الفصل الأول

فيض المشاعر

قراءة الروايات وتخيل المساواة

قبل أن ينشر روسو كتابه «العقد الاجتماعي» بعام، جذب أنظار العالم إليه من خلال روايته الأكثر مبيعًا «جولي، أو إلواز الجديدة» (١٧٦١). ومع أن القراء المعاصرين ينظرون أحيانًا إلى الرواية الرسائلية أو المكتوبة في صورة خطابات على أنها بطيئة التطور على نحو مثير للضجر، فإن قراء القرن الثامن عشر تجاوبوا معها تجاوبًا شعوريًّا عميقًا، لقد أثار العنوان الفرعي توقعاتهم؛ ذلك لأن قصة العصور الوسطى التي تدور حول حب إلواز وأبلارد المقدر له الفشل كانت ذائعة الصيت، والتي فيها أغوى فيلسوف القرن الثاني عشر، رجل الإكليروس الكاثوليكي، بيتر أبلارد، تلميذته إلواز ودفع ثمن ذلك غاليًا على يد عمها الذي أخصاه، وبعد أن انفصل الحبيبان إلى الأبد، أخذا يتبادلان خطابات الهيام التي أسرت ألباب القراء على مر العصور. وللوهلة الأولى بدت محاكاة روسو المعاصرة لهذه القصة الواقعية تشير إلى اتجاه مختلف تمام الاختلاف؛ فإلواز الجديدة، التي هي جولي في قصة روسو، تقع في غرام مدرسها أيضًا، لكنها تتخلى عن حبيبها سانت برو المعدم نزولًا على طلب والدها المتسلط بأن تتزوج من وولمار، الجندي الروسي الذي يكبرها سنًّا، والذي أنقذ حياة والدها ذات مرة. إنها لا تتغلب على مشاعرها تجاه سانت برو فحسب، بل تعلمت أيضًا على ما يبدو أن تحبه كمجرد صديق قبل أن تموت بعد إنقاذ ابنها الصغير من الغرق. فهل قصد روسو في قصته أن يشيد برضوخها للسلطة الأبوية والزوجية، أم أنه رمى إلى تصوير تضحيتها برغباتها الخاصة على أنها مأساة؟

ولا تفسر الحبكة الدرامية — حتى مع الغموض الذي يشوبها — فيض المشاعر المتفجر الذي شعر به قراء روسو؛ فما حرك مشاعرهم هو توحدُهم الشديد مع شخصيات الرواية، ولا سيما جولي. ولمَّا كان روسو يحظى بالفعل بشهرة عالمية، فقد انتشرت أخبار اقتراب نشر روايته الجديدة كالنار في الهشيم؛ كان أحد أسباب هذا هو أنه قرأ فقرات منها على مسامع العديد من الأصدقاء، ومع أن فولتير هزأ منها واصفًا إياها ﺑ «النفاية البائسة»، فإن جان لو رون دي المبير، المحرر المساعد لدنيس ديدرو في «موسوعة الفنون والعلوم والحرف»، كتب إلى روسو يخبره أنه «التهم» الكتاب التهامًا. وقد نبَّه روسو إلى أن يتوقع النقد في «بلد يسهب أبناؤه في الحديث عن الأحاسيس والمشاعر ولا يعرفون عنها إلا أقل القليل». أقرت صحيفة «دي سافانت» أن الرواية بها عيوب، بل بعض الفقرات المليئة بالإطناب، إلا أنها انتهت إلى أن قساة الأفئدة وحدهم هم من يستطيعون أن يقاوموا «فيض المشاعر الذي يجتاح النفس بشدة، والذي يعتصر من أعين الناس، بقوة قاهرة مستبدة، تلك الدموع المريرة».1
كتب رجال الحاشية الملكية، ورجال دين، وعسكريون، وأناس عاديون من شتى مناحي الحياة إلى روسو يصفون شعورهم ﺑ «نار مستعرة آكلة» تجتاحهم، و«تراكم لمشاعر متأججة واضطرابات متزايدة». روى أحدهم أنه لم يبكِ موت جولي، بل بالأحرى كان «يولول ويعوي كالحيوانات» (انظر الشكل رقم ١-١). وكما علق أحد معلقي القرن العشرين على هذه الخطابات التي بعثها القراء إلى روسو، فإن قراء الرواية في القرن الثامن عشر لم يقرءوها بسرور، بل ﺑ «شغف، واهتياج، وتشنجات، وتنهدات». وظهرت الترجمة الإنجليزية في غضون شهرين من صدور النسخة الفرنسية الأصلية، وتبعها صدور عشر طبعات باللغة الإنجليزية في الفترة بين عامي ١٧٦١ و١٨٠٠. وصدرت مائة وخمس عشرة طبعة من النسخة الفرنسية في نفس الفترة؛ لتسد الشهية الشرهة للجماهير من قراء الفرنسية في جميع أنحاء العالم.2
fig1
شكل ١-١: موت جولي. (أثار هذا المشهد الأسى أكثر من بقية مشاهد رواية «جولي، أو إلواز الجديدة». رسم هذه الصورة نيكولاس ديلوناي استلهامًا من لوحة الفنان المعروف جان ميشيل مورو التي ظهرت في طبعة عام ١٧٨٢ لمجموعة أعمال روسو.)
عرَّضت «جولي» قراءها لشكل جديد من أشكال التعاطف. ومع أن روسو ساهم في رواج مصطلح «حقوق الفرد»، فلا تكاد حقوق الإنسان بأي صورة تكون الموضوع الرئيسي لروايته التي تدور عن المشاعر والحب والفضيلة. على أن «جولي» شجعت على التوحد المشحون بالمشاعر مع شخصيات الرواية، وبهذا مكنت القراء من التوحد الذي يتخطى الطبقات الاجتماعية والنوع والحدود القومية؛ إذ كان قراء القرن الثامن عشر — حالهم حال سابقيهم — يتعاطفون مع أولئك المقربين منهم، وأولئك الذين يشبهونهم بوضوح؛ من أفراد أسرهم وذويهم وأبناء أبرشيتهم، وأندادهم الاجتماعيين المألوفين لهم بوجه عام. لكن اضطر الأشخاص الذين عاشوا في القرن الثامن عشر أن يتعلموا التعاطف في إطار أكثر اتساعًا. يروي ألكسيس دي توكوفيل واقعة كان قد رواها سكرتير فولتير عن مدام دو شاتيليه التي لم تكن تتردد في أن تتجرد من ملابسها أمام خدمها «غير معتبرة أن كون الخدم من الرجال حقيقة ثابتة»، ولا يمكن أن يكون هناك معنى لحقوق الإنسان إلا عندما يُنظر إلى الخدم على أنهم رجال أيضًا.3

الروايات والتعاطف

جذبت روايات مثل «جولي» قراءها إلى التوحد مع شخصيات عادية، مجهولة للقارئ على المستوى الشخصي. وتعاطف القراء مع شخصيات الرواية، لا سيما البطل أو البطلة بفضل الشكل نفسه الذي صيغت به الرواية. وبعبارة أخرى، علَّمت الروايات الرسائلية قراءها، من خلال التبادل التخيلي للخطابات، طريقة جديدة في التفكير، وخلال ذلك وضعت الأسس لنظام اجتماعي وسياسي جديد. لقد جعلت الروايات من جولي التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى — بل حتى الخدم من أمثال «باميلا»، بطلة رواية صامويل ريتشاردسون التي تحمل نفس الاسم — مساوية للأثرياء، بل أفضل من بعضهم أمثال «السيد بي»، سيد باميلا الذي يحاول إغواءها. أوضحت الروايات أن جميع الناس متشابهون في جوهرهم بفضل مشاعرهم الداخلية، وقد سلطت العديد من الروايات الضوء على الرغبة في الاستقلال الذاتي بصفة خاصة، وبهذه الطريقة، خلقت قراءة الروايات حسًّا بالمساواة والتعاطف من خلال الانغماس الوجداني في القصة. هل يمكن أن يكون نشر أعظم ثلاث روايات تناولت موضوع التوحد النفسي في القرن الثامن عشر — روايتي «باميلا» (١٧٤٠) و«كلاريسا» (١٧٤٧-١٧٤٨) لريتشاردسون، ورواية «جولي» (١٧٦١) لروسو — في الفترة التي سبقت مباشرة ظهور مفهوم «حقوق الفرد» محض مصادفة؟

غني عن القول أن شعور التعاطف لم ينشأ في القرن الثامن عشر، فالقدرة على التعاطف قدرة بشرية جامعة؛ لأنها متأصلة في بيولوجية المخ؛ فهي تعتمد على قدرة بيولوجية على فهم ذاتية الآخرين وعلى تخيل أن مشاعرهم الداخلية تشبه مشاعر الإنسان نفسه. فمثلًا: الأطفال الذين يعانون مرض «التوحد» لديهم صعوبة كبيرة في فهم معنى تعبيرات الوجه باعتبارها مؤشرات على المشاعر، ولديهم صعوبة عامة في أن ينسبوا الحالات الشخصية إلى الآخرين. وباختصار، يتسم مرض التوحد بعدم القدرة على التعاطف مع الآخرين.4

في الوضع الطبيعي يتعلم كل فرد التعاطف في مرحلة مبكرة من العمر، ومع أن البيولوجيا توفر النزعة الطبيعية الأساسية للتعاطف، فإن كل ثقافة تُشكل التعبير عن التعاطف على طريقتها الخاصة. لا يتطور التعاطف إلا من خلال التفاعل الاجتماعي، وعلى هذا يتشكل التعاطف من خلال أشكال هذا التفاعل بطرق هامة. في القرن الثامن عشر، تعلَّم قراء الروايات توسيع نطاق تعاطفهم؛ فأثناء القراءة تمكنوا من ممارسة التعاطف بما يتجاوز الحدود الاجتماعية التقليدية بين طبقتي النبلاء والعامة، وبين السادة والعبيد، وبين الرجال والنساء، بل ربما أيضًا بين الكبار والصغار. ونتيجة لذلك، بدءوا ينظرون إلى آخرين — أشخاص لم يعرفوهم معرفة شخصية من قبل — على أنهم مشابهون لهم، ولديهم نفس المشاعر الداخلية. وبدون عملية التعلم هذه، ما كان ممكنًا أن تحظى «المساواة» بهذا المعنى العميق، وبالأخص ما كانت لتحقق نتيجة سياسية. والمساواة بين الأرواح في السماء لا تعني تساوي الحقوق هنا على الأرض؛ فقبل القرن الثامن عشر، كان يسهل على المسيحيين قبول أمر المساواة بين الأرواح في السماء دون أن يقروا بالحقوق المتساوية على الأرض.

وربما كان بالإمكان اكتساب القدرة على التعاطف عبر الحدود الاجتماعية بطرق شتى، ولا أدعي أن قراءة الروايات كانت هي الطريقة الوحيدة لذلك. غير أن هذه الطريقة تبدو وثيقة الصلة بالموضوع أكثر من غيرها، ويُعزى هذا جزئيًّا إلى أنه تصادف بلوغ نوعية معينة من الروايات — الرواية الرسائلية — ذروة رواجها في وقت تزامن مع مولد مفهوم حقوق الإنسان. بزغت الرواية الرسائلية باعتبارها لونًا جديدًا من ألوان الكتابة في الفترة ما بين ستينيات وثمانينيات القرن الثامن عشر، ثم تلاشت على نحو شديد الغموض في تسعينيات القرن نفسه. كانت الروايات من كل نوع قد نُشرت من قبل، لكنها ازدهرت باعتبارها لونًا جديدًا من ألوان الأدب في القرن الثامن عشر، ولا سيما بعد عام ١٧٤٠ الموافق لنشر رواية «باميلا» لريتشاردسون. في فرنسا، نُشرت ثماني روايات جديدة في عام ١٧٠١، واثنتان وخمسون رواية في عام ١٧٥٢، ومائة واثنتا عشرة رواية في عام ١٧٨٩. وفي بريطانيا تضاعف عدد الروايات الجديدة ست مرات في الفترة ما بين العقد الأول وستينيات القرن الثامن عشر؛ كان يظهر زهاء ثلاثين رواية جديدة كل عام في سبعينيات نفس القرن، وأربعين رواية كل عام في ثمانينيات نفس القرن، وسبعين رواية كل عام في تسعينيات نفس القرن. علاوة على ذلك، زاد عدد الأشخاص الذين يستطيعون القراءة، وأبرزت الروايات في ذلك الحين الأشخاص العاديين باعتبارهم الشخصيات المحورية التي تجابه المشكلات اليومية؛ من مشكلات في الحب، والزواج، والنجاح في الحياة. وارتفع معدل الإلمام بالقراءة والكتابة، حتى إن الخدم — الذكور منهم والإناث — قرءوا الروايات في المدن الكبيرة، مع أن قراءة الروايات لم تكن شائعة حينذاك، ولا حتى الآن، وسط الطبقات الأدنى؛ فالفلاحون الفرنسيون — الذين كانوا يشكلون ما يعادل ثمانين في المائة من عدد السكان — لم يقرءوا الروايات عادة؛ هذا إن كانوا يستطيعون القراءة أصلًا.5
وعلى الرغم من محدودية جمهور القراء، فإن الأبطال والبطلات العاديين لروايات القرن الثامن عشر، بدءًا من «روبنسون كروزو» و«توم جونز» ووصولًا إلى «كلاريسا هارلو» و«جولي دي إيتانجيه»، ذاع صيتهم في كل حدب وصوب، بل أحيانًا وسط أولئك الذين لا يعرفون القراءة. وفي ذلك الوقت أفسحت شخصيات الطبقة الأرستقراطية أمثال «دون كيشوت» و«أميرة كليف» — التي انتشرت بشدة في روايات القرن السابع عشر — الطريق أمام الخدم والبحارة وفتيات الطبقة الوسطى (فحتى جولي، بوصفها ابنة نبيل سويسري متواضع الشأن، تبدو أقرب إلى الطبقة الوسطى). إن سطوع نجم الرواية في القرن الثامن عشر لم يمر مرور الكرام، بل ربطه الدارسون على مر السنين بالرأسمالية، والطبقة المتوسطة الطموحة، وانتشار منتديات الرأي، وظهور الأسر الصغيرة، والتحول الذي حدث في العلاقة بين الجنسين، بل بظهور القومية أيضًا. وأيًّا كانت أسباب نهضة الرواية، فما يعنيني هو آثارها النفسية وكيف ترتبط ببزوغ حقوق الإنسان.6

ولكي نفهم كيفية تشجيع فن الرواية على التوحد النفسي، سأركز على ثلاث روايات مؤثرة من الروايات الرسائلية: رواية «جولي» لروسو، وروايتين لسلفه وقدوته — باعترافه هو نفسه — صامويل ريتشاردسون هما: «باميلا» (١٧٤٠)، و«كلاريسا» (١٧٤٧-١٧٤٨). كان من الممكن أن تتناول مناقشتي الرواية في القرن الثامن عشر على وجه العموم، وإذن لكنت أخذت بعين الاعتبار النساء العديدات اللائي كتبن الروايات والشخصيات الذكورية أمثال «توم جونز» أو «تريسترام شاندي» اللذين نالا حظهما من الاهتمام بلا شك، لكنني قررت التركيز على «جولي»، و«باميلا»، و«كلاريسا»، وهي الروايات الثلاث التي كتبها رجال وركزت على أبطال من الإناث، بسبب تأثيرها الثقافي الذي لا جدال فيه. هذه الروايات ليست هي المسئولة وحدها عن التغيرات التي طرأت على التعاطف والتي نقتفي أثرها هنا، ولكن النظر عن كثب لكيفية استقبالها يبين لنا التعلم الجديد للتعاطف أثناء حدوثه. ولكي نفهم ما الذي استجد على «الرواية» — وهي كلمة اقتصر استخدامها على المؤلفين فحسب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر — من المفيد أن نرى كيف أثرت روايات معينة على قرائها.

في الرواية الرسائلية، لا توجد وجهة نظر للمؤلف خارج الأحداث وأعلاها (كما حدث لاحقًا في الرواية الواقعية في القرن التاسع عشر)؛ فوجهة نظر المؤلف هي نفسها آراء الشخصيات كما اتضحت في خطاباتهم. لقد خلق «محررا» الخطابات — كما أطلق كل من ريتشاردسون وروسو على أنفسهما — حسًّا واقعيًّا قويًّا، ويرجع هذا على وجه التحديد إلى احتجاب حرفتهما الكتابية وسط تبادل الخطابات، مما عزز حس التوحد عند القراء كما لو كانت شخصية الرواية حقيقية وليست من وحي الخيال. وقد علق كثيرون من المعاصرين على هذه التجربة؛ بعضهم بفرح وإعجاب، والبعض الآخر بقلق، بل باشمئزاز.

أثار نشر روايات ريتشاردسون وروسو ردود فعل فورية؛ لم يقتصر هذا على البلد الذي ظهر فيه النص الأصلي لكل رواية. وقد نشر رجل فرنسي مجهول الهوية حينذاك — وبات معلومًا الآن أنه كان قسًّا — خطابًا مكونًا من اثنتين وأربعين صفحة في عام ١٧٤٢ وصف فيه تفصيليًّا الاستقبال «النهم» الذي لاقته الترجمة الفرنسية لرواية «باميلا»، قال فيه: «لا يمكنك أن تدخل إلى منزل من المنازل دون أن تجد فيه باميلا ما.» ومع أنه يدعي أن الرواية يشوبها الكثير من العيوب، فإنه يعترف قائلًا: «لقد التهمتها التهامًا.» (وقد اتضح لاحقًا أن لفظة «الالتهام» هي الاستعارة الأكثر شيوعًا عند الإشارة لقراءة هذه الروايات.) وهو يصف مقاومة باميلا لمناغاة السيد «بي»، رب عملها، كما لو كانا شخصين حقيقيين وليسا شخصيتين من وحي الخيال. ثم يجد نفسه مأخوذًا في غياهب الحبكة الدرامية؛ فيرتجف متى كانت باميلا في خطر، ويتملكه الغضب الشديد متى تصرفت الشخصيات الأرستقراطية أمثال السيد «بي» بطريقة مشينة منحطة، ويعزز على الدوام اختياره للكلمات وأسلوبه في الحديث حس الانغماس العاطفي الذي تخلقه قراءة الرواية.7
كانت الرواية المكونة من خطابات تستطيع خلق مؤثرات نفسية أخَّاذة؛ لأن شكلها الروائي يسَّر تطور «الشخصية»، أي ذات الشخص الداخلية. فعلى سبيل المثال: تصف باميلا لأمها في أحد خطاباتها الأولى كيف حاول رب عملها أن يغويها، فتقول:

… قبَّلني مرتين أو ثلاث بلهفة مخيفة، وأخيرًا تخلصت من قبضته، وهممت بالخروج من المنزل الصيفي، لكنه جذبني وأوصد الباب. كنت أفضِّل الموت على الاستسلام له. ثم قال لي: لن أؤذيكِ يا باميلا، لا تخافي مني. قلت له: لن أمكث. فقال: لن تمكثي أيتها الفاجرة! أما تعلمين إلى من تتحدثين؟ تحررت من كل مخاوفي وكل حدود اللياقة وأجبته: بلى يا سيدي، أعلم، أعلم جيدًا! ولسوف أنسى أنني خادمتك متى نسيتَ شِيَم السيد النبيل. بكيت وانتحبت بحزن هائل. فقال لي: يا لكِ من حمقاء فاجرة! هل مسستك بأذى؟ أجبته: أجل يا سيدي، وأي ضرر أبلغ من هذا في الدنيا، لقد علمتني أن أنسى نفسي وما يليق بي، ورفعت الكلفة والفوارق التي وضعها القدر بيني وبينك عندما حططت من قدر نفسك بتهجمك على خادمة فقيرة.

لقد قرأنا الخطاب مع الأم؛ فلا يحول بيننا وبين باميلا راوية، وليست هناك علامات اقتباس، ولا يسعنا إلا أن نتوحد مع باميلا ونعيش معها الإلغاء المحتمل للمسافة الاجتماعية بالإضافة إلى الخطر المحدق باستقلال ذاتها.8 (انظر الشكل رقم ١-٢).
fig2
شكل ١-٢: السيد بي يقرأ أحد خطابات باميلا لوالديها. (في أحد المشاهد الافتتاحية للرواية، يفاجئ السيد بي باميلا ويأمرها بأن تريه الخطاب الذي تكتبه. تمثِّل الكتابة طريقتها في التعبير عن استقلالها الذاتي. لم يستطع الفنانون والناشرون مقاومة إضافة تفاسير تصويرية للمشاهد الرئيسية. ظهرت هذه الصورة التي رسمها الفنان الهولندي جان بونت في ترجمة فرنسية مبكرة نُشرت في أمستردام.)

ومع أن المشهد يحظى بالعديد من الخصائص المسرحية، وأُعدَّ خاصة أثناء الكتابة لتظهر فيه والدة باميلا، فهو يختلف أيضًا عن الأداء المسرحي؛ لأن باميلا تسهب في الكتابة عن مشاعرها الداخلية. وبعد وقت طويل ستسطر صفحات عن تفكيرها في الانتحار عندما تبوء بالفشل خططها للهرب. وعلى النقيض، ما كانت المسرحية لتسير على هذا المنوال البطيء في الإفصاح عن الذات الداخلية، وهو أمر يُستدل عليه عادة من الأحداث أو من خلال الحديث. فالرواية المدونة في عدة مئات من الصفحات يمكنها أن تُظهر جوانب الشخصية بمرور الوقت، علاوة على أنها تفعل ذلك من منظور الذات الداخلية. والقارئ لا يتابع أفعال باميلا وحسب، بل أيضًا يشاطرها تطور شخصيتها وهي تكتب، ويصبح القارئ في نفس الوقت هو نفسه باميلا، حتى حينما يتخيل نفسه صديقًا لها ومراقبًا خارجيًّا للأحداث.

وما إن عُرف أن مؤلف رواية باميلا هو ريتشاردسون في عام ١٧٤١ (إذ نُشرت الرواية في أول الأمر من دون اسم)، حتى بدأ ريتشاردسون يتلقى الخطابات، لا سيما من المتحمسين. قال عنها صديقه آرون هيل: «روح الدين، وحسن التربية، وحصافة الرأي، ودماثة الخلق، والفطنة، والذوق الرفيع، والفكر الراقي، والفضيلة.» وكان ريتشاردسون قد أرسل نسخة من الرواية إلى بنات آرون هيل في أوائل ديسمبر عام ١٧٤٠، فسطر هيل على الفور ردًّا فوريًّا متعجلًا قال فيه: «منذ أن تسلمتها وأنا لا أفعل شيئًا سوى أن أقرأها على مسامع الآخرين، وأسمع الآخرين يتلونها على مسامعي؛ أظن أنني من المرجح ألا أفعل أي شيء آخر بخلاف هذا، والله وحده يعلم إلى متى سيستمر هذا الأمر … إنها تستحوذ على خيالي طوال الليل، كل صفحة فيها تحمل سحرًا؛ سحر العاطفة والمعنى.» عرَّض الكتاب قراءه لنوع من السحر؛ فطريقة سرد الرواية — بأسلوب تبادل الخطابات — تجرد القارئ من نفسه على نحو غير متوقع وتدخله في مجموعة جديدة من التجارب.9
ولم يكن هذا شأن هيل وبناته وحدهم، فسرعان ما اجتاح إنجلترا ولع شديد برواية «باميلا»، وقد قيل إنه في إحدى القرى قرع السكان أجراس الكنيسة لدى سماعهم إشاعة بأن السيد بي قد تزوج من باميلا في نهاية المطاف. وظهرت الطبعة الثانية في يناير ١٧٤١ (نُشرت الطبعة الأصلية في السادس من نوفمبر ١٧٤٠)، ثم توالت الطبعات فظهرت الطبعة الثالثة في مارس، والرابعة في مايو، والخامسة في سبتمبر. وبحلول ذلك الوقت، كان آخرون قد كتبوا بالفعل آثارًا مقلدة هزلية، ومقالات نقدية مطولة، وقصائد شعرية، ونسخ رخيصة التكلفة مقلدة عن النسخة الأصلية. وبمرور السنين توالى ظهور العديد من المعالجات المسرحية للرواية، والرسومات والصور المطبوعة للمشاهد الرئيسية. وفي عام ١٧٤٤ انضمت الترجمة الفرنسية إلى القائمة البابوية «للكتب المحظورة»، ولحق بها فيما بعد رواية روسو «جولي»، بالإضافة إلى العديد من الأعمال الأدبية لعصر التنوير. ولم يَرَ جميع الناس في مثل هذه الروايات «روح الدين»، أو «الفضيلة» التي ادعى هيل أنه رآها.10
وعندما بدأ ريتشاردسون في نشر رواية «كلاريسا» في ديسمبر ١٧٤٧ ارتفعت التوقعات بشدة؛ ففي الوقت الذي ظهرت فيه المجلدات الأخيرة (بلغت مجلدات الرواية في مجملها سبعة مجلدات، يتراوح كل منها بين ثلاثمائة إلى أربعمائة صفحة!) في ديسمبر عام ١٧٤٨ كان ريتشاردسون قد تلقى بالفعل خطابات القراء الذين يتوسلون إليه أن يضع نهاية سعيدة للرواية. تهرب كلاريسا مع لافلاس الماجن كي تتخلص من خاطبها الكريه الذي اقترحته عائلتها ليتزوج منها، وعندئذ تضطر كلاريسا أن تدرأ اعتداءات لافلاس، الذي يتمكن في آخر الأمر من اغتصابها بعد تخديرها. وعلى الرغم من عرض لافلاس التائب بالزواج منها، والمشاعر التي تكنُّها له، تموت كلاريسا مكسورة الفؤاد جرَّاء اعتداء الرجل الماجن على عفتها وإحساسها بذاتها. تحكي الليدي دوروثي برادشاي لريتشاردسون رد فعلها لدى قراءتها مشهد الموت فتقول: «انقبض صدري على نحو غريب، واضطرب نومي، واستيقظت تلك الليلة منفجرة في فورة من البكاء، وبكيت أيضًا على الإفطار في الصباح التالي، وها أنا ذا أبكي الآن أيضًا مرة أخرى.» وكتب الشاعر توماس إدواردز في يناير عام ١٧٤٩ يقول: «ما شعرت في حياتي كلها بكل هذا البؤس الذي شعرت به من أجل هذه الفتاة الغالية.» التي أشار إليها قبلًا باسم «كلاريسا المقدسة».11
راقت رواية كلاريسا للقراء المثقفين أكثر من عامة الناس، ومع ذلك فقد ظهر منها خمس طبعات على مدار الثلاثة عشر عامًا التالية، وسُرعان ما تُرجمت إلى الفرنسية (١٧٥١)، والألمانية (١٧٥٢)، والهولندية (١٧٥٥). وأظهرت دراسة للمكتبات الشخصية الفرنسية في الفترة بين ١٧٤٠ و١٧٦٠ أن روايتي «باميلا» و«كلاريسا» قد احتلتا مرتبتين في قائمة الروايات الإنجليزية الثلاث التي يرجح بشدة وجودها ضمن محتويات تلك المكتبات (كانت رواية توم جونز للمؤلف هنري فيلدينج هي ثالثتهما). ولا شك أن طول رواية «كلاريسا» قد ثبَّط عزيمة بعض القراء؛ فحتى قبل أن تدخل مخطوطات المجلدات الثلاثين مرحلة الطباعة، استبد القلق بريتشاردسون وحاول أن يختصرها. قدمت إحدى الرسائل الإخبارية الأدبية التي تصدر في باريس رأيًا متضاربًا عن الترجمة الفرنسية للرواية، قالت فيه: «لدى قراءتي لهذه الرواية شعرت بشيء غير عادي بالمرة؛ أبلغ سرور، وأعظم ملل.» غير أنه بعد مرور عامين أعلن مشارك آخر في نفس الرسالة الإخبارية أن عبقرية ريتشاردسون في تقديم العديد من الشخصيات المتفردة جعل من كلاريسا «أروع عمل خَطَّته يد إنسان تقريبًا».12
ومع أن روسو ظن أن روايته أسمى من رواية ريتشاردسون، فإنه صنَّف كلاريسا على أنها أفضل من سائر الروايات الأخرى: «لم يكتب أحد بعد، بأي لغة من اللغات، رواية تضاهي كلاريسا، أو حتى تدانيها.» واستمرت المقارنة بين روايتي «كلاريسا» و«جولي» على مدار القرن. صرَّحت جان ماري رولاند، زوجة أحد الوزراء والمنسق غير الرسمي لحزب الجيروندين السياسي إبان الثورة الفرنسية، لإحدى صديقاتها في عام ١٧٨٩، أنها تعيد قراءة رواية روسو كل عام، ومع ذلك لا تزال تعتبر عمل ريتشاردسون ذروة الكمال، وقالت لها: «ليس في العالم من الناس من يمكنه أن يقدم رواية تضاهي كلاريسا؛ إنها تحفة هذا النوع من الأدب، وهي النموذج الأسمى ومبعث اليأس لكل محاكٍ.»13
توحَّد الرجال والنساء على السواء مع البطلات النساء في هذه الروايات، ومن الخطابات التي بُعثت إلى روسو نعرف أن الرجال — حتى الضباط العسكريون منهم — تأثروا تأثرًا شديدًا بجولي. كتب شخص يُدعى لويس فرانسوا، وهو ضابط عسكري متقاعد، إلى روسو يقول: «لقد جعلتني مجنونًا بها! ولك إذن أن تتخيل الدموع التي اعتصرها مني موتها … لم أبكِ قط في حياتي مثل تلك الدموع المبهجة. كان لقراءة تلك الرواية أشد الأثر في نفسي، حتى إنني أوقن أنني كنت سأرحب بالموت بكل سرور خلال تلك اللحظة السامية.» واعترف بعض القراء جهارًا بتوحدهم مع شخصية البطلة الأنثى. وقال سي جيه بانكوك — الذي صار فيما بعد ناشرًا ذائع الصيت — لروسو: «مست نقاوة مشاعر جولي شغاف قلبي.» تخطى التوحد النفسي الذي يؤدي إلى التعاطف حدود النوع بالفعل؛ إذ لم يتوحَّد قراء رواية روسو من الذكور مع سانت برو، العاشق الذي أُجبرت جولي على هجره، وكان تعاطفهم أقل مع وولمار، زوجها اللطيف، أو البارون دي إيتانج، والدها المتسلط. لقد توحد القراء الرجال — شأنهم شأن النساء — مع شخصية جولي نفسها؛ فقد أضحى نضالها للتغلب على مشاعرها ولعيش حياة العفة هو نضالهم هم.14
من خلال شكلها ذاته إذن، استطاعت الرواية الرسائلية أن تبرهن أن الذاتية تعتمد على صفات «الكينونة الداخلية» (أن يكون للإنسان جوهر داخلي)؛ ذلك لأن شخصيات الرواية تعبر عن مشاعرها الداخلية في خطاباتها. علاوة على ذلك أوضحت الرواية الرسائلية أن كل النفوس تملك هذه الكينونة الداخلية (فالعديد من الشخصيات تكتب)، ومن ثم كل النفوس متساوية بطريقة ما؛ لأن جميعها متشابه في امتلاك الكينونة الداخلية. فعلى سبيل المثال: أحال تبادل الخطابات الفتاة الخادمة باميلا إلى نموذج لشخصية تتمتع بالفردية والاستقلال الذاتي الأبي بدلًا من النمط المتكرر للخادمة التي تدوسها الأقدام. وعلى غرار باميلا، تمثِّل كلٌّ من كلاريسا وجولي رمزًا للفردية ذاتها، وهكذا يصبح القراء أكثر وعيًا بكينونتهم الداخلية وكينونة كل فرد آخر.15
وبلا شك لم يشعر كل القراء بنفس المشاعر عند قراءة تلك الروايات؛ فمثلًا سخر الكاتب والروائي الإنجليزي الساخر هوراس والبول من «المناحات المملة» لريتشاردسون «التي هي صور مستوحاة من حياة الترف كما رآها بائع كتب، وقصص عشق أضفى عليها أحد معلمي الميثودية الطابع الروحي». غير أنه سرعان ما شعر الكثيرون أن ريتشاردسون وروسو قد أصابا وترًا ثقافيًّا حيويًّا. وبعد مرور شهر واحد على نشر المجلدات الأخيرة من كلاريسا، نشرت ساره فيلدينج، شقيقة الغريم الأعظم لريتشاردسون، التي كانت هي نفسها روائية ناجحة، كتيبًا مكونًا من ست وخمسين صفحة تدافع فيه عن الرواية من دون ذكر اسمها. ومع أن شقيقها هنري كان قد نشر واحدة من أول الآثار المقلدة الساخرة ﻟ «باميلا» (بعنوان: «دفاع عن حياة السيدة شاميلا أندروس» يفضح ويدحض الأكاذيب والافتراءات المشينة الكثيرة لكتاب بعنوان «باميلا»، ١٧٤١)، فإن ساره كانت قد كوَّنت علاقة صداقة قوية مع ريتشاردسون، الذي طبع إحدى رواياتها. وتصر إحدى شخصياتها الروائية — السيد كلارك — على أن ريتشاردسون قد نجح أيما نجاح في استدراجه إلى شبكة الخيال: «من جانبي، أنا على معرفة وثيقة بكل آل هارلوس (كما وردت في النص)، كما لو كنت قد عرفتهم منذ نعومة أظافري.» وتؤكد شخصية أخرى — الآنسة جيبسون — على مزايا أسلوب ريتشاردسون الأدبي قائلة: «حقًّا يا سيدي ما قلته عن أن القصة المسرودة بهذا الأسلوب لا يمكن أن تسير إلا ببطء، ولا يمكن أن نرى شخصياتها إلا من خلال الانتباه الشديد للحكاية ككل، غير أن الكاتب يحظى بهذه المزية عن طريق الكتابة في زمن المضارع، كما يقول هو نفسه، والكتابة بصيغة المتكلم بحيث تمس أفكاره قلوبنا في الحال، ونشعر بكل الآلام التي يصورها؛ فلا نبكي من أجل كلاريسا فحسب، بل نبكي معها أيضًا، ونصحبها خطوة بخطوة في محنتها وآلامها.»16
نشر عالم الفسيولوجيا السويسري الشهير والباحث الأدبي ألبرشت فون هالر مقالًا، دون أن يذكر اسمه، عبَّر فيه عن خالص إعجابه برواية «كلاريسا» في مجلة «جنتلمان» في عام ١٧٤٩. اجتهد فون هالر باستماتة كي يتعامل مع أصالة ريتشاردسون؛ فمع أنه قدر المزايا المتعددة للروايات الفرنسية الأولى، فإنه أكد على أنها: «في العموم لم تقدم ما يزيد عن مجرد صور للأحداث الشهيرة الخاصة بالشخصيات اللامعة»، بينما يرى القارئ في رواية ريتشاردسون إحدى الشخصيات «من نفس الطبقة الاجتماعية التي ننتمي إليها». وأولى الكاتب السويسري اهتمامًا خاصًّا إلى شكل الرواية الرسائلية؛ فمع أن القراء قد يواجهون صعوبة في الاقتناع بأن كل الشخصيات راق لها أن تمضي وقتها في تدوين كل مشاعرهم وأفكارهم الداخلية، فإن الرواية الرسائلية استطاعت أن تعرض لوحات في غاية الدقة لشخصيات الأفراد، ومن ثم أثارت ما أطلق عليه هالر الشفقة حين قال: «لم يصور أحد البائسين بمثل هذه القوة قط، ويتضح هذا في أمثلة كثيرة، حتى إن أكثر الطباع قسوة وجمودًا تلين وتتحول إلى الشفقة، فتذرف الدمع على إثر موت كلاريسا ومعاناتها وأشجانها.» ويختم بقوله: «إننا لم نقرأ أي عمل، بأي لغة من اللغات، يمكن أن يرتقي لمضارعتها.»17

انحطاط أم سمو؟

عرف المعاصرون من تجاربهم الخاصة أن قراءة هذه الروايات كان لها عظيم الأثر، ليس على الأذهان فحسب، بل على الأجساد أيضًا، لكنهم لم يتفقوا بشأن العواقب. شجب رجال الإكليروس الكاثوليك والبروتستانت احتمال ظهور الفسق والإغواء والانحطاط الأخلاقي. وفي وقت مبكر، عام ١٧٣٤، وجد نيكولاس لينجليت ديفرسنوي — وهو نفسه رجل دين إكليريكي تلقى تعليمه في السوربون — أنه من الضروري أن يدافع عن الروايات ضد انتقادات زملائه، لكنه فعل هذا تحت اسم مستعار؛ لقد فند على نحو مثير للضيق كل الاعتراضات التي دفعت السلطات إلى حظر الروايات «باعتبارها وخزات كثيرة تعمل على تهييج مشاعر شديدة الحيوية والقوة في نفوسنا». وأكد بشدة على أن الروايات مناسبة في أي فترة زمنية، قائلًا: «السذاجة والحب والنساء هيمنت في جميع الأزمنة، ومن ثم يتابع الناس الروايات ويتذوقونها في جميع الأزمنة.» ورأى أنه من الأفضل التركيز على تحسينها بدلًا من قمعها بالكلية.18
ولم تتوقف الهجمات عندما حقق إنتاج الروايات النجاح في منتصف القرن. ففي عام ١٧٥٥ كتب رجل دين كاثوليكي آخر، وهو رئيس دير يدعى أرماند بيير جاكوين، عملًا أدبيًّا من أربعمائة صفحة يوضح فيه أن قراءة الروايات تقوِّض الأخلاق، والدين، ومبادئ النظام الاجتماعي كافة. كتب يقول مؤكدًا: «طالع تلك الأعمال، وسوف تجد في جميعها تقريبًا انتهاكًا للحقوق الإلهية والعدالة الإنسانية، وازدراءً لسلطة الآباء على الأبناء، وتحطيمًا لعرى الزواج المقدسة وأواصر الصداقة.» يكمن الخطر على وجه التحديد في قدرتها على الجذب؛ فعن طريق اللعب باستمرار على إغواءات الحب، شجعت القراء على التصرف وفقًا لأسوأ دوافعهم ونزواتهم، وعدم الانصياع لنصائح آبائهم والكنيسة، وتجاهل القيود الأخلاقية للمجتمع. وكانت الطمأنة الوحيدة التي قدمها جاكوين هي افتقار الروايات إلى القدرة على الاستمرار؛ فالقارئ قد يلتهم إحداها في المرة الأولى لكنه لا يعيد قراءتها بعد ذلك قط. يقول: «هل جانبني الصواب عندما تنبأت أن رواية باميلا سرعان ما ستُنسى؟ … سينطبق نفس الشيء على روايتَيْ توم جونز وكلاريسا في ظرف ثلاث سنوات.»19

وتوالت شكاوى مشابهة في كتابات البروتستانت الإنجليز. لخص الكاهن المبجل فيسيسموز نوكس عقودًا من الاضطرابات الدائمة في عام ١٧٧٩ عندما صرَّح بأن الروايات هي ملذات منحطة ومثيرة لمشاعر الذنب تحوِّل عقول الشباب عن القراءات الأكثر جدية وتنويرًا. وقال إن الازدهار المفاجئ للروايات البريطانية لم يؤدِّ إلا إلى نشر العادات الإباحية الفرنسية، وهو يفسر الفساد المتفشي في عصرنا الحالي. وأقر نوكس بأن ريتشاردسون كتب رواياته «بنوايا طيبة خالصة»، لكنه يرى أن المؤلف حتمًا سرد مشاهد وأثار مشاعر لا تتفق مع الفضائل. ولم يكن رجال الإكليروس وحدهم من استهجنوا الروايات، فقد نُظمت قصيدة في مجلة ليدي عام ١٧٧١ تلخص وجهة نظر منتشرة وسط قطاع عريض من الناس:

لا أعرف رواية باميلا تحديدًا
معرفة وثيقة
لأنني لا ألوث ذهني
بالروايات المقيتة
خشي كثيرون من أنصار المذهب الأخلاقي أن الروايات زرعت الشعور بالسخط في الأذهان، لا سيما أذهان الخدم والفتيات الصغار.20
ربط الطبيب السويسري صامويل أوجست تيسوت قراءة الروايات بممارسة العادة السرية، التي أدت إلى حدوث انحطاط بدني وعقلي وأخلاقي من وجهة نظره؛ رأى تيسوت أن الأبدان تميل بحكم طبيعتها إلى الفساد، وأن العادة السرية قد سرَّعت من حدوث عملية الفساد لدى كل من الرجال والنساء فقال: «كل ما يمكنني قوله هو أن الفراغ والكسل والمكوث في الفراش لفترات طويلة؛ فراش وثير للغاية، والنظام الغذائي الدسم والمملح والحار والذي يحوي الخمور، والأصدقاء المشبوهين، والكتب الماجنة، هي الأسباب التي تهيئ الفرصة للانغماس في مثل هذه الممارسات.» ولم يقصد تيسوت باستخدامه لفظة «الماجنة» معنى الإباحية صراحةً؛ ففي القرن الثامن عشر كان يُقصد بلفظة «ماجن» أي شيء يرتبط بالشهوة، غير أنها كانت تختلف عن اللفظة الأكثر استهجانًا؛ لفظة «داعر». وهكذا انضمت روايات الغرام — وكانت أغلبية روايات القرن الثامن عشر تدور عن الغرام — بسهولة إلى فئة «المجون». وفي إنجلترا بدت الفتيات في المدارس الداخلية في خطر شديد؛ إذ كان في متناولهن الحصول على مثل هذه الكتب «الخليعة المثيرة للاشمئزاز» وقراءتها في الفراش.21
ومن ثم اتفق رجال الدين والأطباء على اعتبار قراءة الروايات مضيعة للوقت، والسوائل الحيوية، والدين، والأخلاقيات، وافترضوا أن القارئة سوف تحاكي أحداث الرواية، على نحو تندم معه أشد الندم. فقارئة رواية «كلاريسا» — على سبيل المثال — قد تتجاهل رغبات عائلتها، وتوافق — على غرار كلاريسا — أن تهرب مع أحد الفجَّار أمثال لافلاس الذي يقودها — شاءت أم أبت — إلى إهلاك نفسها. وفي عام ١٧٩٢ أكد ناقد إنجليزي مجهول قائلًا: «يساعد ارتفاع عدد الروايات في تفسير ارتفاع نسبة البغاء والعدد المهول من الزناة وحالات الفرار مع العشاق التي نسمع بها في بقاع متفرقة من المملكة.» وطبقًا لوجهة النظر هذه، أثارت الرواياتُ الأبدانَ إثارة مفرطة، وشجَّعت على الانغماس في الذات المريب أخلاقيًّا، وحرَّضت على الأفعال المدمرة للسلطة العائلية، والأخلاقية، والدينية.22
زعم كل من ريتشاردسون وروسو أنهما قاما بدور المحرر وليس المؤلف، ومن ثم تمكنا من تحاشي السمعة المشينة التي ارتبطت بالروايات، وعندما نشر ريتشاردسون «باميلا»، لم يُشِر إليها قط على أنها رواية؛ إذ كان العنوان الكامل للطبعة الأولى هو دراسة في الاعتراض الكثير: «باميلا: أو مجازاة العفة. سلسلة من الخطابات المألوفة من صبية جميلة إلى والديها: تُنشر للمرة الأولى الآن كي تغرس مبادئ العفة والدين في عقول الشباب من كلا الجنسين. حكاية ترتكز على مبادئ الحق والطبيعة، وفي الوقت عينه تبث المتعة والتسلية من خلال مجموعة متنوعة من الأحداث المؤثرة والغريبة، وهي مجردة تمامًا من كل تلك الصور التي تُنشر في الكثير من المواضع بغرض اللهو فحسب، وتميل إلى إلهاب العقول التي يجدر بها أن توجهها.» برر تمهيد ريتشاردسون، الموقَّع باسم «المحرِّر»، نشْرَ ما أسماه «الخطابات اللاحقة» تبريرًا أخلاقيًّا؛ فهي سوف توجِّه عقول الشباب وتطوِّرها، وتغرس فيها الدين والأخلاقيات، وتبيِّن الرذيلة «بالألوان المناسبة»، وهكذا.23
ومع أن روسو أشار إلى نفسه بالمحرِّر أيضًا، فهو لم يعتبر العمل صراحةً رواية؛ ففي الجملة الأولى من تمهيد رواية «جولي»، ربط الروايات بنقده الشهير للمسرح فقال: «لا بد أن تضم المدن الكبيرة مسارح، ولا بد أن يمتلك الفاسدون روايات.» وكما لو كان هذا تحذيرًا غير كافٍ، قدَّم روسو أيضًا تمهيدًا في صورة «حوار عن الروايات بين «المحرر» وأحد «الأدباء»». وفي هذا الحوار، تعرض شخصية «آر» [روسو] كل التهم المعتادة التي تُوجَّه إلى الرواية للتلاعب بالمخيلة لخلق الرغبات التي لا يمكن إشباعها بعفة:

نسمع شكاوى من أن الروايات تشوش أذهان الناس، وأنا أؤمن بهذا تمامًا؛ فعندما نضع باستمرار أمام أعين قراء هذه الروايات السحر الزائف لإحدى الضياع التي لا يقتنونها، فإن هذا السحر يغويهم، ويدفعهم إلى النظر إلى مقتنياتهم بازدراء، بل يستبدلون بها في مخيلتهم تلك الضياع التي أغوتهم الروايات باشتهائها. إن محاولة أن نكون ما ليس نحن تَحملنا على أن نظن أنفسنا مختلفين عما نحن، وهذا هو الطريق إلى الجنون.

غير أن روسو يمضي قدمًا في تقديم رواية لقرائه، بل يدعوهم للنزال متحديًا؛ فيقول إذا أراد أي شخص أن ينتقدني لكتابتي إياها، فليخبر بهذا كل إنسان على وجه الأرض فيما عداي. وأما أنا، فلن أُكِنَّ أي تقدير البتة لمثل هذا الرجل. ويعترف روسو في جذل بأن الكتاب قد يصدم جميع الناس تقريبًا، لكنه على الأقل لن يقدم مجرد متعة فاترة. توقع روسو تمامًا ردود أفعال عنيفة من جانب قرائه.24
ورغم المخاوف التي ساورت كلًّا من ريتشاردسون وروسو بشأن سمعتيهما، فإن بعض النقاد بدأ بالفعل في تكوين وجهة نظر أكثر إيجابية عن تصنيف الروايات؛ ففي دفاع كل من ساره فيلدينج وفون هوللر عن ريتشاردسون، لفتا الأنظار بالفعل إلى التعاطف — أو الشفقة — الذي توقظه في النفس قراءة رواية «كلاريسا». وبهذه النظرة الجديدة، أثرت الروايات في القراء فجعلتهم أكثر تعاطفًا مع الآخرين، بدلًا من مجرد الانغماس في النفس، ومن ثم سمت أخلاقهم ولم تنحط. وكان من أكثر المدافعين عن الرواية فصاحة، ديدرو، وهو مؤلف مَقالٍ عن الحقوق الطبيعية في «الموسوعة»، وكان هو نفسه روائيًّا، وعندما مات ريتشاردسون عام ١٧٦١، كتب ديدرو تأبينًا يشبِّه فيه ريتشاردسون بأعظم المؤلفين القدماء أمثال هوميروس، ويوربيديس، وسوفوكليس. بيد أن ديدرو أسهب في الحديث عن انغماس القارئ في عالم الرواية فقال: «يتقمص المرء، على الرغم من كل التحذيرات، أحد الأدوار في العمل الفني فيجد نفسه منخرطًا في حوار، يستحسن أمورًا ويستهجن أخرى، وتعجبه أشياء ويسخط وينقم على أخرى. كم مرة وجدتُ نفسي فيها — كما يفعل الصغار الذين يُصحبون إلى المسرح للمرة الأولى — أصيح: «لا تصدق هذا، إنه يخدعك … إذا انخرطتَ في هذا فسيُقضى عليك».» ويقر ديدرو بأن قصة ريتشاردسون تخلق انطباعًا بأنك موجود ضمن الأحداث، بل انطباعًا أن هذا العالم هو عالمك، فلا تقع هذه الأحداث في بلد بعيد عنك أو في موضع غريب أو في قصة من وحي الخيال: «فشخصيات الرواية مستوحاة من المجتمع العادي … والمشاعر التي يصورها هي نفس المشاعر التي أشعر بها في نفسي.»25

ولا يستخدم ديدرو مصطلحات مثل «التوحد» أو «التعاطف»، لكنه يقدم وصفًا قويًّا لهما، فيقر بأنك تجد نفسك في الشخصيات وتقفز على نحو تخيلي إلى قلب الأحداث، وتراودك نفس المشاعر التي يشعر بها شخصيات الرواية. خلاصة القول أنك تتعلم التعاطف مع شخص هو ليس نفسك، ولا يمكن الاتصال به اتصالًا مباشرًا أبدًا (على خلاف أفراد العائلة على سبيل المثال)، إلا أنه هو نفسك أيضًا ولكن على نحو تخيلي، الأمر الذي يعد عنصرًا في غاية الأهمية في عملية التوحد. وهذه العملية تعلل سبب كتابة بانكوك إلى روسو: «مسَّت نقاوة مشاعر جولي شغاف قلبي.»

يعتمد التعاطف على التوحد. يرى ديدرو أن أسلوب ريتشاردسون الروائي يشده على نحو يتعذَّر تجنُّبه إلى هذه التجربة؛ فهو بيئة خصبة لنمو التعلُّم العاطفي: «مررت في غضون ساعات معدودات بعدد هائل من المواقف التي لا يمكن أن يمر بها إنسان طوال حياته مهما طالت … شعرت أنني اكتسبت خبرة.» ويتوحد ديدرو بشدة مع الرواية، حتى إنه يشعر بالوحشة والشجن بنهاية الرواية، فيقول: «اجتاحتني نفس المشاعر التي يشعر بها أناس ارتبطوا معًا بعلاقات وثيقة، وعاشوا معًا لفترة طويلة من الزمن، وأصبحوا الآن على شفا الانفصال. ففي النهاية، بدا لي فجأة أنني تُركت وحيدًا.»26
أثناء القراءة ينغمس ديدرو في الأحداث ويسترد ذاته في الوقت نفسه، يجتاحه شعور قوي بالانفصال عن ذاته أكثر من ذي قبل — فهو يشعر بالوحدة الآن — لكن يتملكه شعور قوي بأن الآخرين أيضًا لهم ذوات. وبعبارة أخرى، يملك ما يطلق هو نفسه عليه تلك «المشاعر الداخلية» ذات الأهمية الكبرى لحقوق الإنسان. ويدرك ديدرو بالإضافة إلى ذلك أن تأثير الرواية غير محسوس على مستوى الوعي؛ إذ يقول: «يجد المرء نفسه مندفعًا نحو الخير بنوع من التهور لا يدركه، فعندما يجابه الظلم يجتاحه نوع من الاشمئزاز لا يعرف كيف يعلله لنفسه.» أحدثت الرواية أثرها من خلال الانخراط في الحكاية، وليس من خلال الوعظ الأخلاقي الصريح.27
حظي الاطلاع على الأدب الروائي بأكثر المعالجات الفلسفية جدية في عمل هنري هوم — الشهير أيضًا باسم لورد كاميس — «عناصر النقد» (١٧٦٢)، الذي لم يناقش فيه الفيلسوف وفقيه القانون الاسكتلندي الروايات في حد ذاتها، لكنه أكد على أن الأدب القصصي غير الواقعي عمومًا يخلق نوعًا من «الوجود النموذجي» أو «حلم اليقظة» الذي يتخيل فيه القارئ نفسه وقد انتقل إلى مكان الأحداث. ويصف كاميس هذا «الوجود النموذجي» بأنه أشبه بحالة من الغفوة؛ فالقارئ «يُلقى في نوع من أحلام اليقظة، وبفقده الوعي بالذات وبالقراءة، التي هي النشاط الذي يزاوله الآن، يتصور كل حدث على أنه يحدث في وجوده، تمامًا وكأنه شاهد عيان». وأهم ما في الأمر من وجهة نظر كاميس أن هذا التحول يعزز الأخلاقيات؛ إذ يُعرِّض «الحضور النموذجي» القارئ لمشاعر من شأنها أن توطد روابط المجتمع؛ فهو يجذب الأفراد بعيدًا عن مصالحهم الخاصة، ويحفزهم على أداء «أفعال تنطوي على الكرم والخير والبر». وكان مصطلح «الحضور النموذجي» تعبيرًا آخر عن عبارة آرون هيل «سحر العاطفة والمعنى».28
وفيما يبدو شاركه توماس جيفرسون وجهة النظر نفسها؛ فعندما كتب روبرت سكيبويز — الذي تزوج من الأخت غير الشقيقة لزوجة جيفرسون — إلى جيفرسون في عام ١٧٧١ يطلب منه قائمة بالكتب المقترحة للقراءة، اقترح جيفرسون عليه الاطلاع على العديد من الأعمال الكلاسيكية، القديم منها والحديث في مجالات السياسة، والدين، والقانون، والعلوم، والفلسفة، والتاريخ. واشتملت القائمة على كتاب لورد كاميس «عناصر النقد»، لكن جيفرسون استهل قائمته بالشعر، والمسرحيات، والروايات بما فيها روايات لورنس ستيرن، وهنري فيلدينج، وجان فرانسوا مارمونتل، وأوليفر جولدسميث، وريتشاردسون، وروسو. وفي الخطاب الذي اشتمل على قائمة الكتب، أشاد جيفرسون بلباقة بما أسماه «متعة الأدب القصصي»، وعلى غرار كاميس، شدد على أن الأدب القصصي يمكن أن يغرس المبادئ ويعزز مزاولة الفضيلة. وبعد أن أشاد جيفرسون بكل من شكسبير، ومارمونتل، وستيرن على وجه التحديد، أوضح أنه بالاطلاع على مثل هذه الأعمال نشعر «في أنفسنا برغبة قوية في أداء أعمال الخير والعرفان» وعلى النقيض، ننفر من الأفعال الشريرة أو السلوك غير الأخلاقي، وأكد على أن الأدب الروائي يولد الرغبة في المحاكاة الأخلاقية على نحو أكثر فعالية حتى من قراءة الأعمال التاريخية.29
كانت الفكرة المهمة التي تتعرض للخطر في صراع الآراء المختلفة ذاك عن الروايات هي فكرة تقدير قيمة الحياة المدنية العادية باعتبارها الأساس الذي تقوم عليه الأخلاق. فمن وجهة نظر نقاد قراءة الروايات، شجَّع التعاطف مع شخصية بطلة روائية على ظهور أسوأ ما في الإنسان (من رغبات غير مشروعة وتقدير مفرط للذات)، وبرهن على الانحطاط غير القابل للإصلاح للعالم المدني. وعلى النقيض، يرى أنصار الرأي الجديد الذي ينادي بأخلاقيات التعاطف أن مثل هذا التوحد أظهر أن إثارة المشاعر يمكن أن يساعد على حدوث تحول في الطبيعة الداخلية للفرد وينتج مجتمعًا أسمى أخلاقيًّا. لقد آمن هؤلاء بأن الطبيعة الداخلية للبشر هي التي شكَّلت أساس السلطة الاجتماعية والسياسية.30
وهكذا اتضح أن سحر الرواية يُحدِث تأثيرات عظيمة؛ فعلى الرغم من أن أنصار الرواية لم يعلنوا ذلك جهارًا، فإنهم أدركوا أن الكُتَّاب من أمثال ريتشاردسون وروسو يجذبون قراءهم جذبًا فعالًا نحو الحياة اليومية باعتبارها تجربة دينية بديلة من نوع ما. وقد تعلَّم القراء أن يقدروا شدة عاطفة الأشخاص العاديين وقدرة أناس أمثالهم على خلق عالم أخلاقي بأنفسهم. وقد نمت حقوق الإنسان في تربة مزروعة بهذه المشاعر، ولا يمكن لحقوق الإنسان أن تزدهر إلا عندما يتعلم الناس أن ينظروا للآخرين على أنهم مساوون لهم، وأنهم يشبهونهم تشابهًا جوهريًّا. لقد تعلموا هذه المساواة — جزئيًّا على الأقل — عن طريق التوحد مع شخصيات عادية بدت مألوفة وحاضرة على نحو مؤثر، وإن كانت شخصيات قصصية خيالية في نهاية المطاف.31

المصير الغريب للنساء

في الروايات الثلاث المختارة هنا، كان موضع تركيز التوحد النفسي ينصب على شخصية أنثى شابة من وحي خيال مؤلف رجل. وغني عن القول أنه حدث توحُّد مع شخصيات من الذكور أيضًا، فقد تعاطف جيفرسون — على سبيل المثال — بحماس شديد مع شخصية «تريسترام شاندي» التي ألفها ستيرن (١٧٥٩–١٧٦٧)، وشخصية «يوريك» التي تمثل الأنا الثانية لستيرن في عمله «رحلة عاطفية» (١٧٦٨). وكان للكُتَّاب من النساء أيضًا معجبون من القراء من كلا الجنسين؛ فقد اقتبس الفرنسي جاك بيير بريسو — مصلح قانون العقوبات ونصير إلغاء الرق — كثيرًا من رواية «جولي» لروسو، لكن روايته الإنجليزية المفضلة كانت رواية «سيسليا» للروائية فاني بيرني (١٧٨٢). لكن كما يؤكد نموذج بيرني، نعمت الشخصيات النسائية بأسمى مكانة؛ فقد حملت رواياتها الثلاث أسماء بطلاتها.32

كانت البطلات النساء آسرات للاهتمام؛ لأن سعيهن للاستقلال الذاتي ما كان لينجح مطلقًا على نحو كامل. فالنساء كن يتمتعن بالقليل من الحقوق الشرعية في حال انفصالهن عن الوالد أو الزوج. وقد وجد القراء أن سعي البطلات للاستقلال ملوع؛ لأنهن سرعان ما يدركن القيود التي تجابهها أمثالهن حتمًا. وفي نهاية سعيدة للأحداث، تتزوج باميلا من السيد بي وتقبل القيود المفروضة على حريتها، وعلى النقيض، تموت كلاريسا، بدلًا من أن تتزوج من لافلاس بعدما يغتصبها. ومع أنه يبدو أن جولي تقبل أن يجبرها والدها على التخلي عن الرجل الذي تحبه، فإنها تموت أيضًا في المشهد الأخير.

يرى بعض النقاد المحدثين في هذه الروايات تلذذًا بتعذيب الذات والألم، لكن النقاد المعاصرين لزمن تلك الروايات رأوا سمات أخرى؛ فالقراء من الرجال والنساء على السواء توحدوا مع هذه الشخصيات؛ لأن النساء أظهرن عزيمة بالغة وشخصية قوية. ولم يشأ القراء إنقاذ البطلات فحسب، بل أرادوا أن يكونوا مثلهن أيضًا، حتى مثل كلاريسا وجولي على الرغم من نهايتهما المأسوية. وتكاد كل أحداث الروايات الثلاث تستخدم تعبيرات تتعلق بإرادة الأنثى، وهي الإرادة التي تصطدم عادة بالقيود الأبوية أو المجتمعية؛ فباميلا لا بد أن تقاوم السيد بي كي تصون حسها بالعفة وحسها بذاتها، وفي نهاية المطاف تؤدي مقاومتها إلى فوزها به. وتصمد كلاريسا في حزم أمام عائلتها ثم أمام لافلاس من أجل الأسباب عينها، وفي النهاية يتمنى لافلاس باستماتة أن يتزوج بها، وهو العرض الذي ترفضه. ولا بد أن تتخلى جولي عن سانت برو وتتعلم أن تحب حياتها بمعية وولمار؛ فكان الكفاح كله كفاحها وحدها. في كل رواية يتوقف كل شيء على رغبة البطلة في تحقيق الاستقلال، وتأتي أفعال الشخصيات الذكورية لتسلط الضوء فحسب على هذه العزيمة الأنثوية. وهكذا تعلَّم القراء المتعاطفون مع البطلات أن جميع الناس — حتى النساء — يطمحون لاستقلال أعظم، وأدركوا في مخيلاتهم الجهد النفسي الذي يستلزمه ذلك الكفاح.

عكست روايات القرن الثامن عشر انشغالًا ثقافيًّا أعمق بالاستقلال. آمن فلاسفة عصر التنوير إيمانًا راسخًا بأنهم أحدثوا طفرة في هذا الشأن في القرن الثامن عشر. فعندما كانوا يتكلمون عن الحرية، كانوا يقصدون استقلال الفرد، سواء أكانت تلك الحرية حرية التعبير عن الآراء أو ممارسة شعائر الدين الذي يختاره الفرد، أو الاستقلال الذي كان يُعلَّم للغلمان إذا اتبع أحدهم مبادئ روسو في دليله التعليمي «إيميل» (١٧٦٢). ووصلت حكاية انتشار فكرة الاستقلال في عصر التنوير ذروتها في مقال إيمانويل كانط «ما التنوير؟» عام ١٧٨٤. عرَّف كانط «الاستقلالية» ببراعة على أنها: «خروج البشرية من عدم النضج الذي ابتلت به نفسها.» ومضى قُدُمًا مُعَرِّفًا عدم النضج بأنه: «عدم القدرة على استغلال الفهم الذي يحققه الإنسان دون الاستعانة بتوجيه شخص آخر.» والتنوير في رأي كانط هو الاستقلال الفكري، أي قدرة الإنسان على التفكير بنفسه.33
نبع تأكيد عصر التنوير على الاستقلال الفردي من ثورة القرن السابع عشر في الفكر السياسي، التي أشعل شرارتها هوجو جروشيوس وجون لوك، اللذان أكدا على أن إبرام الرجل المستقل اتفاقية اجتماعية مع أفراد مثله هو الأساس الوحيد الممكن لسلطة سياسية شرعية. فلو أردنا أن يحل عقد مُبرم بين رجال مستقلين محل السلطة المدعومة بالحق الإلهي والكتاب المقدس والتاريخ، لكان لزامًا أن نُعلِّم الغلمان أن يفكروا بأنفسهم. وعليه تحولت النظرية التعليمية، التي كان للوك وروسو أثر بالغ في تشكيلها، من التأكيد على الطاعة المفروضة بواسطة العقاب إلى غرس حذر للمنطق باعتباره الوسيلة الرئيسية للاستقلال. ووضح لوك أهمية الممارسات الجديدة في أطروحته «أفكار عن التربية» (١٦٩٣) فقال: «لا بد أن ننظر إلى أولادنا عندما يكبرون على أنهم مثلنا … فنحن نحب أن يُنظر إلينا على أننا مخلوقات عاقلة، وننعم بالحرية، ونؤثر ألا نظل خاضعين للتوبيخ والتخويف المستمرَّيْن.» وكما أدرك لوك، يعتمد الاستقلال السياسي والفكري على تنشئة الأطفال (صبيان وبنات، وفق رأيه) على توجهات جديدة؛ فالاستقلال يتطلب علاقة جديدة بالعالم، وليس مجرد أفكار جديدة.34
ومن ثم كي يفكر الإنسان بنفسه ويقرر بنفسه لا بد من حدوث تغيرات نفسية وسياسية مكافئة للتغيرات الفلسفية. في دراسته بعنوان «إيميل» دعا روسو الأمهات إلى بناء جدران نفسية عازلة بين أطفالهن وكل الضغوط الخارجية الاجتماعية والسياسية، فحثهن قائلًا: «ضعي في وقت مبكر سياجًا حول نفس طفلك.» وأكد الواعظ الإنجليزي ومؤلف الكتيبات السياسية ريتشارد برايس في عام ١٧٧٦، عندما كتب مؤيدًا لسكان المستعمرات الأمريكيين، أن أحد الجوانب العامة الأربعة للحرية هو جانب الحرية البدنية فقال: «مبدأ «التلقائية» هذا، أو «حق تقرير المصير»، هو الذي يجعنا أحرارًا.» من وجهة نظره، كانت الحرية مرادفًا لتوجيه الذات أو حكم الذات، وتوحي الاستعارة السياسية في هذا السياق بحكم الذات نفسيًّا، غير أن المصطلحين مرتبطان ارتباطًا وثيقًا.35
أراد المصلحون الذين ألهمهم عصر التنوير أن يصلوا إلى ما هو أبعد من حماية الأجساد أو بناء سياج لحماية النفس بالصورة التي نبه إليها روسو، فطالبوا بتوسيع نطاق عملية صنع القرار الفردي. وتوضح القوانين الثورية الفرنسية التي فُرضت على العائلة عمق المخاوف من القيود التقليدية المفروضة على الاستقلال. في مارس من عام ١٧٩٠، ألغت الجمعية الوطنية التأسيسية حق البكورية، الذي يمنح حقوق وراثة استثنائية للابن الذكر البكر، و«المراسيم المختومة» المشينة التي كانت تخول للعائلات سجن أولادها بدون جلسات استماع. وفي أغسطس من نفس العام، أنشأ المشرعون المجالس العائلية للاستماع إلى المنازعات بين الآباء والأبناء حتى سن العشرين، بدلًا من منح الآباء السيطرة المطلقة على أبنائهم. وفي أبريل من عام ١٧٩١، أصدرت الجمعية مرسومًا يقر بأنه لا بد أن يرث كل الأبناء، الذكور منهم والإناث، بالتساوي. وبعدئذ، في أغسطس من عام ١٧٩٢، خفض المشرعون سن الرشد من الخامسة والعشرين إلى الحادية والعشرين، وأعلنوا أن البالغين ما عادوا خاضعين للسلطة الأبوية، ولأول مرة في تاريخ فرنسا أباحوا الطلاق، فجعلوه متاحًا استنادًا على نفس الأسس القانونية لكل من الرجال والنساء. خلاصة القول، فعل الثوار كل ما في وسعهم لإزالة المعوقات التي تعوق الاستقلال الشخصي.36
وفي بريطانيا العظمى ومستعمراتها في أمريكا الشمالية، يمكن اقتفاء أثر الرغبة في استقلال أعظم في السير الذاتية والروايات بسهولة أكبر من اقتفائه في القانون، على الأقل قبل الثورة الأمريكية. في الواقع، في عام ١٧٥٣، حرم «قانون الزواج» في إنجلترا الزواج لأولئك الذين لم يناهزوا سن الحادية والعشرين إلا برضا الأب أو الوصي. وعلى الرغم من إعادة التأكيد هذه على السلطة الأبوية، فإن نمط الهيمنة الذكورية القديم الذي يسود فيه الأزواج على الزوجات والآباء على الأبناء تراجع في القرن الثامن عشر. وبدءًا من رواية «روبنسون كروزو» للكاتب دانييل ديفو عام ١٧١٩، ووصولًا إلى السيرة الذاتية لبنجامين فرانكلين (التي كُتبت في الفترة ما بين عامي ١٧٧١ و١٧٨٨)، أشاد الكُتَّاب الإنجليز والأمريكيون بالاستقلال باعتباره فضيلة أساسية. فكانت رواية ديفو التي تدور عن البحَّار الذي تحطمت سفينته ونجا من الغرق، بمنزلة كتيب للتعليمات الأساسية عن كيفية تعلُّم الإنسان حماية نفسه وإعالتها. لذا ليس مستغربًا أن اعتبر روسو قراءة رواية ديفو ضرورية لإيميل الصغير، أو أن تُطبع رواية «روبنسون كروزو» للمرة الأولى في المستعمرات الأمريكية عام ١٧٧٤، في ذروة أزمة الاستقلال المستفحلة. وكانت رواية روبنسون كروزو واحدة من أفضل الكتب مبيعًا في المستعمرات الأمريكية عام ١٧٧٥، ولا يباريها سوى خطابات لورد تشيسترفيلد إلى ابنه، وكتاب جون جريجوري «إرث الأب لبناته»، اللذين كانا لتبسيط وتعميم آراء لوك عن تعليم الصبيان والبنات.37
سارت النزعات في حياة الأشخاص في عالم الواقع في الاتجاه نفسه، وإن كان على نحو أكثر تذبذبًا؛ فقد توقَّع الشباب على نحو متزايد أن يختاروا بأنفسهم عند الزواج، مع أن العائلات ظلت تمارس ضغطًا بالغًا عليهم، كما يتضح في عدد هائل من الروايات التي تدور حبكاتها عن هذه النقطة («كلاريسا» على سبيل المثال). وتكشف ممارسات تربية الأطفال أيضًا التغيرات الطفيفة التي طرأت على التوجه. فقد أقلع الإنجليز عن تدثير الأطفال بالأغطية قبل الفرنسيين (لروسو عظيم الفضل في صرف الفرنسيين عن هذه العادة) غير أنهم ظلوا يضربون الصبيان في المدرسة وقتًا أطول. وبحلول خمسينيات القرن الثامن عشر، توقفت العائلات الإنجليزية الأرستقراطية عن استخدام سيور الجلد التي كان يُشد بها الطفل من كتفيه في أثناء تدرجه نحو المشي، وفطمت الرضع بعد فترات أقصر، ولأنهم ما عادوا يدثرون الأطفال بالأغطية، دربوهم على استخدام المراحيض في وقت مبكر أيضًا، وجميعها علامات على التأكيد المتزايد على الاستقلال.38
غير أن التأريخ كان أكثر تشوشًا في بعض الأحيان؛ فالطلاق في إنجلترا، على خلاف بقية البلدان البروتستانتية، كان مستحيلًا فعليًّا في القرن الثامن عشر؛ ففي الفترة بين عامي ١٧٠٠ و١٨٥٧ — حين نتج عن «قانون القضايا الزوجية» إنشاء محكمة خاصة للاستماع إلى قضايا الطلاق — لم تقع سوى ٣٢٥ حالة طلاق بموجب قانون خاص أصدره برلمان إنجلترا، وويلز، وأيرلندا. وعلى الرغم من أن عدد حالات الطلاق ارتفع من ١٤ حالة في النصف الأول من القرن الثامن عشر إلى ١١٧ حالة في النصف الثاني من نفس القرن، فإن الطلاق اقتصر في الواقع على عدد محدود من رجال الطبقة الأرستقراطية؛ نظرًا لأن المبررات اللازمة لمنح الطلاق كادت تجعل الطلاق مستحيلًا أن تحصل عليه النساء. ويعني هذا الرقم أنه مُنح ٢٫٣٤ حالات طلاق سنويًّا فحسب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وعلى النقيض، بعدما أباح الثوار الفرنسيون الطلاق، وقعت ٢٠٠٠٠ حالة طلاق في فرنسا في الفترة ما بين عامي ١٧٩٢ و١٨٠٣، بمعدل ١٨٠٠ حالة طلاق سنويًّا. أما عن مستعمرات بريطانيا في أمريكا الشمالية، فقد التزمت عمومًا بالممارسات الإنجليزية في منع الطلاق، على أنها سمحت ببعض أشكال الانفصال القانوني، لكن بعد الاستقلال بدأت المحاكم الجديدة تقبل عرائض الطلاق في معظم الولايات. وقدمت معظم النساء عرائض الطلاق في السنوات الأولى لاستقلال الولايات المتحدة الناشئة، مُرْسِياتٍ بذلك نزعة تكررت فيما بعد في فرنسا الثورة.39
في مذكرات دوَّنها توماس جيفرسون في عامي ١٧٧١ و١٧٧٢ عن إحدى قضايا الطلاق، ربط بوضوح الطلاق بالحقوق الطبيعية، فالطلاق سوف يعيد «للمرأة حقها الطبيعي في المساواة». وأصر جيفرسون على أنه من طبيعة العقود المبرمة بالرضا المتبادل أن تكون قطعًا قابلة للفسخ إذا أخل أحد الأطراف بالاتفاق؛ نفس الحجة التي استخدمها الثوار الفرنسيون في عام ١٧٩٢. علاوة على ذلك فإن إمكانية الطلاق القانوني سوف تكفل «حرية المشاعر» التي هي حق طبيعي أيضًا. وكان حق «السعي وراء السعادة»، الذي اشتهر من خلال إعلان الاستقلال الأمريكي، يتضمن الحق في الطلاق؛ لأن «الغاية من الزواج هي التكاثر والسعادة»، لذا فإن حق السعي وراء السعادة يتطلب الطلاق. وليس من قبيل المصادفة أن جيفرسون ساق حججًا مماثلة عندما تحدَّث عن انفصال أمريكا عن بريطانيا العظمى بعدها بأربع سنوات.40
وفي الوقت الذي كان الناس في القرن الثامن عشر ينادون فيه بتوسيع حق تقرير المصير، واجهوا معضلة: ما الذي عساه أن يقدم مرجعية المجتمع في ظل هذا النظام الجديد الذي يشدد على حقوق الفرد؟ إن توضيح كيفية استخلاص الأخلاق من المنطق البشري العقلاني وليس من الكتاب المقدس أو أن الاستقلال أفضل من الطاعة العمياء شيء، ومحاولة التوفيق بين استقلال الفرد الذي يتمتع بالتوجيه الذاتي وبين المصلحة العامة شيء مختلف تمامًا. وضع الفلاسفة الاسكتلنديون في منتصف القرن مسألة المجتمع العلماني في بؤرة اهتماماتهم، وقدموا إجابة فلسفية منسجمة مع ممارسة التوحد الذي تعلِّمُه الرواية. أطلق الفلاسفة — على غرار عموم الناس الذين عاشوا في القرن الثامن عشر — على إجابتهم اسم «التعاطف». لقد استخدمت لفظة «التوحد» empathy من قبل لأنه على الرغم من أنها لم تدخل اللغة الإنجليزية إلا في القرن العشرين، فإنها تعبر بشكل أفضل عن معنى الرغبة القوية في التوحد مع الآخرين شعوريًّا. فعادة ما تدل الآن لفظة التعاطف على «الشفقة»، التي تحمل في فحواها معنى التفضل، وهو الشعور الذي يتنافى مع الشعور الحقيقي بالمساواة.41
كان للفظة «التعاطف» معنى واسع للغاية في القرن الثامن عشر؛ فكان التعاطف في رأي فرانسيس هاتشسن نوعًا من الحس، أي ملكة أخلاقية؛ فالتعاطف — أو المشاركة الوجدانية — الذي هو أكثر نبلًا من حاسة البصر أو السمع — وهما حاستان نتشاركهما مع الحيوانات — لكنه أقل نبلًا من الضمير، هو ما جعل الحياة الاجتماعية ممكنة. وبفضل قوة الطبيعة الإنسانية، التي تسبق أي منطق، كان التعاطف بمنزلة نوع من قوى الجذب الاجتماعية التي تخرج الأشخاص من أنفسهم. وضمن التعاطف أن السعادة لا يمكن تعريفها في ضوء الرضا الذاتي وحده. وخلص هاتشسن إلى أنه: «بواسطة نوع من أنواع العدوى أو التفشي، تزيد كل مباهجنا — حتى أدناها — زيادة غريبة عندما نتشاركها مع الآخرين.»42
كرَّس آدم سميث — مؤلف كتاب «ثروة الأمم» (١٧٧٦) وأحد تلامذة هاتشسن — أحد أعماله الأولى لقضية التعاطف؛ ففي الفصل الافتتاحي من كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» (١٧٥٩)، استخدم نموذج التعذيب ليصل إلى آلية عمل التعاطف. فما الذي يحملنا على التعاطف مع معاناة شخص يُعذَّب على المخلعة؟ فحتى لو كان المُعذَّب هو أخونا، لا يمكننا البتة أن نشعر مباشرة بما يشعر به، كل ما في وسعنا هو أن نتوحد فحسب مع معاناته بفعل الخيال الذي يجعلنا نضع أنفسنا في مكانه ونتحمل نفس الآلام؛ «كأننا نلبس جسده ونصير هو نفسه بقدر ما.» عملية التوحد الخيالي تلك — التعاطف — تسمح للمشاهد بأن يشعر بما يشعر به ضحية التعذيب، غير أن المشاهد لا يستطيع أن يصبح كائنًا أخلاقيًّا بحق إلا عندما يخطو الخطوة التالية ويدرك أنه هو أيضًا يحظى بمثل هذا التوحد الخيالي. وعندما يرى نفسه يحظى بمشاعر التعاطف من الآخرين، يستطيع أن يخلق بداخل نفسه «مراقبًا محايًدا» يقوم بدور البوصلة الأخلاقية. من ثم يرى سميث أن الاستقلال والتعاطف متلازمان، فالشخص المستقل وحده هو من يستطيع أن يخلق «مراقبًا محايدًا» بداخل نفسه، على أنه لا يمكنه أن يفعل هذا ما لم يتوحد مع الآخرين أولًا، كما يوضح سميث.43
كان للتعاطف أو الحس المرهف — وكان مصطلح الحس المرهف أكثر شيوعًا بكثير في فرنسا — أصداء ثقافية واسعة على جانبي الأطلنطي في النصف الأخير من القرن الثامن عشر. قرأ توماس جيفرسون أعمال هاتشسن وسميث، مع أنه استشهد تحديدًا بالروائي لورنس ستيرن معتبرًا أنه يقدم «أفضل منهج للأخلاق». وفي ضوء انتشار الإشارة إلى التعاطف والحس المرهف على شاطئَيِ الأطلنطي، لا يبدو من قبيل المصادفة أن أول رواية كتبها أمريكي، ونُشرت عام ١٧٨٩، كان عنوانها «قوة التعاطف». تغلغل التعاطف والحس المرهف في نسيج الأدب والرسم، بل الطب أيضًا، حتى إن بعض الأطباء بدأ يساورهم القلق بشأن الإفراط فيهما؛ إذ خافوا من أنهما قد يؤديان إلى الإصابة بالمالنخوليا (وهو اضطراب ذهني حاد مصحوب بالاكتئاب والشعور بالذنب واليأس)، أو الوساوس المرضية، أو الاضطرابات العصبية الهستيرية. ورأى الأطباء أن السيدات اللاتي يتاح لهن وقت فراغ طويل (ممن يستطعن القراءة) أكثر عرضة لهذه الأمراض من غيرهن.44
جاء التعاطف والحس المرهف في مصلحة كثير من المجموعات المحرومة من الحقوق، ولكن ليس النساء. واستفادةً من نجاح الرواية في إبراز أشكال جديدة من التوحد النفسي، شجع أنصار إلغاء الرق الأوائل الرقيق الذين أُعتقوا على كتابة سيرهم الذاتية بطابع روائي، بل إضافة أجزاء من وحي خيالهم في بعض الأحيان من أجل كسب مؤيدين للحركة الناشئة. وظهرت مساوئ وشرور العبودية بوضوح عندما وصف رجال — مثل أولوداه إكويانو، الذي نُشر كتابه «القصة الشائقة لحياة أولوداه إكويانو، أو الأفريقي جوستافوس فاسا، كما كتبها» لأول مرة في لندن عام ١٧٨٩ — تجاربهم الشخصية مع العبودية، ومع ذلك عجز معظم أنصار إلغاء الرق عن إدراك وجود علاقة بين حقوق الرقيق وحقوق المرأة؛ فبعد عام ١٧٨٩، كان العديد من الثوار الفرنسيين يخرجون في وقفات احتجاجية عامة قوية من أجل حقوق البروتستانت، واليهود، والسود الأحرار، بل حتى العبيد، وفي الوقت نفسه يعارضون بشدة منح المرأة حقوقها. ومع أن موضوع الرق أثير على الفور وأصبح مثار جدل محتدم في الولايات المتحدة الناشئة حديثًا، فإن موضوع حقوق المرأة أثار في أمريكا جدلًا أقل مما أثاره في فرنسا. ولم تنعم المرأة بأي حقوق سياسية متساوية في أي مكان في العالم قبل القرن العشرين.45
نظر الناس الذين عاشوا في القرن الثامن عشر — تقريبًا مثل جميع من عاشوا قبلهم في تاريخ البشرية كله — إلى المرأة على أنها عالة على زوجها أو والدها تبعًا لوضعها الاجتماعي، ومن ثم فهي لا تتمتع بالقدرة الكاملة على الاستقلال السياسي. كانوا يدافعون عن حق تقرير المصير باعتباره فضيلة أخلاقية شخصية دون ربطه بالحقوق السياسية؛ فالنساء لهن حقوق، لكنها ليست الحقوق السياسية. وباتت تلك النظرة واضحة عندما صاغ الثوار الفرنسيون دستورًا جديدًا عام ١٧٨٩. وضَّح آبي إيمانويل جوزيف سييس — وهو مفسر بارز للنظرية الدستورية — الفارق الناشئ بين الحقوق الطبيعية والمدنية من ناحية، والحقوق السياسية من ناحية أخرى. أكد القس جوزيف سييس أن جميع المواطنين، بمن فيهم النساء، يتمتعون بحقوق تسمَّى حقوق المواطن المذعن؛ حقوق حماية أنفسهم وممتلكاتهم وحرياتهم، لكن ليس كل المواطنين مواطنين فاعلين ينعمون بالحق في المشاركة المباشرة في الشئون العامة. وكان يُعرِّف «النساء — على الأقل بوضعهن الراهن — والأطفال والأجانب؛ أولئك الذين لا يقدمون أي مساهمات في حفظ المؤسسة العامة» على أنهم مواطنون سلبيون مذعنون. أفسحت عبارة سييس المقيدة التي تقول «على الأقل بوضعهن الراهن» مساحة ضئيلة لحدوث تغيرات مستقبلية في حقوق المرأة، ولسوف يحاول آخرون أن يستغلوا هذه المساحة لكن دون طائل على المدى القصير.46
أظهرت القلة القليلة التي ناصرت حقوق المرأة في القرن الثامن عشر ازدواجية وتناقضًا فيما يخص الروايات. رأى المعارضون التقليديون للروايات أن المرأة عرضة بشدة لفتنة القراءة عن الحب، بل حتى المدافعون عن الروايات، مثل جيفرسون، ساورتهم المخاوف أيضًا بشأن تأثيراتها على الفتيات؛ ففي عام ١٨١٨ حذر جيفرسون — الذي تقدم به العمر كثيرًا عن عمره حين كان شديد الحماس لكتَّابه المفضلين في عام ١٧٧١ — من «العاطفة الجامحة» التي تثيرها الروايات وسط الفتيات، وقال: «إن المحصلة النهائية هي مخيلة منتفخة» و«رأي مريض». لا عجب إذن أن المدافعين المتحمسين عن حقوق المرأة تعاملوا مع هذه الشكوك بجدية. وكما هي حال جيفرسون، قارنت ماري ويلستونكرافت — مؤسسة الحركة النسائية الحديثة — صراحة قراءة الرواية — وهي «النوع الوحيد من القراءة المقصود به إثارة اهتمام عقل بريء تافه» — بقراءة التاريخ وبالفهم العقلاني الفعال على وجه العموم. ومع ذلك فقد كتبت ويلستونكرافت نفسها روايتين بطلتاهما من الإناث، ونقدت العديد من الروايات في دوريات منشورة، وأشارت لها على الدوام في مراسلاتها. وعلى الرغم من اعتراضاتها على إيعاز روسو بتعليم الإناث في كتابه «إيميل»، قرأت رواية «جولي» بنهم شديد، واستخدمت العبارات الحاضرة في ذهنها من رواية «كلاريسا» وروايات ستيرن كي تعبر عن مشاعرها الشخصية في خطاباتها.47
إن تعلُّم التوحُّد مهَّد السبيل أمام حقوق الإنسان، غير أنه لم يضمن أن كل شخص سيكون بمقدوره أن يسلك هذا السبيل في الحال، ولم يدرك أحد هذا أو يتعذب بسببه أكثر من كاتب «إعلان الاستقلال»؛ ففي خطاب بعثه جيفرسون في عام ١٨٠٢ لرجل الدين والعالم والمصلح الإنجليزي جوزيف بريستلي، عرض جيفرسون النموذج الأمريكي للعالم أجمع بقوله: «من المستحيل ألا ندرك أننا نعمل من أجل خير البشرية جمعاء، وأن الظروف التي حُرم منها الآخرون ونعمنا نحن بها قد فرضت علينا واجب إقرار درجة الحرية وحكم الذات التي يمكن أن يتركها المجتمع لأفراده.» وطمح جيفرسون إلى أقصى «درجات الحرية» التي يمكن تخيلها، والتي عَنَت في نظره إفساح المجال للمشاركة السياسية لأكبر عدد ممكن من البيض، بل ربما أيضًا من الهنود الحمر في آخر المطاف، لو أمكن تحويلهم إلى مزارعين. ومع أنه اعترف بآدمية الأمريكيين من أصول أفريقية، بل بحقوق العبيد باعتبارهم بشرًا، فإنه لم يتصور حكومة يشاركون فيها مشاركة فعالة؛ لا هم ولا النساء من أي لون. لكن كانت هذه أقصى درجات الحرية التي يمكن تخيلها للأغلبية الساحقة من الأمريكيين والأوروبيين، وإلى أن مات جيفرسون بعدها بأربعة وعشرين عامًا.48

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤