الفصل الخامس

ألواح التكوين السبعة وأيام التكوين السبعة

إضافة للاحتكاك الطويل مع الثقافات السورية المجاورة، فإن السبي البابلي قد قدَّم لليهود فرصةً للاطلاع على آداب وديانة وأساطير ثقافة أرض الرافدَين. وعندما عادوا إلى أورشليم، وقاموا بتدوين نصوص التوراة المتفرِّقة في كتاب جامع شامل، دخلت خبراتهم أيام السبي بشكل تلقائي وطبيعي فيما دوَّنوه من نصوص. وكانت الإينوما إيليش، درة الأدب والفكر البابلي، عميقة التأثير فيهم. وسنعرض فيما يأتي أوجه التشابه بين التكوين البابلي والتكوين التوراتي.

(١) طبيعة المبدأ الأول

المبدأ الأول في كلا النصين هو المياه. وانطلاقًا من هذه المياه البدئية تتم كل عمليات الخلق. وهي أزلية غير مخلوقة؛ ففي النص البابلي هي جسد آلهة ثلاثة؛ أبسو وتعامة وممو، وفي النص التوراتي نجدها إلى جانب الإله دون أن يوضِّح لنا النص أيهما أقدم.

(٢) الظلام البدئي

يأتي النصان على ذكر الظلام البدئي، غير أن الإينوما إيليش لا تذكره بوضوح، بل يأتي ذكره صراحةً في نص بيريسوس الذي يقول إنه في البدء لم يكن هناك سوى الظلام والماء.

(٣) الضوء قبل النجوم والأجرام السماوية المُشِعة

يقول النصان بوجود الضوء واختلاف الليل والنهار قبل خلق الأجرام السماوية؛ فالإينوما إيليش تتحدَّث عن وجود الأيام والليالي منذ عهد أبسو، عندما كان لا يستطيع النوم ليلًا ولا الراحة نهارًا، كما أن مردوخ نفسه كان يشع بالنور. وفي الفصل الأول من سفر التكوين يخلق الرب النور ويميِّز الليل من النهار قبل أن يخلق الأجرام المنيرة والنجوم والكواكب.

(٤) خلق السماء

يتفق النصان على أن السماء أتت نتيجة فصل المياه الأولى إلى قسمَين. ففي النص البابلي يشطر مردوخ تعامة شطرَين، ويرفع أحدهما سماءً. وفي النص التوراتي: «وفصل بين المياه التي تحت الجَلَد والمياه التي فوق الجَلَد، وكان ذلك. ودعا الرب الجَلَد سماءً.»

(٥) خلق الأرض

قام مردوخ بقياس أبعاد الأبسو وأقام لنفسه نظيرًا له بناءً هائلًا دعاه عيشارا؛ أي الأرض. ولقد صنع ذلك بنصف تعامة الآخر. كذلك الأمر في سفر التكوين التوراتي، فبعد أن يرفع الرب نصف المياه الأولى إلى الأعلى، تتجمَّع المياه السفلى إلى جانب مُشكِّلةً البحار، وتظهر الأرض منبثقةً من تحتها: «وقال الرب لتتجمَّع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة، ودعا الرب اليابسة أرضًا، ومجتمع المياه دعا بحرًا.»

(٦) خلق الأجرام المنيرة

بعد أن شكَّل مردوخ السماء والأرض، الْتفت إلى خلق الأجرام المضيئة، وقسَّم الوقت فرسم خط السَّمت، وحدود السنة، وجزَّأها إلى أشهر وأيام، وأمر القمر بالسطوع وأوكله بالليل، جعله حليةً وزينةً ومنظمًا لشهور السنة، وخلق الشمس محدِّدةً لأيام الأرض. وفي سفر التكوين بعد أن ينتهي الرب من تشكيل السماء والأرض: «وقال الرب لتكن أنوار في جَلَد السماء لتنير على الأرض، وكان كذلك. فعمل الرب النورَين العظيمَين؛ النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل، والنجوم، وجعلها في جَلَد السماء لتنير على الأرض.»

(٧) خلق الحيوانات والنبات

لا تحتوي ملحمة التكوين البابلية في أجزائها المقروءة شيئًا عن خلق الحيوان والنبات، ويُعتقد أن الأجزاء المفقودة من اللوح الخامس تتحدَّث عن مثل هذا الخلق. أمَّا النص التوراتي فيتحدَّث عن خلق الحيوانات في اليوم الخامس. أمَّا نبات الأرض فلم يظهر إلا بظهور الإنسان.

(٨) خلق الإنسان

تتفق الروايتان على أن خلق الإنسان هو آخر عمل في سلسلة الخلق التي قام بها الإله. كما تتفقان على الأهمية البالغة لهذا العمل؛ ففي بداية اللوح السادس نجد مردوخ وقد حدَّثته نفسه بخلق أشياء مبدعة. وقد وصف هذا العمل في مكان آخر من اللوح بأنه العمل الذي يسمو على الأفهام. أمَّا أهمية خلق الإنسان في نص التوراة فتظهر في كونه قد خُلق على صورة الإله، وأُعطي السيطرة على الأرض، وسُخِّرت له حيواناتها ونباتاتها.

وفي نصوص بابلية أخرى تتعلَّق بالتكوين، وجرى ذكرها سابقًا تتحدَّث الأسطورة عن خلق الإنسان انطلاقًا من زوجَين أولَين، وكذلك الأمر في الرواية التوراتية. وقد تمَّ صنع الإنسان الأول في الأسطورة، إمَّا من دم الإله وحده، وإمَّا من دم الإله ممزوجًا بالطين، ثم عُلِّقت عليه صورة الآلهة ليأتي على شبهها. وفي الرواية التوراتية يُصنع الإنسان من طين على صورة الإله.

هدفت الآلهة البابلية من خلق الإنسان إلى تحميله عبء العمل الذي كان مفروضًا على الآلهة. ورغم أن هذا الهدف لا يظهر واضحًا في النص التوراتي، إلا أن النتيجة النهائية الأخيرة تتطابق مع غايات الأسطورة البابلية عندما يُطرد آدم من الجنة ويُفرض عليه العمل كعقوبة: «وقال للمرأة: تكثيرًا أُكثِّر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادًا، وإلى رَجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك. وقال لآدم: لأنك سمعت قول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلًا لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كلَّ أيام حياتك، وشوكًا وحَسَكًا تُنبت لك، وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزًا، حتى تعود إلى الأرض التي أُخِذت منها؛ لأنك تراب وإلى تراب تعود.»١
أطلقت الرواية التوراتية على الإنسان الأول اسم آدم، والواقع أن هذه الكلمة أوغاريتية فينيقية وتعني البشر أو الإنسان.٢ وقد وردت هذه الكلمة في عدة نصوص أوغاريتية ومنها ملحمة كرت، عندما يظهر الإله إيل للملك كرت في الحلم:
«وبينما هو يبكي وقع في غفوة،
بينما هو يذرف الدموع غلبه النعاس.
نعم لقد غلب كرت النعاس،
وغاب في سبات عميق،
ولكنه ما لبث أن أجفل؛
إذ ظهر له في الحلم إيل،
في رؤاه ظهر أبو آدم».

وكاختصار لِمَا سبق نضع تسلسل الخلق في كلا النصَّين جنبًا إلى جنب:

الإينوما إيليش سفر التكوين
(١) العماء الأول تعامة. (١) الظلام يغلِّف المياه
الماء المالح وزوجها. الأولى، وروح الرب
الماء الحلو، يحيط بهما ظلام. يرف فوق المياه.
(٢) النور يشع ويتولَّد من الآلهة. (٢) خلق النور.
(٣) خلق السماء. (٣) خلق السماء.
(٤) خلق الأرض. (٤) خلق الأرض.
(٥) خلق الأجرام السماوية. (٥) خلق الأجرام السماوية.
(٦) خلق الإنسان. (٦) خلق الإنسان.
(٧) مردوخ ينتهي من الخلق والآلهة تحتفل به. (٧) يهوه يستريح.

(٩) تفسيرات حول تشابه النصَّين

  • (١)

    التفسير الأول: النص البابلي قد اعتمد على النص التوراتي. وهذا بعيد الاحتمال لأسبقية الإينوما إيليش على أية نصوص مدوَّنة للتوراة؛ فتاريخ تدوين الملحمة البابلية يعود إلى تاريخ قديم، حدَّده دارسوها بحوالي ١٨٠٠ قبل الميلاد؛ أي قبل ولادة موسى بأربعة أو خمسة قرون. ولا شك أن أصولها ترجع إلى مصادر موغلة في القدم. أمَّا التوراة العبرانية فقد دوَّنت أقدم أسفارها وهي أسفار موسى الخمسة بعد العودة من الأسر البابلي في القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد. ولم يُقرَّ النص النهائي للتوراة إلا في القرن الأول قبل الميلاد. وقد علَّقت مصادر دينية مسئولة على هذا التشابه في بعض المناسبات بقولها إن موسى قد استعمل وثائق مخطوطة وتقاليد شفوية سابقة، ونقل ما يوافق الغاية التي استهدفها بإلهام الروح القدس.

  • (٢)

    التفسير الثاني: النص التوراتي قد اعتمد النص البابلي. وهناك الكثير من المسوِّغات التاريخية التي تدعم هذا الرأي؛ فاللغة البابلية قد شاعت في المنطقة وانتشرت غربًا حتى الساحل السوري، وشمالًا حتى آسيا الصغرى، وذلك منذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد. فقد تمَّ العثور في خرائب عاصمة الحثيين على نصوص أدبية بابلية مكتوبة باللغتَين الحثية والبابلية، منها أجزاء ألواح تحتوي على مقاطع من ملحمة جلجامش. كما تمَّ العثور في خرائب تل العمارنة في مصر على مراسلات بين ملوك فينيقيا وملوك مصر باللغة البابلية، ممَّا يدل على أن اللغة البابلية قد غدت، في زمن ما، حوالي منتصف الألف الثاني، لغة الدبلوماسية في المنطقة. كما عُثر في تل العمارنة أيضًا على نصوص من الأساطير البابلية، كأسطورة آدابا، وأسطورة ملكة العالم الأسفل، وقد كُتبت بلغة بابلية وبطريقة أقرب للتمارين المدرسية. ويغلب الظن أنها كانت تُستعمل لتدريس اللغة.

    وهكذا نرى أن العبرانيين كانوا معرَّضين للاطلاع على الأدب البابلي في أماكن مختلفة وأزمنة مختلفة. ولكن أفضل مكان وأنسب زمان لمثل هذا الاطلاع كان إبَّان الأسر البابلي خلال القرن السادس قبل الميلاد. ومن ناحية أخرى إذا أردنا أن نعتبر إبراهيم، الجد الأول، شخصيةً تاريخية، وهذا ما لم تثبت عليه بينة حتى الآن، فإننا نستطيع متابعة التأثُّر إلى تاريخ أبعد، إلى أوائل الألف الثاني، عندما هاجر إبراهيم من أرض الرافدَين حاملًا معه تقاليد دينية بابلية.

  • (٣)

    التفسير الثالث: اعتمد النصان نصًّا أقدم، وتقاليد دينية أعرق، وربما متح الفكران، البابلي والعبراني، من ديانة توحيدية قديمة بقيت آثارها في العقائد اللاحقة.

١  العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثالث: ١٦–١٨.
٢  C. H. Gordon, Ugarit, Norton Library, New York 1967, P. 102.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤