الفصل الثاني

التكوين البابلي

أقام الأكاديون الساميون إلى جانب جيرانهم السومريين ردحًا طويلًا، وما لبثوا أن استوعبوهم، وبسطوا سلطانهم السياسي والثقافي على بلاد الرافدَين، في إمبراطورية بلغت أوجها في عهد الملك الكبير حمورابي. وإذا كان السومريون قد وضعوا بذرة الثقافة في وادي الرافدَين، فإن الأكاديين هم الذين استنبتوها لتعطي أُكلها، وتهب العالم حضارةً تُعَد، إلى جانب الحضارة السورية والمصرية، من أقدم وأهم الحضارات الإنسانية. ولم يكن تعاقب الشعوب السامية الأخرى على الهيمنة السياسية في وادي الرافدَين (كالكلدانيين، والآشوريين) إلا تنويعًا على أرضية واحدة مشتركة. وسأقوم في هذا الكتاب بالإشارة للثقافة الرافدية باسم الثقافة البابلية، دون أن يعني ذلك تخصيصًا أو تحديدًا معيَّنًا.

تتوضَّح أفكار البابليين في الخلق والتكوين، بشكلها الأكمل، في ملحمة التكوين البابلية المعروفة باسم «الإينوما إيليش». وتُعتبر هذه الملحمة، إلى جانب ملحمة جلجامش، من أقدم وأجمل الملاحم في العالم القديم؛ فتاريخ كتابتها يعود إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد؛ أي قبل ألف وخمسمائة سنة تقريبًا من كتابة إلياذة هوميروس، وتدوين أسفار التوراة العبرانية. وقد لقيَت كثيرًا من الاهتمام والدراسة من قِبَل علماء المسماريات والأنثروبولوجيا والميثولوجيا والثيولوجيا.

فإلى جانب الشكل الشعري الجميل الذي صيغت فيه الملحمة، والذي يُعطينا نموذجًا لأدب إنساني متطوِّر، فإنها تقدِّم لنا وثيقةً هامةً عن معتقدات البابليين، ونشأة آلهتهم ووظائفها وعلاقاتها. كما أنها تقدِّم لدارسي الديانات المقارنة، مادةً غنية، بسبب المشابهات الواضحة مع الإصحاحَين الأول والثاني من كتاب التوراة.

وُجدت الملحمة مُوزَّعةً على سبعة ألواح فخارية، أثناء الحفريات التي كشفت عن قصر الملك آشور بانيبال، ومكتبته التي احتوت على مئات الألواح في شتى الموضوعات الأدبية والدينية والقانونية وما إليها. وقد جرى الكشف عن ألواح الملحمة تباعًا، منذ نهاية القرن الماضي، وحتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين، حيث اكتملت وصارت واضحةً وميسرةً للترجمة والدراسة.

واسم الملحمة مأخوذ، كما هي عادة السومريين والبابليين، من الكلمات الافتتاحية للنص؛ فإينوما إيليش تعني: عندما في الأعالي. فعندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، وفي الأسفل لم يكن هناك أرض. لم يكن في الوجود سوى المياه الأولى ممثَّلةً في ثلاثة آلهة؛ أبسو وتعامة وممو. فأبسو هو الماء العذب، وتعامة زوجته كانت الماء المالح، أمَّا ممو فيعتقد البعض بأنه الأمواج المتلاطمة الناشئة عن المياه الأولى، ولكني أؤيد الرأي القائل بأنه الضباب المنتشر فوق تلك المياه والناشئ عنها. هذه الكتلة المائية الأولى كانت تملأ الكون، وهي العماء الأول الذي انبثقت منه فيما بعد بقية الآلهة والموجودات، وكانت آلهتها الثلاثة تعيش في حالة سرمدية من السكون والصمت المطلق، ممتزجةً ببعضها البعض في حالة شواشية لا تمايز فيها ولا تشكُّل. ثم أخذت هذه الآلهة بالتناسل فوُلد لأبسو وتعامة إلهان جديدان هما لخمو ولخامو، وهذان بدورهما أنجبا أنشار وكيشار اللذَين فاقا أبوَيهما قوةً ومنعة. وبعد سنوات مديدة وُلد لأنشار وكيشار ابن أسمياه آنو، وهو الذي صار فيما بعدُ إلهًا للسماء. وآنو بدوره أنجب إنكي أو إيا، وهو إله الحكمة والفطنة، والذي غدا فيما بعدُ إله المياه العذبة الباطنية. ولقد بلغ إيا حدًّا من القوة والهيبة جعله يسود حتى على آبائه.

وهكذا امتلأت أعماق الإلهة تعامة بالآلهة الجديدة المليئة بالشباب والحيوية، والتي كانت في فعَّالية دائمة وحركة دائبة، ممَّا غيَّر الحالة السابقة وأحدث وضعًا جديدًا لم تألفه آلهة السكون البدئية، التي عكَّرت صفوها الحركة وأقلقت سكونها الأزلي. حاولَت الآلهة البدئية السيطرة على الموقف واستيعاب نشاط الآلهة الجديدة ولكن عبثًا، الأمر الذي دفعها إلى اللجوء للعنف. فقام أبسو بوضع خطةٍ لإبادة النسل الجديد والعودة للنوم مرةً أخرى. وباشر بتنفيذ خطته رغم معارضة تعامة التي ما زالت تُكِن بعض عواطف الأمومة.

لدى سماعهم بمخططات أبسو خاف الآلهة الشباب واضطربوا، ولم يُخلِّصهم من حيرتهم سوى أشدهم وأعقلهم، الإله إيا، الذي ضرب حلقةً سحريةً حول رفاقه، تحميهم من بطش آبائهم، ثم صنع تعويذةً سحريةً ألقاها على أبسو فنام، ثم قام إيا بنزع العمامة الملكية عن رأس أبسو ووضعها على رأسه رمزًا لسلطانه الجديد. كما نزع عن أبسو أيضًا اللقب الإلهي وأسبغه على نفسه، ثم ذبحه وبنى فوقه مسكنًا لنفسه. كما انقضَّ على ممو (الضباب المنتشر فوق المياه الأولى) المعاضد لأبسو فسحقه وخرم أنفه بحبل يجرُّه وراءه أينما ذهب. ومنذ ذلك الوقت صار إيا إلهًا للماء العذب يدفع به إلى سطح الأرض بمقدار، ويتحكَّم به بمقدار، وهو الذي يُعطي الأنهار والجداول والبحيرات ماءها العذب. وهو الذي يفجِّر الأرض عيونًا من مسكنه الباطني. ومنذ ذلك الوقت أيضًا يُشاهَد ممو فوق مياه الأنهار والبحيرات لأن إيا قد ربطه بحبل فهو موثق به إلى الأبد.

بعد هذه الأحداث الجسام وُلد الإله مردوخ، أعظم آلهة بابل، الذي أنقذهم مرةً أخرى من بطش الآلهة القديمة ورفع نفسه سيِّدًا للمجمع المقدَّس. وكيف لا وهو ابن إيا (إنكي) الذي فاق أباه قوةً وحكمةً وبطشًا. وكما كان الإنقاذ الأول على يد الأب إنكي، كذلك كان الإنقاذ الثاني على يد الابن الشاب مردوخ. فتعامة، التي تركت زوجها أبسو لمصيره المحزن دون أن تُهرع لمساعدته وهو يُذبح على يد الآلهة الصغيرة، تجد نفسها الآن مقتنعةً بضرورة السير على الطريق نفسه لأن الآلهة الصغيرة لم تُغيِّر مسلكها، بل زادها انتصارها ثقةً وتصميمًا على أسلوبها في الحياة. وهنا اجتمعت الآلهة القديمة إلى تعامة وحرَّضتها على حرب أولئك المتمرِّدين على التقاليد الكونية فوافقت، وشرعت بتجهيز جيش عَرِم قوامه أحد عشر نوعًا من الكائنات الغريبة التي أنجبتها خصوصًا لساعة الصدام، أفاعٍ وزواحف وتنانين هائلة وحشرات عملاقة جعلت عليها الإله كينغو قائدًا، بعد أن اختارته زوجًا لها، وعلَّقت على صدره ألواح الأقدار.

علم الفريق الآخر بما تُخطِّط له تعامة وصحبُها، فاجتمعوا خائفين قلقين، وأرسلوا إليهم الإله إيا الذي أنقذهم في المرة الأولى، عسى ينقذهم في المرة الثانية. ولكن إيا عاد مذعورًا ممَّا رأى، فأرسلوا آنو الذي مضى وعاد في حالةِ هلع شديد. أُسقط في يد الجميع وأطرقوا حائرين، كلٌّ يفكِّر في مصيره الأسود القريب. وهنا خطرَ لكبيرهم أنشار خاطر جعل أساريره تتهلَّل إذ تذكَّر مردوخ، الفتى القوي العتي، فأرسل في طلبه حالًا. وعندما مثل بين يدَيه وعلم بسبب دعوته، أعلن عن استعداده للقاء تعامة وجيشها بشرط الموافقة على إعطائه امتيازات وسلطات استثنائية، فكان له ما أراد. وجلسوا جميعًا حول مائدة الشراب وقد اطمأنَّت قلوبهم لقيادة الإله الشاب.

أعطى الآلهة مردوخ قوةَ تقرير المصائر بدلًا من أنشار، وأعطَوه قوة الكلمة الخالقة. ولكي يمتحنوا قوةَ كلمته الخالقة أتَوا بثوب وضعوه في وسطهم وطلبوا من مردوخ أن يأمر بفناء الثوب، فزال الثوب بكلمة آمرة من مردوخ، ثم عاد إلى الوجود بكلمة أخرى. هنا تأكَّد الآلهة من أن مردوخ إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون. فأقاموا له عرشًا يليق بألوهيته، وأعلوه سيِّدًا عليهم جميعًا، ثم أسلموه الطريق إلى تعامة. وقبل أن يمضي صنع لنفسه قوسًا وجعبةً وسهامًا وهراوة، كما صنع شبكةً هائلةً أمر الرياح الأربع أن تمسكها من أطرافها. ملأ جسمه باللهب الحارق، وأرسل البرق أمامه يشق له الطريق. دفع أمامه الأعاصير العاتية وأطلق طوفان المياه. وانقضَّ طائرًا بعربته الإلهية، وهي العاصفة الرهيبة التي لا تُصد، منطلقًا نحو تعامة والآلهة تتدافع من حوله تشهد مشهدًا عجبًا.

عندما الْتقى الجمعان طلب مردوخ قتالًا منفردًا مع تعامة فوافقت عليه، ودخل الاثنان حالًا في صراع مميت. وبعد فاصل قصير نشر مردوخ شبكته ورماها فوق تعامة محمولةً على الرياح، وعندما فتحت فمها لالْتهامه دفع في بطنها الرياح الشيطانية الصاخبة فانتفخت وامتنع عليها الحراك. وهنا أطلق الرب من سهامه واحدًا تغلغل في حشاها وشطر قلبها، وعندما تهاوت على الأرض أجهز على حياتها، ثم الْتفت إلى زوجها وقائد جيشها كينغو فرماه في الأصفاد، وسلبه ألواح الأقدار وعلَّقها على صدره. وهنا تمزَّق جيش تعامة شر مُمزَّق، وفرَّ معظمه يطلب النجاة لنفسه، ولكن مردوخ طاردهم، فقُتل من قُتل وأُسر من أُسر.

بعد هذا الانتصار المؤزَّر على قوة السكون والسلب والفوضى، الْتفت مردوخ إلى بناء الكون وتنظيمه وإخراجه من حالة الهيولية الأولى، إلى حالة النظام والترتيب، حالة الحركة والفاعلية و… الحضارة. عاد مردوخ إلى جثة تعامة يتأمَّلها، ثم أمسك بها وشقَّها شقَّين، رفع النصف الأول فصار سماءً، وسوَّى النصف الثاني فصار أرضًا. ثم الْتفت بعد ذلك إلى باقي عمليات الخلق، فخلق النجوم محطات راحة للآلهة، وصنع الشمس والقمر وحدَّد لهما مسارَيهما. ثم خلق الإنسان من دماء الإله السجين كنغو حيث قتله، وأفرج عن بقية الأسرى بعد أن اعترفوا بأن المحرِّض الأول هو كنغو، كما خلق الحيوان والنبات. ونظَّم الآلهة في فريقَين؛ جعل الفريق الأول في السماء وهم الأنوناكي، والثاني جعله في الأرض وما تحتها وهم الإيجيجي.١

بعد الانتهاء من عملية الخلق يجتمع الإله مردوخ بجميع الآلهة ويحتفلون بتتويجه سيِّدًا للكون. بنَوا مدينةً هي بابل، ورفعوا له في وسطها معبدًا تُناطِح ذِروته السحاب، هو معبد الإيزاجيلا، وفي الاحتفال المهيب أعلنوا أسماء مردوخ الخمسين.

هذه هي الخطوط العريضة للملحمة البابلية الكبيرة، عرضتُها في عجالة لا تُغني عن النص الشعري الكامل الذي يُعتبر مع ملحمة جلجامش أجمل نصَّين من نصوص الأدب السامي، ومن أجمل نتاجات الأدب القديم. وسأُقدِّم فيما يأتي ترجمةً كاملةً لألواح الملحمة السبعة.

اعتمدتُ ترجمتي بشكل أساسي على نص السيد أليكسندر هيديل Alexander Heidel الصادر في كتابه٢The Babylanian Genesis ، ونص السيد سبيسر E. A. Speiser المنشور في كتاب٣Ancient, Near Eastern Texts ، وفي بعض المواضع على نص جريسون A. K. Gryson،٤ واسترشدت بترجمة كينج L. W. King، وترجمة سلانجدون Slangdon، فجاء النص العربي مُعبِّرًا عن أهم الاتجاهات القائمة في ترجمة هذا النص العظيم.٥

(١) الإينوما إيليش

(١-١) اللوح الأول

عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء،
وفي الأسفل لم يكن هناك أرض،
لم يكن (من الآلهة) سوى أبسو أبوهم،
وممو، وتعامة التي حملت بهم جميعًا،
يمزجون أمواههم معًا.
قبل أن تظهر المراعي وتتشكَّل سبخات القصب،
قبل أن يظهر للوجود الآلهة الآخرون،
قبل أن تُمنح لهم أسماؤهم، وتُرسم أقدارهم.
في ذلك الزمن خلق الآلهة (الثلاثة) في أعماقهم
لخمو ولخامو، ومنحوا لهما اسمَيهما.
وقبل أن يكبر لخمو ولخامو ويشبَّا عن الطوق،
جاء إلى الوجود أنشار وكيشار وفاقاهما قامةً وطولًا.
عاشا الأيام المديدة، يضيفانها للسنين الطويلة،
ثم أنجبا آنو وريثهما، وفخر آبائه.
نعم كان آنو بكر أنشار، وكان صنوًا له.
ثم أنجب آنو ابنه نوديمود٦ على شاكلته،
فصار نوديمود سيد آبائه.
كان واسع الإدراك، حكيمًا وعظيمًا في قوته،
أعظم من جده آنشار، «وأكثر قوةً وعتيًّا»،
ولم يكن له بين إخوته ند (ولا منافس).
… وتجمَّع الصحب المؤلهون،
أزعجوا بحركتهم تعامة.
نعم، لقد هزوا جوف تعامة،٧
يروحون جيئةً وذهابًا في مسكنهم المقدَّس.
لم يقدر أبسو على إسكات صخبهم،
وتعامة كانت ساكتةً حيال [أفعالهم]،
رغم ألمها من سلوكهم،
 [ورغم] رفضها لطريقهم.
ثم إن أبسو، سلف الآلهة العظام،
دعا أمينه ممو … قائلًا له:
«أي ممو، يا أميني الذي يفرح به قلبي،٨
دعنا [نذهب] إلى تعامة.»
فمضيا ومثلَا أمامها،
تشاورا في أمر أبنائهم الآلهة (الشابة)،
وفتح أبسو فمه، قائلًا لتعامة بصوتٍ مرتفع:
«لقد غدا سلوكهم مؤلمًا لي؛
في النهار لا أستطيع راحة، وفي الليل لا يحلو لي رقاد،
لأُدمِّرنَّهم وأضع حدًّا لفعالهم،
فيخيِّم الصمت ونخلد بعدها للنوم.»
فلمَّا سمعَت تعامة منه ذلك،
ثار غضبها وصاحت بزوجها،
صرخت وثار هياجها،
كتمت الشر في فؤادها وقالت:
«لماذا ندمِّر من وهبناهم نحن الحياة؟
إن سلوكهم لمؤلم حقًّا، ولكن دعونا نتصرَّف بلين (ورَوِية)!»
ثم نطق ممو ناصحًا أبسو،
 […] وفي غير صالح الآلهة جاءت نصيحة ممو:
«نعم يا والدي دمِّرهم، دمِّر فوضاهم؛
لتستريح نهارك، وترقد ليلك.»
فلمَّا سمع أبسو ذلك استضاء وجهه
للخطط الشريرة التي يُضمرها لأولاده الآلهة،
ثم قام إليه ممو معانقًا،
وجلس في حضنه وقبَّله.
ولكن ما دار في مجلسهم من خطط
قد وصل سمعه إلى أبنائهم الآلهة،
الذين اضطربوا لمَّا سمعوا.
جلسوا صامتين وسكنوا (حائرين)،
(غير أن) ذا الفهم العميق وصاحب الفطنة والحكمة
إيا، العليم بكل شيء، قد نفذ ببصيرته إلى خطط (المتآمرين)،
فابتكر ضدَّها دائرةً سحريةً (حامية) ضربها حول رفاقه،
وبتأنٍّ، نطق ترتيلتَه المقدَّسة المسيطرة (على النفوس)،
رتَّلها محيطًا بها سطح الماء،٩
فجلب إليه النوم العميق.
نام أبسو وراح في سباته بلا حراك،
تاركًا أمينه ممو بلا حول،
وهنا قام إيا بحل نطاق أبسو ونَضَا عنه تاجه،
وجلا عنه عظمته (وهيبته) وأسبغها على نفسه؛
وبذلك أخضعه، ثم عمد إلى ذبحه،
وسجن ممو وأغلق دونه الأبواب.
وفوق أبسو أقام إيا مسكنه،
وعاد إلى ممو فخَرم أنفه بحبل يمسك به.
وبعد أن قهر إيا أعداءه وأخضعهم،
علا أمره على خصومه جميعًا،
وبسلام ودَعة ركن إلى مسكنه.
دعا مسكنه الأبسو وجعله مقدَّسًا،
فيه بنى غرفة، مقامًا لنفسه،
وسكن هناك مع زوجته دومكينا بكل أُبهة وعظمة.
وفي غرفة الأقدار تلك، غرفة المصائر،
أحكم الحكماء، أحكم الآلهة، الرب، قد ولد
في أبسو المقدَّس، مردوخ قد ولد
إياه، كان له أبًا.
ودومكينا، التي حملت به أُمًّا،
أرضعته حليب الآلهة،
وأسبغت عليه الجلالة والهيبة،
تخلب الألباب قامته، تلمع كالبرق عيناه،
يخطو بعنفوان ورجولة أنه زعيم منذ البداية.
عندما رآه إيا أبوه
فرح وامتلأ قلبه بهجةً وحبورًا،
رفع شأنه بين الآلهة وزاد قَدْره عليهم،
فكان أرفعهم مقامًا، وأسبقهم في كل شيء.
بفن بديع تشكَّلت أعضاؤه.
لا تدركه الأفهام، ولا يحيط به خيال.
أربعة كانت آذانه، أربعة كانت عيونه.
تتوهَّج النيران كلما تحرَّكت شفتاه.
اتسعت آذانه الأربعة،
كما اتسعت عيونه فأحاط بكل شيء.
كان الأعلى بين الآلهة، ما لهيئته نظير،
هائلة أعضاؤه، سامقة قامته.
عظموه، بجلوه،١٠
الابن الشمس، وشمس السموات١١
مثل نوره كنور عشرة آلهة معًا، جبارًا عتيًّا،
أُسبغت عليه الجلالة النورانية المهيبة.
(ثم) خلق آنو الرياح الأربع وأنشأها،
أسلم أمرها لسيد الرهط١٢
(مردوخ)، الذي أحدث الأمواج فاضطربت لها تعامة،
قلقةً صارت، تحوم على غير هدًى،
والآلهة (الكبيرة) نسيت الراحة، في خضم العواصف
أضمروا الشر في سرائرهم،
وجاءوا إلى أمهم تعامة قائلين:
«عندما قتلوا زوجك أبسو
لبثتِ هادئةً دون أن تمُدي له يدًا،
وعندما خلق (أنو) الرياح الأربع،
اضطربَت أعماقك، وغابت عَنَّا الراحة.
تذكَّري أبسو زوجك،
تذكَّري ممو المقهور واندبي وحدتك.
لم تعودي أمًّا لنا، تهيمين على غير هدًى.
حرمتِنا عطفك وحنانك.
 […] عيوننا ثقيلة،
 […] دعونا ننام دون إزعاج،
 […] واجعليهم نهبًا للرياح.»
فلمَّا سمعت تعامة القول سُرَّت به:
« […] دعونا نخلق وحوشًا،١٣
 […] وفي الوسط (من جمعها) يسير الآلهة.
دعونا نعلن الحرب على الآلهة (الشابة)، دعونا […].»
ثم احتشد الجمع وساروا إلى جانبها
غاضبين يحيكون الخطط بدأب ليل نهار،
يتهيَّئون للحرب في هياج وثوران.
عقدوا مجلسًا وخطَّطوا للصراع.
الأم هابور١٤ خالقة الأشياء جميعًا،
أتت بأسلحة لا تقاوم، أفاعٍ هائلة
حادة أسنانها، مريعة أنيابها،
مُلئت أجسادها بدل الدم سمًّا.
(أتت) بتنانين ضارية تبعث الهلع،
توَّجتها بهالةٍ من الرعب، وألبستها جلالة الآلهة.
يموت الناظر إليها فرقًا،
حتى إذا انتصبت لم تخنع ولم تدبر.
خلقت الأفعى الخبيثة والتنين وأبا الهول.١٥
الأسد الجبار والكلب المسعور والرجل العقرب،
عفاريت العاصفة والذبابة العملاقة والبسيون،
كلها مزوَّدة بأسلحة لا تُرَد، غير هيَّابة ولا ناكصة.
نافذة كانت أحكام تعامة، لا يقاومها أحد.
أحد عشر نوعًا من الوحوش أُظهرت للوجود،
ومن الجيل الأول للآلهة الغاضبة، في مجلسها
اختارت كينغو وجعلته عليًّا وعظيمًا.
وضعته أمام جيشها قائدًا،
فيشهر السلاح للمعركة ويبدأ الصراع،
إنه الآمر الأعلى للمعركة.
أسلمته الأمانة، وأجلسته في المجتمع قائلة:
«لقد قرأت عليك تعويذتي، وجعلتك عظيمًا في مجلس الآلهة،
وأسلمت إلى يدك قياد الآلهة جميعًا.
فلْتكن عظيمًا، يا زوجي الفذ،
ولْيعلُ اسمك فوق جميع آلهة الأنوناكي.»
ثم أسلمت إليه ألواح القدر، وزيَّنت بها صدره قائلة:
«وسيكون أمرك نافذًا وكلماتك ماضية.»
وبعد أن جرى تنصيب كينغو وتسليمه السلطة العليا
قاما بتقرير مصائر الآلهة:
«سيكون لكلمتك فعل الإخضاع،
وستذل (كلمتك) الأسلحة القاهرة.»١٦

حاشية رقم ١

• اللوح الأول من عندما في الأعالي، نُسخ عن الأصل وجرت مقارنته.
• بيد نابور بلاطو.

حاشية رقم ٢

• اللوح الأول من عندما في الأعالي.
• نسخة من بابل نُقلت عن الأصل وتمَّت مقارنتها.
• بيد نابور ماشينك ابن […].

(١-٢) اللوح الثاني

بعد أن أعدت تعامة عدتها،
تهيَّأت لبدء الصراع مع ذريتها من الآلهة،
أعَدَّت كل شيء انتقامًا لأبسو،
ولكن استعداداتها وصلت لإيا،
فلمَّا أحاط بالمسألة علمًا،
أقعده الخوف وجلس في حزن عميق.
وبعد أن قلَّب الأمر وسكنت ثائرته،
مضى إلى جده أنشار،
فلمَّا صار في حضرة جده أنشار،
أفضى إليه بكل ما تُخطِّط له تعامة:
«أي أبتاه، إن تعامة التي حملت بنا، تكرهنا.
إنها مهتاجة غضبى، وقد عقدت اجتماعًا
فقصدها جميع الآلهة،
حتى من خلقتهم أنت، انضمُّوا إليها،
كلهم غضاب، وبلا راحة يتآمرون، في الليل وفي النهار،
تحَضَّروا للقتال وكلهم سخط وهياج،
عقدوا اجتماعًا ووضعوا خطط المعركة.
والأم هابور، خالقة الأشياء جميعًا،
أتت بأسلحة لا تُقاوم؛ أفاعٍ هائلة،
حادة أسنانها، مريعة أنيابها،
مُلئت أجسادها بدل الدماء سُمًّا،
أتت بتنانين ضارية، تبعث الهلع،
تَوَّجتها بهالة من الرعب وألبستها جلال الآلهة،
يموت الناظر إليها فَرَقًا،
حتى إذا انتصبت، لم تخنع ولم تُدبر.
خلقت الأفعى الخبيثة، والتنين، وأبا الهول
الأسد الجبار والكلب المسعور والرجل العقرب
عفاريت العاصفة، والذبابة العملاقة والبيسون،
كلها مُزوَّدة بأسلحة لا تُرَد، غير هيَّابة ولا ناكصة.
نافذة كانت أحكام تعامة، لا يقاومها أحد،
أحد عشر نوعًا من الوحوش، أظهرت للوجود،
ومن الجيل الأول، للآلهة الغضبى في مجلسها،
اختارت كينغو وجعلته عليًّا وعظيمًا،
وضعته أمام جيشها قائدًا،
فيُشهر السلاح في المعركة، ويبدأ الصراع.
إنه الآمر الأعلى للمعركة.
أسلمته الأمانة، وأجلسته في المجمع قائلة:
لقد قرأت عليك تعويذتي، وجعلتك عظيمًا في مجلس الآلهة،
وأسلمت إليك قيادة الآلهة جميعًا.
فلتكن عليًّا عظيمًا يا زوجي الفذ،
وليعلُ اسمك فوق جميع آلهة الأنوناكي.
ثم أسلمت إليه ألواح الأقدار وزيَّنت صدره قائلة:
سيكون أمرك نافذًا وكلمتك ماضية.
وبعد أن جرى تنصيب كينغو وتسليمه السلطة العليا
قاما بتقرير مصير الآلهة،
سيكون لكلمتك قوة الإخضاع،
وستُذل (كلمتك) الأسلحة القاهرة.»
فلمَّا سمع أنشار ذلك وعرف بثوران تعامة،
ضرب فخذه وعضَّ على شفتَيه.
كان حزنه عظيمًا واضطرابه بالغًا.
 […] كتم تأوُّهاته،
ونادى إيا قائلًا: قم يا بني وتأهَّب للقتال،
والأسلحة التي صنعتها، ستحملها الآن.
أنت يا من ذبحت أبسو […]،
قم الآن واقضِ على كينغو الذي يتقدَّم جمعها،
 [قم يا سيد] الحكمة.
فأجابه نوديمود مستشار الآلهة:

(ثلاثة أسطر مُشوَّهة، إلا أننا نستدل من السياق العام على أن إيا قد قدَّم المعاذير عن عدم استطاعته تنفيذ المهمة.)

صرخ أنشار بغيظ عظيم،
وتوَجَّه بالنداء إلى ابنه آنو:
«يا أول أبنائي، أيها البطل الرائع،
يا ذا القدرة الفائقة، والانقضاض الجريء،
امضِ الآن وقف أمام تعامة،
فإن لم تُصغِ لكلماتك،
فُهْ لها بكلماتي علَّها تُخمد (من ثورتها).»
فلمَّا سمع آنو كلام أبيه
قام ملتمسًا طريقه إلى تعامة،
وعندما اقترب منها وعرف كل ما تدبِّره،
أدرك عجزه عن مجابهتها وعاد من حيث أتى.
مضى في رعب إلى أبيه أنشار،
ولفظ أمامه ما تمتمه في سره لمَّا رأى تعامة:
إن ذراعَي لا تكفيان لإخضاعها١٧
فسقط على أنشار سكون عميق وأطرق إلى الأرض ثم هز رأسه،
فتراقصت خصلات شعره،
وكل الأنوناكي قد تجمَّعوا في المكان،
أطبقوا أفواههم وجلسوا صامتين؛
فما مِن إله يمضي لقتالها،
ويأمن العودة سالمًا من لقائها.
ثم نهض أنشار أبو الآلهة بعظمة وجلال،
يقضي بما تجيش به نفسه للأنوناكي:
«إن من سينتقم لنا، هو صاحب العزم المتين،
الجريء في ساحة الوغى، إنه مردوخ الشجاع.»
فقام إيا باستدعاء مردوخ إلى غرفته الخاصة
وأسدى إليه النصح، مفضيًا إليه بخططه:
«أي مردوخ، تفكَّر فيما أقول لك، وأنصِت لأبيك.
يا ولدي الذي يفرح به قلبي،
امضِ إلى حضرة أنشار في عدة الحرب الكاملة.
قِف أمامه منتصبًا بينما تكلِّمه، فتهدأ خواطره.»
سُرَّ الرب مردوخ بكلام والده.
مضى إلى أنشار وانتصب أمامه،
فامتلأ قلب أنشار بهجةً لرؤيته،
قام إليه وقبَّله وقد تلاشى منه الخوف،
فبادره مردوخ: أي أنشار لا تصمت، بل افتح فمك،
سأمضي قُدمًا وأحقِّق ما يصبو إليه فؤادك.
نعم أنشار لا تصمت، افتح فمك،
أي الرجال قد أشهر سلاحه ضدك،
أم تراها تعامة، وهي أنثى، قد فعلت ذلك؟
أبي، أيها الإله الخالق، لتسعد ولتبتهج؛

•••

فقريبًا سوف تطأ عنق تعامة.
نعم يا أبي أيها الإله الخالق؛
فقريبًا سوف تطأ عنق تعامة.
(فقال أنشار): «أي بني، يا صاحب الحكمة الواسعة،
أسكِت تعامة بتعويذتك المقدسة،
الْتمس طريقك إليها، على عربة العاصفة السريعة
… ردَّها على أعقابها.»
سعد الرب بكلام أبيه،
طرب فؤاده والتفت إليه قائلًا:
«يا رب الآلهة وسيد مصائرهم،
إذا كان لي أن أنتقم لكم حقًّا
فاقهر تعامة، واحفظ حياتكم،
فإنني أطلب اجتماعًا يُعلَن فيه اقتداري.
وعندما تلتقون، جذلين في قاعة الاجتماع،
اجعلوا لكلمتي قوة تقرير المصائر، بدلًا عنك،
وليبقَ ما أخلُقُ قائمًا لا يزول،
وما أنطق به من أوامر، ماضيًا لا يحول.»

حاشية رقم ١

• اللوح الثاني من عندما في الأعالي نسخ وفقًا …
• … نسخة من آشور
• …

حاشية رقم ٢

• استُنسخ عن الأصل وجرت مقارنته. لو نابور آحي آدينا.
• ابن أتير، بل ابن كاهن الإله ماشي.

(١-٣) اللوح الثالث

فتح أنشار فمه
متحدِّثًا إلى وزيره كاكا:
«كاكا يا وزيري الذي يفرح به قلبي،
سأرسلك إلى لخمو ولخامو؛
فأنت واسع الإدراك مُجيد الحديث.
ادعُ آبائي الآلهة للحضور إليَّ،
ولْيأتِ معهم جميع الآلهة،
فيجلس الجميع إلى مأدبتي ونتحدَّث.
سنأكل خبزًا ونشرب خمرًا.
وإلى مردوخ المنتقم فليسلِّموا مقاديرهم.
أي كاكا، انطلق وامثل أمامهم،
انقل لهم ما أنا محدِّثك به:
«أنشار ابنكم قد أرسلني إليكم،
أوكلني أن أنقل إليكم مشيئة قلبه،
فتعامة التي حملت بنا تكرهنا،
إنها مهتاجة غضبى، وقد عقدت اجتماعًا
فقصدها جميع الآلهة،
حتى من خلقتموهم أنتم، انضمُّوا إليها،
كلهم غضاب، وبلا راحة يتآمرون في الليل والنهار،
تحضَّروا للقتال في سخط وهياج،
والأم هابور خالقة الأشياء جميعًا
أنت بأسلحة لا تقاوم؛ أفاعٍ هائلة
حادة أسنانها مريعة أنيابها
ملئت أجسادها بدل الدماء سُمًّا،
أتت بتنانين ضاربة تبعث الهلع،
توَّجتها بهالةٍ من الرعب وألْبستها جلال الآلهة،
يموت الناظر إليها فرقًا،
حتى إذا انتصبت لم تخنع ولم تدبر.
خلقت الأفعى الخبيثة، والتنين، وأبا الهول
الأسد الجبار، والكلب المسعور، والرجل العقرب،
عفاريت العاصفة، والذبابة العملاقة والبيسون،
كلها مزوَّدة بأسلحة لا تُرَد، غير هيَّابة ولا ناكصة.
نافذة كانت أحكام تعامة، لا يقاومها أحد.
أحد عشر نوعًا من الوحوش، أظهرت للوجود،
ومن الجيل الأول للآلهة في مجلسها،
اختارت كينغو، وجعلته عليًّا وعظيمًا،
وضعته أمام جيشها قائدًا،
فيُشهر السلاح للمعركة، ويبدأ الصراع،
إنه الآمر الأعلى للمعركة،
أسلمته الأمانة، وأجلسته في المجتمع قائلة:
لقد قرأت عليك تعويذتي، وجعلتك عظيمًا في مجلس الآلهة،
وأسلمت إلى يدَيك قيادة الآلهة جميعًا،
فلْتكن عليًّا وعظيمًا يا زوجي الفذ،
وليعلُ اسمك فوق جميع آلهة الأنوناكي.
ثم أسلمت إليه ألواح الأقدار، وزيَّنت بها صدره قائلة:
سيكون أمرك نافذًا، وكلمتك ماضية،
وبعد أن جرى تنصيب كينغو وتسليمه السلطة العليا
قاما بتقرير مصير الآلهة:
سيكون لكلمتك قوة الإخضاع
وستُذل (كلمتك) الأسلحة القاهرة.
أرسلتُ إليها آنو فلم يقدر على مواجهتها،
وأيضًا نوديمود خاف وانقلب على عقبَيه،
ثم تقدَّم مردوخ، ابنكم مردوخ، أحكم الآلهة،
حفزه فؤادي (الجريء) للقاء تعامة،
ففتح فمه وقال لي:
«إذا كان لي أن أنتقم لكم حقًّا فأقهر تعامة وأحفظ حياتكم؛
فإنني أطلب اجتماعًا يعلن فيه اقتداري،
وعندما تلتقون جذلين، في قاعة الاجتماع،
اجعلوا لكلمتي قوة تقرير المصائر، بدلًا عنك،
وليبقَ ما أخلق، قائمًا لا يزول،
وما أنطق به من أوامر، ماضيًا لا يحول.»
فهلمُّوا إليَّ وسلِّموا إليَّ مقاديركم،
فيذهب للقاء عدوكم العنيد.
انطلق كاكا لا يلوي على شيء،
وأمام جَدَّيه لخمو ولخامو مَثل وقال لهم:
أنشار ابنكم قد أرسلني إليكم،
أوكلني أن أنقل لكم مشيئة قلبه،

(تكرار للمقطع السابق نفسه الذي يصف استعدادات تعامة، وذلك من السطر ٧٣ إلى السطر ١٢٤.)

فلمَّا سمع لخمو ولخامو ذلك، صرخا بصوت عالٍ،
وكل الإيجيجي بكَوا بحرقة:
«ما الذي ألجأها لمثل هذا القرار؟
إن سلوكها مستعصٍ على أفهامنا.»
ثم جمعوا بعضهم وانطلقوا.
كل الآلهة التي تقرِّر المصائر (انطلقت)،
والْتأم الشمل في حضرة أنشار فامتلأت قاعة الاجتماعات.
قبَّلوا بعضهم بعضًا حين تلاقَوا،
وجلسوا للمأدبة يتحاورون،
أكلوا خبزًا، وشربوا خمرًا،
فبدَّد الفرح مخاوفهم،
وانتشت أجسامهم بالشراب القوي.
زال الهم عن قلوبهم وسَمَت أرواحهم،
ولمردوخ المنتصر سلَّموا المصير.

(١-٤) اللوح الرابع

أقاموا له منصة عرش ربانية،
واتخذ مكانه قبالة آبائه لتلقي السيادة:
«أنت الأعظم شأنًا بين الآلهة الكبرى،
لا يدانيك أحد، وأمرك من أمر آنو،
ومن الآن فأمرك نافذٌ لا يُرَد.
أنت المُعز وأنت المُذل حين تشاء.
كلمتك العليا، وقولك لا يخيب.
ما من إله يقارب حدودك.
مساكن الآلهة تستصرخ الحماية١٨
فزيِّنها بحضورك، تجد في كل مكان ركنًا لك.
مردوخ أنت المنتقم لنا،
لك منحنا السيادة على العالمين.
وعندما تتصدَّر المجلس، كلمتك هي العليا.
لتكن أسلحتك ماضية، ولْتفتك بأعدائنا.
أيها الرب احفظ حياة من وضع عليك اتكاله،
وأهدر حياة من مشى في ركاب الشر.»
ثم أتَوا بثوب فوضعوه في وسطهم،
وقالوا لبكرهم مردوخ:
«سلطانك أيها الرب هو الأقوى بين الآلهة،
ليفنَ الثوب بكلمة من فمك،
وليرجع سيرتَه الأولى بكلمة أخرى.»
فأمر بفناء الثوب، فزال،
ثم أمر به فعاد ثانيةً كما كان،
فلمَّا رأى آباؤه الآلهة، قوةَ كلمته (الخالقة)
ابتهجوا وأعطَوه ولاءهم: مردوخ ملكًا،
منحوه الصولجان والعرش والرداء الملكي،
وأعطوه سلاحًا ماضيًا يقضي على الأعداء قائلين:
«امضِ واسلب تعامة الحياة،
ولتحمل الريح دماءها للأماكن القصية.»
بعد أن انتهى الآلهة من منح بل كل السلطات،
أسلموه الطريق، طريق النجاح.
صنع قوسًا وأعلنه سلاحًا له،
جعل للسهام رءوسًا مسنونة، وشدَّ لقوسه وترًا،
رفع الهراوة، أمسكها بيمينه،
وربط القوس والجعبة إلى جنبه،
ثم أرسل البرق أمامه،
وملأ جسمه بالشعلة اللاهبة.
صنع شبكةً يوقع بها تعامة،
وصرَّف الريح تمسك بأطرافها لتحتوي تعامة،
ريح الجنوب، وريح الشمال وريح الشرق وريح الغرب.
خلق الأمهيلو: الرياح الشيطانية، وخلق الإعصار والعاصفة،
الرياح الرباعية، والرياح السباعية، والزوابع، والرياح الداهمة،
ثم أفلتَ الرياحَ السبع التي خلق
ليعصف بها أعماق تعامة، فهبَّت من خلفه ومشت إثره.
أطلق فيضان المطر، سلاحه الهائل،
ثم اعتلى مركبةً لا تُقهر، مركبة العاصفة الرهيبة،
شد لجرِّها طاقمًا من أربعة لا تقهر؛
(هم) المدمر، والعتي، والساحق، والطيار.
أسنانها حادة وفي أنيابها السم،
تمرَّست بالدمار سريعةً لا تُجارى،
وضع على يمينه الباطش المجلي في النزال،
وعن يساره الفاتك الذي يؤجِّج الحماس،
أمَّا هو فقد اكتسى بدرع مهيب من الزرد،
واعتمر بهالة تُشيع الرعب والذعر.
والآن، اتخذ طريقه لا يلوي على شيء،
مُيمِّمًا وجهه شطر تعامة الهائجة.
حمل بين شفتَيه طلسمًا من عجينة حمراء،
وفي يده ترياقًا من الأعشاب يحفظه من السموم،
وقد حفَّت به الآلهة، حفَّت به الآلهة،
وقد تدافعت حوله الآلهة، تدافع آباؤه الآلهة.
ولمَّا اقترب من تعامة، دنا ليسبر غورها،
ويكشف خبيئة زوجها كنغو،
رماه بنظرة نافذة فاضطربت أحواله،
شلَّت منه الإرادة وتعثَّرت أفعاله،
أمَّا أتباعه الآلهة، ممن مشى معه،
فقد زاغت أبصارهم لمرأى البطل الجبار،
وأطلقت تعامة زئيرها عاليًا دون أن تدير رقبتها،
والثورة اللاهبة قد ارتسمت على شفتَيها:
«من أنت حتى تكسب إليك جميع الآلهة
فهبطوا إلى منزلتك وساروا معك.»
فرفع مردوخ سلاحه الرهيب فيضان المطر،
ولتعامة الهائجة توجَّه قائلًا:

•••

«كفى ما رأينا من عجرفتك وتكبُّرك،
لقد شحنَت البغضاء قلبك فحرَّضت على القتال،
وأوقعت بين الآباء والأبناء،
فنسيتِ حب من أنجبت.
أعليتِ كنغو وجعلتِه زوجًا لك،
وأعطيتِه منزلة آنو، دون حق.
ضد أنشار، ملك الآلهة، وجَّهت شر أفعالك،
ولآبائي الآلهة كشفت سوء طويتك.
فلتتركي الآن حشدك يتجهَّز بكل ما عندك من سلاح،
ولْتتقدَّمي إليَّ وحيدة، في معركة ثنائية.»
فلمَّا سمعت تعامة منه ذلك القول
انتابها السُّعار وضاع منها الرشد،
في اهتياج أطلقت صراخها عاليًا،
وحتى الأعماق انتفضت ساقاها معًا،
تلت تعويذةً ووجَّهتها مرارًا وتكرارًا (ضد مردوخ)،
بينما آلهة المعركة تشحذ أسلحتها.
ثم تقدَّما من بعضهما، تعامة ومردوخ أحكم الآلهة
اشتبكا في قتال فردي، والْتحما في عراكٍ (مميت)،
نشر الرب شبكته واحتواها في داخلها،
وفي وجهها أفلت الرياح الشيطانية التي تهب وراءه،
وعندما فتحت فمها لابتلاعه،
دفع في فمها الرياح الشيطانية، فلم تقدر له إطباقًا،
وامتلأ جوفها بالرياح الصاخبة،
فبطنها منتفخ، وفمها فاغر على اتساعه.
ثم أطلق الرب من سهامه واحدًا مزَّق أعماقها،
تغلغل في الحشا وشطر منها القلب،
فلمَّا تهاوت أمامه أجهز على حياتها،
طرح جثتها أرضًا واعتلى عليها.
وبعد أن قضت تعامة على يد مردوخ،
تفرَّق ربعها وتشتَّت شمل جيشها،
ارتعدت فرائص الجميع وولَّوا أدبارهم،
كل يود النجاة بروحه،
وما من سبيل؛ فهم محاصرون من كل جانب.
ضيَّق عليهم (مردوخ) وحطَّم أسلحتهم،
في شبكته وقعوا وفي الشرَك استقرُّوا،
تكأكَئُوا في الزوايا وعلا نحيبهم،
فصب عليهم جام غضبه وهم محتبسون.
أمَّا المخلوقات الأحد عشر التي خلقتها وألبستها الجلالة،
وحشْد العفاريت التي مشت إلى جانبها،
فقد رماها جميعًا في الأصفاد، وربط أيديهم بعضهم ببعض،
وداسهم بقدمَيه، رغم كل مقاومة.
أمَّا كينغو الذي وُضع رئيسًا عليهم،
فقد كبَّله وأسلمه إلى إله الموت.١٩
جرَّده من ألواح الأقدار التي حازها دون حق،
فمهرها بخاتمه وزيَّن بها صدره.
وبعد أن عزَّز انتصاره على أعدائه،
وسيطر على عدوه المتكبِّر العنيد،
بسط سلطان أنشار على أعدائه وعزَّز نصره،
وحقَّق آمال نوديمود. إنه مردوخ الشجاع،
شدَّد الحراسة على الآلهة الحبيسة،
ثم عاد إلى تعامة المقهورة،
وقف على جزئها الخلفي،
وبهراوته العتية فصل رأسها،
وقطع شرايين دمائها،
التي بعثرتها ريح الشمال إلى الأماكن المجهولة.
فلمَّا شهد آباؤه ذلك طربوا له وابتهجوا،
وقدَّموا له نفائس الهدايا عربون ولاء.
ثم اتكأ الرب يتفحَّص جثتها المسجاة
ليصنع من جسدها أشياء رائعة؛
شقها نصفَين فانفتحت كما الصدفة،
رفع نصفها الأول وشكَّل منه السماء سقفًا،
وضع تحته العوارض وأقام الحرس،
أمرهم بحراسة مائه فلا يتسرَّب،٢٠
ثم جال أنحاءَ السماء فاحصًا أرجاءها.
استقام في مقابل الأبسو مسكن نوديمود.
قاس الرب أبعاد الأبسو،
وأقام لنفسه نظيرًا له، بناءً هائلًا أسماه عيشارا،
جاعلًا إياه كالمظلة فوق الأبسو،٢١
ثم أعطى لآنو وإنليل وإيا مساكنهم.٢٢

حاشية

١٤٦ سطرًا ولمَّا تكتمل الإينوما إيليش بعد. البقية تأتي.
كُتبت وفقًا للوح الذي فسد.
نابور بيلشو ابن نعيد، مردوخ ابن حدر. كتبه لراحة نفسه،
ولدوام بيته ومملكته. كُتب في معبد إيزيدا.

(١-٥) اللوح الخامس

خلق محطات لكبار الآلهة (يستريحون فيها).٢٣
أوجد لكلٍّ مثيله من النجوم.
حدَّد السنة وقسَّم المناخات،
ولكلٍّ من الاثنَي عشر شهرًا أوجد ثلاثة أبراج.
وبعد أن حدَّد بالأبراج أيام السنة،
خلق كوكب المشتري ليضع الحدود٢٤
فلا يتعدَّى نطاقه في السماء ولا يُقصِّر عنه،
وعلى جانبَيه خلق محطتَي إنليل وإيا٢٥
فتح بوابتَين في كلا الجانبَين٢٦
دعمهما بأقفال قوية على اليمين وعلى الشمال،
وفي المنتصف تمامًا ثبَّت خط السَّمت،
ثم أخرج القمر فسطع بنوره، وأوكله بالليل،
وجعله حليةً له وزينة، وليُعيِّن الأيام:
«أن اطلع كل شهر دون انقطاع مزيَّنًا بتاج،
وفي أول الشهر عندما تشرق على كل البقاع،
ستظهر بقرنَين يعينان ستة أيام،
وفي اليوم السابع يكتمل نصف تاجك،
وفي المنتصف من كل شهر ستغدو بدرًا في كبد السماء،
وعندما تدرك الشمس في قاعدة السماء،
أنقص من ضوئك التام وابدأ بإنقاص تاجك كما اكتمل،
وفي فترة اختفائك ستسير في درب مقارب لدرب الشمس،٢٧
وفي التاسع والعشرين، ستقف في مقابل الشمس مرةً أخرى».
إلى هنا وينتهي الجزء الواضح من اللوح الخامس وفقًا للنص الذي كان بين أيدي علماء المسماريات إلى وقت قريب. ولكن اكتشافات جديدة في موقع مدينة آشور، قدَّمت لنا لوحًا اعتبره البعض تتمةً للوح الخامس. ولكنني أعتقد أنه لا ينتمي إلى النسخة المعروفة للملحمة، بل إلى نسخة أخرى مفقودة؛ لأننا نجد فيه تكرارًا لأحداث وقعت في الألواح السابقة. وأنا أقدِّمه هنا مُترجَمًا عن نص جريسون Gryson المنشور في Ancient Near Eastern Texts:
لقد عيَّنت لك شارةً فاتبع دربها،
… تقرَّب وأصدر حكمك …

(يلي ذلك واحد وعشرون سطرًا مشوَّهةً بشكل لا يسمح بترجمتها. يبدأ النص بالوضوح ابتداءً من السطر الخامس والأربعين.)

بعد أن أوكل بالأيام شَمَشْ (إله الشمس)،
وفصل بين تخوم النهار وتخوم الليل،
أخذ من لعاب تعامة،
وخلق منها مردوخ […]،
خلق منها الغيوم وحمَّلها بالمطر والزمهرير،
دفع الرياح وأنزل المطر،
وخلق من لعابها أيضًا ضبابًا،
ثم عمد إلى رأسها فصنع منه تلالًا،
وفجَّر في أعماقها مياهًا،
فاندفع من عينَيها نهرَا دجلة والفرات،
ومن فتحتَي أنفها … […]
وعند ثديَيها رفع الجبال السامقة،
وفجَّر منها عيونًا، وأحيا آبارًا
لوى ذيلها وثبَّته في الأعالي،
 […] (فانفتح) شقاها، شقٌّ ثبت في الأرض،
فغطاها جميعًا، وشق رسخ أرضًا.
 […] في وسطها أسال مجرًى عظيمًا،
ثم نزع عنها شبكته تمامًا،
وقد تحوَّلت إلى سماء وأرض،
رسخت بينهما الحدود […].
وبعد أن أحكم شريعته وأرسى طقوسه،
أوجد المعابد وأسلمها لإيا،
أمَّا ألواح الأقدار التي غنمها من كينغو
فقد أعطاها، هديةً أولى، لآنو،
ثم ساق أمامه الآلهة المقهورة
ودفعها، مغلولة، إلى حضرة آبائه.
أمَّا المخلوقات الأحد عشر التي صنعتها تعامة،
والتي حطَّم مردوخ أسلحتها وربط أيديها ببعض
فقد جمَّدها ونصبها تماثيل عند فُوَهَّة الأبسو (قائلًا):
«ليبقَ ما حدث لهم حيًّا لا يُمحى ولا يُنسى.»
سُر الآلهة بما رأوا سرورًا عظيمًا،
لخمو ولخامو وكل آبائه معهم،
عبروا إليه، وأنشار الملك وقف مرَحِّبًا،
أمَّا آنو وإنليل وإيا فقد قاموا بتقديم الهدايا،
وأمه دومكينا أيضًا خصَّته بهدية سرَّت فؤاده،
وأرسلت تقدمات أضاءت لها قسمات وجهه،
(فعهد) إلى أوسمي الذي حمل هداياها،
عهد إليه بسدانة الأبسو وخدمة الهياكل.
ولمَّا اكتمل جميع الإيجيجي ركعوا أمامه،
وقبَّل كلٌّ من الأنوناكي قدمَيه،
اجتمعوا لتقديم فروض الاحترام،
وانحنَوا جميعًا وأعلنوا مردوخ ملكًا.
وبعد أن متَّع آباؤه أنظارهم برؤيته

(يلي ذلك ستة عشر سطرًا غير قابلة للترجمة بسبب تشوُّه اللوح، وتصف هذه الأسطر جلوس مردوخ على العرش بكامل عدته. وعندما يبدأ النص بالوضوح نجد أمه وأباه يتوجَّهان بالحديث إلى الآلهة.)

إيا ودومكينا […]
فتحا فمهما متحدثَين إلى الإيجيجي، الآلهة الكبرى:
«فيما مضى، لم يكن مردوخ سوى ابن محبوب،
ولكنه الآن ملك عليكم، فنادوه باسمه.»
ثم أعلنا بصوت واحد:
«سيكون اسمه لوجال ديميرانكيا، به آمنوا.»
وبعد أن وهباه السيادة والسلطان
توجَّها بالحديث إليه:
«أنت من يحمي حمانا منذ الآن،
(ومنذ الآن) سنصدع بما تأمر به.»
ففتح مردوخ فمه
ليقول كلمةً لآبائه الآلهة:
«فوق العيشارة التي بنيت
سأمهِّد مكانًا صالحًا للبناء،٢٨
هناك أبني بيتًا لي وهيكلًا٢٩
به قدس الأقداس رمز جلالتي،
وعندما تصعدون من الأبسو للاجتماع
سيكون مفتوحًا لاستقبالكم وبه تبيتون،
أو تهبطون من السماء للاجتماع،
سيكون مفتوحًا لاستقبالكم وبه تبيتون،
سأدعو اسمه بابل؛ أي بيت الآلهة الكبرى،
وسينهض لبنائه، أمهر البنائين.»
فلمَّا انتهى آباؤه من سماع كلمته
توجَّهوا لبكرهم مردوخ بالسؤال:
«فوق كل ما صنعَت يداك
لمن ستوكل سلطانك؟
فوق الأرض التي ابتدعتها يداك
لمن ستوكل حكمك؟
وبابل التي منحت لها اسمًا مجيدًا،
وجعلتَها مقرًّا لنا أبد الدهر،
 […] فيجلبوا لنا طعام يومنا٣٠
 […]
هناك … بعملهم […].»
ابتهج مردوخ لِمَا سمع.
أجاب سؤال الآلهة.
أشرق وجه قاتل تعامة،
وفتح فمه لحديث مقدس:
«[…]
 […] سيوكل إليكم.»
فركع الآلهة أمامه وقالوا،
قالوا للإله لوجال ديميرانيكا:
«فيما مضى لم يكن الرب سوى ابن محبوب،
ولكنه الآن مليكنا، فنادوه باسمه.
لقد أعطتنا تميمته المقدسة الحياة.
إنه رب الصولجان المقدس.
إيا، المتمرس بكل حرفة ومهارة
سيضع المخططات، وسنكون له عمال بناء.»

حاشية٣١

اللوح الخامس من «عندما في الأعالي»،
قصر آشور بانيبال، ملك العالم، وملك آشور.

(١-٦) اللوح السادس

فلمَّا انتهى مردوخ من سماع حديث الآلهة
حفزه قلبه لخلقٍ مبدع،
فأسرَّ لإيا بما يعتمل في نفسه،
وأطلعه على ما عقد عليه العزم:
«سأخلق دماءً وعظامًا،
منها سأشكِّل لالو وسيكون اسمه الإنسان.
نعم، سوف أخلق لالو الإنسان،
وسنفرض عليه خدمة الآلهة، فيخلدون للراحة،
ثم أعمد إلى تنظيم أمور الآلهة،
كلهم عظيم، ولكني سأجعلهم في فريقَين.»
فتوجَّه إليه إيا بكلمة
مقدِّمًا رأيه في ذلك الموضوع:
«ليقوموا بتسليم أحدهم
فيُقتل، ومنه تصنع الإنسان.
لِيجتمع كبار الآلهة هنا،
وليُسلَّم إلينا الإله المذنب؛ لراحة الباقين.»
فقام مردوخ بدعوة الآلهة الكبرى
متوجِّهًا لهم بوُد ورحمة، مصدِرًا توجيهاته،
فأعطى الآلهة له أذنًا صاغية،
قال المليك لهم كلمة:
«لقد صدق حقًّا ما وعدناكم به،٣٢
والآن أريد منكم قول الحق، وقَسَمي لكم ضمان.
من الذي خلق النزاع؟
من دفع تعامة للثورة، وأعد للقتال؟
سلِّموا لي مَن خَلَق النزاع
فيلقى جزاءه، وتخلدون للراحة.»
فأجاب الإيجيجي، الآلهة الكبار،
أجابوا سيدهم مردوخ، ملك السماء والأرض:
«إنه كينغو، الذي خلق النزاع
ودفع تعامة للثورة، وأعد للقتال.»
ثم قيَّدوه ووضعوه أمام إيا.
أنزلوا به العقاب فقطعوا شرايين دمائه،
ومن دمائه جرى خلق البشر،
ففرض (إيا) عليهم العمل وحرَّر الآلهة.
بعد أن قام إيا الحكيم بخلق البشر،
وفرض عليهم العمل وحرَّر الآلهة،
ذلك الفعل الذي يسمو عن الأفهام،
والذي نفَّذه وفقًا لخطط مردوخ المبدعة،
قام مردوخ، ملك الآلهة، بتقسيم
جميع الأنوناكي، فجزء في الأعلى وجزء في الأسفل،
وأوكلهم لآنو ليحرصوا على طاعته.
وضع في السماء ثلاثمائة لحراستها،
وثلاثمائة أخرى في الأرض.
وبعد أن أنهى كل تنظيم،
وقسم لكل من آلهة السماء والأرض نصيبه.
فتح الأنوناكي أفواههم،
وقالوا لسيدهم مردوخ:
«والآن أيها الرب، يا من خلَّصتنا من العمل المفروض،
ما الذي يليق بك عربون امتنان؟
سنبني لك هيكلًا مقدَّسًا،
مكانًا به نركن مساءً لنستريح،
هناك سنشيِّد لك منصةً وعرشًا،
وكلما أتينا المكان، نلجأ إليه لنستريح.»
فلمَّا سمع مردوخ ذلك
انفرجت أسارير وجهه كما النهار:
«كذا فلتكن بابل كما اشتهيتموها.
لنشرع بتجهيز الحجارة، ولْتُدع بالهيكل.»
أعمل الأنوناكي معاولهم
فأنهوا الطوب اللازم في مدى سنة،
ومع حلول السنة الثانية
رفعوا الإيزاجيلا٣٣ الذي وصلت أساساته الأبسو.
وبعد أن أنهَوا برجه المدرَّج
بنَوا في الداخل مسكنًا لمردوخ وإنليل وإيا،
ثم جلس مردوخ أمامهم في جلال،
ومن الأسفل شخصوا بأبصارهم لقرون البرج الرائعة.٣٤
وبعد الانتهاء من الإيزاجيلا
قام الأنوناكي ببناء مقامات لهم،
ثم الْتأم جميع الآلهة،
والتقَوا في حرم مردوخ السامي الذي بنوا،
فأجلس آباءه الآلهة إلى مأدبة:
«هذه بابل مكان سكناكم المفضل،
فاصدحوا وامرحوا في أرجائها.»
ولمَّا استقرَّ الآلهة الكبار إلى المائدة
أخذوا يعبُّون الجعة وهم يأكلون،
وبعد أن مرحوا وطربوا
أقاموا الطقوس في الإيزاجيلا المهيب،
وأرسَوا أُسس العبادات،
ثم توزَّعوا فيما بينهم السموات والأرضين.
اتخذ الآلهة الخمسون الكبار أماكنهم،
ثم قام آلهة المصائر، السبعة، بوضع ثلاثمائة إله في السماء،
ورفع إنليل القوس، سلاح مردوخ، ووضعه أمام الجميع،
والشبكة التي صنعها كانت محط أنظار آبائه.
ولمَّا انتهَوا من تأمُّل القوس ودقة صنعه
أثنَوا على فعله ثناءً حميدًا،
ثم رفعه آنو وتحدَّث إلى مجمع الآلهة
قائلًا وهو يُقبِّل القوس هذا […]،
ثم أسبغ عليه الأسماء التالية:
العود الهائل، اسمه الأول، والدقيق، اسمه الثاني،
أمَّا اسمه الثالث فهو القوس-النجم، يشع في السماء

(يلي ذلك اثنا عشر سطرًا في كل منها نقص يحجب المعنى.)

وليبسط رعايته على البشر أجمعين،
فتلهج باسمه ألسنتهم ويذكرون نعمته عليهم أبدًا،
ويقدِّمون القرابين لآبائه،
فيقيمون أودهم ويرعون هياكلهم
ويصنعون لهم محرقات القرابين، يتنسَّمون رائحتها، ولتكن
تعويذاتهم […]،
وكما فعل في السماء، لتكن كذلك مشيئته على الأرض؛
فيعلم البشر كيف يخشونه،
ويكون حاضرًا في قلوبهم أبدًا،
ويحفظون أبدًا حدود إلههم وآلهتهم،
ويرعَون أمره في الانصياع له،
ويُبقون على تقدُّماتهم لإلههم وآلهتهم،
ويذكرون إلههم دومًا ولا ينسونه،
ثم فلْينتشروا في الأرض ويُزيِّنوها بيوتًا لهم،
ويلقفوا بخشوع أمام إلهنا.
تعالَوا نعلن أسماءه الخمسين،
ولْتبقَ دروبه وفعاله مشعشعةً أبدًا:
مردوخ، هو اسم مولده الذي دعاه به جده آنو،
واهب المرعى وموارد الماء، مالئ العنابر بالمؤن،
من بسلاحه الرهيب، طوفان المطر، قد هزم الأعداء،
من أنجد آباءه الآلهة وقت محنتهم.
حقًّا إنه الساطع، ابن الشمس،
وفي ألَق ضيائه فلْيرتع الآلهة على الدوام.
على البشر ممن خلق […]،
قد فرض خدمة الآلهة الذين حرَّرهم،
فلْيكن في كلماته الخلق والفناء والسلوان والرحمة،
ولْيرفع الجميع أبصارهم إليه.
ماروكا، هو الإله الحق، خالق كل شيء،
الذي أفرح قلوب الأنوناكي وطمأن خواطرهم،
ماروتوكا، هو الملجأ والملاذ، سند العباد،
وهو الذي يسبح الناس بحمده […].
باراشاكوشو، المكين القابض زمام الأرض،
كبير القلوب هو، عطوف رحيم،٣٥
لوجال ديميرانيكا، هو الاسم الذي دعوناه به في مجمعنا،
أمره سابق على أمر آبائه،
حقًّا إنه رب الآلهة أجمعين، في السماء وفي الأرضين،
ملك يخشاه من في السموات ومن في الأرض،
ناريلوجالدي ميرانكيا، أطلقنا عليه. شملت عنايته كل الآلهة،
وهو الذي في زمن الشدة، مكَّن لنا في السماء والأرض،
وخصَّص للإيجيجي والأنوناكي محطات راحة،
وهو الذي لذكره يرتجف الآلهة في مساكنهم.
أسار لوحي، الاسم الذي دعاه به جده آنو،
حقًّا إنه نور الآلهة، وإنه الأمير الجليل،
هو الروح الحارس للآلهة والأرض،
في صراع مهيب أنقذ ديارنا يوم الشدة.
وأسار لوحي أسميناه نامتيلاكو، الذي يحيي الموتى،
وهو الذي استردَّ الآلهة البائدة، وكأنما خلقهم من جديد،
الرب الذي بتعويذته المقدسة، قد بعث الآلهة الميتة،
القاهر فوق الخصوم الماكرين. فلْنلهج بذكر شجاعته.
وأسار لوحي أسميناه، أيضًا، نامشوب،
الإله الوضاء، يُنير لنا طريقنا،
وهكذا أعلن كل من أنشار ولخمو ولخامو ثلاثةً من أسمائه،
ولأبنائهم الآلهة قالوا:
«لقد أعلن كل مِنَّا ثلاثةً من أسمائه،
وكما فعلنا فليفعل كلكم، ولْتعلنوا أسماءه.»
فابتهج الآلهة وصدعوا بما أُمروا.
تشاوروا في قاعة المجلس قائلين:
«الابن العلي الذي انتقم لنا،
سندنا وحافظنا، تعالَوا نمجِّد اسمه.»
ثم قعدوا لمجلسهم يُعلنون أسماءه،
وكلهم يذكر أسماءه في المكان المقدَّس.

(١-٧) اللوح السابع

أسارو، واهب الأرض الخصبة، ومالئ عنابر القمح،
مُنبت الحبوب والبقول، ومحيي الأعشاب.
أسار إليمنونا، الجليل نور آبائه،
الذي يوجِّه قرارات آنو وإنليل وإيا،
وحده القائم بأودهم، الذي وقف لهم مساكنهم،
الذي أفاضت حربته صيدًا وفيرًا.
توتو، بطل خلاصهم ونجاتهم هو،
فلْيطهِّر هياكلهم ويتركهم ينعمون،
ويجعل لهم تعاويذ، تطمئن بها نفوسهم،
فإذا اضطربوا أنزل سكينةً عليهم.
حقًّا إنه المجد بين الآلهة،
لا يدانيه منهم أحد ولا يقرن به.
وتوتو هو زيوكينا به يحيا الآلهة،
الذي جعل لهم سماءً وضَّاءً،
مالك مصائرهم وسيد مسالكهم،
حي أبدًا في قلوب عباده، لا ينسَون نعمته عليهم.
وتوتو هو ثالثًا زيكو، رب القداسة،
إله النسمة الخالقة، سميع مستجيب الدعوات،
هو المعطي دون حساب،
الذي حقَّق رغباتنا وأفاض،
الذي تنسَّمنا أنفاسه أيام البلوى،
ليلهج بذكره الجميع وليسبِّحوا بحمده.
توتو، ليعظم اسمك، وليكن رابعًا أجاكو،
رب التميمة المقدَّسة، الذي بعث الموتى،
والذي رأف بالآلهة المقهورة،
أزاح عن أعدائه من الآلهة عبء العمل المفروض،
فخلق الإنسان لهم محرَّرًا.
هو الرحيم الذي يهب الحياة،
كلماته باقية لا تُنسى،
عند البشر الذين كوَّنتهم يداه.
وتوتو هو خامسًا توكو الذي تُردِّد الشفاه تميمته،
تميمته المقدسة التي اقتلعت الأشرار.
شازو، المُطَّلع على أفئدة الآلهة، وعالم الأسرار،
لا يهرب من بطشه الأشرار.
أسَّس مجمع الآلهة وأفرح قلوبهم،
وبسط حمايته وأخضع العصاة.
أقام العدل ووضع حدًّا لِلغو الكلام،
أحق الحق، وأزهق الباطل.
شازو، فليمجد اسمك ثانيًا على أنه زيسي، الذي أخرس المتمرِّدين،
وآمن آباءه من خوف شلَّ أجسامهم.
وشازو، هو ثالثًا سوحريم، أفنى بسلاحه كل الخصوم،
أحبط خططهم، وجعلهم نهبًا للرياح،
وقضى على من تصدَّى له من الأعداء،
فليمجِّده الآلهة في مجلسهم.٣٦
وشازو هو رابعًا صاحكوريم، خلق آباءه من جديد، وجعل لهم مكانة.
استأصل شأفة الأعداء، وقطع دابرهم.
حطَّم تدابيرهم ولم يُبقِ منهم على أحد.
فلتتغنَّ باسمه كل البلاد.
وشازو، هو خامسًا زاحريم، رب كل شيء،
الذي محق الأعداء جميعًا، والذي يجزي بالخير ويجزي بالشر.
أعاد الآلهة الآبقة إلى مساكنها،
فليبقَ اسمه على مرِّ الأزمان.
وسادسًا فليُعبد شازو في كل مكان على أنه زاحجوريم،
قاهر جميع الأعداء في ساح الوغى.
إينبيلولو، واهب الخيرات هو
الجليل الذي أعطى لكل اسمه،
نظَّم المرعى وموارد الماء،
فجَّر الأرض عيونًا، وأجرى المياه أنهارًا.
ليمجِّد ثانيًا على أنه إيبادون، الذي يروي الحقول،
حاكم السماء والأرض، موزِّع الزرع والكلأ،
الذي نظَّم السدود والقنوات، ورسم خطوط المحراث.
وليُمتدح ثالثًا على أنه جوكال، حاكم مزارع الآلهة،
رب الغلال الوفيرة والمحاصيل الكثيرة،
واهب الثروة الذي أغنى المساكن،
مانح الذرة، ومنبت الشعير.
وإينبيلولو هو حيجال، يتولَّى أمور الخزن،
يسقي الأرض بصيِّب من السماء فتُنبت العشب.
زيرسير، الذي أقام جبلًا فوق تعامة،
والذي بسلاحه قد فلق جسدها.
الراعي الأمين وحامي الديار
الذي عبر البحر الغاضب بآبائه،
وكجسر، مرَّ إلى ساح المعركة.
زيرسير، ليكن اسمك ثانيًا ملخ،
البحر مجاله والموج مطية له.
غيل، الذي يكدِّس القمح أكوامًا،
خالق الذرة والشعير، واهب البذور للأرض.
غليما، خالق الأشياء الباقية،
يحفظ تماسك العائلة، مصدر كل أمر حسن.
أغليما، الذي مزَّق تاج […]،
الذي سخَّر السحاب فوق المياه، ورفع السموات.
زلوم، الذي حدَّد […]،
مقسِّم الأرزاق، الذي يسهر على […].
وزلوم ثانيًا مومو، خالق السماء والأرض ومجري السحاب،
الذي طهَّر السماء والأرض،
لا يُدانيه في قوته أحد بين الآلهة.
جيشنوموناب، خالق البشر أجمعين، وصانع أقاليم الأرض الأربعة،
مَحَق أتباع تعامة، وصنع من أجسادهم البشر.
لوجالادبور، حطَّم صنيع تعامة وفلَّ سلاحها،
الذي رفع أساساته الراسخة من خلف ومن قدام.
باجليونا، له الصدارة في كل البلاد، لا حدَّ لقوته،
العلي بين إخوانه الآلهة، وسيدهم جميعًا.
لوجال دورماخ، رباط الآلهة، الملك، سيد الدورماخ،
ذو المقام الأعلى في منزل السلطان، الظاهر على الآلهة.
أرانونا، مشير إيا، وباعث آبائه الآلهة،
لا يدانيه في الصفات الملوكية إله مهما علا.
دومودوكو، الذي جدَّد مسكنه المقدس في الدوكو.
دومودوكو، الذي لا يقطع إنليل برأي دون مشورته.
لوجالانا، العظيم الرفعة بين الآلهة،
الرب الذي له قوة آنو، الذي فاق أنشار.
لوجالوجا، الذي اجتاحهم جميعًا في الميدان،٣٧
مالك الحكمة كلها، واسع الفهم عميقه،
أركينغو، الذي سحق كينغو في المعركة،
رقيب الآلهة، موجِّههم، واضع أسس المملكة.
كينما، قائد جميع الآلهة، مسدي النصح والمشورة،
لذكره يرتعش الآلهة فرَقًا، ولاسمه وقْع العاصفة.
إيزيسكور، ألَا فليتبوأ مكانًا عاليًا في بيت العبادة،
ألَا فليتقدَّم الآلهة بالهدايا أمامه،
ومنه فليأخذ كلٌّ مهامَّه وصلاحياته،
وبدونه لا يقدر أحد على الخلق المبدع،
سكَّان الأقاليم الأربعة من صنع يدَيه،
ولا إله غيره يعرف يومهم الموعود.
جيرو، باني اﻟ[…] للسلاح،
خلق في صراعه مع تعامة الأشياء البديعة،
واسع الفهم ملتمع الفكر،
خافي السريرة، لا يستطيع الآلهة مجتمعين سبر أغواره.
آدو، سيكون اسمه، يغطِّي مساحة السماء،
تُمزِّق السحاب رعوده، وتُعطي للناس الحياة.
أشارو، الذي يأخذ بيد آلهة الأقدار،
وسعت عنايته الناس والآلهة أجمعين.
نبيرو، القيم على مسالك السموات والأرض،
فكل ضال عن طريقه، من أعلى ومن أسفل، يأتي إليه.
فنيبر هو النجم الساطع في السماء،
اتخذ مكانه في نقطة الانقلاب المناخي، فارفعوا نحوه أبصاركم،
هو الذي يقطع عرض البحر دون توقُّف.
اسمه نيبرو الذي يشغل مكان المركز،
ألَا فليحفظ مسارات النجوم في السماء،
ألَا فليرعَ جميع الآلهة كما ترعى الشياه،
ألَا فليُخضع تعامة وينكِّد عيشها ويختصر حياتها،
ألَا فلترتدَّ على أعقابها، ألَا فلتنسحب إلى الأبد.
وبما أنه خالق المكان، وصانع الأرض الراسخة،
فقد دعاه الأب إنليل بسيد الأرضين،
وكل الأسماء التي دعاه بها الإيجيجي،
سمعها إيا وابتهجت بها نفسه،
ثم قال: «هو الذي عظَّم أسماءه آباؤه،
سيكون نظيرًا لي ويكون اسمه إيا،
فيغدو قيمًا على حقوقي جميعًا،
ويغدو سيِّدًا لقضائي.»
وأخيرًا بالاسم خمسين الآلهة العظام
دعوه؛ لأن أسماءه خمسون، فجعلوه العظيم.

(٢) وقفة عند النص

يقف الدارس حائرًا أمام هذا النص الذي أعتبره شخصيًّا أعظم نص أسطوري أنتجه الإنسان القديم. والحيرة تأتي من غنى النص وفيضه بالرموز النفسية والاجتماعية والتاريخية، وتعدُّد بواعث إنتاجه، وتراكم خبرات إنسانية شتى في تكوينه. فالملحمة قد تركَّبت من عدة أساطير سومرية بنَت عليها العبقرية السامية ذلك الهيكل الشامخ، الذي يُعطي خلاصةً عن علم وفكر وفلسفة وفن الشعب الرافدي العريق، في مجالات هامة عدة. من هنا لا نستطيع إعطاء تفسير واحد للملحمة، فنبخسها بذلك حقها؛ فالملحمة لم توضع لغرض واحد، ولم تنشأ عن باعث واحد. ففي النص مستويات عدة متداخلة ومتآلفة، وعلى الدارس والمفسِّر، إن أراد الموضوعية والشمول، أن يفرِّق بين تلك المستويات مميِّزًا بعضها عن بعض، حذر الوقوع في أحادية النظرة.

(٢-١) الملحمة باعتبارها مغامرةً فكريةً فذة

تتقدَّم الملحمة بمجموعة من التأمُّلات المترابطة، التي تتخذ من النشوء والتكوين والبدايات موضوعًا لها؛ فالشكل الحالي للوجود قد انبثق عن شكل سابق له، ولم ينبثق عن عدم. فعندما كانت تعامة وأبسو وممو يمزجون أمواههم معًا، لم يكن هناك زمان؛ لأن الزمان نتاج التغيُّر، مرتبط بإيقاعه، وتلك العناصر الثلاثة كانت في هدأة وصمت وسكون. كما لم يكن هناك مكان؛ لأن المياه المتمازجة كانت وحدها ولا موجود معها قبل أن تخلق السموات والأرض وتتحدَّد الأمكنة والاتجاهات. إن فكرة انبثاق الوجود الحالي عن وجود سابق له، تتخلَّل فكر المنطقة وتُميِّز كل التأملات الخاصة بالتكوين. كما نجدها في سفر التكوين العبراني: «في البدء خلق الرب السموات والأرض، وكانت الأرض خربةً وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الرب يرف فوق وجه الماء.» وإلى يومنا هذا، لم يقبل العلم الحديث فكرة العدم المطلق؛ فكل نظريات التكوين العلمية تتحدَّث عن نشوء الكون من مادة ما، بدئية، ووجود ما سابق. كما أثبت القرآن الكريم فكرة الوجود السابق على الخلق عندما قال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ سورة هود: ٦. كما أشار محمد () في الحديث الشريف إلى نفس الموضوع عندما أجاب عن سؤال: أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟ فقال: كان في عماء (والعماء هو الغيم الرقيق الذي يحول بين الناظر وبين الشمس).٣٨

بعد ذلك تتتابع تفسيرات نشوء الكون في الملحمة. فمن الأطروحة ينبعث طباقها، ومن تناقضهما يظهر التركيب. فالقوى السكونية المتمثِّلة في الثالوث البدئي تنتج في صميمها القوى الحركية المتمثِّلة في الآلهة الجديدة، ومن صراعهما يظهر إلى الوجود الكون بكل مظاهره. الماء العذب موجود في بطن الأرض لأن إيا قد قهر أبسو وبنى مسكنه فوقه تاركًا إياه حبيسًا في الأعماق، والضباب يتشكَّل فوق الماء لأن إيا قد خرم أنف ممو بحبل يجرُّه به أينما ذهب، والسماء والأرض تكوَّنتا من جسد الإلهة تعامة التي شطرها مردوخ إلى شطرَين، والإنسان خُلق من دماء الإله كينغو وأُعطي الحياة ليكدح على الأرض ويقدِّم للآلهة طعامها، وبابل ظهرت للوجود لأن الآلهة بنَوها لزعيمهم مردوخ … إلخ.

(٢-٢) الملحمة باعتبارها تاريخًا

يُعتبر انتقال البشرية من مرحلة الثقافة الأمومية إلى مرحلة الثقافة الأبوية من أهم الانقلابات التاريخية الكبيرة. ورغم أن الإينوما إيليش قد كُتبت في فترة متأخِّرة عن ذلك الانقلاب، إلا أنها تنطوي على ذكريات حية وغضة، عن تلك الحقبة الفاصلة؛ فالحالة السكونية للآلهة البدئية هي تمثيل واضح لسكونية المجتمع الأمومي وابتعاده عن التغيُّرات السريعة والحثيثة التي ميَّزت المجتمع الأبوي فيما بعد. أمَّا الحالة الدينامية للآلهة الشابة بزعامة إيا أوَّلًا ومردوخ فيما بعد فهي تمثيل واضح لحركية المجتمع الأبوي وإشارة لبدء الحضارة التي نعرفها الآن. إن الصراع بين المعسكر الذي تقوده تعامة، والمعسكر الذي يقوده مردوخ، لم يكن إلا تمثيلًا للصراع بين ثقافتَين متمايزتَين؛ ثقافة مركزها المرأة، وأخرى مركزها المجتمع، وتكريسًا للثقافة الأبوية الطالعة.

لقد غادرَت القوى الحضارية الجديدة مرحلة الوئام مع الطبيعة، التي ميَّزت المجتمع الأمومي، ودخلت مرحلة السيطرة على الطبيعة. ولم تكن سيطرة إيا على أبسو إلا رمزًا لسيطرة الإنسان على الماء العذب وتسخيره لزراعته وريه؛ وذلك بحفر الآبار وبناء السدود٣٩ وحفر القنوات. ولم يكن بناء الآلهة لمدينة بابل إلا رمزًا لشروع الإنسان في بناء حواضره.

(٢-٣) الملحمة باعتبارها نتاجًا نفسانيًّا

يمثِّل صراع مردوخ ضد تعامة على مستوى الأسطورة، صراعًا آخر يقوده الفرد، على المستوى النفسي، ضد الاعتماد على الأم، بما يمثِّله هذا الاعتماد من اتكالية وتفكُّك في بنية الشخصية. إن صراعًا كهذا، لا يحدث، كما قد يظن البعض، في فترة مبكِّرة من حياة الفرد، بل قد يتأخَّر حدوثه إلى أواسط العمر. ويغدو قتل الأم، رمزًا لبناء الشخصية وتكاملها.٤٠

(٢-٤) الملحمة باعتبارها تأسيسًا اجتماعيًّا وسياسيًّا

يترافق تاريخ كتابة الملحمة مع تاريخ تأسيس الإمبراطورية البابلية الأولى في عهد الملك حمورابي، الأمر الذي يدعونا للتأمُّل طويلًا في تتابع أحداث الملحمة التي تأخذ بيد مردوخ وترفعه من ابن للآلهة إلى سيد مطلق لها. لقد رفعت أساطير كثيرة من شأن آلهتها، ولكننا قلما نعثر في أي مكان على كبير للآلهة قد نال من السلطة ما ناله مردوخ ومن التقديس والتبجيل ما حازه. الأمر الذي يدفعنا للاعتقاد بأن سيرة مردوخ في الملحمة ليست إلا انعكاسًا لسيرة الإمبراطور البابلي وترسيخًا لسلطانه،٤١ فما يحدث على مستوى الأسطورة، تأسيس لِما يجب أن يحدث على مستوى الواقع، وبابل التي بنتها الآلهة منذ البدايات كأول مدينة على الأرض هي التي يجب أن تسود العالم باعتباره أقدس مكان وأقدم مكان.

(٢-٥) الملحمة باعتبارها تأسيسًا لعقيدة جديدة

تتوافق كتابة الملحمة مع سيادة بابل على وادي الرافدَين والمناطق المتحضِّرة الجديدة. والسيادة العسكرية تتبعها سيادة ثقافية تثبِّتها وتمد في عمرها، فكانت الملحمة وسيلةً لنشر الديانة البابلية وتثبيتًا لعبادة إلهها مردوخ، الذي ساد الآلهة جميعًا وتفوَّق على آبائه وأقرانه. وقد خصَّص الجزء الأكبر من الملحمة لسيرة مردوخ ووصف مولده ونشأته وصعوده إلى السلطان وصراعه مع القوى الشريرة، وأعمال الخلق التي استحقَّ بها سلطانًا أبديًّا على الآلهة والبشر والأكوان. وتُقرِّبنا أسماؤه الخمسون كثيرًا من المفاهيم التوحيدية اللاحقة، وكأن الآلهة السابقة اجتمعت في واحد، وكأنها تجليات له، وصور من صوره.

(٢-٦) الملحمة باعتبارها تسويغًا وترسيخًا لطقس قديم

تأتي الملحمة لبثِّ الروح في طقس معروف قديم، وهو الاحتفال برأس السنة، وإعطائه المعنى وتثبيته؛ ففي اليوم الرابع من الاحتفالات بعيد رأس السنة البابلية «الإيكيتو»، الذي يستمر من الأول من نيسان إلى الحادي عشر منه، كانت الملحمة تُتلى كاملةً من قِبل الكاهن الأعلى، أمام تمثال مردوخ بحضور جماهير العباد. وفي أيام أخرى من الاحتفال كان يجري تمثيل بعض مشاهد الملحمة، وربما شارك الملك وكبار الكهنة أنفسهم في اتخاذ الأدوار الرئيسية في التمثيل. كما كانت مقاطع أخرى تُنشد وتُغنَّى من قِبل العباد أنفسهم.٤٢ وذلك كله مساعدة من العباد لآلهتهم في المعركة الدائرة مع قوى الفوضى والعماء؛ فالمعركة البدئية لم تحدث مرةً واحدةً وكفى، بل هي معركة متجدِّدة، يشارك البشر فيها طقسيًّا، فيشدون أزر آلهتهم ويعطونها سندًا ومددًا.

(٢-٧) الملحمة باعتبارها فنًّا رفيعًا

تُعتبر الإينوما إيليش من أجمل النصوص الأدبية القديمة، وهي إلى جانب ملحمة جلجامش وملحمتَي هوميروس وبعض أسفار التوراة، أبدع ما أنتج إنسان الحضارات القديمة من أدب. فإلى جانب الصياغة الشعرية الجميلة، تتمتَّع الملحمة بحبكة روائية فذة، وهي في مجموعها أشبه بسيمفونية موسيقية مؤلَّفة من أربع حركات. الحركة الأولى عذبة وهادئة، لا نكاد نسمع فيها سوى أصوات مديدة خافتة، حيث الأمواه البدئية تتمازج في حلم أزلي لذيذ. الحركة الثانية حوار بين النغم الخافت والنغم الصاخب، حيث يعلو الصوت حينًا، ويعم الصمت حينًا آخر، وتنتهي بنغم نشيط يمثِّل انتصار إيا على أبسو وتراجع الآلهة البدئية تراجعًا مؤقتًا. الحركة الثالثة قوية تتصارع فيها الألحان الصاخبة وتملؤها أصوات الظواهر الطبيعية من رياح وعواصف وصواعق، ويرتفع منها زئير المخلوقات العجيبة، ثم تنتهي بشكل عنيف وصاعق يمثِّل مصرع تعامة. الحركة الرابعة تبدأ مُرتَّبةً منظمة، وتنتهي بنشيد فرح وصلاة لمردوخ.

إن التصوير البديع لبعض مشاهد الملحمة يجعلها أشبه بشريط حي تكاد تسمع فيه الأصوات وترى فيه الأشكال وتشم روائح الأشياء، وخصوصًا عندما يأتي النص لوصف تحرُّك مردوخ للقاء تعامة والصراع الذي دار بينهما. فها هو في عدته الكاملة يتقدَّمه البرق وتتبعه الرياح الأربع ترفع أطراف شبكته الهائلة، ومن ورائه تعصف الرياح الشيطانية السبع التي أعدَّها ليعصف بها أعماق تعامة. ومن تحته طوفان المطر الهادر يطير فوقه في مركبته العاصفة يجرُّها طاقم من أربعة أفراس إلهية، أسنانها حادة وفي أنيابها السم. اكتسى بدرع مهيب من الزرد، واعتمَّ بهالة تُشيع الرعب والذعر، يتأرجح قوسه على كتفه، وترفع الهراوة في يده والشعلة اللاهبة تندفع من جسده. أمَّا مشهد الْتحام الإلهَين وانتهاؤه بسقوط تعامة في شبكة مردوخ ودفعه للرياح الصاخبة في فمها الفاغر وشطره، من ثم، قلَبَها بسهمه، فمن المشاهد التي تبقى حيةً في ذاكرة قارئها أبدًا.

(٣) نصوص بابلية أخرى في التكوين

إلى جانب ملحمة التكوين الأساسية، قدَّمت لنا الأسطورة البابلية نصوصًا أخرى تدور حول الموضوع نفسه، إلا أن معظم هذه النصوص ناقص بسبب الحالة التي وصلتنا عليها الألواح الفخارية التي احتوتها، إضافةً إلى أن النصوص نفسها لا ترقى إلى مستوى الإينوما إيليش من الناحية الجمالية.

(٣-١) نص سيبار

تمَّ العثور على هذا النص في خرائب مدينة سيبار، ويعود تاريخه إلى الدولة البابلية الجديدة في القرن السادس قبل الميلاد. ويُعتبر هذا النص من أهم تلك النصوص المتفرِّقة التي تقدِّم لنا تنويعات مختلفةً لحكاية الخلق والتكوين. وقد كُتب النص ليكون مقدمةً لتعويذة سحرية بقصد تطهير المعبد؛ فقد اعتقد الفكر الأسطوري القديم أن العودة لذكر تفاصيل الخلق وبدايات الأشياء، من شأنها دومًا إعطاء التعويذة قوة؛ وذلك باستحضارها الزمن الغض، عندما كانت قوة الخلق تتخلَّل الوجود البكر.

يجري النص على النحو الآتي:٤٣
قبل أن يوجد للآلهة بيت مقدس في مكان مقدس،
قبل أن يُخلق القصب، ويظهر للوجود الشجر،
قبل أن يُصنع الآجر وتُبتكر قوالبه،
لم يكن هناك مدينة ولا بشر.
قبل أن تظهر للوجود نيبور وتُبنى إيكور،
قبل أن تظهر أوروك ويُبنى إيانا،
لم يكن للأبسو وجود،٤٤ وإريدو لم تُبنَ بعد،
ولم يكن قد بُني بعد مسكنٌ للآلهة.
في تلك الأزمان، لم يكن سوى البحر …
ثم ظهرت إريدو وبُني (معبد) الإيزاجيلا،
الإيزاجيلا الذي وصلت أساساته إلى الأبسو.
ظهرت بابل للوجود، وانتصب الإيزاجيلا،
وظهر الآلهة، الأنوناكي سواسية،
فدعوها بالمدينة المقدَّسة، مسكنهم، وقرة عينهم،
ثم وضع مردوخ مغرفةً من قصب وضعها على وجه الماء،
وعجن طينًا وسكبه مستعملًا المغرفة،
فلكي يخلد الآلهة ويهدءوا في مساكنهم
خلق لهم الإنسان،
إلى جانبهم خلق لهم بذور البشر،
ثم خلق حيوانات سوموقان،٤٥
وخلق الدجلة والفرات وحدَّد مجراهما،
وأعلن اسمَيهما.
خلق الأعشاب وطحالب الأهوار والقصب والخشب،
خلق مراعي السهول الخضراء،
والأرض والمستنقع وعيدان القصب،
البقرة والعجل والشاة وقطعان الزرائب.
خلق البساتين والغابات،
القطعان الوحشية … ذات الصوف.

إلى هنا ويتشوَّه اللوح الآجري، وعندما يبدأ النص بالوضوح نجد أن الأسطورة قد انتهت، وأننا قد صرنا في قلب التعويذة السحرية التي كان النص مقدمةً لها.

(٣-٢) آدم وحواء

يحكي هذا النص٤٦ قصة خلق الكائنات الحية، وقد وُجد محفورًا على لوح شبه تالف في أنقاض مكتبة آشور بأنيبال في نَينوى. وقد أثارت السطور القليلة المتبقية منها اهتمامًا كبيرًا لإشاراتها إلى خلق الزوجَين البشريَّين الأولَّين. ولكن لسوء الحظ، فإن النص غير واضح في معظمه وتمتنع قراءته تمامًا، في الموضع الذي يبدأ فيه بإلقاء ضوء على الحكاية الخالدة.
عندما خلق الآلهة في مجمعهم كل الأشياء
كوَّنوا السماء وشكَّلوا الأرض،
وأخرجوا للوجود الكائنات الحية،
خلقوا قطعان السهول، ووحوش الفلاة ومخلوقات المدينة،
بعد […] إلى المخلوقات الحية […]،
وعيَّنوا نصيبهم من قطعان سوموقان ومن مخلوقات المدينة،
 […] كل المخلوقات، كل الخلق […]
 […]
قام إيا بخلق زوجَين شابَّين،
وأعلا من شأنهما فوق جميع المخلوقات.

هناك تفسيران ممكنان لتعبير «مخلوقات المدينة»؛ التفسير الأول أن مخلوقات المدينة هم البشر، وأن في النص تقديمًا وتأخيرًا على عادة الأسلوب الأسطوري في التعبير، وعلى ما جرى عليه التوراة من ذكر روايتَين متداخلتَين عن خلق الإنسان، الأولى تُشير إلى خلق البشر دفعةً واحدة، والثانية تأتي على ذكر الزوجَين الأولَّين، وهي تلي الأولى في الترتيب. ولكني أميل للقول بأن المقصود بمخلوقات المدينة هم الآلهة؛ لأن المدن قد بُنيت في الأصل ليسكنها الآلهة كما هو شأن بابل.

(٣-٣) في الطين حيث يتحد الإنسان بالإله

الخالق في هذا النص هو إلهة الأمومة مامي، أو كما تُدعى أيضًا ننماخ أو ننخرساج أو ننتو. وهي الأم الكبرى، وهي أيضًا الأرض والتربة الخصبة. يعادلها عند الكنعانيين عشيرة، وعند الإغريق جيا، وفي كريت رحيا، وفي آسيا الصغرى سيبيل؛ فكل الثقافات القديمة عبدت إلهةً أنثى كبيرة، هي الأرض، الأم التي كانت مركزًا للحياة الروحية. ورغم صعود الآلهة الذكور، ودفعهم الأم الكبرى إلى الوراء في الثقافات الأبوية، إلا قوة وتأثير هذه الآلهة بقي قائمًا في أعتى أشكال المجتمعات الذكرية. وفي بلاد الرافدَين تقاسمت وظائف الأم الكبرى الموروثة عن العصور السالفة إلهتان هما ننتو (مامي، ننماخ، ننخرساج) وعشتار. فبقيت ننتو الأم-الأرض، وصارت عشتار الحب وروح الخصوبة الكونية. يشكِّل النص الذي بين أيدينا (١) مقدمةً لتعويذة سحرية تُتلى لتسهيل ولادة الحوامل وتخفيف آلامهن. وكما هو الأمر فإن التعويذة تبدأ بتلاوة جوانب من حكاية التكوين لاستمداد القوة والفعَّالية:

(الجزء الأعلى من اللوح مكسور.)

أنت عون الآلهة، مامي، أيتها الحكيمة،
أنت الرحم الأم،
يا خالقة الجنس البشري،٤٧
أخلفي الإنسان فيحمل العبء،
اخلقيه، يحمل العبء […]
ويأخذ عن الآلهة عناء العمل.
فتحت ننتو فمها،
وقالت للآلهة الكبار:
«لن يكون لي أن أنجز ذلك وحدي
ولكن بمعونة إنكي سوف يخلق الإنسان،
الذي سوف يخشى الآلهة ويعبدها،٤٨
فليعطني إنكي طينًا أعجنه.»
فتح إنكي فمه
قائلًا للإلهة الكبيرة:
«في الأول والسابع والخامس عشر من الشهر،
سأجهِّز مكانًا طهورًا،
وسيُذبح (هناك) أحد الآلهة،
وعندها فليتعمَّد بقية الآلهة،
وبلحمه ودمائه
ستقوم ننتو بعجن الطين
إلهًا وإنسانًا معًا،
سيتحدان في الطين أبدًا …»

(٣-٤) آدم وحواء بدون طين

يقدِّم لنا هذا النص٤٩ حكايةً أخرى عن خلق الزوجَين الأولَين. وقد وُجد النص محفورًا على لوح يعود للقرن الثامن قبل الميلاد. عُثر عليه في خرائب مدينة آشور. ووفق هذا النص، فإن دماء الآلهة تُستعمل في خلق الإنسان بدون طين.
عندما شُكلت الأرض وأخرجت،
عندما حُدِّدت مصائر الأرض والسماء؛
عندما استقرَّت شطآن دجلة والفرات،
عندها آنو وإنليل وإيا
الآلهة الكبار
وبقية الآلهة المبجَّلين،
جلسوا جميعًا في مجمعهم المقدس،
واستعادوا ما قاموا به من أعمال الخلق:
أما وقد حدَّدنا مصائر السماء والأرض،
وجرت القنوات في مجاريها، وتوضعت الخنادق
واستقرَّت شطآن دجلة والفرات،
ماذا بقي علينا أن نفعل؟
ماذا نستطيع، بعد، أن نخلق؟
يا مجمع الآلهة، أيتها الأنوناكي
ماذا بقي علينا أن نفعل؟
ماذا نستطيع، بعد، أن نخلق؟
فأجاب الحضور من الآلهة المبجلين
الأنوناكي، الذين يحدِّدون المصائر والأقدار
بقسمَيهما، توجَّهوا بالإجابة إلى إنليل:

•••

في أوزوموا عماد السماء والأرض
لنذبح بعض آلهة اللامجا،٥٠
ومن دمائهم فلنخلق الإنسان،
ولنوكله بخدمة الآلهة
على مر الأزمان.
سيقوم على صيانة خنادق الحدود،
ونضع في يده السلة والمِعول،
فيبني للآلهة العظام
هياكل مقدسةً تليق بهم.
سيميِّز الحقول بعضها عن بعض
على مر الأزمان،
ويقوم على صيانة خنادق الحدود،
ويحفر الخنادق الثابتة،
ويعمل على صيانة أحجار الحدود،
سيسقي الأرض بأقاليمها الأربعة،
ويُخرج من جوفها الخيرات الوافرة

(خمسة أسطر مشوهة)

فيجعل حقول الأنوناكي تُنتج غلالًا وفيرة.
سيحتفل بأعياد الآلهة،
ويستخرج الماء العذب،
أوليجار وإلجار٥١
سيكون اسمَيهما،
وسيربيان الثيران والخرفان والأسماك والطيور،
ويزيدان في عطاء الأرض،
أنول ونينول٥٢
نطق فمهما المقدس،
وأرورو٥٣ المقدسة سيدة الآلهة وذات السلطان
رسمت للبشر أقدارًا رائعة.

(٣-٥) السوس ووجع الأسنان

وهذا النص٥٤ أيضًا مقدمة لتعويذة مخصَّصة لشفاء آلام الأسنان. يحكي النص شطرًا من حكاية التكوين، وبدايات الأشياء. ويعود لأصول وجع الأسنان وكيف ظهر.
بعد أن خلق آنو السماء،
وبعد أن خُلقت السماء والأرض،
وبعد أن خلقت الأرض الأنهار،
والأنهار خلقت القنوات،
والقنوات خلقت المستنقعات،
والمستنقعات خلقت السوس،
مضى السوس باكيًا إلى شمش٥٥
وذرف الدموع في حضرة إيا:
– ماذا تعطيني لطعامي؟
ماذا تعطيني لشرابي؟
– سأعطيك شجر التين الناضج،
أو أعطيك المشمش.
– بماذا يفيدني شجر التين؟
بماذا يفيدني المشمش؟
دعني أصعد وأتخذ لي مسكنًا
بين الأسنان وعظام الفك،
حيث أمتص دماء الأسنان،
وأنخر فيها،
عند جذور وعظام الفك.
«أدخل الإبرة وأمسك بالسوس».٥٦
لأنك نطقت بهذا أيها السوس
فليسحقك إيا بجبروت
(وعزم) يدَيه.»
تعويذة ضد وجع الأسنان.
«الطريقة: أحضر بيرةً وزيتًا وامزجهما معًا،
واتلُ التعويذة ثلاث مرات وضع المزيج على الأسنان».

(٣-٦) نصان باللغة اليونانية

قبل اكتشاف الحضارة البابلية بأجيال طويلة عرف العالم شيئًا عن أسطورة الخلق البابلية عن طريق نصَّين كُتبا باللغة اليونانية. النص الأول لآخر فلاسفة الأفلاطونية الحديثة وهو داماسكيوس وتعني الدمشقي، المولود في دمشق حوالي ٤٨٠ بعد الميلاد. وقد تحدَّث هذا الفيلسوف عن بعض الأساطير البابلية في كتابه الرئيسي: صعوبات وحلول المبادئ الأولى. يقول داماسكيوس في روايته عن التكوين البابلي:٥٧

«لا يقول البابليون بمبدأ واحد للكون، بل بمبدأين؛ الأول تاوت، والثاني أباسون. فتاوت هي زوجة أباسون، وكانت تُدعى بأم الآلهة. وقد وُلد لهذَين الإلهَين مولود واحد هو موميز، الذي نعتقد أنه يمثِّل العالم العقلي. وعنهم نشأ جيل ثان: داشي وداشوش. وعن هذَين نشأ جيل ثالث: كيساري وأرسوس. وهذان وُلد لهما ثلاثة هم: آنوس وإيلينوس وأوس. ومن أوس وداوكي وُلد بيل الذي يقولون إنه من صنع الكون.»

إن التشابه لَمدهش حقًّا بين هذه الرواية وبين الإينوما إيليش، حتى لكأنهما مقطع مقتبس عنها مباشرة؛ فتاوت هي تعامة، وأباسون هو أبسو، ومومز هو ممو، وداشي وداشوش هما لخمو ولخامو، وكيساري وأرسوس هما أنشار وكيشار، وآنوس هو آنو، وإيلينوس هو إنليل، وأوس هو إيا، وداوكي هي زوجته دومكينا، أمَّا بيل فهو الاسم التبادلي لمردوخ والذي دُعي به دومًا.

النص اليوناني الثاني هو نص بيروسوس، نسبةً لكاتبه بيروسوس كاهن مردوخ في بابل. وقد عاش هذا الكاتب في فترة متأخِّرة من تاريخ بابل، بعد فتح الإسكندر. وخلال النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد قام بيروسوس بكتابة تاريخ مملكة بابل استنادًا إلى الوثائق المكتوبة التي وصلت إليه من العصور القديمة، ونشر كتابه باللغة اليونانية عام ٢٧٥ قبل الميلاد. وقد ضاعت أعمال هذا الكاتب بما فيها تاريخ بابل، إلا أن مقتبسات عن ذلك الكتاب ظهرت في أعمال الكاتب أليكسندر بوليستر، الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد. تجري رواية بيروسوس على الشكل الآتي:٥٨
«في البدء، لم يكن سوى الظلام والماء، ثم ظهرت إلى الوجود مخلوقات عجيبة التكوين: رجال ذوو أجنحة، جناحان وأحيانًا أربعة، لهم وجهان بدل الواحد. وآخرون ذوو أجسام بشرية ورأسَين، رأس امرأة ورأس رجل، وكانت أعضاؤهم الجنسية مؤنثةً ومذكرةً معًا. وآخرون لهم سيقان وقرون الماعز، أو حوافر وذيل الحصان. وبالمقابل كان هناك ثيران ذات رءوس بشرية، وكلاب لها ذيول السمك، وخيول لها رءوس الكلاب … وهكذا … مخلوقات كثيرة قد استعارت من بعضها خصائص وأشكالًا. وهذه المخلوقات كلها قد صُوِّرت على جدران معبد بل. وفوق أولئك جميعًا امرأة اسمها أموركا، وفي اللغة الكلدانية تامتي؛ أي البحر. إلا أن هذا الاسم في القيمة العددية٥٩ يعادل القمر. ثم جاء مردوخ — بل — فصارع المرأة وشطَرها شطرَين، جاعلًا من شطرها الأول أرضًا ومن شطرها الآخر سماء، وقضى على جميع المخلوقات العجيبة، وأحلَّ النظام في الكون. ولكن الأرض كانت خربةً ومهجورة، فأمر مردوخ بقطع رأس أحد الآلهة، ومزج دمه بتراب الأرض، ومن ذلك المزيج صنع الإنسان ليملأ الأرض، ثم صنع الحيوانات بأجناسها. وبعد ذلك خلق النجوم والشمس والقمر والكواكب السيارة الخمس.»

رغم من اختلاف هذه النصوص عن بعضها واختلافها عن الإينوما إيليش في ترتيب عمليات الخلق، إلا أن عناصرها جميعًا واحدة: الماء البدئي، الحالة السكونية الأزلية، ظهور القوى العقلية الفعَّالة المتمثِّلة بالإله أو الآلهة الشابة، صراع كوني حاسم، إحلال النظام الشامل، خلق السماء والأرض، خلق الكواكب والنجوم، خلق الإنسان والحيوان والحياة النباتية. كما تتفق معظم هذه النصوص على خلق الإنسان من طين، وعلى خلق زوجَين بدئيَّين، عنهما تسلسل الجنس البشري. هذا وتعود كل هذه العناصر للظهور في الرواية التوراتية ممَّا سيجري بحثه في التكوين التوراتي. وتذكَّرنا جملة: ولكن الأرض كانت خربةً وخالية، الواردة في نص بيروسوس بما ورد في سفر التكوين، العهد القديم، و«كانت الأرض خربةً وخالية …» إلخ.

وبعيدًا عن الأساطير في المنطقة، نجد كثيرًا من أساطير الشعوب، حتى البدائية منها، تقول بتسلسل البشرية عن زوجَين أوليَّين. فتقول أسطورة أفريقية٦٠ إن الإله نزامي قد خلق الإنسان الأول وأسماه سيكوم. ولمَّا رأى أن هذا الإنسان وحيد في العالم، أمره أن يصنع لنفسه امرأةً من غصن شجرة وأسماها مبونوي. وتقول أسطورة أفريقية أخرى٦١ إنه في البدء لم يكن هناك سوى رجل وامرأة، يعيش كلٌّ منهما دون أن يعرف بوجود الآخر، إلى أن الْتقيا صدفةً عند أحد الينابيع، فتشاجرا وتصارعا، ومن خلال ذلك اكتشفا الفعل الجنسي ومباهجه فتصالحا وأنجبا خمسين فتًى وفتاة. وتقول أسطورة فارسية٦٢ إن الذكر والأنثى انبثقا عن شجرة وكانا متحدَين في جسد واحد، ثم جاء إليهما الإله آهورا مزدا وفصل كلًّا منهما عن صاحبه وأرسلهما إلى الأرض. وتروي الأسطورة المكسيكية أن الخالق لمَّا فكَّر بصنع الإنسان فكَّر في المادة المناسبة لذلك فاختار الطين، ولكن هذه المادة أثبتت عدم صلاحيتها لأنها ذابت في الماء عندما ذهب الزوجان الأولان للاستحمام، ثم صنعهما من خشب، ولكن المحاولة الثانية لم تكن ناجحةً أيضًا. ثم استقر على المعدن الذي أثبت نجاحه فاستوى المخلوقان كاملَين وأنجبا الجنس البشري.
١  ولكن النصوص القديمة لا تلتزم دومًا هاتَين التسميتَين؛ فالإيجيجي والأنوناكي غالبًا ما تُستعملان تبادليًّا للدلالة على جميع الآلهة.
٢  Alexander Heidel, The Babylonian Genesis. Phoenix books, Chicago, 1970.
٣  James Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, Princetion, New Jersey, 1969.
٤  ibid.
٥  في حال ملاحظة القارئ المتخصِّص لجمل أو كلمات غير واردة في نص هيديل، أرجو منه التحوُّل إلى الموضع نفسه في نص سبيسر.
٦  نوديمود هو إيا، أو إنكي إله الفطنة والذكاء والماء العذب.
٧  أي بطن تعامة.
٨  في ترجمة هيديل: يا وزيري.
٩  أبسو.
١٠  سطر مترجم بتصرُّف؛ لخلاف النصوص التي بين يدَي بشأنه.
١١  راجع سبيسر السطر ١٠٢.
١٢  راجع سبيسر السطر ١٠٥، والسطر ١٠٦ الذي أحدثتُه زيادةً على نص هيديل.
١٣  السطر مترجم عن سبيسر، أمَّا هيديل فقد نقله على الشكل الآتي: […] دعونا نخلق عاصفة.
١٤  هابور هي تعامة.
١٥  راجع سبيسر السطر ١٠٤.
١٦  راجع سبيسر السطر ١٦٠-١٦١ للخلاف الكبير مع هيديل.
١٧  في النص الأصلي: «إن ذراعَي لا تكفياني لإخضاعك»؛ لأن آنو يكرِّر وهو في حالة ذهول ما تمتم به عندما بهره ما رأى من استعدادات تعامة. راجع سبيسر سطر ٨٥.
١٨  تصرُّف بسيط في ترجمة هذا السطر والذي يليه.
١٩  راجع سبيسر.
٢٠  من الواضح أن نصفها الآخر بقي في مكانه مشكِّلًا مياه المحيطات.
٢١  بعد أن تجمَّعت مياه الجزء الأسفل من تعامة مشكِّلةً المحيطات، صار الجزء الأسفل المقابل للسماء في الكون عبارةً عن مياه المحيطات المجاورة لمسكن إيا (نوديمود)، الذي بناه كما رأينا، فوق الأبسو (المياه العذبة). وهنا يقوم مردوخ ببناء الأرض فوق مسكن إيا.
٢٢  مسكن آنو هو السماء، وإنليل سطح الأرض، باعتباره الهواء. وإيا الماء العذب، في باطن الأرض.
٢٣  والمحطات هنا هي النجوم.
٢٤  اعتقد البابليون أن كوكب المشتري يقع في الوسط بين النطاق السماوي الشمالي العائد لإنليل والجنوبي العائد لإيا.
٢٥  القسم الشمالي والقسم الجنوبي من حزام المجرة.
٢٦  فتحة في الشرق وفتحة في الغرب، وهما اللتان تمر منهما الشمس في الشروق والغروب.
٢٧  الدرب الذي تسير عليه الشمس في باطن الأرض ليلًا لتشرق من جديد.
٢٨  دُمجت الأسطر ١١٩، ١٢٠، ١٢١ في سطرَين مع بعض الحذف؛ لكيلا أقع في التناقض؛ ففي نهاية اللوح الرابع وقفت إلى جانب هيديل من دون سبيسر وجريسون في تفسير العيشارة على أنها الأرض.
٢٩  دمجت السطرَين ١٢٢-١٢٣.
٣٠  رغم عدم قيام جريسون باقتراح أي جُمَل لملء الفراغات في هذا الجزء الأخير من اللوح، فإن من الواضح أن الحديث هنا يدور حول البشر الذين سيستخلفهم الإله على الأرض ليُديروا شئونها نيابةً عنه، ويقدِّموا للآلهة طعامهم كما رأينا في النص السومري السابق. فإذا اقترحنا جملةً تملأ الفراغ في هذا السطر يغدو على الشكل الآتي:
[ألن تستخلفوا فيها أحدًا] فيجلب لنا طعام يومنا.
٣١  هذه الحاشية تعود إلى اللوح الخامس الأصلي لا إلى الجزء الملحق الأخير.
٣٢  نهاية تعامة.
٣٣  معبد مردوخ ذو البرج العالي المدرَّج.
٣٤  قرون من المعدِن توضع في قمة أبراج المعابد، هي بقية من العبادات القمرية القديمة.
٣٥  راجع سبيسر.
٣٦  راجع سبيسر.
٣٧  راجع سبيسر.
٣٨  محي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، القاهرة ١٩٧٢م، جزء ١، ص٤٩.
٣٩  يوسف اليوسف، قراءة في ملحمة التكوين البابلي، مجلة المعرفة السورية، العدد ١٩٧، تموز ١٩٧٨م.
٤٠  ألمح إلى مثل هذا التفسير «يونج»: C. G. Jung, Man and His Symbols, New York, 1964.
٤١  يوسف اليوسف، المرجع السابق.
٤٢  Alexander Heidel, The Babylonian Genesis, Phoenix Books, Chicago, 1970, p. 16.
٤٣  A. Heidel, The Babylonian Genesis, Phoenix, Chicago 1970.
٤٤  المقصود هنا بيت الإله إيا.
٤٥  سوموقان إله الماشية.
٤٦  ibid.
٤٧  باعتبار ما سيكون.
٤٨  السطر مترجم عن هيديل لا عن سبيسر.
٤٩  A. Heidel. The Babylonian Genesis, Phoenix, Chicago 1970.
٥٠  آلهة اللامجا: هم آلهة الحرف ومن صغار الآلهة.
٥١  آدم وحواء البابليان.
٥٢  من آلهة الزراعة.
٥٣  ننتو ننماخ الآلهة الأم.
٥٤  E. A. Speiser, Akkadian Myths and Epics, in: James Pritchaed, Ancient Near Eastern Texts, New Jersy, 1969.
٥٥  إله الشمس.
٥٦  الكلام هنا مُوجَّه للطبيب المعالج.
٥٧  A. Heidel, The Babylonian Genesis, Phoenix, Chicago, 1970.
٥٨  ibid.
٥٩  يقول الفيثاغورثيون بوجود قيمة عددية لكل اسم.
٦٠  Philip Freund, Myths of Creation, W. H. Alien, London, 1964.
٦١  ibid.
٦٢  ibid.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤