الفصل الثالث

الطوفان التوراتي

إذا كان الدارس بحاجة إلى إعمال الفكر ليظهر التشابه القائم بين نصوص التكوين السومرية والبابلية والسورية من جهة، والنص التوراتي من جهة أخرى، فإن نصوص الطوفان تُعفيه من كثرة التمحيص والتدقيق والبحث عمَّا خفي من المعاني والرموز. إن التشابه بين النصوص البابلية والنص التوراتي يدعو لكثير من التأمُّل والتفكير. ومرةً ثانيةً تطرح نفسها، مسألة التفسير، بقوة أكبر. لقد كتب مؤلفو التوراة نص الطوفان معتمدين بشكلٍ واضح على أكثر من نص بابلي، مع بعض التعديل والتغيير، ومعظم التعديلات تتعلَّق بشخصية الإله الرئيسي في الرواية؛ فبينما تزدحم الرواية البابلية بالآلهة المتناقضة الأهواء والرغبات، يتفرَّد يهوه بالفعالية الرئيسية في الرواية التوراتية. وفيما عدا ذلك فإن الرواية التوراتية تتبع المخطَّط العام نفسه الذي أسَّست له الأسطورة السومرية. وسأعمد بعد سرد النص التوراتي إلى إجراء مقارنة شاملة بين جميع النصوص التي قدَّمتها.

(١) طوفان نوح، سفر التكوين

(١-١) الإصحاح السادس

«(١) ولمَّا ابتدأ الناس يكثرون على وجه الأرض ووُلد لهم بنات. (٢) رأى بنو الله بنات الناس أنهن حسنات، واتخذوا لهم نساءً من جميع من اختاروا. (٣) فقال الرب لا تحل روحي على الإنسان أبدًا لأنه جسد، وتكون أيامه مائةً وعشرين سنة. (٤) وكان على الأرض جبابرة في تلك الأيام، وأيضًا بعد أن دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادًا، أولئك هم الجبابرة المذكورون منذ الدهر.

(٥) ورأى الرب شر الناس قد كثر على الأرض، وأن كل تصوُّر أفكار قلوبهم إنما هو شر في جميع الأيام. (٦) فندم الرب أنه عمل الإنسان على الأرض وتأسَّف من قلبه. (٧) فقال الرب أمحو الإنسان الذي خلقت على وجه الأرض، الإنسان والبهائم والدبابات وطير السماء لأني ندمت على خلقي لهم. (٨) أمَّا نوح فنال حظوةً في عينَي الرب.

(٩) وهؤلاء مواليد نوح. كان نوح رجلًا بارًّا كاملًا في أجياله، وسلك نوح مع الله. (١٠) وولد نوح ثلاثة بنين ساما وحاما ويافث. (١١) وفسدت الأرض أمام الله ومُلئت جورًا. (١٢) ورأى الله الأرض فإذا هي فسدت؛ لأن كل جسد قد أفسد طريقه إليها.

(١٣) فقال الله لنوح نهاية كل بشر قد أتت أمامي فقد امتلأت الأرض من أيديهم جورًا، فها أنا ذا مُهلكهم مع الأرض. (١٤) اصنع لك تابوتًا من خشب قطراني، واجعله مساكن، واطلِه من داخل ومن خارج بالقار. (١٥) كذا تصنع: ثلاث مائة ذراع طوله، وخمسون ذراعًا عرضه، وثلاثون ذراعًا سمكه. (١٦) وتجعل طاقًا للتابوت، وإلى قَدِّ ذراع تكمله من فوق، واجعل باب التابوت من جانبه، ومساكن سفلى وثواني وثوالث تصنعه. (١٧) وها أنا ذا آتي بطوفان مياه على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء وكل ما في الأرض يهلك. (١٨) وأقيم عهدي معك فتدخل التابوت أنت وبنوك وامرأتك ونسوة بنيك معك. (١٩) ومن كل حي من كل ذي جسد اثنَين، من كُلٍّ تُدخل التابوت لتحيا معك، ذكرًا وأنثى تكون. (٢٠) من الطير بأصنافها، ومن البهائم بأصنافها، ومن جميع دبابات الأرض بأصنافها يدخل إليك اثنان من كلٍّ لتحيا. (٢١) وأنت فخذ لك من كل طعام يؤكل وضمه إليك فيكون لك ولهم مأكلًا. (٢٢) فعمل نوح بحسب ما أمره به هكذا فعل.

(١-٢) الإصحاح السابع

(١) وقال الله لنوح ادخل التابوت أنت وجميع أهلك، إني إياك رأيت بارًّا أمامي في هذا الجيل. (٢) وخذ من جميع البهائم الطاهرة سبعةً سبعةً ذكورًا وإناثًا، ومن البهائم التي ليست طاهرةً اثنَين ذكرًا وأنثى. (٣) وخذ أيضًا من طير السماء سبعةً ذكورًا وإناثًا ليحيا نسلها على وجه الأرض. (٤) إنني بعد سبعة أيام ممطرٌ على الأرض أربعين يومًا وأربعين ليلة، وأمحو كل قائم ممَّا صنعته عن وجه الأرض. (٥) فعمل نوح بحسب كل ما أمره الرب به.

(٦) وكان نوح ابن ست مائة سنة حين كان ماء الطوفان على الأرض. (٧) ودخل نوح التابوت هو وبنوه وامرأته ونسوة بنيه معه من ماء الطوفان. (٨) ومن البهائم الطاهرة ومن البهائم التي ليست بطاهرة ومن الطير وجميع ما يدب على الأرض. (٩) دخل التابوت اثنان اثنان إلى نوح ذكورًا وإناثًا، كما أمر الله نوحًا.

(١٠) وبعد سبعة أيام كانت مياه الطوفان على الأرض. (١١) في السنة الستمائة من عمر نوح في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر منه، في ذلك اليوم تفجَّرت عيون الغمر العظيم وتفتَّحت كوى السماء. (١٢) وكان المطر على الأرض أربعين يومًا وأربعين ليلة. (١٣) في ذلك اليوم نفسه دخل نوح التابوت هو وسام وحام ويافث بنوه وامرأة نوح وثلاثة نسوة بنيه معهم. (١٤) هم وجميع الوحوش بأصنافها وجميع البهائم، كل طائر كل ذي جناح. (١٥) ودخل التابوت إلى نوح اثنان من كل ذي جسد فيه روح حياة. (١٦) والداخلون دخلوا ذكورًا وإناثًا من كل ذي جسد كما أمره الله وأغلق الرب عليه.

(١٧) وكان الطوفان أربعين يومًا على الأرض، فكثر الماء وحُمل التابوت فارتفع عن الأرض. (١٨) وكثرت المياه جدًّا، وتعاظمت على الأرض فسار التابوت على وجه الماء. (١٩) وكثرت المياه جدًّا على الأرض فغطَّت جميع الجبال الشامخة التي تحت السماء كلها. (٢٠) وعلت المياه خمسة عشر ذراعًا على الأرض وتغطَّت الجبال. (٢١) هلك كل ذي جسد يدب على الأرض والناس كافة. (٢٢) كل من في أنفه نسمة حياة من كل من في اليبس ماتوا. (٢٣) ومحا الله كل قائم على وجه الأرض من الناس والبهائم والدبابات وطير السماء، فانمحت من الأرض وبقي نوح ومن معه في التابوت فقط. (٢٤) وتعاظمت المياه على الأرض مائةً وخمسين يومًا.

(١-٣) الإصحاح الثامن

(١) وذكر الله نوحًا وجميع الوحوش والبهائم التي معه في التابوت، فأرسل الله ريحًا على الأرض فتناقصت المياه. (٢) وانسدَّت عيون الغمر وكُوى السماء واحتبس المطر من السماء. (٣) وكانت المياه تتراجع عن الأرض كلما مرَّت وعادت ونقصت المياه بعد مائة وخمسين يومًا. (٤) واستقرَّ التابوت في الشهر السابع في اليوم السابع عشر منه على جبل آراراط. (٥) وكانت المياه كلما مرَّت نقصت إلى الشهر العاشر، وفي أول يوم منه ظهرت رءوس الجبال. (٦) وكان بعد أربعين يومًا أن فتح نوح كُوة التابوت التي صنعها. (٧) وأطلق الغراب فخرج وجعل يتردَّد إلى أن جفَّت المياه عن الأرض. (٨) ثم أطلق الحمامة من عنده لينظر هل غاضت المياه من وجه الأرض. (٩) فلم تجد الحمامة مستقرًّا لرجلها فرجعت إليه إلى التابوت؛ إذ كانت المياه على وجه الأرض كلها، فمدَّ يده فأخذها وأدخلها إلى التابوت. (١٠) ولبث أيضًا سبعة أيام أُخر وعاد فأطلق الحمامة من التابوت. (١١) فعادت إليه الحمامة وقت العشاء وفي فيها ورقة زيتون خضراء، فعلم نوح أن المياه قد جفَّت عن الأرض. (١٢) ولبث أيضًا سبعة أيام أُخر ثم أطلقها، فلم تعد ترجع إليه أيضًا.

(١٣) وكان في سنة إحدى وستمائة في اليوم الأول من الشهر الأول أن جفَّت المياه عن الأرض، فرفع نوح غطاء التابوت ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف. (١٤) وفي الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين منه جفَّت الأرض. (١٥) فخاطب الله نوحًا قائلًا. (١٦) اخرج من التابوت أنت وامرأتك وبنوك ونسوة بنيك معك. (١٧) وجميع الوحوش التي معك من كل ذي جسد من الطير والبهائم وسائر الدبيب الساعي على الأرض، أخرجهن معك ليتوالدوا في الأرض وينموا ويكثروا عليها. (١٨) فخرج نوح وبنوه وامرأته ونسوة بنيه معه. (١٩) وجميع الوحوش والدبابات والطيور وكل ما يدب على الأرض بأصنافها خرجت من التابوت. (٢٠) وبنى نوح مذبحًا للرب وأخذ جميع البهائم الطاهرة ومن جميع الطير الطاهرة فأصعد محرقات المذبح. (٢١) فتنسَّم الرب رائحة الرضا، وقال الرب في نفسه لا أُعيد لعن الأرض أيضًا بسبب الإنسان بما تصوَّر قلب الإنسان شرير منذ حداثته، ولا أعود أُهلك كل حي كما صنعت. (٢٢) وأبدًا ما دامت الأرض فالزرع والحصاد والبر والحر والصيف والشتاء والنهار والليل لا تبطل.»

وكما رأينا في أسطورة التكوين التوراتية فإن قصة الطوفان تقدِّم لنا أيضًا فرصةً لملاحظة النسج الذي قام به كتاب التوراة، بعد العودة من الأسر في بابل لنوعَين من النصوص التوراتية؛ الأول ويظهر الرب فيه تحت اسم يهوه، والثاني تحت اسم إيلوهيم. ولذا دعَونا النصوص الأولى باليهوية والثانية الإيلوهيمية.

إن قراءة الطوفان التوراتي دون أخذ هذه المسألة بعين الاعتبار توقع القارئ في حيرة لِمَا في الحوادث من تناقض؛ لأن مؤلفي التوراة قد جعلوا النصَّين يتداخلان مع بعضهما دونما الْتفات لإلغاء التناقضات بينهما. ولإيضاح ذلك لا بد من العودة إلى النص مرةً أخرى؛ لإيراد أوضح النقاط التي يبدو التعارض فيها مُحيِّرًا للوهلة الأولى.

ورد في الإصحاح السادس: ١٩-٢٠: «ومن كل حي من كل ذي جسد اثنَين من كلٍّ تدخل التابوت لتحيا معك، ذكرًا وأنثى تكون. من الطير بأصنافها ومن البهائم بأصنافها ومن جميع دبابات الأرض بأصنافها يدخل إليك اثنان من كلٍّ لتحيا.» أمَّا في الإصحاح السابع: ٢-٣ فنقرأ: «وخذ من جميع البهائم الطاهرة سبعةً سبعة، ذكورًا وإناثًا. ومن البهائم التي ليست طاهرةً اثنَين ذكرًا وأنثى.» إن الفقرتَين تطرحان تعليمات متناقضةً تمامًا. في الأولى يتوجَّب على نوح أن يحمل من الحيوانات والطيور والدبابات اثنَين بصرف النظر عن نوعها أو طهارتها، أمَّا في الفقرة الثانية فعدد الحيوانات المحمولة يتوقَّف على نوعها وطهارتها.

وفي الإصحاح السابع، ١٢: «وكان المطر على الأرض أربعين يومًا وأربعين ليلة.» وفي الإصحاح نفسه، ١٧: «وكان الطوفان أربعين يومًا على الأرض.» وفي الإصحاح الثامن، ٣: «ونقصت المياه بعد مائة وخمسين يومًا.» وفي الإصحاح نفسه، ٦: «وكان بعد أربعين يومًا أن فتح نوح كُوة التابوت التي صنعها وأطلق الغراب لينظر هل غاضت المياه عن وجه الأرض.» هنا أيضًا نواجَه بروايتَين؛ الأولى تجعل مدة الطوفان مائةً وخمسين يومًا وانحساره مائة وخمسين، والثانية: تجعل مدة الطوفان أربعين يومًا وانحساره أربعين مضافًا إليها فترات كل منها سبعة أيام. كما تختلف الروايتان في إطلاق الطيور ومكان الرسو. بينما تنص الأولى على رسو السفينة على جبل آراراط دون التعرُّض للطيور، تتحدَّث الثانية عن إطلاق الغراب والحمامتَين، وتُغفل مكان الرسو.

(٢) بين النص التوراتي والنصوص السومرية والبابلية

سنأتي الآن إلى إجراء المقارنة بين النص التوراتي والنصوص السومرية والبابلية السابقة عليه، وذلك بتتبُّع العناصر الرئيسية في رواية الطوفان.

(٢-١) إله الطوفان

في سفر التكوين يقوم إله اليهود يهوه بإرسال الطوفان، ولكن مجمع الآلهة السومري والأكادي من قبله هو الذي يقرِّر الطوفان. وهذا القرار ليس إجماعيًّا، بدليل أن إلهة الولادة ننتو في النص السومري تنوح على أولادها البشر، وإنكي الحكيم يقرِّر بينه وبين نفسه مدَّ يد المعونة للناس وإنقاذ الحياة عن طريق زيوسودرا التقي الأثير لديه. كذلك الأمر بالنسبة للنص البابلي، فعشتار ندمت على انصياعها لقرار البعض في مجمع الآلهة، وإيا قام بكشف سر القرار الإلهي لأوتنابشتيم. ثم إننا بطريقة غير مباشرة نعرف في آخر النص أن إنليل هو المسئول الرئيسي عن الطوفان، شأنه في ذلك شأن يهوه، ويبدو أنه هو الذي اقترحه وحمل الآلهة للموافقة عليه، ومن ثم قام بإدارته حتى النهاية. وتبدو مسئولية الطوفان واقعةً بكُليتها على إنليل من كلام إيا: «كيف دونما تفكُّر جلبت هذا الطوفان؟» ومن كلام عشتار: «تقدَّموا جميعًا وقرِّبوا من الذبيحة. إلا إنليل وحده لن يقترب لأنه سبب الطوفان دونما تروٍّ وأسلم شعبي للدمار.»

(٢-٢) أسباب الطوفان

يؤكِّد التوراة صراحةً على الأسباب الأخلاقية وراء قرار دمار الإنسان؛ فالأرض قد فسدت وامتلأت بالعنف والشر. أمَّا النص البابلي فيعطي تلميحًا بالأسباب الأخلاقية، حيث نجد إيا في آخر النص يخاطب إنليل قائلًا: «حمل المذنب ذنبه والآثم إثمه … أمهله كي لا يفنى ولا تُهمله كي لا يفسد.» وهذا يدل بوضوح على أن غرض إنليل الأساسي من الطوفان كان القضاء على الشرور والآثام فدمَّر الجميع دون تمييز بين الصالح والطالح.

وعلى العكس من هذَين النصَّين فإن ملحمة أتراحيسس تطرح سببًا غريبًا للطوفان يذكِّرنا بالسبب الأساسي للصراع بين الآلهة في أسطورة التكوين؛ فإنليل يشعر بالانزعاج من صخب البشر وضوضائهم فيقرِّر إفناءهم بعد أن أعيته الحيل في التقليل من عددهم. ولكنه بعمله هذا يناقض العلة الرئيسية لخلق البشر، ألَا وهي حمل عبء الكدح عن الآلهة. فهل كان يخطِّط لخلقٍ جديد يعقب الطوفان، كما فعل زيوس في الأسطورة اليونانية؟ هذا ما لا تستطيع الأسطورة، بنصِّها الذي وصلنا، الإجابة عنه.

(٢-٣) بطل الطوفان

كان بطل الطوفان السومري يُدعى زيوسودرا. والكلمة تعني «الذي وضع يده على العمر المديد»، وذلك اعتمادًا على ما أعطته له الآلهة من حياة سرمدية عقب الطوفان. أمَّا اسم «أوتنابشتيم» بطل القصة البابلية يعني «الذي رأى الحياة»، والاسم مشتق هنا أيضًا من طبيعة المكافأة التي نالها لإنقاذه الحياةَ على الأرض. وفي ملحمة أتراحيسس فإن الاسم يعني «الواسع الحكمة». أمَّا سفر التكوين فلم يُعنَ بإيجاد علاقة ما بين اسم نوح وبين التجرِبة التي مرَّ بها البطل؛ فقد فُسِّرت كلمة نوح أحيانًا بأنها تعني الراحة. إلا أن الحياة المديدة التي عاشها نوح تضعه إلى جانب زيوسودرا الذي وضع يده على العمر المديد، وأوتنابشتيم الذي رأى الحياة، فلقد عاش نوح تسعمائة سنة.

عاش أوتنابشتيم في شوروباك وهي من أقدم المدن في جنوبي الرافدَين، وقد ورد ذكرها بين المدن الخمس التي ظهرت للوجود عقب خلق الكون السومري. أمَّا زيوسودرا فإن نقص النص يمنع من معرفة المدينة التي عاش فيها. ولم يخصِّص التوراة مدينةً بذاتها عاش فيها نوح.

كانت نجاة زيوسودرا راجعةً لكونه رجلًا تقيًّا صالحًا. وكذلك الأمر فيما يتعلَّق بإكسوتروس ونوح. ومن سياق النص البابلي نفهم أيضًا أن أوتنابشتيم كان كذلك.

(٢-٤) الإعلام عن الطوفان

تتفق جميع النصوص على أن الإعلام عن الطوفان قد جاء من جهة إلهية، وتختلف في كيفية إيصال الخبر؛ فزيوسودرا رأى حلمًا لم يرَ شبيهًا له قط، فأخذ يتضرَّع للآلهة عسى أن تُظهر له معناه، ثم إنه سمع صوتًا يأمره أن يقف خلف حائطٍ ليتلقَّى من خلاله رسالة الإله الذي أنبأه القرار. كذلك أوتنابشتيم الذي رأى حلمًا يخاطبه فيه إيا من وراء جدار كوخه القصب، ويكشف له فيه سر الآلهة. ويؤكِّد نص بيروسوس كذلك على الحلم كواسطة للاتصال.

أمَّا في التوراة فنجد الإله يتصل بنوح مباشرةً دونما ستار أو حجاب ودون الحاجة لوساطة الحلم. وفي شخص يهوه تتحد شخصيَّتا إيل وإنليل، فيهوه هو الذي أمر بالطوفان، وهو الذي أبلغ نوح واختاره للنجاة، بينما يقوم بهذه المهمة في بقية الأساطير إلهان منفصلان؛ أحدهما يرسل الطوفان، والثاني يتولَّى إعلام من يختارهم للنجاة دون علم الأول.

(٢-٥) السفينة

كما تباينت أسماء بطل الطوفان تباينت كذلك تسميات السفينة التي بناها؛ فالقصة السومرية أشارت للسفينة بأنها ماجور؛ أي السفينة العملاقة، ونص نيبور استعمل كلمةً مشابهة. أمَّا نص جلجامش فسمَّاها إيليبو التي تعني مجرَّد سفينة أو مركب، ولكنه يصفها في أماكن متفرِّقة على أنها الهيكل العظيم. بينما لا يستعمل سفر التكوين سوى كلمة واحدة، يتبا التي تعني بالعبرية الصندوق أو التابوت.

تحتوي سفينة أوتنابشتيم على سبعة طوابق، وتنقسم عموديًّا إلى تسعة أقسام. وأثناء بنائها لا نعرف ما إذا قد جعل لها نوافذ وفتحات وأبواب، ولكننا نقرأ بعد انتهاء الطوفان أن أوتنابشتيم قد فتح نافذةً فسقط النور منها على وجهه. أمَّا سفينة نوح فتحتوي على ثلاثة طوابق وتتألَّف من عدد غير محدَّد من الأقسام، ولها باب في جانبها وفتحة للنور تحت السقف مباشرةً تدور حول السفينة من كل الجوانب. وبينما ينفرد أوتنابشتيم باستعمال الزيت عندما قام بنقع مصدات المياه بوزنة واحدة وخزَّن الوزنتَين الباقيتَين، فإنه يتفق مع نوح على استعمال القار الذي طلى به السفينة. ولكنهما يعودان للاختلاف بشأن الشكل الخارجي والأبعاد.

وعلى كلٍّ فإن أبطال الطوفان يؤمرون كلٌّ بدوره ببناء سفينة عظيمة تحمل بذور الحياة، وتتدخَّل الشخصية الإلهية كثيرًا أو قليلًا بتحديد شروط بنائها، ويبدو أن أوتنابشتيم كان أكثرهم حريةً في ذلك.

(٢-٦) ركاب السفينة

بعد أن فرغ من عمله قام أوتنابشتيم بنقل كل ما يملكه من ذهب وفضة إلى السفينة، كما نقل إليها أهله وأقاربه وجميع أهل الحرف، ودفع إليها طرائد البرية ووحوشها، وأقام عليها مَلَّاحًا أسلمه قيادها. ويأتي عمل أوتنابشتيم في حمل أصحاب الحِرَف مشابهًا في مغزاه لعمل أكسوتروس في طمر الألواح الحاوية على سجلات لبداية كل شيء وتطوُّره. فالبطلان يحاولان حفظ حضارة الإنسان وثقافته من الضياع ونقلها للأجيال الآتية التي تعقب الطوفان؛ حتى لا تجد نفسها مضطرةً للبدء من جديد. ويبدو من سياق النص أن أوتنابشتيم قد حمل معه طيورًا لأنه قام بإطلاق بعضها على سبيل الاستطلاع، كما قام بحمل المؤن والذخائر.

ونستدل من المقاطع الباقية من النص السومري أن زيوسودرا قد حمل معه بعض الحيوانات، بدليل أنه قام بتقديم ذبائح الشكر للآلهة من الثيران والخرفان. وكذلك فعل أتراحيسس الذي حمل إلى السفينة طرائد البرية ووحوشها وما استطاع من آكلي الأعشاب، ونقل إليه أهله وأقاربه وأصحاب الحرف، وجرى أكسوتروس على المنوال نفسه فنقل زوجه وأولاده وأصدقاءه المقرَّبين، وخزَّن فيها الطعام والشراب، وحمل فيها مخلوقات حيةً مجنحةً وذوات أربع.

تتفق التوراة مع قصص أرض الرافدَين من حيث نقلُ الأشخاص والطعام والحيوان، إلا أن العدد الهائل للأفراد يتقلَّص إلى ثمانية فقط؛ هم نوح وزوجته وأولاده الثلاثة وزوجات أولاده. أمَّا الحيوانات المحمولة والأطعمة حسب أوامر الرب فكانت: «من كل حي، من كل ذي جسدٍ اثَنين، من كُلٍّ تدخل الصندوق لتحيا معك، ذكرًا وأنثى تكون. من الطير بأصنافها ومن البهائم بأصنافها ومن جميع دبابات الأرض بأصنافها يدخل إليك اثنان من كلٍّ لتحيا. وأنت فخذ لك من كل طعام يؤكل فيكون لك ولهم مأكلًا.» ويتبع ذلك تفصيلٌ بالحيوانات الطاهرة وغير الطاهرة.

أمَّا كيف سيعمل بطل الطوفان على جمع كل هذه الحيوانات فيبدو أن الشخصية الإلهية هي التي تكفَّلت بدفعها إليه ليحملها إلى السفينة، على ما يبدو من ملحمة أتراحيسس ومن سفر التكوين. وفي ملحمة أتراحيسس نرى إيا يقول لعبده: «طرائد البرية ووحوشها وما استطعت من آكلي الأعشاب سأدفع بها إليك.» كذلك في سفر التكوين نجد أن الحيوانات تأتي إلى نوح دونما جهد منه لجمعها وحصرها: «وتدخل الصندوق لتحيا معك»، «يدخل إليك اثنان من كل لتحيا.»

(٢-٧) يوم ابتداء الطوفان

«في السنة الستمائة من عمر نوح، من الشهر الثاني في اليوم السابع عشر منه، في ذلك اليوم تفجَّرت عيون الغمر وتفتحت كُوى السماء.» ومن المعروف أن السنة العبرية الزراعية تبدأ في الخريف في أواخر تشرين الأول، فيكون الشهر الثاني والحالة هذه هو كانون الأول بداية موسم الأمطار في سوريا.

أمَّا قصة بيروسوس فتجعل الطوفان يبدأ في اليوم الخامس من شهر أيار/مايو، بينما تصمت بقية النصوص عن ذكر أي موعد مُعيَّن لبدء الطوفان.

(٢-٨) علل الطوفان

تسبَّب الطوفان في النص البابلي عن العاصفة والأمطار والمياه السفلية، فحدَّد إله الرعود والبروق والصواعق والأمطار قد انطلق يسبقه مساعداه. ونرجال فتح فُوَّهات العالم الأسفل فانطلقت مياه الأعماق الحبيسة. وننورتا إله السدود والري فتح سدوده وقنواته ففاضت دونما ضابط. وفي التوراة كذلك تسبَّب الطوفان عن الأمطار الغزيرة وانبثاق المياه السفلية. أمَّا النص السومري فيؤكِّد على الأمطار كعنصر أساسي.

وقد قام الجيولوجي النمساوي E. SUESS في نهاية القرن التاسع عشر بمحاولة إيجاد تفسير علمي لرواية الطوفان، فقال إن الطوفان ربما تسبَّب أساسًا عن عاملَين؛ أولهما موجات عملاقة من البحر سببها اضطراب زلزالي في إقليم الخليج العربي أو إلى الجنوب منه، وثانيهما إعصار عنيف نشأ في خليج البنغال، ثم عبر الهند متجهًا شمالًا نحو الخليج العربي. وقد صادف ذلك كله موسم الفيضان السنوي في حوض الدجلة والفرات، وتشقَّقت الأرض بتأثير الزلزال واندفعت منها المياه. وهكذا فإن الطوفان قد نشأ بتأثير مياه البحر الطاغية بصورة رئيسية، أمَّا المياه السفلية ومياه الفيضان فلم تكن إلا عناصر مساعدة.

ولا نريد هنا أن نناقش هذه النظرية أو غيرها، بل نقول إن علل الطوفان كانت متشابهةً في النصَّين البابلي والتوراتي، وذلك بصرف النظر عن تأكيد كل نص على عناصر مُعيَّنة دون أخرى.

(٢-٩) مدة الطوفان

أعطت التوراة فواصل زمنيةً محدَّدةً بين الحوادث المؤلفة للقصة؛ فلقد دام الطوفان أربعين يومًا، ثم ابتدأت المياه بالتناقص بعد مائة وخمسين يومًا … إلخ. وبجمع الأزمنة بعضها إلى بعض نستنتج أن المدة الفاصلة بين بدء الطوفان وخروج نوح من السفينة قد امتدَّت قرابة السنة. أمَّا النص البابلي فلم يأتِ على تفصيل للفواصل الزمنية، بل اكتفى بالقول إن الطوفان استمرَّ سبعة أيام وسبع ليال. وكذلك الأمر في الأسطورة السومرية، حيث استمرَّ الطوفان ستة أيام وست ليال؛ لذلك لا نستطيع استنتاج مدة مُعيَّنة لدوام الطوفان البابلي، ولكنه قطعًا قد دام مدةً أقصر بكثير من طوفان نوح.

(٢-١٠) أين استقرَّت السفينة

استقرَّت سفينة أوتنابشتيم على جبل نصير؛ أي جبل الخلاص. وقد ورد اسم هذا الجبل في حوليات الملك آشور بانيبال التي حدَّدت موقعه في جنوب نهر الزاب الأدنى، وهو أحد روافد الدجلة.

أمَّا سفينة نوح فقد استقرَّت على جبل آراراط. وآراراط في الواقع ليس اسمًا لجبل، بل هو اسم يُطلق على بلاد أرمينيا. ويبدو أن السفينة قد رست على أعلى قمة في بلاد آراراط، ومن هنا جاءت التسمية. وقد وردت كلمة آراراط في مواضع أخرى من التوراة للدلالة على قُطر وبلاد، لا على جبل. من ذلك مثلًا ما ورد في سفر إشعيا، ٣٧: ٣٨: «وفيما هو ساجد في بيت نصروك إلهه، قتله «أدرملك» و«شرآصر» ابناه بالسيف وهربا إلى أرض آراراط. وملك أسرحادون ابنه مكانه.» وما ورد في سفر أرميا الإصحاح الحادي والخمسين، ٣٧: «انصبوا الراية في الأرض وانفخوا في البوق في الأمم قدِّسوا عليها الأمم، ونادوا عليها ممالك آراراط ومنى وأشنكار.»

(٢-١١) إطلاق الطيور

في اليوم السابع لبدء الطوفان أطلق أوتنابشتيم حمامةً لاستطلاع المحيط، وما لبثت أن عادت إليه لأنها لم تجد مستقرًّا لقدمَيها. وبعد فاصل زمني غير محدَّد أطلق سنونو فطار ثم عاد أيضًا، فانتظر فترةً أخرى، ثم أطلق غرابًا فطار ولم يعد، فاستدلَّ من ذلك على أن الأرض قد أصبحت صالحةً للهبوط، فحرَّر سكان السفينة وأطلقهم للجهات الأربع. أمَّا نوح فقد بدأ بالغراب، وقد أظهر بهذا التصرُّف حكمةً أكثر من زميله أوتنابشتيم؛ ذلك أن الغراب يهوى المرتفعات دون السفوح والسهول؛ لذلك فإن غيابه لا يدل على انحسار الماء عن جميع الأرض. ثم إنه أرسل الحمامة ذلك الطائر الذي لا يطير إلا في السهول والمنخفضات، فحامت الحمامة ثم عادت، فانتظر سبعة أيام أطلق بعدها الحمامة الثانية فطارت وعادت في المساء وفي منقارها غصن زيتون طري. ويبدو أنها وجدت مكانًا تهبط فيه وطعامًا، إلا أن الوضع بشكل عام لم يكن مشجِّعًا على قضاء الليل خارج السفينة، فانتظر سبعة أيام أخرى وأطلق الحمامة الثالثة فطارت ولم تَعُد؛ ممَّا دل نهائيًّا على أن السهول قد غدت جافةً كما المرتفعات.

وهكذا تتفق الروايتان في إرسال الطيور، ولكنها تختلف في نوعيتها وعددها؛ فبينما يرسل أوتنابشتيم حمامةً وسنونو وغرابًا، يقوم نوح بإرسال غراب وثلاث حمامات. ونستطيع أن نلمح تشابهًا من حيث المغزى بين عودة حمامة نوح وفي منقارها غصن زيتون، وعودة طيور أكسوتروس وعلى مخالبها آثار من طين.

(٢-١٢) مغادرة السفينة

انتظر نوح فترةً أطول قبل الخروج من السفينة. وكانت هذه الفترة كافيةً لنمو النباتات من جديد لإعالة جيلِ ما بعد الطوفان من الناس والحيوان. أمَّا خروج باقي أبطال الطوفان فقد كان سريعًا؛ لأن دوام الطوفان لم يكُن بالطول الكافي لدمار الطبيعة دمارًا تامًّا كما هو الأمر في الطوفان التوراتي. وقد جاء خروج نوح بناءً على أمر من الإله كما كان الحال لدى دخوله. أمَّا أوتنابشتيم والآخرون فقد خرجوا بناءً على تقديرهم الخاص.

(٢-١٣) تقديم الذبيحة والعهد الإلهي

يرفع كل أبطال الطوفان الشكر للآلهة على نجاتهم، ويقدِّمون الأضاحي والقرابين؛ فزيوسودرا خرَّ ساجدًا أمام أوتو ونحر ثورًا وقدَّم ذبيحةً من غنم، وأكسوتروس سجد على الأرض وبنى مذبحًا وقدَّم قربانًا للآلهة. وأوتنابشتيم أطلق الركاب للجهات الأربع وقدَّم أضحية. ونوح بنى مذبحًا للرب، وأخذ من جميع البهائم الطاهرة، ومن جميع الطير الطاهرة، فأصعد محرقات على المذبح. وهنا يتطابق حرفيًّا النص البابلي مع التوراة، فبعد حرق الأضاحي نقرأ في نص أوتنابشتيم: «تنشق الآلهة الرائحة الزكية.» ونقرأ في التوراة: «فتنسَّم الرب رائحة الرضا.»

يتقبَّل الرب تقدمة نوح ويندم على فعلته، ويقطع على نفسه عهدًا أبديًّا بألَّا يدمِّر الأرض ثانيةً بطوفان مماثل: «وقال الرب لا أُعيد لعن الأرض … ولا أعود أُهلك كل حي كما صنعت … وأقيم عهدي معكم … تلك قوسي جعلتها في الغمام فتكون علامة عهد بيني وبين الأرض.» وفي نص أوتنابشتيم ينسى الآلهة غضبهم على البشر عندما يشمون رائحة الأضحية، ويتجمَّعون على صاحبها وقد سُرُّوا بنجاة الحياة على الأرض. ولا توجد هنا إشارة مباشرة لعهد ما مع الإنسان. إلا أن كلام عشتار يوحي لنا بشيء قريب جدًّا من العهد الإلهي، ومن إشارته التي كانت عند يهوه قوس قزح، كلما رآه تذكَّر عهده مع البشر. فعندما وصلت عشتار رفعت عقدها الكريم الذي صنعته آنو وفق رغبتها وقالت: «أيها الآلهة الحاضرون، كما أنني لا أنسى عِقد اللازورد الذي يُزيِّن عنقي، فإنني لن أنسى هذه الأيام أبدًا، سأذكرها دومًا.» إن رفع عشتار لعِقدها يقترب كثيرًا في مضمونه من قوس قزح الذي يعطيه يهوه إشارةً وعهدًا.

أمَّا عن الندم فتعبِّر عنه عشتار عندما تقول: «تقدَّموا جميعًا وقرِّبوا من الذبيحة، إلا إنليل وحده لن يقترب؛ لأنه سبَّب الطوفان دونما تروٍّ، أسلم شعبي للطوفان.» كما يعبِّر عنه إيا عندما يخاطب إنليل: «كيف؟ … آه كيف دونما تفكُّر جلبتُ هذا الطوفان.» وبالنهاية فإن إنليل نفسه يعبِّر عن ندمه عندما يهدأ غضبه، فيُصعد أوتنابشتيم وزوجه ويمنحهما بركاته الإلهية وخلودًا لنفسَيهما، ويسكنها في القاصي البعيد عند فم الأنهار. وينال أبطال الطوفان الآخرون جزءًا مماثلًا؛ فيمنح زيوسودرا حياةً أبديةً في أرض دلمون، وأكسوتروس ينال النعمة نفسها، أمَّا نوح فينال أيضًا بركات إلهيةً من يهوه، ولكن هذه البركات لا تصل حد إسباغ نعمة الخلود: «وبارك الرب نوحًا وبنيه، وقال لهم انموا واكثروا واملئوا الأرض.»

إلا أن نوحًا يتكشَّف فيما بعدُ في التوراة عن إنسان سكير عربيد؛ فبعد أن غرس كرْمًا، حصد وشرب من خمره فسكر وأخذ يرقص ويتعرَّى من ثيابه: «وشرب من الخمر فسكر وتعرَّى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخوَيه خارجًا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما. فلمَّا استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير، فقال: «ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لأخوته.» وقال: مبارك الرب إله سام. وليكن كنعان عبدًا لهم» التكوين ٩: ٣١–٣٥.

ويلاحظ هنا أن العبرانيين قد أدخلوا هذا الفاصل في القصة لتسويغ امتلاكهم لأرض الكنعانيين وطردهم أهلها الذين لعنهم يهوه بسبب رؤية جدهم لعورة أبيه …

(٣) نتيجة

لقد قمنا بسرد ما عُثر عليه حتى الآن من أساطير الطوفان في المنطقة، وأجرينا مقابلةً بين هذه النصوص، مُوجِّهين النظر أحيانًا إلى نقاط اللقاء، وتاركين أحيانًا أخرى لذهن القارئ أن يعقد المقارنة ويكشف نقاط اللقاء والخلاف. والسؤال الأخير الذي يطرح نفسه: هل اعتمد النص التوراتي على النص البابلي أو أي من النصوص الأخرى؟ والجواب الذي أراه بالدراسة الموضوعية للنصوص هو: نعم. مع بقاء الاحتمال قائمًا في رجوع النصوص جميعًا إلى نص أقدم، أو إلى رواية بقيت في أذهان شعوب المنطقة من ديانة توحيدية سابقة. والواقع أن الهيكل العام للرواية التوراتية ينطبق بكل خطوطه العريضة، وبكثير من تفاصيله، على النص البابلي، حتى إن بعض التعابير تكاد تتطابق بحرفية تامة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن يهوه إنما يقوم في الرواية التوراتية بجميع الأدوار المتناقضة للآلهة؛ لزالت إلى حد كبير شقة الخلاف بين الروايتَين. فيهوه يقرِّر منفردًا إرسال الطوفان، ثم إنه هو الذي يتسبَّب في علله، من طغيان مياه السيول والأمطار، وانبثاق المياه السفلية، وهو الذي ينقذ بعض الأثيرين لديه، وهو الذي يندم ويعد بألَّا يفعل ذلك ثانية.

أمَّا من ناحية الصياغة الأدبية فإن النص البابلي يتفوَّق بشكل واضح على نص التوراة. ويكفي أن نستعيد قراءة وصف أهوال الطوفان لنرى التصوير الفني البديع والصنعة الأدبية الرفيعة. ويبلغ النص قمة روعته في النهاية عندما يقترب إنليل من أوتنابشتيم وزوجته في مشهد درامي مؤثِّر فيصعدهما إلى السفينة، ويجعلهما يركعان أمامه، ثم يلمس جبهتَيهما مباركًا: ما كنتَ قبل اليوم إلا بشرًا فانيًا، ولكنك منذ الآن ستغدو وزوجتك مثلنا نحن الآلهة، وفي القاصي البعيد ستعيشان عند فم الأنهار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤