الغاردينيا

كنا نستيقظ عند الفجر

كنا نستيقظ عند الفجر، نحتسي القهوة بلبن الماعز، ثم يختلي كل منَّا بنفسه لزمن يشاؤه الفرد نفسه، ثم نرتدي ملابس العمل، ونخرج إلى المزرعة خلف المحراب على ضفاف النهر، نمشي فوق العشب الجاف عبر الأشجار اليابسة الرَّمادية التي تموء في حزن عندما تصطدم بها فتسقط فريعاتها الصغيرة على أكتافنا ورءوسنا، وما تبقى من أوراق صغيرة عجفاء لم تسقطها الرِّيح، وذلك كمقاومة أخيرة للصمت.

الأشجار والأعْشاب على شاطئ النَّهر أحسن حالًا، فبالإضافة إلى المسكيتات دائمات الخُضرة هنا، الآيلانسس أيضًا التي لا تتحمل العطش أوراقها الخضر باهية، وعلى الطمي ينمو كذلك بعض العشب وشجيرات أخرى. نقتسم العمل فيما بيننا؛ نوار دائمًا ما تفضل رشَّ الأسمدة وإبادة الآفات، أمَّا المُختار فسقاية النباتات وتشغيل الوابور الشفاط، أمَّا أنا أفضل العمل في تأهيل المجاري ونظافة الماكينة، وعند الثامنة نشرع جميعًا في طهو الطعام وصنع الخبز، أنا للطبيخ، نوار للفرن، هو غسل الأواني وإعداد الشاي والقهوة. أكلنا، ثم تحدثنا عن تجاربنا وعن الزراعة، الجفاف، الزحف الصحراوي، والكساد الثقافي والسياسي، قال: إنه لمن المُثير للتساؤل أن توجد دولة في هذا الزمان ولا توجد بها مجلة أدبية واحدة!

قرأنا … ثم اختلى كلٌّ بنفسه، احتارت نوار في اليوم الأول عندما طلبنا منها أن تختلي بنفسها.

– ماذا أفعل؟

– كوني مع نفسك، افعلي ما شئت، أو دعيها هي تفعل بك ما شاءت.

– قولي لي ماذا تفعلين أنت؟ ما هي تجربتك الخاصة؟

– تجربتي الخاصة قد لا تُفيدك كثيرًا فاختلي أنتِ وستكتشفين أنَّ ذاتك مخزن للعجائب.

قالت نوار سعد: فاختليت بالمحراب، وقفت قرب الغاردينيا، كانت أزهارها بيضاء ونقية، عليها نحلات صغيرات صفراوات، انحنيت لكي أشتم عطرها، كان عطرًا حلوًا، تفحصت منقولات المحراب، ودولابكم الخَشبي الصغير مغلق جيدًا، وقربه جرة كبيرة من الفخار أدخلت يدي في جوفها بحذر شديد، لم أجد شيئًا، عندما كادت يدي أنْ تُدرك القاع لقيتْ أناملي كيسًا صغيرًا تحسسته، لم أجد في ملمسه ما يُثير فضولي، أعدته إلى مكانه؛ في اتجاه النافذة الغربية سجادة أنيقة مفروشة على البلاط، عليها مساند ناعمة وأثواب موضوعة بعناية تامة في أطراف السجادة، مُغَطَّاة بقطعة من القطن ناصع البياض.

وفي الجانب الآخر يقع ما تُسَمُّونه المرقد، أول مرة أتفحص فيها مرقدكم هذا بعناية ودقة! دائمًا ما يُسرى بكم من هذا المرقد؟!

– إنه المكان المناسب، ولكن لا أحد يسري بنا، نحن نسري بأنفسنا عن طريق اليوجا.

أنا مُعجبة بأسلوب حياتكم وتفاصيلها، ولأقمت معكم العمر كله ولكن تنقصكم أشياء أراها مُهِمَّة جدًّا، فالعالم ليس الرُّوح وحدها ولكن الرُّوح والجسد، فالرُّوح تجريد عبثي وغير منطقي، وبالتالي غير ممتع، والجسد وحده أيضًا تجريد عبثي زائل. قلت لها: وكنا تحت شجرة مسكيت: نحنُ نحاول التخلص من رغبات الجسد، لكي نقبل بوضعيته الأخيرة نقيًا من الرَّغائب!

لا أظنُّ أنَّ التَّخلص من رغبة الحب مثلًا تَجْعَلُ الجسد أكثر نقاء، ولكنها تجعله أكثر حُرِّية وخِفَّة، فالمركب كُلَّما خف حملها كلما كانت أكثر أمانًا وأسهل حركة.

بالتأكيد لم يذكر أحدنا شيئًا عن مُحاولات نوار الفاشلة في مجاسدة المُختار؛ تعلمت نوار كيف تستمتع بوجودها بالغابة، ثم تعلمت كيف تقضي فترة خلوتها، ولو أنها كانت تستثمرها في كتابة مذكراتها الخاصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤