يسأله عن شيء مثل غيره من أصحاب المكانة، كلَّما ارتفعت المكانة نقصت المسئولية، بحسب اللائحة والقانون، وتزيد المسئولية في حالة المرأة، وإن كانت ميتة.

لم تكن كارمن ميتة، فهي تعيش في روايتها، أو على الأقل في ذاكرة رستم، يضع مقعدها على رأس المائدة، لن تجلس عليه كارمن أو أية امرأة غيرها، يزيد الإخلاص الزوجي بعد الموت، سيقيم رستم لروايتها حفلًا الليلة، سيضع الرواية فوق المنضدة الرخامية محاطة بباقات الورد، وعيون المعجبين والمعجبات، لن تنهشه مشاعر الغيرة، يبدو الموت جميلًا، أكثر جمالًا من الحياة، يقضي الموت على الغيرة وكل المشاعر الخسيسة، يصبح القلب أبيض نقيًّا مثل صفحة بيضاء غير مكتوبة.

دقَّ جرس الباب، أوه! مفاجأة سارة أو غير سارة، لم يَعُد السرور شيئًا هامًّا، تقاطيع وجهها منحوتة حجرية غير قابلة للموت، عيناها ثاقبتان كحد السكين، تكاد تشبه عيني كارمن وكل العيون الميتة، يكسبها الموت رهبة الآلهة والشياطين والأرواح الخفية، تأتي من الباب الخلفي من دون موعد، لا تتبع تقاليد العائلات الراقية في جاردن سيتي، تدخل بخطوة واسعة سريعة، تدوس الأرض بحذائها القديم المترب، ترمقه بعينيها ولا يطرف لها جفن، ينجذب إليها بقوة غير منطقية، يقول لنفسه، انجذاب غير مفهوم لفتاة مجهولة الاسم مجهولة الأصل، لا يندرج اسمها ضمن الكاتبات المحترمات، تعيش في زقاق مسدود في حي السيِّدة، عاملة فقيرة من الفئات الدنيا، تحمل سِفاحًا منه أو من سميح أو رجل آخَر، غير معروف الاسم، انجذاب غير معقول يمتد إلى ما وراء العقل، ربما إلى الروح، تنجذب روحه إلى جسدها الطويل الممشوق، وملامح وجهها المألوف الغريب، المذهل في غرابته وألفته، يكاد يشبه الوجه الذي يطل عليه من المرآة كل يوم، الوجه ذاته الذي يظهر له في النوم، مثل إبليس، الوجه الملزوق على الملصقات فوق الجدران، في موسم الانتخابات، المنافسون له في المجلس يذكرون ابنه غير الشرعي، يتهامسون قبل فرز الأصوات بما يلهب خيال الناخبين، يصبح له بدل الابن الواحد ثلاثة أو أربعة أو أكثر، وابنة واحدة غير شرعية يلتقي بها سرًّا في الشاليه في صحاري سيتي، يرسمون صورته إلى جوار تمثال رمسيس الأكبر، يندفع منه خرطوم البول ليغرق المدينة، كان الفرعون العظيم يقدِّس ذاته، وكل ما يمتد خارج الذات، وإنْ كان على شكل الماء، كان يسكب ماءه المقدَّس في رحم أي واحدة من الحريم، وإن كانت أخته وابنته، وكل ما يفعله الإله فرعون يندرج تحت الشرع والقانون … آه يا رمسيس الأكبر، يا مَن تعيش إلى الأبد، بجسدك الحجري وملامحك المنحوتة في الصخر، ونظرتك الثابتة لا يطرف لها جفن، يا رمسيس يا … يا نرسيس يا عابد ذاتك.

تدخل الفتاة، هي نفسها بجسمها وملامحها كما كانت، وكما هي بالضبط، الوجه الشاحب الدم تنقصه الفيتامينات، الملامح الحجرية الحزينة إلى الأبد، الظهر المنتصب فوق عمود فقري صلب، تزهو بنفسها رغم الفقر وانعدام الأصل، يرتجُّ الشيء تحت ضلوعه حين يراها، ارتجاجة غير مفهومة، مزيج من لذة جسدية جديدة وشعور قديم بالذنب، خليط من عذاب الروح وتأنيب ضمير غير موجود، عيناها مرفوعتان بنظرة استعلاء، كأنما مشبعة بشبقِ العقل، وما هو أكثر من ذلك، لا شيء يشبعها وإن كانت قمة اللذة في الفراش، عقلها التوَّاق المراوغ الشبقي إلى الأبد، ملابسها المهملة الرخيصة تبدو غالية، رباطة جأشها مثل لبؤة لا يرضيها الأسد، ليست عذراء ولا غير عذراء، ولا أنثى ولا ذكر، لا شيء يغيرها وإن اجتازت البحار، وحملت سِفاحًا من بذور الأشجار، تعود كما كانت من دون أن تبللها قطرة ماء، أو تعلق بأهدابها قطرة دمع.

يردِّد رستم بصوته المتحشرج: ياه! إيه المفاجأة السارة؟

يتعانقان في اللحظة الحاضرة قبل أن تنزلق إلى الماضي، وتروح في العدم، يمسكها بيديه الاثنتين كأنما طائر يخشى أن يفرد جناحيه ويطير، يقبض عليها كمَن يقبض على الهواء أو شبح من الماضي، يتراجع رستم خطوة إلى الوراء، أو نصف خطوة، يرى نفسه في المرآة المثبتة في الحائط، عيناه رماديتان مبلَّلتان بدموع حبيسة، يختزن وراء عينيه دموعًا كثيرة، يخشى أن ينام حتى لا يبكي في الحلم.

– رجعتِ إمته من برشلونة؟

– من شهرين.

– ياه! من غير ما أعرف؟

– كان لازم تعرف … يعني؟

– طبعًا والَّا إيه؟

– إيه.

يضحك رستم على النكتة، ويقول لنفسه صدفة غير معقولة، تغيب وتعود منذ شهرين، ولا تأتي إلَّا هذه الليلة.

– الليلة عندنا حفلة كبيرة.

– حفلة؟

تقول لنفسها، غير معقول أن يقيم حفلة كبيرة بعد موت كارمن بثلاثة أيام، لكن الأمر يبدو معقولًا، هناك شيء في الموت يستوجب الاحتفال، شيء جميل في الموت لا تراه العيون المغلقة، لا يفتحها إلَّا الموت، لا يرى رستم نفسه في المرآة، هناك شخص آخَر يقف وراء المرآة، يرتدي ربطة عنق زاهية الألوان، خلع الربطة السوداء بعد ثلاثة أيام الحداد، ومن أجل الاحتفال بالرواية، لا تليق الربطة السوداء بحفلٍ كبيرٍ تحصل فيه كارمن على جائزة الرواية.

– أي جائزة؟

– جائزة غير معروفة لا تكتب عنها الصحف.

– غير معقول يا رستم!

– معقول جدًّا؛ فالصحف تكتب عن جوائز الدولة، وهذه الجائزة لا تملكها أي دولة.

– ومَن يملكها؟

– لا أحد. أعني كلَّ الناس.

يتلاعب رستم كعادته بالألفاظ، فالكلمات لعبته في السياسة في السلم وفي الحرب، في الحب والكره وكل شيء، أتقنَ رستم قواعد الألعاب منذ الطفولة.

– على أي حال أنا سعيد بعودتكِ إلينا.

يردِّد كلمة إلينا بالجمع، يعني هو وكارمن وسميح، ينسى أنَّ كارمن ماتت وسميح سافر، ينسى غيابهما كما كان ينسى وجودهما. يكرِّر بدون وعي: أنا سعيد بعودتكِ، كأنما السعادة تستوجب غياب الوعي.

– صدفة غير معقولة.

– كل الصدف غير معقولة.

– بما فيها لقاؤنا الأول.

– يمكن.

– ولقائي الأول بكارمن؟

– وسميح وسوزي.

– وجمالات ومريم الشاعرة وكل الناس.

ويكاد يضيف بلا صوت: ودخولي رحم أمي بالصدفة في لحظة حب عابرة بينها وبين أبي، وبالصدفة أيضًا جاء ابني محمد إدريس الذي يحمل اسم رجل آخر بالصدفة، ويهمس لنفسه من دون أن ينظر إليها، الحياة كلها صدفة والموت صدفة، والرواية الجيدة صدفة، لولا ظهور الفتاة صدفة في حياة كارمن ما كانت الرواية.

– قرأت الرواية؟

– أَيْوه.

– أعطتنا جميعًا أسماءنا.

– يمكن.

– إلَّا أنت.

– لست أنا بالضبط.

– ما معنى ذلك؟

– ربما فتاة لها ملامحي.

– كنت أتمنَّى أن تكون كارمن موجودة في الحفلة.

– كارمن موجودة على العموم.

– بالروح على الأقل.

– الروح ليس أقل من الجسم.

تردُّ عليه بثقة أكبر، يكبرها بثلاثين عامًا، تبدو أكبر منه، على الأقل فيما يخص الروح، كلمة الروح مراوغة يمكن أن تقوده إلى الهاوية، أنقذ عقله بمشقةٍ كبيرةٍ من الجمعيَّة، كاد أن يفقد الوعي ويقع في حبِّ جمالات.

– جمالات؟

تخفق روحها لسماع اسم جمالات، يتحطَّم قلبها حين تراها راقدة في السرير، أصابها شلل نصفي ناحية اليمين، بقي النصف الأيسر من جسدها على قيد الحياة، ومات النصف الآخر، أصبحت تتكلَّم بنصف لسانها ونصف عقلها ونصف روحها، تغيرت جمالات في بضعة شهور، لم يَعُد جرس الباب يدق، ولا جرس التليفون، انفضَّ عنها الرجال والنساء، إلَّا مريم الشاعرة، وسميح … آه يا سميح! يتحطَّم قلبها لسماع اسمه، تعود إليها صورته من ظهره، وهو يمشي على أرض المطار، يجرُّ الحقيبة ذات العجلات، تبدو الصورة محفورة في خيالها منذ الطفولة، أو قبل أن تولد وهي داخل الرحم، سافر سميح إلى ابنته المولودة على الشاطئ البعيد، هو الوحيد الذي سافر إليها، ربما هي مشاعر الأبوة الغامضة المراوغة منذ آلاف السنين، ربما هي الرغبة في طفلة أو طفل يحمل اسمه واسم أبيه، ويرث من بعده دار النشر.

كانت لا تزال واقفة في مدخل البيت، رستم يقودها إلى الصالة، ثم يفسح لها الطريق لتمشي أمامه، بحسب التقاليد في جاردن سيتي، تسبق المرأة الرجل بخطوة أو خطوتين، يرمق رستم ظهرها وهو يتبعها إلى غرفة النوم، تبدو من الظهر أكبر من عمرها، كأنما بلغت الكهولة فجأة لمجرد دخول غرفة النوم، يا له من شيء غريب، ربما هي الجينات الموروثة عن كارمن، أو فيروسات الكتابة، تفترس الأنوثة والذكورة وما هو أكثر منهما، تفترس العمر من الطفولة إلى الكهولة مباشرة دون مرحلة الشباب، جينات الكتابة الجهنميَّة تأكل خلايا الجسد، تقفز فوق سياج العقل، ويذعن لها العمر.

يندهش رستم في هذه اللحظة وهي تدخل غرفة النوم، ربما يكمن هوان المرأة في السرير، ربما لا يمكن إخضاعها، إلَّا في النوم، هذه الانحناءة المفاجئة لظهرها المشدود الصلب، تكاد تشق قلبه نصفين، يكاد يقرب فمه من ظهرها ليلثم الانحناءة بشفتيه، كما كان يلثم الجرح العميق في بطنها قبل أن يُقبِّلها من الشفتين.

لم يكن رستم مستعدًا لانكسارها، أو فقدانها في اللحظة الحاضرة، كان يبذل الحب والجهد واللذة والألم والإخلاص الأبدي لهذه اللحظة الحاضرة، بإرادته وبغير إرادته، لم يكُن يملك من عمره شيئًا إلَّا هذه اللحظة الحاضرة، فالماضي ميِّت والمستقبل غير موجود، هذه كلمات كارمن في روايتها، آه، كل تلك السنين مع كارمن، ثلاثون سنة، قصة حبه الوحيدة من بين مئات القصص، بعد كل ذلك الأرق والإرهاق والصفحات المكتوبة وغير المكتوبة، في ليالي الصيف والشتاء، ترقد كارمن في مقبرة أسفل جبل المقطم، لا تشهد ظهور روايتها إلى النور، ولا تشهد الاحتفال بالجائزة. ماتت كارمن وحدها في المستشفى كما ماتت مي زيادة، وكما تموت كل النساء الكاتبات بإرادتهن أو بغير إرادتهن.

يلمس رستم رأسها بطرف إصبعه، يرى روح كارمن المُحلِّقة فوق رأس السرير، يطردها بيده كمَن يهش ذبابة، تبدو الروح أكثر هشاشة من الجسد، يمكن طردها بحركة سريعة من اليد، يبتهج قلبه لهذه الحقيقة، كأنما يكتشفها الآن فقط ويكتشف معها أنَّه تخلَّص من كارمن، على الأقل من جسدها، وهو الأهم، ثلاثون عامًا يحلم بالخلاص، منذ ليلة الزفاف، قال لها: خذيني، فلم تبذل الجهد لتأخذه، كما كانت خالته توأم أمه تفعل.

يملأ رستم كأسها بالنبيذ، كما كان يملؤه في كلِّ لقاء، كأنما الزمن متصل الحلقات في سلسلة واحدة، لا فاصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، سيدعوها الخميس القادم على العشاء كما كان يدعوها لمناقشة الرواية، ويجلسان في المطعم فوق هضبة الأهرامات، بعيدًا عن عيون كارمن وسميح، كان يدعو الله أن تزول عيونهما من الوجود، أن يأكلهما فيروس أو رمد صديدي، لم يكُن الله يستجيب لدعائه، فهو يعرف ما يدور في عقل رستم من أفكار، ومنها أنه غير موجود في الوجود.

– هذا النبيذ لذيذ، من كاتالونيا؟

– لأ، من إسبانيا.

– كاتالونيا في إسبانيا يا رستم.

لم يعرف رستم أنَّ كاتالونيا مقاطعة في إسبانيا، عاصمتها برشلونة، يذهب إلى المطبخ، يشرب كوب ماء، يبتلع الغيظ بشيءٍ من الماء، والغيرة يكتمها في أعماقه من أيِّ امرأة تعرف أكثر منه، أو أيِّ رجل أيضًا، لكنَّ غيظه من المرأة أكثر، وإن كانت كاتبة يصبح الغيظ مضاعفًا وأكثر. في أعماق عقله فكرة راسخة غير معقولة: إن المرأة تنقص عنه في العقل، وإن كانت زوجته يصبح النقص مضاعفًا وأكثر، يشاركه هذه الفكرة كل أعضاء المجلس الأعلى والمجلس الأدنى، ومجلس الشورى ومجلس النواب، ومجلس الوزراء، والكونجرس، والكينيست، والكنائس، والجوامع، ودور العبادة، ودور البغاء، وجميع الدور فوق الأرض الدائرة.

ويمسك رأسه بيديه الاثنين، يحس به يدور رغم استقرار جسده فوق السرير، كانت كارمن ترقد إلى جواره هنا، وكانت تنهض من السرير إلى الحمَّام، تبتلع حبة منومة من خزانة الأدوية، كأنما وجوده معها في بيتٍ واحدٍ أمر غريب، وأغرب منه وجوده في السرير.

حين تسافر كارمن يتمدَّد فوق الكنبة الجلديَّة الكبيرة، يرقد فوقها في غيابها مع النساء الأخريات، أو فوق السجادة العجميَّة الثمينة، يمسح رائحة المرأة بفوطة صفراء كأنما زجاج سيَّارة، يزيل البقع الداكنة المعكرة بحزن النساء، وقطرات مائه المراوغ بآلاف الحيوانات المنوية، وخيط العرق السائل من مؤخرة رأسه إلى الشقِّ بين الإليتين عبر أخدود عموده الفقري.

كان يعرف بالضبط متى تعود كارمن من السفر، تكون الكنبة الجلديَّة ممسوحة والسجادة مغسولة، ولا رائحة لشيء أنثوي أو ذكوري إلَّا معجون الحلاقة، وماء الكولونيا لافندر، يرشه من فوق السطح، كما لو أنه مُطهِّر للإثم مثل السبيرتو الأبيض.

مرة واحدة عادت كارمن من دون إنذار سابق، رأته طريح الأرض فوق السجادة، ومن فوقه المرأة، نهض من تحتها متلعثمًا، متأسفًا معلنًا في النهاية أنَّها ليست خيانة زوجيَّة بحسب العُرْف، ولا عقاب لها في القانون إلَّا إذا وقعت داخل الفراش في غرفة النوم، وليس في المكتبة على سجادة عجميَّة فوق الأرض، وكان يزعق بصوتٍ عالٍ، كأنما هو الزوج المغلوب على أمره، لأنَّ زوجته عادت فجأةً دون علمه.

•••

ينحني رستم أمامها: وجهه بين يدَيه، يبكي بصوتٍ مكتومٍ يُشبه النشيج. تحوطه بذراعها وتتذكَّر جمالات، أصبحت جمالات تنشج بهذا الصوت المكتوم في الليل، لم تَعُد تصرخ ولا تضرب المنضدة بقبضة يدها القويَّة، تسرَّبت منها القوة ومعها اليقين، لم تَعُد تؤمن بشيءٍ خارج جسدها نصف الميت، منذ احتراق ابنتها غير الشرعية لم تسترد جمالات صحتها، تربت الفتاة على رأسها وتفكِّر، كيف يعيش نصف جسدها ويموت النصف من الجسد؟ كانت راقدة فوق سريرها مثل تمثال نصفه حجر والنصف الآخر من اللحم، نصف وجهها ميت بلون الجرانيت بعينٍ واحدةٍ نصف مغلقة، والنصف الآخر له عين واسعة مفتوحة، ونصف أنف منتبه، ونصف فم معووج. الغرفة مظلمة إلَّا من ضوء مصباح قديم في الزقاق المسدود، يعلوه إعلان جديد ينطفئ ويضيء، وميكروفون جديد مثبَّت فوق العمود، الساعة الثالثة صباحًا، قبل أن تنفجر الأصوات بأذان الفجر، قبل أن تطرقع الأبواب والقباقيب والشبابيك، قبل أن يصحو الشحاذون والشحاذات على باب السيِّدة، قبل أن تفرقع عجلات السيَّارات في شارع المبتديان، وتزعق الأبواق والصفَّارات وصراخ الأطفال وعويل النسوة، والتراتيل والتواشيح ودقات الطبول.

ترمقها جمالات بعينها الواحدة، تشدُّ عضلات فمها المرتخي وتقول، حمد لله ع السلامة يا بنتي، وأصبحت تناديها بكلمة بنتي، تسألها عن ابنتها، تقول في برشلونة مع جدتها يولاندا، تشهق جمالات رافعة يدها غير الميتة إلى نصف رأسها غير الميت: يولاندا اسم نصراني؟

– اسم كاتالوني يا جمالات.

– كاتالونيا دي فين يا بنتي؟

– في إسبانيا.

– آه، وأبوها مين؟

– يمكن سميح، تسعين في المية.

– تسعين في المية؟

– ما فيش حاجة مية المية غير ربنا.

– أَيْوه يا بنتي.

تتنهَّد جمالات، يرتفع نصف صدرها غير الميت بالنهد الواحد المفلطح تحت كشاكيش القميص، أنفاسها تلهث قليلًا وهي راقدة فوق السرير، النافذة مغلقة بالزجاج والشيش، الهواء مكتوم معبَّأ بالرائحة المألوفة، رائحة جمالات، مزيج من النبيذ والقرنفل والجنزبيل، والدموع الجافة والعرق القديم، مع المسك والعطور الأنثوية، والبودرة والكحل واللبان الذكر والنتاية، ودخان الشيشة والسجائر والنشيج المكتوم.

– قرَّبي يا بنتي عشان أبوسك.

تقترب من وجهها أكثر، تراه في الضوء المتسلل من شقوق الشيش، لونه رمادي بلون الحجاب الملفوف حول شعرها، ممسوح الملامح بلا حاجبين ولا رموش مثل صفحة خالية في رواية غير مكتوبة.

– كنت خايفة أموت قبل ما شوفك.

– … …

– كنت عاوزة أقولك حاجة …

تصمت جمالات لتأخذ نفسًا عميقًا، تمد يدها غير الميتة وتمسك يد الفتاة.

– سامحيني يا بنتي عشان أموت مرتاحة … ماليش غيرك بعد المرحومة بنتي، آه يا بنتي، قلبي انحرق عليها، أوعي يا بنتي تسيبي بنتك، روحيلها هناك أو هاتيها هنا، أوعي تسيبيها زي أنا ما سبت بنتي … شايفة الظرف اللي فوق التسريحة؟

– الظرف أنهوه؟

– الأبيض المركون ع المراية.

– أَيْوه شايفاه.

– خديه وافتحيه، فيه رسالة كتبتها لك بإيدي الشمال، كنت خايفة أموت من غير ما أشوفك … بركة يا بنتي اللي جيتي.

وأغمضت جمالات عينها اليسرى، وبقيت العين الأخرى المتحجِّرة نصف مغلقة كما كانت.

•••

وغابت جمالات عن الوجود، لم يبقَ منها إلَّا الرسالة المكتوبة بخط يدها اليسرى، فوق ورقة مُسطَّرة منزوعة من كراسة المدرسة، خطها متعرِّج حروفها تصعد فوق السطر وتهبط، مثل تلاميذ السنة الأولى الابتدائية، تعوَّدت جمالات أن تكتب بيدها اليمين، التي ماتت وهي على قيد الحياة، كانت تؤمن أنَّ اليد اليمنى خير من اليد اليسرى، لأنَّ إبليس يقف دائمًا على اليسار، بعد أن أصابها الشلل النصفي اليميني أصبحت تؤمن أنَّ إبليس يقف على اليمين. وتقول مريم الشاعرة: جمالات صديقة عمري، قلبها من ذهب وعقلها من صفيح، كان يمكن أن تكون كاتبة مثل كارمن، ومي زيادة، وأكبر، لو لم يصبها المرض.

– المرض الأخير؟

– لا لا، المرض الأول في بداية العمر، يصيب الأطفال منذ الولادة، أو قبل الولادة، عن طريق الوراثة والأسلاف.

في غرفتها أضاءت الفتاة اللمبة بجوار السرير، كانت جالسة … فوق ركبتها الرسالة ومن خلف ظهرها الوسادة، تركت جمالات حروفها المتعرِّجة فوق الورقة، وشيء من رائحتها المميزة في الهواء. المزيج الغريب الأليف من كل شيء ولا شيء، يسبح مع ذرات الهواء مثل الروح الخفية، يحوم حول رأسها وهي جالسة تقرأ الرسالة، وفي أذنيها يَسْري صوت جمالات كأنَّما يأتي من بطن الأرض.

ابنتي الحبيبة، دعيني أناديك ابنتي، فهي كلمة جميلة يفرح بها قلبي الحزين، رغم غيابك كنتِ حاضرة في خيالي طول الوقت، لم يكن لي أحد في الدنيا إلَّا صديقتي مريم، كانت لي الأم والأب والأخ والأخت والصديقة والصديق، هي الوحيدة التي كانت بجانبي وقت الشدَّة، أردت أن أكتب لها الشقة قبل أن أموت، اعترضت وقالت، عندي شقتي ولا أريد المزيد، لم تكن تحب المزيد من أيِّ شيء إلَّا الشِّعر، شاعرة مجنونة يا ابنتي، أحببتها بجنونها يا ابنتي، قلبها من ذهب وعقلها مفقود، وقالت مريم اكتبي الشقة باسم ابنتك، كانت تعرف أنَّ ابنتي الوحيدة ماتت محروقة، قالت عندك ابنة أخرى في برشلونة، ستكون في حاجة إلى الشقة حين تعود، قلت لمريم، آه يا مريم يا رتها تعود، كنت أحسُّ أنَّها ابنتي، شيء غريب. وقالت مريم، ليه غريب؟ ليس من الضروري أن نحبل ونلد ليكون لنا بنات وأولاد، وليس من الضروري أن يكون الأولاد والبنات من اللحم والعظم، قد تعيش قصيدة الشعر أكثر من اللحم والعظم، كنت أسمعها وأنا راقدة في السرير، نصف جسمي ميت، والنصف الآخر في طريقه إلى الموت، وأقول لنفسي، ربما ما تقوله مريم هو الحقيقة، ربما لا يبقى بعد موتي إلَّا رسالتي إليكِ بخطي المتعرِّج بيدي اليسرى، تعوَّدت أن أكتب بيدي اليمنى منذ أمسكت القلم في المدرسة، كانت لي زميلة اسمها أنجيل، تكتب بيدها اليسرى، تضربها المعلمة بالمسطرة لتكتب بيدها اليمنى، وتضحك على أنجيل حين تبكي، بعد أن تخرج المعلمة تعود أنجيل وتكتب بيدها اليسرى، وتعود المعلمة لتضربها بالمسطرة على أصابع هذه اليد اليسرى، وتقول لها المعلمة: لازم تكتبي بإيدك اليمنى زيِّ كل المسلمين، كانت المعلمة مسلمة تقول إن أنجيل نصرانيَّة، وإن النصارى يكتبون باليد اليسرى لأنَّ إبليس يقف على اليسار دائمًا، كان عمري سبع سنين، وأنجيل صديقتي ولا أعرف يعني إيه نصرانية ومين هو إبليس، وكتبت مريم قصيدة شِعر على المعلمة في المدرسة، وكان جزاؤها الطرد من الفصل ثلاثة أيام مع إخطار ولي الأمر، المهم يا بنتي إنِّي كتبت الشقة باسمك، وفي درج الكوميدينو جنب سريري فيه ألف جنيه، القرض الواجب السداد لسميح، آه يا بنتي، لا تتصوَّري الألم لأنِّي أجبرتك على طلب الفلوس من سميح أو رستم سامحيني يا بنتي، كنت زي العميان مش شايفة حاجة، وماشية في الصف مع صفوف القطيع، العبيد، خدي الألف جنيه ورجعيها لسميح، خدي بنتك في حضنك، وأوعي تضحي بيها لأيِّ سبب، زيِّ ما أنا ضحيت بأهم شيء في الوجود من أجل شيء غير موجود.

•••

ويملأ رستم كأسها بالنبيذ، يقول لها حمد لله ع السلامة، ويسألها، صحتك جيِّدة؟ تقول، أَيْوه، يسألها، سعيدة؟ تقول، أَيْوه، يسألها، لا ينقصك شيء؟ تقول، ينقصني شيء واحد، يبتهج رستم قليلًا يخفق الشيء تحت ضلوعه بحركة خفية، يتمنَّى أن تقول: لا ينقصني إلَّا حبك يا رستم، وحشتني، عدتُ من أجلك. لكنَّها لا تقول شيئًا من هذا، تفكِّر في طفلتها نورية على الشاطئ الآخر وراء البحر، لا شيء يعوِّضها عنها، إنْ أغمضت عينيها تراها تبكي على فراقها، إنْ فتحت عينيها ترى أصابعها الخمسة ملفوفة حول إصبعها، مثل خيوط من الحرير، ملفوفة حولها تتشبث بها، طفلة عمرها بضعة شهور، لها قبضة أصابع أصلب من الحديد، لم تستطع الخلاص من قبضتها، ورغم المسافة وعرض البحر العريض، لا تزال أصابع الطفلة الخمسة ممسكة بإصبعها، السبابة، الإصبع الأساسي المقابل للإبهام، كادت تقطعه بالسكين لتمحو عنه أثر الأصابع الطفولية الخمسة، من دون جدوى.

يبدو وجه رستم أمامها طويلًا شاحبًا كأنما في نهاية العمر، أنفه أصبح أكبر حجمًا بالنسبة لبقية الملامح، أكثر طولًا مُدبَّبًا منقاريًّا، عيناه مندهشتان رماديَّتان، حاجباه الكثيفان يتساقط شعرهما مع شعر رأسه من الأمام، أصبحت جبهته أعرض مما كانت، تمتد حتى منتصف الجمجمة مثل رئيس دولة أو كاتب كبير، أو عضو في مجلس الشورى أو النواب، لحم رقبته تهدَّل، عروقها نفرت تحت ذقنٍ مزدوجةٍ، يكاد يُشبه جورج بوش الأب، أو الابن، تعود إليها صورة يولاندا وهي ترسم الصليب فوق صدرها، وفرانسيسك وهو واقف كالتمثال في الرامبلا، وأناجيل وجوردي وهما يهتفان مع الجماهير، جيرانو لا حرب، جورج بوش أسَّاسين، توني بلير أسَّاسين، أزنار أسَّاسين، سفاحين، خلعوا أزنار في الانتخابات الأخيرة، جاء زباتيرو، وأعلن جيرانو، لا حرب، وسحب الجنود الإسبان من العراق.

– زباتيرو اسم أمه يا رستم.

– غير معقول.

– معقول جدًّا.

يضحك كما كان يضحك على سذاجتها، يقول لنفسه فتاة عذراء بريئة، غير مثقلة بعدُ بالآثام، وتقول لنفسها رجل مراوغ لا يعرف قيمة المرأة إلَّا بعد أن يفقدها، وتقول أيضًا سأجعله يفقدني ليعرف قيمتي.

– أرجوكِ ابقي معي هنا.

– لا بد أن أذهب إليها.

– مين؟

– بنتي.

– عندك بنت؟

ينسى رستم كلَّ شيءٍ عنها، كانت في حياته قصة من قصص الحب، لحظة عابرة متأجِّجة تشتعل وتنطفئ وتسقط في العدم، لا يتصوَّر رستم أنَّ شيئًا يبقى من اللحظات العابرة في حياة الرجال، لا شيء يبقى وإنْ كانت الذكرى، العالقة بالخيال في النوم.

– أَيْوه عندي بنت.

– فين؟

– في كاتالونيا.

– كاتالونيا دي فين؟

– في إسبانيا.

– آه.

قال آه بصوت كالأنين، وقالت لنفسها لا بدَّ أنَّه يعاني الوحدة في غياب كارمن، تتأمَّله بعينيها في صمت، تراه رجلًا عاديًّا يجلس على كنبة جلدية عادية، يتردد رستم طويلًا ثم يقترب منها، يحوطها بذراعيه كأنما كانت بين ذراعيه بالأمس، تدفعه بيدها برقة وتسأله، هل قرأت الرواية؟

– أي رواية؟

– رواية كارمن.

– آه … طبعًا.

– رواية بديعة.

– فعلًا.

– تنتهي بموتها في المستشفى.

يزحف رستم بجسده فوق الكنبة الجلدية بعيدًا عنها، يتذكَّر أنَّ كارمن ماتت في المستشفى، قبل أن تموت بلحظة واحدة قتلت رجلًا لتنقذ ابنتها من الموت.

– كانت ابنتها؟

– في الراوية على الأقل، أو من بنات أفكارها.

ينحني رستم ويملأ لها الكأس مرة أخرى، ترتعش يده قليلًا، تسقط بضع قطرات من النبيذ فوق السجادة العجمية، يسرع إلى المطبخ، يعود بفوطة يمسح البقع فوق السجادة، حمراء قانية تكاد تشبه بقع الدم، يمسحها بعناية شديدة، كأنما كارمن سترى البقع بعد أن تصحو من النوم أو من الموت، يبتسم رستم مشفقًا على نفسه، ويقول انظري إلى … رجل عجوز يمسح البقع من فوق السجادة.

تتعجَّب الفتاة قليلًا، تتساءل بينها وبين نفسها، إنْ كان رستم يعرف نفسه، إنْ كانت معرفة النفس مراوغة مثل عدم المعرفة، رستم يقرأ أفكارها مثل كتاب مفتوح، بالضبط كما وصفتها كارمن في الرواية، عيناها ثاقبتان تجرِّده من سلاحه، يعرف رأيها فيه، يعاني مرضًا مزمنًا منذ الطفولة يتعلَّق بالروح، ويقول لها أنا مريض وأنتِ قادرة على شفائي.

لم يصِل جسده إلى درجة المرض، لكنَّ عقله كان مُثقلًا بالإثم، ربما هو في حاجة إلى الأقراص المهدِّئة أو المثبطة للعقل، التي يولع بها أطباء النفس.

– حالتك خطيرة.

– ولكنِّي رستم.

كان يدرك عن يقين أنَّه لا يزال هو رستم، بذاته الخاصة، الخاصة جدًّا، المختلفة عن كلِّ الرجال، ومنهم سميح.

– سميح؟

لا يكاد ينطق الاسم بصوت مسموع، يحاول أن ينساه، وهي أيضًا تحاول النسيان.

– كنت تحبين سميح؟

– … …

لم يكن في حاجة إلى الرد، كان يعرف أنَّها تحب سميح، وكان يتمنَّى أن يراه ميِّتًا، كما كان يتمنَّى أن يرى كارمن ميتة!

– قلبك أسود يا رستم.

– الحب يجعل القلب أسود.

– غير صحيح.

– أنتِ فتاة ساذجة.

– وأنتَ مجنون.

يضحك رستم حين يسمع كلمة مجنون، تبدو له كلمة مديح وأكثر من المديح، يقولون عن أعظم الأدباء مجانين، يتمنَّى أن يصل جنونه إلى جنون إرنست هيمنجواي، ويفرغ في رأسه الرصاصة بعد أن يكتب الرواية، أو على الأقل يبلغ درجة جنون زوجته، ويكتب رواية مثل روايتها، لم يكتب أبدًا رواية مثل روايتها، رغم كل ما كتب من روايات.

– هي دي المشكلة؟

– أيْوه، هي دي المشكلة.

كان جالسًا إلى جوارها على الكنبة الجلدية، من الغريب أنَّه لا يزال جالسًا، من الغريب أنَّ الكنبة الجلدية لا تزال موجودة، والنافذة موجودة، وشعاع القمر يدخل من النافذة، ومن بعده الظلام، ثم الشمس في الصباح، تدخل الشمس من هذه النافذة وتغادرها كلَّ يوم، لا يظهر في الظلمة إلَّا ضوء الإعلان المثبت بالمسامير فوق العمود في الشارع، يومض الحرف وراء الحرف ثم ينطفئ ليعود الضوء من جديد، من دون توقُّف، إلى الأبد.

ويقول رستم أحب الجلوس على هذه الكنبة الجلدية، ومن حولي رفوف الكتب، أحب رائحة الكتب كما كانت تحبها كارمن، أَيْوه، رائحة الكتب كانت عندها أجمل من رائحة أي رجل، أرادت أن تموت وهي جالسة في المكتبة وليس راقدة في السرير.

– احكِ لي عن كارمن.

تنتابه الغيرة، لم تقُل له أبدًا احكِ لي عن نفسك، كان يريد أن يضمَّها بين ذراعيه ويحكي لها عن نفسه منذ الولادة حتى الموت، حتى طلوع النهار يريد أن يحكي لها عن نفسه، ويضمها بين ذراعيه حتى يتلاشى جسدها.

– احكِ لي عن برشلونة.

– مدينة مثل القاهرة قبيحة وجميلة بمطاعم كثيرة وناس يأكلون طول الوقت.

– لا تعودي إلى برشلونة.

– سأعود.

– هنا وطنكِ.

– الوطن حيث أكون سعيدة.

– سأجعلكِ سعيدة.

يحوطها بذراعيه، يبدو أنَّه سيحملها إلى السرير بدلًا من الكنبة الجلدية، سيحملها إلى الدور العلويِّ حيث غرفة النوم، حيث يكون العري كاملًا من دون خوف من كارمن، ليس عري الحب بل الحرب تحت الماء فوق قشرة الوعي، كلٌّ منهما جريح ينزف وإنْ لم يشعر بالألم، كانت النوافذ مغلقة والستائر مسدله، تمنع عنهما الضجيج في الخارج، أزيز الطائرات وهتاف المظاهرات، قاذفات القنابل المسيلة للدم والدموع، زئير الأسود في حدائق الحيوان، قعقعة الرياح والخماسين وابتهالات الشاحتين، زعيق الميكروفونات والأبواق وصفَّارات البوليس، دقات الطبول في ليالي الزفاف وعويل الشهيدات وأرامل الشهداء، كانت النوافذ مغلقة بالزجاج المزدوج لا ينفذ منه صوت، كأنما العالم الخارجي مات، ولم يبقَ على قيد الحياة إلَّا رستم وهي بين ذراعيه يهمس في أذنها، باحبك والله العظيم باحبك.

– وليه تحلف بربنا إذا كنت بتقول الحق؟

يميل رستم بجسده بعيدًا عنها قليلًا، يقول لنفسه تتكلَّم في الفراش مثل كارمن، ربما تكون هي كارمن، أو أختها الصغرى، أو ابنتها، نسخة طبق الأصل منها، وصوتها يكاد يكون هو الصوت …

– لا تدفن رأسك في الرمال يا رستم وتترك مؤخرتك عارية، كم عرفت من النساء وكم عدد أبنائك غير الشرعيين؟

ويقول رستم لنفسه، لها حق أن تقول عني ما يقوله المنافسون لي في الانتخابات والحاقدون والحاقدات، ولكني في نهاية الأمر رجل مثل الرجال، ولا يعيب الرجل إلَّا جيبه.

– كفى يا رستم، أنت كهل فاسق مثل ثمرة فاسدة سقطت من الشجرة وأكلها الذباب.

لا يسمع ما تقول، مجرَّد عبارة عابرة في الرواية، كتبتها كارمن في لحظة غضب، أراد أن يصفع عينيها الثاقبتين لا يطرف لها رمش، أراد أن يبكي أمامها لولا الخجل والعار، رجل مثله يبكي أمام فتاة مثلها؟ لمعت الدموع في عينيه رغم إرادته، كشفها ضوء خافت يتسلَّل من شقوق الشيش، هناك شيء يفوق إرادته دائمًا، مثل دمعة ساخنة حبيسة من وراء عينيه، تفاجئه إلى أذنيه أغنية في عيد الأم، يتذكَّر أمه الغائبة وأختها التوأم، أو حين يتمشَّى على شاطئ النيل ويرى كلبًا عجوزًا مربوطًا بسلسلة، تفر الدمعة الحبيسة من وراء عينيه كأنما هو هذا الكلب العجوز المربوط.

يتمتم رستم بصوت متحشرج، أنا أخطأت في حقكِ، سامحيني، أنا أخطأت في حق كارمن وكل امرأة عرفتها، أنا ملعون مطرود من الجنة مثل إبليس، أنا مثل إبليس بدون أم، لو كان لإبليس أم ربما لم يكن إبليس! آه من الهلاوس … ما دخل إبليس بما أنا فيه، وهل آمنتُ أنا بوجود إبليس؟

فتح رستم عينيه عن آخرهما وصاح: كل شيء عبث! كان يردِّد هذه العبارة دائمًا في لحظات الفشل، حين تهجره كارمن، حين يسقط في الانتخابات، حين يتسلَّم جائزة عن رواية تافهة، حين ينجذب إلى امرأة لا تنجذب إليه، وحين يرى صورة ابنه غير الشرعي ملزوقة على جدار بيته، يضرب الهواء بقبضة يده صائحًا، كل شيء عبث في هذا العالم! ويشوح بيده ويتحشرج صوته: عبث!

من وراء جفونه يراها تنظر إليه، عيناها ثاقبتان ملامحها منحوتة في الحجر، كأنما ميتة، يجهد عينيه في السيطرة على عينيها، يفكِّر في سميح، لماذا أحبَّت سميح ولم تحبه هو؟ يستدير ويواجهها، يرفع يده عاليًا ليصفعها فوق عينيها، يريد أن يشقَّ قلبها بسكين، ويرى مَن هو الرجل داخل قلبها، هي كارمن عن يقين أو نسخة منها طبق الأصل، الوحيدة من النساء التي أحبها، والوحيدة من النساء التي لم تحبه.

•••

سيارته المرسيدس تجتاز شوارع القاهرة، تتحرَّك عجلة القيادة وحدها تحت يده النائمة، المقعد إلى جواره خاليًا، يرمقه بطرف عين مندهشًا، كأنما كارمن كانت جالسة في هذا المقعد منذ لحظة، ثم غادرته في الحلم، أو دخل حلم مضى منذ سنين، تبدو الوجوه في الشوارع نائمة، نصف ميتة، محنَّطة بطريقة غريبة، مثل الفراشات التي كان يحنِّطها داخل الكتب في المدرسة، دوائر رمادية حول عيونهم نجت من الموت، ترمقه العيون من وراء سحابة سوداء، يسوق رستم المرسيدس وهو نائم بكفاءة أكبر، لا يبطئ ولا يسرع، بالاتزان المعهود فيه حزب الحكومة، يمسك العصا من الوسط، لا يحب اليمين ولا اليسار، لا يمشي أبدًا إلى نهاية الطريق، يخاف النهاية كأنما الموت، يفحص وجهه في مرآة السيَّارة، لا يحب هذا الوجه منذ رآه في الطفولة، كانت خالته تقول إنه جميل، يحقد عليه الرجال لأنَّه جذاب للنساء، ينافسونه في الانتخابات وفي الحب سيَّان، من خلفه امرأة تشبه كارمن تقود سيَّارتها الفيات الصغيرة، تطارده كارمن في الحياة وفي الموت، كان المفروض أن تمضي من دون أثر كما يمضي كل البشر، لكنَّها تركت وراءها الرواية، لتنغِّص عليه عيشته، لتؤكد له أنَّها موجودة وإنْ ماتت، وهو غير موجود وإنْ دخل المجلس الأعلى ونالَ أعلى الجوائز، أصابه الذعر رغم اتزانه، كأنما لم يكتب أية رواية، كأنما كتبه المقرَّرة على المدارس تلاشت من الوجود، شوارع المدينة ترمقه بعيون مزدوجة وظلال مراوغة، تمتلئ الشوارع بالعيون والأنوف والأفواه، يقبض بيديه على عجلة القيادة، تهتز الأرض تحت العجلات، هل أصابه الجنون أم أنَّه زلزال حقيقي؟ ملايين الأفواه تهتف بصوت يرج الأرض، يسقط رستم! هي مظاهرة ضدَّه نظَّمها المنافسون له في المجلس؟

وضع رأسه فوق عجلة القيادة، نام بضع لحظات، يشعر بما يشبه الإرهاق، لا يصيبه الإرهاق إلَّا عند الفشل، يفتعل خناقة مع زوجته لأيِّ سبب، يتصوَّر على نحو عجيب أنَّها السبب وراء فشله، يزعق بأعلى صوته حتى يسقط في النوم، ماتت زوجته ولم يَعُد له أحد يزعق فيه، يصحو رستم من النوم فجأةً، لا تزال يداه فوق عجلة القيادة، لم تكن زوجته امرأة، كانت كاتبة، تزعق فيه بمثل ما يزعق فيها، يرتفع صوتها على صوته، فيسكت، لا شيء يسكته إلَّا الصوت الأعلى منه، يستقر في النهاية بين ذراعيها، لم تكن تشتهي شفتيه، كانت تشتهي شيئًا آخر، رجلًا آخَر أو امرأة أخرى، أو ربما هي شهوة الكتابة، تفوق الشهوات الأخرى، وكان هو يشتهي شهوتها، يحاول أن يكتب مثلها وهو لا يحبُّ الكتابة، لا يندم على شيء في حياته إلَّا الكتابة، كانت الصفحة البيضاء ترمقه بعين حمراء، مثل عين إبليس، أو عين أبيه وهو طفل، عين مفتوحة ترقبه، لا تكفُّ عن مراقبته، تؤنِّبه لأيِّ حركة، أو من دون حركة، لمجرد الجلوس أمام الصفحة البيضاء من دون أن تكتب حرفًا، ويقول رستم لنفسه: ربما عين أبيه هي السبب وراء فشله في الكتابة، أو ربما هي عين زوجته. لو كانت كارمن امرأة وليست كاتبة ربما أصابه النجاح، كأنما الكتابة فيروس يأكل خلايا المرأة.

تنحرف السيَّارة لتدخل جاردن سيتي، كأنما تعرف الطريق وحدها، لا يزال الحي هادئًا كما كان إلَّا ميكروفون ضخم أصبح معلقًا فوق مئذنة طويلة برزت فجأة كأنما من بطن الأرض، ومحل جديد لبيع الهامبرجر ظهر فجأة أيضًا عند ناصية الشوارع، بالإعلان الذي تضيء حروفه وتنطفئ ثم تضيء وتنطفئ، لتعود تضيء من جديد، من دون توقُّف إلى الأبد. يتنهَّد بصوت مسموع متذكِّرًا قصيدة مريم الشاعرة، ليس هناك إلى الأبد حتى الحب، ويضيف بصوت غير مسموع، حتى ماكدونالد.

•••

يتقلَّب رستم فوق سريره العريض مؤرقًا، أصبح السرير بعد غيابها أعرض مما كان، هذه المرة لا تغيب كارمن على نحوٍ مؤقتٍ، بل هو غياب إلى الأبد، تتوقَّف كلمة إلى الأبد في حلقه كالغصة، لا يتخيَّل شيئًا إلى الأبد، ربما هي في الحمَّام، يكاد يسمع صوتها تغنِّي داخل البانيو، لم تكن تغنِّي بهذا الصوت العذب إلَّا بعد أن تنتهي من الرواية، كأنَّما بلغت قمة الأورجازم ودخلت تستحم، تملأ البانيو بالماء الدافئ، تدعك جسدها بالليفة والصابون، كأنما تغسل عن نفسها إثم اللذة.

يضغط رستم على زر النور، يرى الرواية إلى جوار السرير فوق الكوميدينو، مكتوب عليها اسمها: كارمن الحرف وراء الحرف محفور، يكاد يشبه تقاطيع وجهها الحجرية، كأنما منحوتة في الصخر، وعيناها ثاقبتان لا يطرف لهما جفن.

فتح رستم الرواية عند الفصل الأخير، لم يبقَ أمامه إلَّا آخِر فصل، بدت حروفها غير واضحة. التيار الكهربائي يضعف أم عيناه تضعفان؟ يتذكَّر فجأة أنَّه لا يرتدي نظارة القراءة، يبحث عنها في غرفة النوم، في المكتبة، في أدراج المكتب، في صالة الداخلية، في أي مكان البيت، من دون جدوى، اختفت نظارة القراءة، لا شيء يغضبه مثل اختفاء نظارة القراءة قبل النوم، ويزعق بصوتٍ غاضبٍ: راحت فين النضارة؟

– … …

– فين النضارة؟

– … …

– طبعًا مش سمعاني! غرقانة في الرواية!

– … …

– فين النضارة يا ست هانم؟

– … …

لم تكُن كارمن ترد عليه، تقول لنفسها، رجل يسأل زوجته أين وضع نظارته، المفروض أن يسأل نفسه لو عنده منطق، لكنَّ المنطق يغيب عن عقل الرجل المتزوِّج، يتصوَّر أنَّ زوجته مسئولة عن نزواته وزلَّاته وضعف ذاكرته، وسقوط شعر رأسه، واختفاء نظارته أو مفتاح سيَّارته أو زجاجة الحبوب الخافضة لضغط الدم، أو الرافعة للمعنويات، أو الحبوب المقوِّية زوجيًّا أو جنسيًّا.

ينسى رستم أنَّ زوجته ماتت، ويزعق بصوت أعلى، يشعر في غيابها بحرية أكبر للغضب منها، أو ربما بشجاعة أكبر.

– فين النضارة؟ سامعاني؟

– … …

– تسمعيني إزاي وانتي غرقانة في الرواية.

– … …

الرواية، الرواية، الرواية.

لم يكن رستم يكفُّ عن ترديد هذه الكلمة حتى تضج كارمن وتقذف بقلمها إلى الأرض زاعقة: وماله لما أغرق في الرواية؟! حرام إني أغرق في الرواية؟! هي الرواية دي راجل تاني؟

– لو كانت راجل تاني كان أحسن، على الأقل يأخذ نص عقلك وأنا آخذ النص الثاني، كده بالعدل والقسطاس.

– أيْوه، زي العدل بين الزوجات.

تسيطر نوبة الغضب على رستم وهو يقرأ الفصل الأخير، يدوِّن الحوار بين الزوجين في الرواية كما كان يدون بينه وبين زوجته، ثم تنقضي لحظة الغضب، يعثر رستم على الشيء الضائع منه كان ينسى أحيانًا ويضع النظَّارة في الثلَّاجة، ويقول لكارمن العباقرة مصابون بداء النسيان، لأنَّ عقلهم مشغول بالأشياء الأهم، يحكي لها عن ليسنج العظيم، ذات مرة عاد في الليل إلى بيته ودقَّ الباب (كان قد نسي المفتاح) فأطلَّ خادمه من النافذة، منعته الظلمة من رؤية سيِّده، تصوَّر أنَّه زائر، فقال معذرة يا أستاذ، سيِّدي ليس بالمنزل، فاستدار ليسنج مبتعدًا، وهو يقول حسنًا سأعود مرة أخرى.

وتضحك كارمن على هذه الحكاية في كلِّ مرة تسمعها من زوجها، تقول لنفسها: لا بأس من إظهار الإعجاب بقصص الزوج المعادة مثل كل الزوجات السعيدات، وهي زوجة ليست غير سعيدة، تحظى بحرية أكبر من النساء، لكنَّها أقل من الحرية الضرورية للكتابة، تحس بشيءٍ في أعماقها محبوس، ليس الروح ولا الجسد ولا العقل، شيء مجهول بداخلها في العمق، تحاول أن تفكَّ قيوده، يشبه المارد المربوط بالحبال، تسعى بالكتابة لتحريره من دون جدوى، كأنما المرأة لا يمكن أن تكون حرَّة بينما النساء مكبلات، ولا يمكن للكتابة أن تحرِّر في عالَم تغيب منه الحريات.

يتنهَّد رستم وهو يقرأ، آه صحيح، يبدو كلام كارمن معقولًا بعد موتها، ربطوها في المستشفى بأعمدة السرير، سلَّطوا على رأسها تيار الكهرباء، كان هدفهم هو رأسها وليس الجسد أو الرحم أو الروح، فقط رأسها وما هو داخل الرأس، عقلها كان هو المطلوب ليسحقه التيار الكهربائي، جريمتها كانت في عمق الرأس حيث مركز العقل، وانتصرت عليهم كارمن في اللحظة الأخيرة قبل الموت، انطلق المارد من أعماقها، بقوة مجنونة، كافية لتدمير العالم، كانت حركتها هي الأخيرة قبل انعدام الحركة، قمة اليأس حين تصبح الحركة الأخيرة هي ذروة الأمل، وتصبح الكلمة المكبَّلة بالقيود منطوقة.

أنهى رستم الفصل الأخير من الرواية، أصبح جالسًا في السرير خلف ظهره الوسادة، لا يريد أن ينام ولا يريد أن يصحو، يتمنَّى الظلام الكامل ليفقد الوعي، ضغط على الزر ليطفئ النور لكنَّ الظلام لم يتحقَّق، هناك ضوء يتسرب من شقوق الشيش، يضيء الحرف وراء الحرف وينطفئ، ويعود يضيء من جديد، من دون توقف، يقول لنفسه: لن يبقى بعد موته شيء إلَّا هذا الإعلان، وهناك شيء أفظع من الموت، وهو الأرق، عدم القدرة على النوم، لا يستطيع أن ينام إلَّا في الظلمة الكاملة، كان ينام كلَّ ليلة من دون جهد، ربما ليس هو رستم الذي كان، ربما لم يكن هو رستم أبدًا، كان شبيهًا برجل اسمه رستم، زوج كارمن في الرواية، عضو المجلس الأعلى صاحب أعلى الجوائز، ليس هو هذا الرستم المتكوِّر حول جسده في السرير، تفوح منه رائحة ماء الكولونيا لافندر، ورائحة أخرى تشبه العرق يلتقطها أنفه لأول مرة.

ينهض رستم ليدخل إلى الحمَّام، يغسل جسده بالماء والصابون داخل البانيو، يتعكَّر الماء بلون أصفر له رائحة العرق، يخرج رستم من البانيو، ينظر في المرآه فوق الحوض، يرى شخصًا يقف خلفه يزغلل عينيه بضوء في يده، يستدير بسرعة مستعدًّا للدفاع عن نفسه، لا أحد هناك، مجرَّد ضوء الإعلان في الشارع يتسلَّل خلف نافذة الحمَّام، يستدير رستم وينظر إلى وجهه في المرآة، يعود الشبح إلى الظهور من خلفه، وجه رجل نسخة منه يقف خلفه مباشرة، بعد الاستدارة أدرك الخدعة، مدَّ يده إلى الفرشاة، غمر وجهه وذقنه بمعجون الحلاقة، ملأت أنفه اللافندر، سيعود إلى السرير لينام مع زوجته، ليأخذها بقوة دون إرادتها، لا شيء يعالج الأرق إلَّا العنف والعرق الغزير إلى حدِّ الغرق.

ويرفع رستم رأسه إلى السقف، أبيض مصقول إلَّا من نقطة سوداء تتحرَّك خفية، ربما ذبابة أو بعوضة، لم يكن يستطيع النوم في مكان واحد مع ذبابة أو بعوضة، كان يصعد فوق السلم ويطاردها بالملطشة، تهرب منه في مكان خفي، لا يعثر عليها أبدًا في أيِّ مكان، ربما هربت إلى غرفة النوم تحت السرير، ينثني ليبحث عنها تحت السرير، وراء الدولاب، من دون جدوى … معركة تدور بينه وبين البعوضة، يهمس لنفسه بلا صوت، عقلها أذكى من عقلي، لو سمعه المنافسون له هذه اللحظة؟ أو لو رأوه وهو يزحف تحت السرير باحثًا عن بعوضة؟ طرد الفكرة من رأسه بحركة من يده، ولماذا لا يتطوَّر عقل البعوضة كما تطوَّر عقل المرأة، وأصبحت كاتبة؟

ويقفز رستم فوق السرير بحركة طفولية، في أعماقه طفل وإنْ أصبح جسمه طويلًا عريضًا، يكاد يدفن وجهه في الوسادة كأنما صدر أمه أو أختها التوأم، يرفع رأسه عن الوسادة فجأةً، خطرت له فكرة لم تخطر له من قبل، عاد إلى الحمَّام، فتح خزانة الأدوية، هناك زجاجة من البلاستيك داخلها الحبوب، كان يأخذ حبة واحدة أو نصف حبة قبل النوم، أفرغ الزجاجة كلها فوق الرف الزجاجي، كان عددها أربعًا وثلاثين حبة، قال لنفسه: ربما تكفي، الأمر سهل، مع كوب من الماء أو نصف كوب، أمر سهل جدًّا، يبتلعها كلها دفعة واحدة.

تلفه العتمة وهو يدخل إلى غرفة النوم، كل شيء كما كان، حتى كارمن راقدة في السرير تنتظره، تفسح له مكانًا بجوارها، تحوطه بذراعيها وتقول: أقسم أنَّك حبِّي الوحيد.

– مَن يقول الحقَّ لا يحتاج إلى القَسَم.

– أجمل الحب أكْذبُه كما تقول مريم الشاعرة.

يبدو أنَّها تتلاعب بالكلمات المراوغة، وفي هذه اللحظة تختفي كارمن، كما كانت تختفي لتكتب الرواية، لم تكن تستطيع الكتابة في وجوده، جسده يبدو كأنَّما لم يَعُد موجودًا، مثل شبح أو روح تفكِّر من دون أن يكون لها جسد، وعين تراقب من دون أن ترى … ومن بعيد، من بعيد جدًّا ينبعث ضوء من وراء النافذة يضيء وينطفئ ويضيء وينطفئ … ثم ينطفئ دفعة واحدة … دفعة واحدة ينطفئ ولا يعود يضيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤