الفصل الثاني

الطوفان البابلي

كما فعل البابليون في رائعتهم الأولى «الإينوما إيليش» فعلوا في رائعتهم الثانية «ملحمة جلجامش»؛ فملحمة جلجامش هي نص أدبي رفيع يؤلف بين مجموعة نصوص سومرية قديمة تتحدَّث عن بطل سومري حكَم الفترة النضرة الأولى التالية للطوفان. فكانت تلك الأقاصيص السومرية نواةً بنَت عليها العبقرية الأدبية البابلية درةً من دُرر الأدب القديم، وحمَّلتها الكثير من تصوُّرات الثقافة البابلية، الفكرية والدينية والفلسفية. وإلى جانب نصوص جلجامش السومرية، استفاد البابليون من نص الطوفان السومري فأدخلوه في سياق الملحمة التي جاءت نسيجًا متميِّزًا في معانيها ومراميها.

كان نص الطوفان هو أول ما تمَّ اكتشافه من ملحمة جلجامش؛ ففي عام ١٨٧٢م أعلن عالم الآثار البريطاني جورج سميث عن توصُّله لحل رموز أحد ألواح مكتبة آشور بانيبال الحاوي على نص عن الطوفان مشابه للنص التوراتي. وقد أثار هذا الإعلان الكثير من الحماس، فتتابعت البعثات الأثرية على المنطقة إلى أن تمَّ الكشف عن ألواح ملحمة جلجامش الاثنَي عشر، والتي تغطِّي أسطورة الطوفان معظم اللوح الحادي عشر منها. ورغم أن قصة الطوفان تبدو للوهلة الأولى وقد أُقحمت على أحداث الملحمة، إلا أنها في الواقع قد جاءت في انسجام تام مع الإيقاع المأسوي للملحمة، وأضافت إليها أبعادًا ومعاني خاصة، مؤكِّدةً أن الخلود سراب لن يناله أحد من البشر.

جلجامش هو بطل مدينة أوروك وملكها، ثلثه إله، وثلثاه بشر. قضى حياته في الصيد واللهو والبطش بالناس، منتشيًا بقوته الخرافية وطاقته المتفجِّرة. ثم يتعرَّف على أنكيدو، نده، وتُغيِّر الصداقة العميقة التي ربطت بينهما مجرى حياته، فيقرِّر تحويل قواه وطاقاته للعمل المجدي الذي ينفع الناس. يقوم الصديقان بمغامرات عديدة ذات أهداف سامية، إلا أن أنكيدو يموت نتيجة إحدى هذه المغامرات. وهنا يصحو جلجامش على المأساة الحقيقية في حياة البشر ويهيم على وجهه في الصحاري والبراري، تاركًا عرشه ومملكته باحثًا عن سر الخلود وإكسير الحياة، يدفع به قدر الإنسان الفاني. فهو رغم ثلثه الإلهي، فإن نسَبه البشري يشده إلى القدر المشترك لبني الإنسان. وبعد صعاب ومشاق لا يقدر عليها بشر، وصل جلجامش إلى أوتنابشتيم، الإنسان الذي منَّت عليه الآلهة بالحياة الخالدة؛ ليسأله عن سر الخلود، وكيف الحصول عليه. فيقص عليه أوتنابشتيم قصته مؤكِّدًا أن ما حصل له هو أمر فريد لن يتكرَّر بسهولة لأحد من الناس، ويكشف له خبايا وأسرار واقعة الطوفان الكبير:١
قال جلجامش لأوتنابشتيم البعيد:
أنظُر إليك يا أوتنابشتيم،
فأرى شكلك الرقيق لا يختلف عن شكلي.
نعم، إنك لا تختلف عني في شيء،
لقد صوَّرتك في نفسي كبطل على أهبة القتال،
ولكن ها أنت مستلقٍ بتراخٍ أو متكئ.
أخبرني كيف حصلت على رفقة الآلهة ونلت الخلود؟
فقال أوتنابشتيم لجلجامش:
جلجامش، سأكشف لك أمرًا كان مخبوءًا،
وأبوح لك بسر من أسرار الآلهة،
شوريباك مدينة أنت تعرفها،
تقع على شاطئ نهر الفرات،
لقد شاخت المدينة والآلهة في وسطها،
فحدَّثَتهم نفوسهم أن يرسلوا طوفانًا.
كان هناك آنو أبوهم،
كما كان إنليل مستشارهم،
وننورتا ممثلهم،
وإينوجي وزيرهم،
وننجيكو الذي هو إيا كان حاضرًا أيضًا،
فنقل حديثهم إلى كوخ القصب:٢
«يا كوخ القصب، يا كوخ القصب، جدار يا جدار،
أصغِ يا كوخ القصب، وتفكَّر يا جدار،٣
رجل شوريباك يا بن أوبارا-توتو،
قوِّض بيتك وابنِ سفينة،
اهجر ممتلكاتك وانجُ بنفسك،
اترك متاعك وأنقذ حياتك،
اعمل على حمل بذرة كل ذي حياة،
والسفينة التي أنت بانيها،
ستكون وفقًا لمقاسات مضبوطة،
فيكون عرضها معادلًا لطولها،
وغطها كما هي المياه السفلى».
عندما فهمت ذلك قلت لإيا مولاي،
 [سأضع نصب عينَي] ما قد أمرتني به،
وأعمل على تنفيذه،
 [ولكن بماذا] أُجيب المدينة والناس والشيوخ؟
ففتح إيا فمه وقال
متوجِّهًا بالحديث إليَّ أنا خادمه:
«إليك ما ستقوله لهم:
لقد علمت أن إنليل يكرهني،
وعليَّ بعد الآن ألَّا أبقى في مدينتكم،
وألَّا أدير وجهي نحو أرض إنليل.
سأهبط إلى أبسو أعيش مع مولاي إيا.
أمَّا أنتم فسينزل عليكم مطر وافر،
 […] من الطيور … من الأسماك،
 […] غلال الحصاد،
وفي المساء رب العاصفة،
سيُنزل عليكم خيراته مطرًا من القمح».٤
وما إن [لاح أول قبس من نور الصباح]
حتى تجمَّع الناس حولي،
 […]

(سطران مشوَّهان)

جلب الأطفال القار، [بينما] جلب الكبار [كل ذي] فائدة،
وفي اليوم الخامس أنهيت هيكل [السفينة].
كانت أرضيتها إيكو٥ واحد، وارتفاع جدرانها مائة،
وطول كل جانب من جوانب سطحها مائة وعشرون ذراعًا.٦
حدَّدت شكلها الخارجي وشكَّلته،
وستة سطوح سفلية بنيت فيها،
وبذلك قسَّمتها لسبعة طوابق،
كما قمت بتقسيم أرضيتها لتسعة أقسام،
وثبَّت على جوانبها مصدات المياه.
زوَّدتها بالمؤن والذخيرة،
وسكبت في القرن ست وزنات من القار،
وثلاث وزنات من الأسفلت،
ثلاث وزنات من الزيت أتى بها حاملو السلال،
واحدة استهلكها نقع مصدات المياه،
واثنتان قام ملاح السفينة بخزنها.
ذبحت للناس عجولًا،
ورحت أنحر الخراف كل يوم.
عصير العنب والخمر الأحمر والزيت والخمر الأبيض،
أعطيت الصناع فشربوا كما من نهر ماء،
واحتفلوا كأعياد رأس السنة.
و[…] المرهم وضعت يدي.
 […] أضحت السفينة جاهزة.
 […] كان صعبًا للغاية.
 […] من فوق ومن تحت.
 […] ثلثاها.
حملت إليها كل ما أملكه.
كل ما أملكه من فضة حملت إليها.
كل ما أملك من ذهب حملت إليها.
كل ما لديَّ من بذور، كل شيء حي حملت إليها،
وبعد أن أدخلت إليها أهلي وأقاربي جميعًا،
وطرائد البرية ووحوشها وكل أصحاب الحرف،
عيَّن لي الإله شمش وقتًا محدَّدًا:
«عندما يرسل سيد العاصفة٧ مطرًا مدمِّرًا في المساء،
ادخل الفلك وأغلق عليك بابك».
وما إن أزف الموعد،
حتى أرسل سيد العاصفة مطرًا مدمِّرًا في المساء.
قلَّبت وجهي في السماء. كان الجو مرعبًا للنظر.
دخلت السفينة وأغلقت عليَّ بابي،
أسلمت قيادها للملَّاح بوزور-آموري،
أسلمته الهيكل العظيم بكل ما فيه.
وما إن لاحت تباشير الصباح،
حتى علت الأفقَ غيمةٌ كبيرة سوداء،
يجلجل في وسطها صوت حدد٨
ويسبقها شوللات وخانيش.٩
اقتلع أريجال١٠ الدعائم،
وقام ننورتا بفتح السدود.
رفع الأنوناكي مشاعلهم
حتى أضاءت الأرضَ ببريقها.
إلا أن ثورة حدد بلغت حدود السماء،
أحالت إلى ظلمةٍ ما كان مضيئًا،
وقام بتحطيم الأرض كما تحطَّمت الجرة.
عصفت الريح العاتية يومًا كاملًا،
بعنف عصفت و[…]
أتت على الناس وحصدتهم كما الحرب،
حتى عَمي الأخ عن أخيه،
وبات أهل السماء لا يرَون أهل الأرض.
حتى الآلهة ذُعروا من هول الطوفان،
وهربوا صاعدين إلى سماء آنو.١١
انكمشوا كالكلاب الخائفة وربضوا في أسًى.
صرخت عشتار كامرأة في المخاض.
ناحت سيدة الآلهة ذات الصوت العذب:
«لقد آلت إلى طين تلك الأيام القديمة؛
ذلك بأنني نطقت بالشر في مجمع الآلهة،
فكيف استطعت أن آمر بمثل هذا الشر؟
كيف استطعت أن آمر بالحرب لتدمير شعبي،
تدمير من أعطيتهم أنا الميلاد؟
وها هم يملئون اليم كصغار السمك.»
وبكى معها آلهة الأنوناكي.
جلسوا يندبون وينوحون،
وقد غطوا أفواههم.
ستة أيام وست ليال،
والرياح تهب، والعاصفة وسيول المطر تطغى على الأرض.
ومع حلول اليوم السابع، العاصفة والطوفان،
خفَّفت من وطأتها وكانت قبلُ كأنها الجيوش المحاربة.
وأخذ البحر يهدأ والعاصفة تسكن، والطوفان يتوقَّف.
فُتحت نافذة، فوقع النور على وجهي.
نظرت إلى البحر. كان الهدوء شاملًا،
وقد عاد البشر إلى الطين.
كان اﻟ[…] بمحاذاة السقف.
جلست وانحنيت أبكي،
وانسالت دموعي على وجهي،
ثم نهضت وتطلَّعت في كل الاتجاهات،
مستطلعًا حدود البحر.
على بعد اثنتَي عشرة ساعةً مضاعفة، انبثقت قطع من الأرض،
واستقرَّت السفينة على جبل (نصير).
أمسك الجبل بالسفينة ومنعها من الحركة.
ومضى اليوم الأول والثاني والجبل ممسك بالسفينة.
ومضى اليوم الثالث والرابع والجبل ممسك بالسفينة.
ومضى اليوم الخامس والسادس والجبل ممسك بالسفينة.
وعندما حلَّ اليوم السابع،
أتيت بحمامة وأطلقتها في السماء.
طارت الحمامة بعيدًا وما لبثت أن عادت إليَّ.
لم تجد مستقرًّا فآبت.
فأتيت بسنونو وأطلقته في السماء،
طار بعيدًا وما لبث أن عاد إليَّ.
لم يجد موطئًا لقدمَيه فآب،
ثم أتيت بغراب وأطلقته في السماء،
فطار الغراب بعيدًا، ولمَّا رأى أن الماء قد انحسر،
أكل وحام وحطَّ ولم يعد.
عند ذلك أطلقت الجميع للجهات الأربع وقدَّمت أضحية.
سكبت خمر القربان على قمة الجبل.
أقمت سبعة قدور وسبعةً أُخر،
وجمعت تحتها قصب السكر الحلو وخشب الأرز والآس.
فتشمَّم الآلهة الرائحة الذكية،
تجمَّعوا على الأضحية كالذباب،
وعندما وصلت الآلهة العظيمة، (عشتار)،
رفعت عقدها الكريم الذي صنعه آنو وفق رغباتها وقالت:
«أيها الآلهة الحاضرون. كما لا أنسى هذا العقد اللازوردي
الذي يزيِّن عنقي،
فإنني لن أنسى هذه الأيام قط، وسأذكرها دومًا.
تقدَّموا جميعًا وقرِّبوا من الذبيحة،
إلا إنليل وحده لن يقترب؛
لأنه سبب الطوفان دونما تروٍّ،
وأسلَمَ شعبي للدمار.»
وعندما وصل إنليل
ورأى السفينة، انتابه الغيظ الشديد،
واستشاط غضبًا من آلهة الإيجيجي.
أنجا أحد من الفانين؟ ألم يكن مقدَّرًا أن يهلكوا جميعًا؟
ففتح ننورتا١٢ فمه وقال مخاطبًا إنليل المحارب:
«من يستطيع أن يقوم بأمر دونما إيا،
إن إيا وحده يعي كل الأمور.»
ففتح إيا فمه وقال مخاطبًا إنليل المقاتل:
«أيها المحارب، أيها الحكيم بين الآلهة.
كيف؟ آه كيف دونما تفكُّر جلبت هذا الطوفان؟
حمل المذنب ذنبه، والآثم إثمه.
أمهله حتى لا يفنى، ولا تهمله كي لا يفسد.
كنت تستطيع بدل الطوفان أن تسلِّط الأسود لتُنقص عدد البشر.
كنت تستطيع أن تُطلق الذئاب فتُنقص من تعدادهم،
أو تحدث القحط الذي يُهلك البلاد،
أو تأتي بإيرا١٣ فيحصد الناس.
ثم إنني لست الذي أفشى سر الآلهة العظام.
لقد أريت أتراحيس١٤ حلمًا فاستشفَّ منه السر.
والآن اعقد أمرك بشأنه.»
فصعد إنليل إلى السفينة،
وأخذ بيدي وأصعدني معه،
كما أصعد زوجتي أيضًا وجعلها تركع إلى جواري،
ثم وقف بيننا ولمس جبهتَينا مباركًا:
«ما كنت يا أوتنابشتيم إلا بشرًا فانيًا،
ولكنك وزوجك منذ الآن ستغدوان مثلنا (خالدَين)،
وفي القاصي البعيد عند فم الأنهار ستعيشان.»
ثم أخذوني وأسكنوني في البعيد حيث فم الأنهار.

يُعتبر هذا النص أهم نصوص الطوفان في أرض الرافدَين؛ وذلك للعثور عليه كاملًا دونما نقص أو تشويه، ولدقة تعبيره وجمال أدائه الأدبي، ونصاعة لغته الشعرية. فهو جزء من ملحمة ذائعة الصيت في العالم القديم تُرجمت إلى معظم لغات المنطقة القديمة، إلا أنه ليس النص الوحيد؛ فقد وصلتنا أساطير طوفان أخرى من أرض الرافدَين سنتعرَّض لها فيما يأتي في هذا الفصل.

(١) نص نيبور

يقدِّم لنا هذا النص أقدم رواية سامية عن الطوفان؛ فهو يعود إلى الدولة البابلية القديمة. وتمَّ العثور عليه في خرائب مدينة نيبور مكتوبًا على لوح آجري تالف ومكسور. ولم تسمح حالة اللوح باستعادة أكثر من بضعة أسطر منه، ولكن هذه الأسطر الباقية تعطي فكرةً واضحةً عن مضمونه:١٥
سأقوم بإفلات [المياه …]
 […] سوف يأخذ الناس أجمعين.
 […] قبل أن يحل الطوفان
 […] سأسبِّب الخراب والدمار والفناء.
 […] قُم ببناء السفينة
 […] سيكون هيكلها
سفينة عظيمة، وسيكون اسمها حافظة الحياة.
 […] قم بتغطيتها بغطاء متين،
وإلى السفينة التي صنعت
اجلب وحوش البر وطيور السماء.

إن هذه الأسطر على قلتها تعطينا فكرةً واضحةً عن مضمون القصة؛ فهناك طوفان قادم، وإله يصطفي أحد البشر لينقذ الحياة، ويأمره ببناء سفينة وحمل أصناف الحيوان إليها. ولا شك أن هذا النص يشكِّل النواة التي بُني عليها نص طوفان جلجامش.

(٢) ملحمة أتراحيسس

وهي النص البابلي الثالث عن الطوفان، ورغم من أنها وصلتنا مُوزَّعةً على عدة كسرات ألواح، فإن سياقها العام واضح، ويمكن متابعتها دونما إشكال ولا إبهام. وقد سبق الطوفان في هذه الرواية بالأمراض والأوبئة التي أرسلها إنليل في محاولة للتقليل من تعداد البشر الذين بدأ تكاثرهم وضجيجهم يقض عليه مضجعه ويمنع النوم عن جفونه:١٦
لقد عمرت الأرض وتكاثر الناس،
تكاثروا حتى تخمت بهم الأرض كما تتخم الشاة،
وتزايدوا حتى أزعجوا الإله إنليل بتجمُّعاتهم.
لقد وصل ضجيجهم إليه (في عليائه)،
فقال للآلهة الكبرى:١٧
«لقد ازداد صخب البشر
وجعل النوم بعيدًا عن عيوني،
فلتقع الأشجار التي تطعمهم،
ولتعوِ بطونهم طلبًا للطعام،
وليمنع حدد في الأعالي مطره عنهم.
وفي الأعماق فلتنضب مياه الينابيع،
وليتوقَّف سيل المياه من العيون،
ولتهبَّ الرياح
 […]
لتحرم السماء من غيومها،
وتبقَ الأرض دونما مطر،
لتمنع الحقول غلالها،
ولتحجب «نيسابا»١٨ صدرها الخصب.»

(يتبع ذلك تشويه كبير حتى السطر ٣٨٧، ثم يتابع النص على الشكل الآتي):

ففتح إنكي فمه
وقال مخاطبًا إنليل:
«لماذا أمرت […]؟
سأمد يد المساعدة إلى البشر […]
والطوفان الذي قد أمرت به.»

(مجموعة أسطر مشوهة يصعب ترجمتها يليها مباشرةً سطر استدراكي، ثم التذييل المعهود الذي يُنهي به النساخ كل لوح.)

فتح أتراحيسس فمه
وقال لمولاه
(تذييل):
«اللوح الثاني من: عندما الإنسان الإله، مجموع سطوره ٤٣٩ سطرًا.
نسخها: إيليت-إيا النساخ المساعد ٢٨ شباط،
في السنة التي قام بها الملك آميزادوجا بإعادة بناء
دور-أفيزادوجا
عند فم الفرت.»

(٢-١) الكسرة الثانية

(البداية مفقودة)

فتح أتراحيسس فمه وقال لمولاه:
«هلا أعطيتني شرحًا لأحلامي؟»
 […]
«حسنًا فلتصغِ إليَّ:
«اسمع يا جدار،
وتملَّ كلماتي يا كوخ القصب:
قوِّض بيتك وابنِ سفينة،
أُهجر ممتلكاتك،
وخلِّص حياتك،
والسفينة التي أنت بانيها.»»

(يتبع ذلك تشويه كبير حتى نهاية الكسرة، حيث نجد التذييل نفسه الذي رأيناه في الكسرة السابقة.)

[…]

(٢-٢) الكسرة الثالثة

«وفي الوقت المحدَّد الذي سأعينه لك
ادخل الفلك وأغلق عليك بابك،
احمل إليها الحبوب والمتاع والمواشي،
زوجك وعائلتك وأقرباءك وأصحاب الحِرف،
طرائد البرية ووحوشها، وما استطعت من آكلة الأعشاب،
سأدفع بها إليك، وتقبع عند أبوابك تحرسها لك».
فتح أتراحيسس فمه وقال
محدِّثًا إيا مولاه:
«لم يسبق لي أن بنيت سفينة،
فهلا رسمت لي شكلًا لها على الأرض،
أستعين به على بنائها
 […] على الأرض […]،
ثم إني سأعمل على تنفيذ كل ما أمرتني به.»

(البقية مكسورة.)

(٢-٣) الكسرة الرابعة

(البداية مفقودة)

وعندما حلت اﻟ[سنة الثانية]،
وتبعتها السنة الثالثة؛
تبدَّل الناس في […] سهم.
وعندما حلَّت السنة الرابعة […] في ضيق
 […] الواسع غدا ضيقًا.
وهام الناس في الطرقات باكتئاب.
وعندما حلَّت السنة الخامسة طرقت البنت باب أمها١٩
ولكن الأم لم تفتح لابنتها بابها،
وراقبت البنت ميزان أمها،
وراقبت الأم ميزان ابنتها٢٠
وعندما حلَّت السنة السادسة أُعدت الابنة لتكون طعامًا،
كما هُيئ الأطفال ليكونوا طعامًا اﻟ[…] مليئًا،
وراح البيت [يفترس] البيت الآخر،
وصارت وجوه الناس كوجوه أشباح الموتى.
 [وعاشوا] بأنفاس خفيضة (مكتومة تكاد لوهنها تتوقَّف)،
ولكنهم تلقوا رسالة […]

(بقية العمود تالفة، ولكننا نستنتج ممَّا ورد في العمود الثاني أن البشر قد منحوا استراحةً ممَّا يعانون فعادت أحوالهم للازدهار، ولكنهم عادوا لإقلاق إنليل من جديد، فشنَّ عليهم حملةً جديدة.)

في الأعالي [أمسك حدد أمطاره]،
وفي الأعماق نضبت (الينابيع) ولم تصل المياه لآبارها،
وﺿﻨ[ـت الحقو]ل بخيراتها؛
(لأن) نيسابا قد حجبت صدرها […]
فاضت السهول باﻟ[ملح …]
ولم يظهر الزرع ولا أزهر النبت،
واجتاحت الأمراض والأوبئة الناس أجمعين،
أُغلقت الأرحام وباتت بلا حبل ولا ولادة.
 […]
وعندما حلَّت السنة الثانية […] المؤن.
وعندما حلَّت السنة الثالثة
تغيَّر الناس في […].
وعندما حلَّت السنة الرابعة […] في ضيق
 […] الواسع غدا ضيقًا،
وهام الناس في الطرقات باكتئاب.
وعندما حلَّت السنة الخامسة طرقت البنت باب أمها،
ولكن الأم لم تفتح لابنتها بابها،
وراقبت البنت ميزان أمها،
وراقبت الأم ميزان ابنتها.
وعندما حلَّت السنة السادسة أُعدت الابنة لتكون طعامًا،
كما هُيئ الأطفال ليكونوا طعامًا وكان اﻟ[…] مليئًا،
وراح البيت يفترس الآخر،
وصارت وجوه الناس كوجوه أشباح الموتى،
وعاشوا بأنفاس خفيضة (مكتومة تكاد لوهنها تتوقَّف)،
ولكن أتراحيسس الرجل [الحكيم]
توجَّه بقلبه [إلى إيا سيده]،
 [وتكلَّم] مع إلهه،
 [وسيده إيا] تكلَّم معه،
 […] باب إلهه،
وإلى جانب النهر أقام سريره،
 […] الأمطار […]

(يلي ذلك نقص ولكننا نفهم من سياق ما يأتي أن إيا قد استجاب لأتراحيسس بعد أن أقام هذا إلى جانب النهر يصلِّي ليكون قريبًا من إنكي إله الماء. ولكن الناس عادوا لسابق عهدهم، فعاد إنليل إلى أفانينه في إفنائهم والتقليل من توالدهم.)

بسبب ضوضائهم غدا إنليل منزعجًا،
وبسبب ضجيجهم لم يطرق الكرى جفونه،
فعقد إنليل اجتماعًا،
وقال للآلهة أبنائه:
«عظيمة صارت ضوضاء البشر،
وبسببها أنا منزعج،
وبسببها لا يطرق الكرى جفوني،
 […] فلتكن هناك ملاريا،
وبلحظة خاطفة لتضع الأوبئة حدًّا لضجيجهم،
وتهب عليهم كما العواصف (والأعاصير)
علل وأمراض وأوبئة وحمى.»
 […] فكان ملاريا،
وبلحظة خاطفة وضعت الأوبئة حدًّا لضجيجهم،
وكالعواصف هبَّت عليهم (وحصدتهم)
علل وأمراض وأوبئة وحمى،
ولكن أتراحيسس توجَّه بقلبه إلى سيده إيا
وتكلَّم مع إلهه،
وسيده إيا تكلَّم معه.
فتح أتراحيسس فمه وقال
مخاطبا إيا سيده:
«يا إلهي إن البشر يئنون،
وقد طغى على الأرض غضب الآلهة،
 […] وأنت يا من خلقتنا
هلا اجتثثت العلل والأمراض والأوبئة والحمى.»
فتح إيا فمه وقال له لمَّا سمع نداءه:
 […] في الأرض
 […] وصل لآلهتك
 […]
 […]
فعقد إنليل اجتماعًا وقال للآلهة أبنائه:
«[…] لا تضعوهم،
لم ينقص البشر بل ازدادوا عمَّا قبل،
ضوضاؤهم تزعجني (وتؤرِّقني)،
وضجيجهم يمنع عن عينَي الكرى.
لتمنع الشجار عنهم ثمارها،
ولتعوِ بطونهم طلبًا للخضار.
في الأعالي فليمسك حدد مطره عنهم،
وفي الأعماق لتنضب الينابيع ولا تصل المياه لآبارها،
ولتبخل الحقول بخيراتها،
ولتحجب نيسابا صدرها (الخصب) …
ولتنتج السهول العريضة ملحًا.
لا يظهر الزرع ولا يزهر النبت.
ولتعصف الأمراض والأوبئة بالناس أجمعين،
ولْتُغلق الأرحام فلا حبل ولا ولادة.»
(فكان ما قال)
منعت الأشجار ثمارها عن الناس،
وعوت بطونهم طلبًا للخضار،
وفي الأعالي أمسك حدد مطره عنهم،
وفي الأعماق نضبت الينابيع ولم تصِل المياه لآبارها،
وضنَّت الحقول بخيراتها،
وحجبت نيسابا صدرها (الخصب)،
وعصفت الأمراض والأوبئة بالناس أجمعين،
وأُغلقت الأرحام فلا حبل ولا ولادة.

يلي ذلك نقص. وعندما يكتمل اللوح للقراءة نجد مساعي إنليل في إفناء البشر عن طريق إغلاق الأرحام تبوء بالإخفاق؛ لأن أتراحيسس وآخرين معه يمضون إلى ربة الولادة مامي أو ماما يسترحمونها فتقوم بتجديد الخلق عن طريق أرحام طينية.

والمقطع يشوبه الغموض بعض الشيء. وقد عمدت إلى ترك ترجمة بعض الأسطر للحفاظ على المعنى العام.

 […] قبَّلوا أقدامها
قائلين: إليك ندعو يا خالقة بني الإنسان،
يا سيدة جميع الآلهة،
ومضوا إلى بيت الأقدار،
ننجيكو (الذي هو) إيا وماما الحكيمة
وقال إيا […] بينما يتلو التعويذة ويكرِّرها،
وطلب من مامي أن تتلو التعويذة وهو جالس أمامها.
تلتها ماما وعندما أنهتها
صبَّتها على (ما جمعه) من طين،
واقتطعت منه أربع عشرة قطعة، فوضعت سبعًا على اليمين،
ووضعت سبعًا على اليسار، وبينهما أقامت قطعةً من الآجر.
وفتحت لكل منها سرة (في وسطه)،
سبعة أرحام وسبعة أخر. سبعة أنتجت رجالًا،
وسبعة أنتجت نساءً.

إلى هنا وينتهي ما وصلنا من ملحمة «أتراحيسس». والواقع أن الصورة التي ظهر بها إنليل لصورة مهولة. وهو وإن وارتبط اسمه بأهم حوادث الدمار والخراب في المنطقة، فإن له جانبًا آخر لا علاقة له بالدمار والخراب، بل بالبناء والنظام. وكيف لا وهو الذي أخرج العالم من وسط العماء وخلق الشكل والنظام من لُجة الفوضى، وفيما يلي أورد ترتيلةً من إحدى الصلوات الكثيرة التي وُجدت في تمجيده وتعظيمه باعتباره محور الكون:

لولا إنليل الجبل العظيم
لَما بنيت المدن ولا أقيمت المواطن،
ولَما شُيِّدت الزرائب والحظائر.
ولَما أُقيم ملك، ولا وُلد كاهن أعظم،
ولمَّا اختير كاهن الماخ ولا الكاهنة العليا …
ولغدا العُمَّال وليس عليهم رئيس ولا مشرف،
والأنهار لولاه ما جلبت مياهها الفيض والإرواء،
ولولاه ما وضع السمك بيضه في الأهوار،
ولَمَا بنت أطيار السماء أعشاشها في الأرض الواسعة،
وفي السماء لولاه ما جاءت بمائها السحب العابرة،
ولولاه ما نَمت النباتات والأعشاب التي يزهو بها السهل،
وفي الحقل والمرعى ما ازدهرت الغلة الوافرة،
وما أنتجت الأشجار في الغابات ثمارها.

(٣) نص بيروسوس

قلنا في فصل التكوين أن بيروسوس هو كاهن مردوخ في بابل في النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد بعد فتح الإسكندر وطغيان التأثير الهليليني، وقد قام هذا الكاهن بكتابة تاريخ بابل عن طريق جمعه المخطوطات والوثائق المدوَّنة، ونشره باللغة اليونانية عام ٢٧٥ق.م.، وقلنا إن أعمال هذا الكاتب قد ضاعت كلها. غير أن مقتبسات من تاريخه قد ظهرت في أعمال الكاتب ألكسندر بوليستر في القرن الأول قبل الميلاد. ومن جملة تلك المقتبسات رواية بيروسوس عن الطوفان:٢١
بعد موت الملك أرديتيس تولَّى الحكم بعده ابنه أكسوثروس الذي وقع في عهده الطوفان الكبير. ففي ذات ليلة تجلَّى كرونوس٢٢ للملك في الحلم وأنبأه أنه سيقوم في الخامس عشر من شهر تموز بإهلاك الحياة على الأرض بواسطة طوفان مدمِّر لا يُبقي على شيء. ثم أمره أن يشرع بكتابة ألواحٍ عن بداية كل شيء وتطوُّره ونهايته،٢٣ وطمر هذه الألواح في سيبارا مدينة إله الشمس. كما أمره أن يبني سفينةً ويُقلع فيها مع عائلته وأقربائه، وأن يخزِّن فيها الماء والطعام، ويحمل إليها الحيوانات الحية من كل ما يطير أو يدب على الأرض. فإذا سُئل إلى أين يبغي الذهاب عليه أن يقول: «إلى الآلهة لأصلِّي لها عسى أن تكون رفيقةً بالبشر.» صدع بالملك بما أمر وبنى سفينةً طولها خمسة (أسناديا)، وعرضها اثنتا (أسناديا)، وملأها وفق المشيئة الإلهية ثم صعد مع زوجه وأولاده والمقرَّبين إليه.

وبعد أن هدأ الطوفان أرسل أكسوثروس بعض الطيور. فلمَّا لم تجد مكانًا تهبط إليه أو طعامًا تلتقطه عادت إلى السفينة. فانتظر فترةً ثم أرسل الطيور مرةً أخرى، ولكنها عادت إلى السفينة أيضًا وعلى أرجلها آثار من طين. وعندما أطلقها للمرة الثالثة طارت ولم تعد. فعرف أكسوثروس أن الأرض قد انكشفت. وما لبثت السفينة أن استوت على أحد الجبال ولم تعد تتحرَّك. نزل الملك من السفينة ومعه زوجته وابنته وملَّاح السفينة، فسجد على الأرض وبنى مذبحًا وقدَّم قربانًا للآلهة.

ولمَّا تأخَّر عن العودة إلى السفينة نزل ساكنوها وبحثوا عنه وعمَّن رافقه فلم يقفوا لهم على أثر. وبينما هم في حيرة من أمرهم أتاهم صوت من السماء يأمرهم بالتقوى والصلاح، ويخبرهم بأن أكسوثروس رُفع إلى الآلهة ليعيش معهم عيشةً خالدةً لأنه كان تقيًّا صالحًا، كما شاركته في هذه النعمة زوجته وابنته وملَّاح السفينة. وأخبرهم الصوت أن المكان الذي هبطوا فيه هو إحدى بقاع أرمينيا، وأن عليهم أن يعودوا منه إلى بابل وأن يستعيدوا الألواح المطمورة في سيبار.

وعندما سمع القوم ما قاله لهم الصوت السماوي قاموا بتقديم أضاحٍ للآلهة، ومضوا إلى بابل سيرًا على الأقدام. وقبل وصولهم عرجوا إلى حيث الألواح فاسترجعوها، ثم تابعوا فبنوا المدينة من جديد، وأشادوا مدنًا كثيرةً أخرى، وأقاموا المعابد والهياكل.

١  E. A. Speiser, Akkadian Myths and Epics (in: J. Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, Edited, Princeton), 1969.
٢  كوخ القصب هو بيت أوتنابشتيم.
٣  والجدار هنا يذكِّرنا بالنص السومري عندما يتحدَّث إنكي إلى زيوسودرا من خلف حائط.
٤  من الواضح أن «إيا» يحاول تغطية مقاصده عن الناس وتضليلهم.
٥  مقياس للمساحة يعادل ٣٦٠م٢.
٦  وبذلك يصبح شكل السفينة مكعَّبًا منتظمًا.
٧  إنليل.
٨  حدد إله البرق والرعد والصواعق والأمطار.
٩  مساعدا الإله حدد.
١٠  هو نرجال إله العالم السفلي.
١١  آنو كما نعرف هو سيد السماء، وبما أن السماء كانت في تصوُّر البابليين سبعًا طباقًا، فإن آنو قد اتخذ السماء السابعة مقرًّا له.
١٢  ننورتا إله السدود والري والقنوات.
١٣  إله الطاعون.
١٤  اسم آخر لزيوسودرا أو أوتنابشتيم.
١٥  A. Heide, The Gilgamesh Epic, Phoenix Books, Chicago, 1970.
١٦  ibid.
١٧  ibid.
١٨  إلهة القمح والحبوب. وهي صورة أخرى من صور الإلهة-الآم ننخرساج.
١٩  والواضح من هذا المعنى أن النساء قد هجرن أزواجهن فعدن إلى أهلهن.
٢٠  أي إن العلاقات صار يسودها الشك وعدم الثقة والمحاسبة الدقيقة في جميع الأمور.
٢١  A. Heidel, The Gelgamesh, Epic.
٢٢  يقوم الكاتب اليوناني هنا بتغيير اسم الإله من إيا إلى كرونوس الإله اليوناني المعروف.
٢٣  ويقصد إيا بذلك إلى حفظ منجزات الحضارة من الضياع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤