فاتحة

عندما كُنَّا صغارًا كان أستاذ الجغرافيا يحدِّثنا عن نظرية لابلاس في نشأة الكون وتشكُّل العوالم من الكتل السديمية الأولى وتحوُّلاتها. وكُنَّا في جدال دائم حولها وخصام. قال البعض إنها هراء يتعارض والكتب المقدسة التي تقول بخلق السموات والأرض في ستة أيام، وقال آخرون إننا في عصر لا نستطيع فيه غضَّ الطرف عن الحقائق والمكتشفات العلمية، بحجة التمسُّك بأهداب الدين. وأذكر أنني مضيت إلى أبي يومًا أسأله كيف خلق الله العالم في ستة أيام والعلم يقرِّر أن الكون قد تشكَّل ببطء عبر مليارات السنين؟ وكان حديثًا طويلًا استمرَّ إلى ساعة متأخِّرة من تلك الليلة الشتائية.

فتح القرآن الكريم وقرأ لي بعض آيات أذكر منها:

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.١
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.٢

ثم قال: ما طول اليوم الواحد من تلك الأيام الستة التي خلق فيها الله الكون؟

أكان ألف سنة ممَّا نعد، أم خمسين ألف سنة، أم عددًا آخر من السنين لا يعرفه إلا الله؟

في اليوم التالي مضيت إلى المدرسة بآراء جديدة أحاول من خلالها تقريب وجهات النظر المتعارضة.

مرَّت الأيام وعرفنا أن نظرية لابلاس لم تعد صالحةً لتفسير النشأة الأولى، وأن نظريات أخرى قد حلَّت محلَّها. ولأمر ما يتعلَّق بتلك النقاشات القديمة بقي اهتمامي قائمًا بتتبُّع أخبار الاكتشافات والفرضيات العلمية، المتعلِّقة ببدايات تشكُّل المادة والعوالم والحياة، والغايات التي تسعى إليها الجمادات والحيوات. ولعل هذا الاهتمام هو الذي قادني إلى عالم الأسطورة، حيث وجدت البحث في البدايات والغايات، همًّا أساسيًّا من همومها. وتذكَّرت نظرية لابلاس والمجادلات القديمة وتساءلت: نظرية كبيرة أخذت مكانها في مساحة العلم ردحًا، ثم دُحضت، فما الفرق بينها وبين الأسطورة؟ أليست أساطير التكوين بدورها نظرياتٍ قامت للتفسير والتعليل؟ أليست محاولةً من العقل، في نشأته، للتصدي للأسئلة الكبيرة المطروحة عليه؟

لقد جهد الإنسان دومًا في كشف حقيقة العالم والحياة والبدايات، وشغلته الغايات والنهايات. وكانت وسيلته إلى ذلك مرتبطةً بالمرحلة التاريخية لتطوُّره نفسيًّا وعقليًّا. أعتقد في البداية٣ أن العالم بكل مظاهره المتنوِّعة يخضع لترابطات وقوانين وقواعد مُعيَّنة، وأعتقد أن معرفته بتلك الترابطات وقواعدها، تساعده في السيطرة على الطبيعة المحيطة به وإخضاعها لرغباته ومصالحه؛ فهو يستطيع مثلًا استجلاب الأمطار عن طريق ممارسات سحرية مُعيَّنة، تدفع الطبيعة مجبرةً للاستجابة، كما يستطيع شفاء الأمراض، والقضاء على الأعداء، ودفع الكوارث الطبيعية بالطريقة نفسها. وقد تجمَّعت لديه عبر القرون مجموعة من القواعد الذهبية التي تؤلِّف في مجموعها سفرًا متكاملًا للسحر. ولم يكن الإنسان في ممارساته تلك يستعين بأية قوًى خارقة أو إلهية من أي نوع؛ لإيمانه المطلق بأن تتابع الأحداث يخضع لقانون مُعيَّن، هو جزء أصيل من الطبيعة ذاتها، لا خارجًا عنها ولا متعاليًا عليها.

على أن الإنسان، بعد تاريخ طويل مليء بالمرارة والألم والإخفاق في السيطرة على محيطه بعلمه الزائف ذاك (السحر)، اتجه إلى الدين. فإذا كان العالم قد تمرَّد حتى الآن على الإنسان، مثبتًا عدم خضوعه لتلك الترابطات المفترضة، فلا بد إذن من وجود قوًى خارقة تقف وراء المظاهر المتبدية لهذا العالم، قوًى إلهية، مفارقة له، فعالة فيه. ولا بد أن يكون الكون تبديًّا ماديًّا لتلك الطاقات الإلهية، ومظهرًا لفعاليتها وقواها المستمرة. وبذلك ابتدأت مرحلة جديدة تتميَّز بالتقرُّب لتلك القوى واجتذاب عطفها، ومحاولة تفهُّم رغائبها، وآلية فعلها وشروطه. فظهر الدين وتطوَّر بشقَّيه؛ الشق الأول: اعتقادي يستخدم الأسطورة أداةً للمعرفة والكشف والفهم. والثاني: طقسي، يستهدف استرضاء الآلهة والتعبُّد لها.

فالأسطورة، والحالة هذه، هي التفكير في القوى البدئية الفاعلة، الغائبة وراء هذا المظهر المبتدي للعالم وكيفية عملها وتأثيرها، وترابطها مع عالمنا وحياتنا. إنها أسلوب في المعرفة والكشف، والتوصُّل للحقائق، ووضع نظام مفهوم ومعقول للوجود، يقنع به الإنسان ويجد مكانه الحقيقي ضمنه، ودوره الفعَّال فيه. إنها الإطار الأسبق والأداة الأقدم للتفكير الإنساني المبدع، الخلاق، الذي قادنا على طول الجادة الشاقة، التي انتهت بالعلوم الحديثة، والمنجزات التي تفخر بها حضارتنا القائمة.

إلا أن الفكر الإنساني في وثبته الدائمة لا يقف عند إطار، ولا يهدأ في مُستقَرٍّ يطمئن إليه، أو يركن لمعرفة يظنها مطلقةً لا يأتيها الباطل؛ فهو في حركة دائبة تتجاوز أبدًا ما وصلت إليه. فتهاوت الأسطورة تحت مطارق الفلسفة، وتجرَّع سقراط السم جزاء اجترائه على آلهة اليونان، ومن بعده تابع أفلاطون وأرسطو المهمة. وتعاونت، مع الفلسفة، الديانتان المسيحية والإسلامية. فتبنَّت المسيحية بضع أساطير أساسية، كوَّنت منها هيكلها، كأسطورة هبوط الإله من السماء وموته وبعثه بعد ذلك، وصعوده إلى السماء. وهدمت ما تبقَّى من صرح الأساطير القديمة. أمَّا الإسلام فقد أثبت بعض ما أوردته الأساطير، وقدَّمه في صيغة مختلفة تمامًا، مرجعًا إياه إلى أصله السماوي القديم، قبل تحريف الكلام عن مواضعه، بسبب التقادم أو سوء الطوية. ثم أدَّى تبلور المناهج العلمية مع مطلع العصور الحديثة إلى الازدراء الكامل للأسطورة وإنزالها إلى مرتبة الحكاية المسلية؛ لِمَا تحتويه من عناصر غيبية تتنافى والتفكير العلمي السليم. كما ادَّعى العلم، في بعض مراحله، القضاء على الفلسفة والدين معًا.

إلا أن القرن التاسع عشر في أوروبا قد جُلب معه ثورة فنية وجمالية، أعادت للأسطورة رونقها وبهاءها كشكل فني تعبيري من أشكال الفلكلور والأدب الشعبي، بعد أن أراد أصحاب الاستنارة في القرن الثامن عشر محوها. ولم تكن إعادة الاعتبار هذه إلا مرحلةً أولى؛ فما لبث الرومانتيكيون أن مشَوا خطواتٍ أبعد في النظر إلى الأسطورة، فاعتبروها أصلًا للفن والدين والتاريخ، وصارت لهم منهلًا ثَرًّا ومُلهِمًا. ثم اتجهت إليها العلوم الإنسانية تبحث خلف الشكل الظاهر للأسطورة عن رموز كامنة ومعانٍ عميقة، تُعين على فهم الإنسان وسلوكه وحياته الروحية والنفسية وآليات تفكيره وعواطفه ودوافعه. فقدَّمت لمختبرات علوم الاجتماع والنفس والأنثروبولوجيا مادةً قيمةً لا تُقدَّر بثمن، وغدت منهلًا للعلوم بعد أن لاقت من العلوم ما لاقت من تجاهل. وإلى جانب هذا وذاك ظهر فرع جديد من فروع المعرفة، يعنى بدراسة وتفسير الأساطير، دُعي بالميثولوجيا Mythology. والشق الأول من الكلمة Mytho مأخوذ عن الكلمة اليونانية Mutho التي تعني حكايةً تقليديةً عن الآلهة والأبطال.٤ أمَّا الشق الثاني Logy فيعني «علم». وتُستخدم هذه الكلمة الأخيرة بكثرةٍ في العصر الحديث للدلالة على العلوم المختلفة، كأن نقول سوسيولوجيا أو بيولوجيا. كما تعني الميثولوجيا أيضًا مجموعة الأساطير الخاصة بشعب من الشعوب،٥ كأن نقول الميثولوجيا السورية أو الميثولوجيا الإغريقية. هذا وقد اهتمَّت الميثولوجيا الحديثة بتعريف الأسطورة، ودراسة بواعث نشوئها وتفسيرها ودراسة وظائفها النفسية والفكرية والاجتماعية. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، ظهرت، وتظهر، مدارس شتى تهدف إلى تقديم نظريات شاملة متكاملة في تفسير الأسطورة وبيان دلالاتها وبواعثها ووظيفتها، إلا أن معظم هذه المدارس قد وقعت في أُحادية النظرة؛ إذ حاولت إعطاء نظريات جامعةً مانعةً اعتقدت أنها قد أحاطت بالأسطورة وأوقعتها في شبكة التفسير الشامل الجامع. وسأقوم فيما يأتي باستعراض مجتزأ، غير جامع، لأهم تلك المدارس والاتجاهات.

(١) الأسطورة باعتبارها فنًّا أدبيًّا وحكمة

ينظر هذا الاتجاه، لِمَا ترويه الأسطورة، على أنه تراكم لنتاج الفكر الإنساني المبدع في مجال الأدب؛٦ فالأمثال الصغيرة التي يرويها حكيم القوم، سوف تُروى مرات ومرات. ولن يقاوم الراوي رغبته المُلِحَّة والمشروعة في الإضافة إليها من عناصر جديدة نابعة من خياله الخاص، ومن ظروف اجتماعية مستجدة. وعندما تأخذ القصة شكلها المكتمل تكون قد عبَّرت عن طابع فني وفكري وأدبي لشعب من الشعوب. إلا أن هذا الشكل الفني لا ينفصل عن مضمونه الذي ينحو في غالب الأحيان لأن يكون تأمُّليًّا، يُقدِّم للمجتمع نظريات في السلوك والأخلاق والتوجيه الاجتماعي.

(٢) الأسطورة وظواهر الطبيعة

يُرجِع هذا الاتجاه كل الأساطير إلى منشأ طبيعي يتصل بعناصر الطبيعة.٧ فكثير من الأساطير كان باعثه القمر، ذلك الجرم السماوي المنير الذي أثار دومًا خيال البشر، بأطواره وتبدُّل أشكاله والسماء المعتمة التي يسبح فيها. وكثير من الأساطير قد تركِّز حول الشمس، ذلك الجرم المشع، مصدر الحياة والنماء والدفء. وجزء آخر سحرته السماء السامية، مثار التأمُّل والتفكير العميق. وآخر أهابته ظواهر الطقس المختلفة كالصواعق والرعود والبروق. وحتى الأساطير التي لا تتصل من قريب أو بعيد بظواهر الطبيعة، قد وجدت تفسيرًا طبيعيًّا لها لدى هذه المدرسة، بعد التمحيص والبحث عن أصولها وجذورها وطريقة تطوُّرها وتغيُّرها.

(٣) الأسطورة والأيتيولوجيا

الأيتيولوجيا (Aetiology) هي دراسة الأسباب، فقد وُجدت الأسطورة لتقديم الأسباب الكامنة وراء كثير من الظواهر التي يراها الإنسان في العالم الواقعي.٨ تقول أسطورة فلبينية مثلًا إن تنوُّع ألوان العروق البشرية راجع إلى ساعة الخلق، عندما وضع الإله الخالق حَفنةً من طين في الفرن لصنع الإنسان. ففي المرة الأولى أخرج الإله الطين قبل نضجه فكان الإنسان الأبيض، وفي المرة الثانية تأخَّر في إخراجه فاحترق، فكان الإنسان الأسود، وفي الثالث أخذ الطين كفايته من الشي فخرج الإنسان الفلبيني البرونزي. وتقول الأسطورة الإغريقية إن هرقل قد أرضعته الإلهة هيرا في صغره، ولقوته العظيمة شعرت هيرا بألم في ثديها من شدة الامتصاص دفعها إلى سحب ثديها من فم الصغير بقوة، فانبثق اللبن في السماء مكوِّنًا المجرة المعروفة بدرب اللبن.

(٤) الأسطورة باعتبارها تاريخًا

ليست الأسطورة، وفق هذا الاتجاه، نتاج الخيال المجرَّد، بل ترجمة لملاحظات واقعية ورصد لحوادث جارية. وعبرها انتقلت إلينا تجارب الأولين وخبراتهم المباشرة.٩ وهي تعود في أصولها إلى أزمان سحيقة سابقة للتاريخ المكتوب. فقبل أن يتعلَّم الإنسان الكتابة كانت ذاكرته على قدر كبير من النشاط والحيوية، وقد استخدمها لنقل الأحداث بأمانةٍ عبر الأجيال.١٠

ويتقدَّم أصحاب هذه المدرسة بأمثلة متعدِّدة تدعم وجهة نظرهم هذه، منها أساطير الطوفان، أو الدمار الشامل بالنار السماوية، أو الأعاصير. فشمولية هذه الأساطير وتكرُّرها لدى معظم الشعوب دلالة على تجارب وخبرات عاناها الجنس البشري في مطلع حياته.

(٥) الأسطورة والطقس

أسَّس هذا الاتجاه رائد الأنثروبولوجيا الحديثة السير جيمس فريزر. ورغم النقد الذي يوجِّهه إليه علماء الأنثروبولوجيا المعاصرون، بعد مرور ثمانين عامًا تقريبًا على ظهور كتابه الفريد «الغصن الذهبي»، فإن تأثير ذلك العبقري ما زال ماثلًا، وآراءه ما زالت تلقى الاحترام لدى الكثيرين.

يقول فريزر ومن تأثَّر به من أصحاب هذا الاتجاه،١١ بأن الأسطورة قد استُمدت من الطقوس؛ فبعد مرور زمن طويل على ممارسة طقس معيَّن، وفقدان الاتصال مع الأجيال التي أسَّسته، يبدو الطقس خاليًا من المعنى ومن السبب والغاية، وتُخلق الحاجة لإعطاء تفسير له وتسويغ. وهنا تأتي الأسطورة لإعطاء تسويغ لطقس مبجَّل قديم، لا يريد أصحابه نبذه أو التخلِّي عنه. إن قيام أتباع ديانة ديونيسيوس، مثلًا، بشرب دم ثور حي بعد تمزيقه، وأكل لحمه نيئًا بعد ذلك، هو طقس قديم أتت أسطورة موت ديونيسيوس على يد التيتان مفسرةً له ومحافظةً على حرارته ودفعه؛ فديونيسيوس يحاول الهرب من التيتان، أعداء أبيه زيوس، ولكن عبثًا يغيِّر أشكاله وهم يتبعونه، إلى أن يقبضوا عليه في هيئة الثور فينهالوا عليه تمزيقًا ويلتهموه حيًّا ويشربوا دمه.

(٦) الأسطورة والذرائعية

أسَّس هذا الاتجاه عالم الأنثروبولوجيا الشهير مالينوفسكي، الذي قضى شطرًا من حياته في دراسة تجريبية مع قبائل التروبرياند في غرب المحيط الهادي إبَّان الحرب العالمية الثانية، والذي يُعَد من أشهر ناقدي جيمس فريزر وأصحاب المدرسة النفسية أيضًا كفرويد.

يقول مالينوفسكي إن الأسطورة لم تظهر استجابةً لدافع المعرفة والبحث، ولا علاقة لها بالطقس أو البواعث النفسية الكامنة، بل هي تنتمي للعالم الواقعي، وتهدف إلى تحقيق نهاية عملية؛ فهي تُروى لترسيخ عادات قبلية مُعيَّنة، أو لتدعيم سيطرة عشيرة ما أو أسرة أو نظام اجتماعي وما إلى ذلك. فهي، والحالة هذه، عملية في منشئها وغايتها.١٢

(٧) الأسطورة والكبت، فرويد

في كتابه «تفسير الأحلام» اجتذبت الأسطورة فرويد، كما اجتذبت الكثير من أتباعه فيما بعد. وفي كتابه ذاك، الذي نُشر لأول مرة عام ١٩٠٥م.١٣ يرى فرويد تشابهًا في آلية العمل بين الحلم والأسطورة، وتشابه الرموز لكلَيهما، فهما نتاج العمليات النفسية اللاشعورية. ففي الأسطورة، كما في الحلم، نجد الأحداث تقع حرةً خارج قيود وحدود الزمان والمكان. فالبطل في الأسطورة، كما هي حال صاحب الحلم، يخضع لتحوُّلات سحرية ويقوم بأفعال خارقة، هي انعكاس لرغبات وأمانٍ مكبوتة، تنطلق من عِقالها بعيدًا عن رقابة العقل الواعي الذي يمارس دَور الحارس على بوابة اللاشعور. فالأسطورة، والحالة هذه، ملأى بالرموز، التي إن فُسِّرت زوَّدتنا بفهمٍ عميق لنفس الإنسان الخافية ورغباته المكبوتة. وتفسير فرويد في هذا المجال لأسطورة أوديب أشهر من أن يُبحث هنا.
وفي كتابه «التوتم والتابو»،١٤ يبدو فرويد مقتنعًا تمامًا أنه في فترة مبكِّرة من تاريخ الإنسانية، وقعت أحداث الدرام الأوديبي بشكل حقيقي، عندما تعاون الأولاد على قتل أبيهم في القبيل الابتدائي، في صراع كان دافعه الحصول على زوجات الأب. وعندما تمَّ لهم ذلك انتابهم إحساس الندم والإثم، فحرَّموا على أنفسهم زوجات الأب، وكان ذلك أول قانون وُضع للبشر. ولكن تلك التجربة البدئية قد تركت بصمتها على ضمير الجنس البشري، وهي الأساس وراء إحساس البشر المتوارث بخطيئة ما، كما أنها الأساس الكامن وراء مجموعة الأساطير التي تُروى عن التضحية بالإله الابن. وكأنما يقدِّم البشر كفارةً رمزيةً عن خطيئتهم الأولى نحو الأب.١٥

لقد فتح فرويد بابًا واسعًا لم يُغلق بعدُ أمام التفسير النفسي للأسطورة، وتابع الرحلة بعده تلامذته وناقدوه من أمثال يونج ورانك وفروم وغيرهم.

(٨) الأسطورة والنماذج البدئية، يونج

كان يونج من أكثر تلامذة فرويد اهتمامًا بالأسطورة، وتعمُّقًا في دراستها، وتعويلًا على أهميتها وعمقها وبُعد دلالاتها. وفي رأيه أن كل المحاولات التي بُذلت لتفسير الأسطورة لم تُساهم في فهمها، بل على العكس لقد زادت في الابتعاد عن جوهرها، وزادت من حيرتنا نحوها. وهو يقتفي أثر فرويد في النظر للأسطورة كنتاج اللاشعور، ولكنه يفترق عنه جذريًّا عندما يقرِّر أن اللاشعور الذي تنتج عنه الأسطورة هو اللاشعور الجمعي للبشر، وهو يناقض نظرية فرويد القائلة بأن الأسطورة والحلم إنما يشفان عن مكنونات العناصر المكبوتة في لا شعور الفرد، وإنها نوع من التعويض عن رغبات لم يقيَّض لها إرضاء حقيقي؛ فالصور والخيالات المتبدية في الحلم والأسطورة لم تكن في وعي الفرد الشخصي في يوم من الأيام؛ ولذا فإنها لم تُكبت، والأصح أن نقول إنها قد عاشت في اللاشعور الجمعي، ولكن انبثاقها كان من خلال الفرد. فنحن عندما نتنفَّس لا نستطيع تفسير هذا التنفُّس فرديًّا. ولذا يمكن القول بأننا ممتلكون من قِبَل هذه الصور والخيالات أكثر من كوننا مالكين لها. ونحن كلما تعمَّقنا نحو طبقات النفس السفلى، غادرنا عالم الفرد الشخصي تدريجيًّا واقتربنا من الأرضية الإنسانية المشتركة لبني البشر، إلى أن نصل إلى قاع النفس فلا نجد هناك سوى العالم بكل بساطة، مجرَّدًا من أي طابع شخصي فردي، تمامًا كما هو الأمر عندما نحلِّل المواد المكوِّنة للجسد الإنساني، حيث تعود مادة الكربون الموجودة في الجسم إلى الكربون الطبيعي الذي تتشكَّل منه جميع الأجسام. فمن خلال رموز الأسطورة نجد أن العالم يتكلَّم، وكلما ازداد الرمز عمقًا، كان أقرب للعالمية والشمول الإنساني. ١٦

(٩) اللغة المنسية (إريك فروم)

إريك فروم (Erich Fromm) آخر عمالقة مدرسة التحليل النفسي. قدَّم لنا في كتابه اللغة المنسية (The Forgotten Language)١٧ دراسةً عميقةً للأسطورة، منطلقًا أيضًا من فكرة فرويد عن العلاقة بين الأسطورة والحلم، مع مخالفته في النظر للأسطورة والحلم على أنهما نتاج العالم اللاعقلاني؛ فالعقل في حالة الحلم إنما يعمل ويفكِّر، ولكن بطريقة أخرى ولغة أخرى؛ فعندما ندخل ملكوت النوم نتحرَّر من عبء العمل ومشاغل الحياة اليومية وقلق الصحو، وندلف إلى عالمنا الداخلي بعيدًا عن قواعد الواقع، فتغدو اﻟ «أنا» بؤرة تفكيرنا. فإذا كان الصحو دعوةً للعمل والفعل، فإن النوم دعوة لتأمُّلٍ من نوع خاص يستخدم لغةً خاصةً هي لغة الرمز. النوم انفلات من همِّ التحكُّم بعالم المادة وتفرُّغ للذات، يجعلنا أكثر شفافيةً وحساسية، فتغدو معرفتنا بأنفسنا أكثر وضوحًا وصدقًا وحكمة. فحالة السبات هي القطب الثاني لوجودنا في مقابل حالة اليقظة، وليست كَمًّا زمنيًّا مُعطَّلًا يعطينا الراحة لبدء يوم جديد.

ولغة الرموز هي اللغة التي تنطق عن الخبرات والمشاعر والأفكار الباطنة، كما تنطق لغتنا المحكية عن خبرات الواقع، مع فارق هام يكمن في شمولية لغة الرمز وعالميتها، وتجاوزها لفوارق الزمن والثقافة والجنس. والأسطورة، كما الحلم، تكمن أهميتها في تقديمها حكايا تشرح بلغة الرمز، حشدًا من الأفكار الدينية والفلسفية والأخلاقية. وما علينا إلا أن نفهم مفردات تلك اللغة لينفتح أمامنا عالم مليء بمعارف غنية ثرة.

(١٠) الأسطورة، مغامرة العقل الأولى

بعد هذا الاستعراض السريع نود أن نوضِّح رؤيتنا الخاصة للأسطورة، والتي تشكِّل أرضية هذا الكتاب، في عجالة بلا إطالة؛ فهدفنا دراسة الأسطورة لا التنظير لها.

عندما انتصب الإنسان على قائمتَين رفع رأسه إلى السماء ورأى نجومها وحركة كواكبها، وأدار رأسه فيما حوله فرأى الأرض وتضاريسها ونباتها وحيوانها. أرعبته الصواعق، وخلبت لبه الرعود والبروق. داهمته الأعاصير والزلازل والبراكين، ولاحقته الضواري. رأى الموت وعاين الحياة. حيَّرته الأحلام ولم يميِّزها تمامًا عن الواقع. ألغاز في الخارج وأخرى في داخله. غموض يحيط به أينما توجَّه وكيفما أسند رأسه للنوم. تعلَّم استخدام اليدَين وصنع الأدوات، وفي لحظات الأمن وزوال الخوف، كان لدى الطفل متسع للتأمُّل في ذلك كله. لماذا نعيش؟ ولماذا نموت؟ لماذا خُلق الكون وكيف؟ من أين تأتي الأمراض؟ إلى آخر ما هنالك من أسئلة طرحت نفسها عليه، كما تطرح نفسها على طفل العصر الحديث. كان العقل صفحةً بيضاء لم يُنقش عليها شيء، عضلة لم تألف الحركة خارج نطاق الغريزة، وبعد حدود ردِّ الفعل. ومن أداته المتواضعة هذه، كان عليه أن يبدأ مغامرةً كبرى مع الكون، وقفزةً أولى نحو المعرفة، فكانت الأسطورة. وعندما يئس الإنسان تمامًا من السحر، كانت الأسطورة كل شيء له. كانت تأمُّلاته وحكمته، منطقه وأسلوبه في المعرفة، أداته الأسبق في التفسير والتعليل، أدبه وشعره وفنه، شرعته وعرفه وقانونه، انعكاسًا خارجيًّا لحقائقه النفسية الداخلية. فالأسطورة نظام فكري متكامل، استوعب قلق الإنسان الوجودي، وتَوقه الأبدي لكشف الغوامض التي يطرحها محيطه، والأحاجي التي يتحدَّاه بها التنظيم الكوني المحكم الذي يتحرَّك ضمنه. إنها إيجاد النظام حيث لا نظام، وطرح الجواب على ملحاح السؤال، ورسم لوحةً متكاملةً للوجود؛ لنجد مكاننا فيه ودَورنا في إيقاعات الطبيعة. إنها الأداة التي تزوِّدنا بمرشد ودليل في الحياة، ومعيار أخلاقي في السلوك. إنها مجمع الحياة الفكرية والروحية للإنسان القديم.

والأسطورة حكاية، حكاية مقدَّسة، يلعب أدوارها الآلهة وأنصاف الآلهة. أحداثها ليست مصنوعةً أو متخيَّلة، بل وقائع حصلت في الأزمنة الأولى المقدسة. إنها سِجل أفعال الآلهة، تلك الأفعال التي أخرجت الكون من لجة العماء، ووطَّدت نظام كل شيء قائم، ووضعت صيغةً أولى لكل الأمور الجارية في عالم البشر. فهي معتقد راسخ، الكفر به فقدان الفرد لكل القيم التي تشده إلى جماعته وثقافته، وفقدان المعنى في هذه الحياة.

والأسطورة حكاية مقدَّسة تقليدية؛ بمعنى أنها تنتقل من جيل إلى جيل، بالرواية الشفهية، ممَّا يجعلها ذاكرة الجماعة التي تحفظ قيمها وعاداتها وطقوسها وحكمتها، وتنقلها للأجيال المتعاقبة، وتُكسبها القوة المسيطرة على النفوس. فهي الأداة الأقوى في التثقيف والتطبيع والقناة التي تُرسِّخ من خلالها ثقافةٌ ما وجودها واستمرارها عبر الأجيال. وحتى في فترات شيوع الكتابة لم تفقد الأسطورة الشفهية قوتها وتأثيرها؛ ذلك أن الألواح الفخارية كانت محفوظةً في المعابد وفي مكتبات الملوك، ولا تلعب إلا دَور الحافظ للأسطورة من التحريف بالتناقل. وبقي السمع هو الوسيلة الرئيسية في تداولها. وفي أكثر من مناسبة دورية كانت الأساطير تُتلى أو تُنشَد في الاحتفالات الدينية العامة، من ذلك مثلًا أعياد رأس السنة في بابل، حيث كانت تُتلى وتُمثَّل أسطورة التكوين البابلية، وأعياد الربيع حيث كانت تُتلى وتُمثَّل عذاباتُ الإله تموز.

والأسطورة نص أدبي، وُضع في أبهى حلة فنية ممكنة، وأقوى صيغة مؤثِّرة في النفوس، وهذا ممَّا زاد في سيطرتها وتأثيرها. وكان على الأدب والشعر أن ينتظرا فترةً طويلةً قبل أن ينفصلا عن الأسطورة. لقد وُضعت معظم الأساطير السورية والسومرية والبابلية في أجمل شكل شعري ممكن. وقام هوميروس بصياغة معظم أساطير عصره المتداولة، شعرًا في الأوديسة والإلياذة. وإلى جانب الشعر والأدب، خلقت الأسطورة فنونًا أخرى كالمسرح، الذي ابتدأ عهده بتمثيل الأساطير الرئيسية في الأعياد الدينية. كما دفعت فنونًا أخرى كالغناء والموسيقى وغيرهما.

هذا ويمتزج تعبير الأسطورة في أذهان الكثيرين بتعبير «الخرافة» و«الحكاية الشعبية»، رغم البعد الشاسع بين هذه النتاجات الفكرية الثلاثة؛ فالخرافة حكاية بطولية ملأى بالمبالغات والخوارق، إلا أن أبطالها الرئيسيين هم من البشر أو الجن، ولا دور للآلهة فيها. ففي حديث نبوي١٨ عن عائشة قالت: «حدَّث رسول الله نساءه ذات ليلة حديثًا، فقالت امرأة: يا رسول الله كأن الحديث حديث خرافة. فقال: أتدرون ما خرافة؟ إن خرافة كان رجلًا من عذرة، أسرته الجن في الجاهلية فمكث فيهن دهرًا طويلًا، ثم ردُّوه إلى الإنس، فكان يحدِّث الناس بما رأى من الأعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة.» وبصرف النظر عن صحة هذا الحديث المنسوب إلى الرسول فإن النص يُظهر لنا معنى الخرافة عند العرب. بينما يُثبت لنا القرآن الكريم علاقة كلمة «الأسطورة» في اللغة العربية بالتصوُّرات الدينية والاعتقادية: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.١٩ وفي هذه الآية إشارة إلى قول أعداء النبي أن ما يأتي به محمد في القرآن هو أساطير الأقوام السابقة تُملى عليه وهو بدوره يستكتبها.

أمَّا الحكاية الشعبية فإنها كالخرافة لا تحمل طابع القداسة، ولا يلعب الآلهة أدوارها. كما أنها لا تتطرَّق، كما هو شأن الأسطورة، إلى موضوعات الحياة الكبرى، وقضايا الإنسان المصيرية، بل تقف عند حدود الحياة اليومية والأمور الدنيوية العادية، وذلك كمكر النساء ومكائد زوجات الرجل الواحد، وقسوة زوجة الأب على الطفلة المسكينة التي تتدخَّل العناية الإلهية لإنقاذها، وما أشبه ذلك من موضوعات. هذا وقد تتداخل الحدود بين الخرافة والحكاية الشعبية، أمَّا الأسطورة فتبقى نسيجًا متميِّزًا. ورغم أن كُلًّا من الخرافة والحكاية الشعبية والحكم والأمثال الشعبية قد تلعب دورًا ثقافيًّا شبيهًا بدور الأسطورة، إلا أنها لا تمتلك قوة التأييد الذاتي التي تمتلكها الأسطورة، والنابعة من قداستها وطابعها الاعتقادي والإيماني وقالبها الفني، و… نبالتها.

لا أريد في هذه العجالة أن أتقدَّم برؤيا أحادية؛ فأنا أومن بتعدُّد المستويات لفهم الأسطورة؛ فقد تحتوي بعض أساطير الخلق على عناصر نفسانية كثيرة، وقد تحتوي بعض الأساطير الأخلاقية على عناصر تاريخية كأسطورة الطوفان البابلية، وأسطورة جلجامش. كما أننا نلمح تأثيرًا كبيرًا لنمط الإنتاج الاقتصادي على مضمون وصياغة الأسطورة. وسنقوم في حينه بإبراز هذه المستويات كما تتبدَّى لنا، مع التركيز على المستوى الأهم في رأينا لفهم الأسطورة كمغامرة فكرية جريئة لإنسان العصور القديمة، تهدف إلى كشف الحقائق وفتح آفاق المعرفة.

•••

وبعدُ هذا كتاب في أسطورة الشرق القديم، هدفنا من ورائه التعريف بالأسطورة في سوريا القديمة وبلاد الرافدَين. وقد بذلت غاية الجهد في الحصول على النصوص الكاملة لأهم الأساطير المعروفة وتقديمها اعتمادًا على أكثر من نص وأكثر من ترجمة. وحاولت أن تكون ترجمتي أمينةً دون تدخُّل أو تزويق، مع عدم الإخلال بالشكل الفني الرائع لتلك النصوص. وهي معادلة صعبة نجحتُ فيها أحيانًا وأخفقتُ أحيانًا أخرى. ولم يكن جهدي في الشرح والتفسير والتقديم مُنصبًّا على كل أسطورة، بمعزل عن الأخرى، بل حاولت رسم صورة متكاملة عن الموضوع، بحيث تأخذ كل أسطورة مكانها في تلك الصورة، وتستمد تفسيرها من البنية الإجمالية للعمل. وكان منهجي في تقديم الأساطير يعتمد على جمعها في مجموعات وفق موضوعاتها، لا وفق تسلسل زمني أو توزُّع جغرافي؛ لاعتقادي بأن تفسير أسطورة ما يبدو عصيًّا إذا لم يُنظر إليها من خلال منظور شامل، يجمعها مع غيرها من الأساطير التي تعالج الموضوع نفسه. وهو منهج جديد في دراسة أساطير المنطقة على ما وصل إليه عِلمنا. كما قمت من خلال أسفار الكتاب بمقارنةٍ شاملة مع كتاب التوراة العبرانية، فيما يتعلَّق بالنصوص الأسطورية الواردة فيه؛ لإظهار مدى اعتماد الثقافة اليهودية على الثقافة السورية والبابلية في صياغة أهم مرجع ديني وثقافي لدى الشعب اليهودي. كما أظهرنا علاقة الأساطير السورية والبابلية بأساطير الشعوب المجاورة كالمصريين والإغريق. وتتبَّعنا، كلما أمكن ذلك، الأصول الشرقية للأساطير الإغريقية.

أمَّا لماذا اقتصر بحثي على سوريا وبلاد الرافدَين٢٠ دون بقية ثقافات الشرق القديم، فذلك راجع لأسباب ثلاثة؛ الأول هو الوحدة الثقافية القائمة في هذا الجزء من المنطقة، هذه الوحدة التي تُعطى لأي بحث يدور حولهما طابع الانسجام والتكامل. والثاني راجع لاتساع الموضوع وتشعُّبه، ممَّا لا يسمح بدراسة وافية لميثولوجيا الشرق القديم في كتاب واحد ومن قِبَل مؤلِّف واحد. أمَّا السبب الثالث فشخصي جِدًّا، يرجع إلى ميل خاص إلى آداب هذه المنطقة، وولع بتاريخها وتراثها. وقد حاولتُ ألَّا يكون توجُّهي في هذا الكتاب إلى زمرة مُعيَّنة من القُرَّاء، بل إلى زمر متعدِّدة. فالقارئ العادي سيجد فيه موضوعًا جديدًا على الكتابات العربية الحديثة؛ لأنه أولُ كتاب يعالج موضوع الأسطورة على هذا المستوى من الإحاطة. وسيجد القارئ المُطَّلع كثيرًا من المعلومات الجديدة والتفسيرات الجديدة. كما سيجد المهتمُّون بالديانات المقارنة عددًا لا بأس به من النقاط القابلة للدراسة والمناقشة، وكذلك الأمر فيما يتعلَّق بدارسي الآداب والديانة اليهودية. أمَّا بالنسبة للمتخصصين، فآمل أن تفتح النظرات والأفكار الجديدة التي أطرحها في ثنايا هذا الكتاب مجالًا لحوارات مُجدية.

(١١) ملاحظات لقراءة النصوص

  • إن جميع النصوص الواردة في هذا الكتاب مترجمة عن الإنجليزية. وقد جاءت النصوص العربية التي أثبتناها هنا، نتاج تحقيق طويل، ومقارنة دقيقة بين ترجمات إنجليزية مختلفة للنص الواحد. وقد حاولت قدر الإمكان ألَّا أتصرَّف بالترجمة إلا في مواضع قليلة استدعتها الضرورة، مع الإشارة إلى مثل هذا التصرُّف عند حدوثه. كما حاولت الإبقاء على الطابع الأدبي لتلك النصوص الشعرية، دون الإخلال بالمعاني والمرامي الأصلية. أمَّا عند وقوع التعارض بين الصياغة الأدبية والترجمة الأمينة، فقد الْتزمنا الأمانة العلمية على حساب القيم الجمالية. كما بذلت جهدًا في إعطاء الأسماء نطقًا ساميًّا، قد يختلف أحيانًا مع ما تعوَّدنا قراءته في الترجمات الحرفية عن اللغات الأوروبية. فالإله مردوك هو في الواقع مردوخ، والإلهة تيامات، كما تنقلها لنا بعض الترجمات، هي تعامة، وأداد هو حدد …

  •  [ ] القوس المنكسر في النصوص دلالة على وجود نقص في الشعر، ناشئ عن كسور أو تشوُّهات في اللوح الفخاري. فإذا احتوى القوس على كلمات [القوس المنكسر] فمعنى ذلك وجود تشوُّه غير تام في السطر، وأن ما تبقَّى من حروف ومقاطع يكفي لاستعادة الكلام الأصلي أو ما شابهه. أمَّا إذا احتوى القوس على نقاط […]؛ فمعنى ذلك أن التشوُّه تام. وفي هذه الحالة لم نسمح لأنفسنا بإملاء الفراغات الحاصلة.

  • ( ) القوس العادي هو إضافة مني، أو من المترجم الأصلي على السطر لغرض توضيح المعنى، ولا وجود للكلمات المحصورة في هذا القوس في النص الأصلي. وقد أبقيتُ مثل هذه الإضافات في حدِّها الأدنى المطلوب، وغالبًا ما لجأت إليها لضرورات جمالية.

١  سورة السجدة: ٣٢، الآية ٥.
٢  سورة المعارج: ٧٠، الآية ٤.
٣  Sir James Frazer, The Golden Bough, Mcmillan, New York, 1971 Chapter iv.
٤  G. S Kirk, Myth, Pelican Book, 1977, p. 22.
٥  المرجع السابق، ص٢١.
٦  Philip Freund, Myths of Creation. W. H. Allen, London 1964.
٧  G. S. Kirk, Greek Myths, Pelican Book, 1977, p. 43.
٨  ibid p. 35.
٩  Philip Freund, Myths of Creation, W. H. Allen, London 1964.
١٠  G. S. Kirk, Greek Myths, Pelican Book, 1977, p. 29.
١١  هذه النظرية مشروحة في ثنايا كتاب فريزر الآنف الذكر.
١٢  هذه النظرية مشروحة في كتاب مالينوفسكي: Malinowski, Magic, Science, and Religion, Garden City, New York, 1954.
وبعض تلامذته ممَّن أطلق عليها اسم النظرية الوظيفية.
A. R. Radcliffe-Brown, The Andaman Isianders, Cambridge, 1922.
١٣  سيجموند فرويد، تفسير الأحلام، مكتبة التحليل النفسي، القاهرة.
١٤  Sigmond Freud, Totem and Taboo, The Basic Writings, Modern Library, N.Y. 1938.
راجع أيضًا ترجمة بو علي ياسين، دار الحوار، اللاذقية، سوريا، ١٩٨٥م.
١٥  سيجموند فرويد، موسى والتوحيد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت.
١٦  أفكار يونج بهذا الخصوص مشروحة بشكل سلس وواضح في كتاب: C. G. Jung, Man and his Symbols, New York, 1964.
راجع أيضًا ترجمة عبد الكريم ناصيف، دار منارات، عمان، ١٩٨٧م.
١٧  Erich Fromm. The Forgotten Language, Holt, Rinnart and Winston, New York 1951.
١٨  مسند ابن حنبل، المطبعة الميمنية، مصر، ١٣١٣ﻫ، ﺟ٢، ص٢٨١.
١٩  سورة الفرقان، الآية ٥.
٢٠  في مواضع كثيرة من هذا الكتاب استعملت كلمة «بابل» أو «بابلي» للدلالة على بلاد الرافدَين إجمالًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤