الفصل الرابع

أساطير الدمار الشامل

لم تكن أساطير الطوفان وحدها هي التي أخبرتنا عن أحداث الدمار الشامل، والكوارث العامة التي حلَّت بإنسان الحضارات القديمة. فلقد وصلتنا مجموعة أخرى من الأساطير تروي أحداثًا لا تقل رهبةً وروعةً عن أحداث الطوفان، ولكنها لا تقص عن دمار شامل يُفني البشر والحيوان، بل عن دمار جزئي يتوقَّف في منتصف الطريق وقبل أن يقضي على الحياة قضاءً مبرمًا. ربما كانت هذه الأساطير تسويغًا وتعليلًا لكوارث حقيقية حلَّت بالإنسان، وحار في أسبابها ودواعيها وأغراضها، فجاءت الأسطورة تروي تساؤلاته. فهذه أسطورة سومرية تعزو دمارًا حلَّ بالبلاد إلى انتقام الإلهة إنانا من بستانيٍّ اغتصبها، وهذه أسطورة بابلية تعزو العواصف التي اجتاحت البلاد طولًا وعرضًا إلى غضب إله العاصفة إنليل، وأخرى تعزو انتشار المرض الفتاك إلى إله الطاعون إيرا الذي يستفيق من كسله بين الآونة والأخرى ليمارس مهامَّه في نشر الأوبئة والأمراض السارية.

(١) إنانا والبستاني

تروي أسطورة سومرية أن بستانيًّا اسمه شوكا ليتودا زرع شجرةً وتعهَّدها بالرعاية والعناية حتى كبرت ونشرت ظلَّها الواسع على معظم أجزاء حقله الذي حمته من العواصف الهوجاء. إلى أن كان يوم:

وذات يوم، بعد أن عبرت سيدتي السماء وقطعت الأرض،
إنانا، بعد أن عبرت السماء وقطعت الأرض،
بعد أن قطعت أرض عيلام وبلاد شوبر،
بعد أن قطعت […]
دخلت الكاهنة إنانا البستان وغلبها النوم تعبًا،
فرآها شوكا ليتودا من طرف بستانه،
فقبَّلها وضاجعها وعاد إلى طرف بستانه.
لمَّا صار الصبح وأشرقت الشمس
تلفَّتت الفتاة حولها خائفة،
تلفَّتت إنانا حولها فزعة.
فانظر الأذى الذي أوقعته الفتاة من أجل فرجها،
إنانا من أجل فرجها ماذا فعلت،
لقد ملأت جميع آبار البلاد بالدم،
فاضت كل الغابات والبساتين بالدم.

وصار الناس إذا أرادوا نضح الماء من آبارهم لا يجدون ما يشربونه سوى الدم، فتلفت المزروعات. ولمَّا لم تجد الذي جامعها قامت بتسليط الرياح والعواصف المدمِّرة، ولكن دون جدوى.

لقد قالت سأجد الذي ضاجعني في أنحاء البلاد،
ولكنها لم تجد الذي ضاجعها.

ترسل كارثةً ثالثة، إلا أن كسور اللوح الآجري وتشوُّهه تمنعنا من معرفة ماهية هذه الكارثة، ولا نعرف على أي وجه انتهت الأسطورة.

(٢) إنليل والعاصفة

عندما يسكن الهواء يكون إنليل في حالة هدوء ودَعة واطمئنان، وإذا هبَّ النسيم العليل فإن إنليل يسرح ويمرح. وإذا هبَّت العاصفة فإنليل في حالة حركة وانفعال. أمَّا إذا اشتدَّت العاصفة وثار الإعصار فإن إنليل في حالة غضب وهياج. كما هو الأمر في الأسطورة السومرية الآتية:١
دعا إنليل العاصفة،
والناس ينوحون.
أخذ من الأرض الرياح المنعشة،
والناس ينوحون،
أخذ من سومر الرياح الطيبة،
والناس ينوحون،
ودعا (بدلًا منها) الرياح الشيطانية،
والناس ينوحون،
وأوكلها لكينغالودا راعي العواصف،
دعا العاصفة لتفني البلاد،
والناس ينوحون،
ودعا العواصف المدمِّرة،
والناس ينوحون،
عَيَّن الإله جيبيل٢ مساعدًا له،
ودعا أعاصير السماء،
والناس ينوحون،
والأعاصير المعولة المُنقضَّة من السموات،
والناس ينوحون،
العاصفة العتية تزمجر مكتسحةً البلاد،
والناس ينوحون،
العاصفة القاسية كموج الطوفان
تُهشِّم سفن المدينة وتلتهمها،
والناس ينوحون،
كل هذا جمعه عند أساس السماء،
والناس ينوحون،
أشعل نيرانًا كانت نذير العاصفة،
والناس ينوحون،
وألهب جوانب الرياح الغاضبة
بحرِّ الصحراء اللافح،
فكانت تحرق كهجير الظهيرة اللاهب،
والعاصفة التي أمرها إنليل في حقد،
(العاصفة) التي تلتهم البلاد
غطَّت أور كما الثوب، ولفَّتها كما القماط
وفي اليوم الذي تركت فيه العاصفة البلاد
غادرتها والمدينة خراب.
آه يا أيها الأب نانا!٣
لقد ترك المدينة يبابًا،
والناس ينوحون،
في اليوم الذي تركت فيه العاصفة البلاد،
والناس ينوحون،
(جثث) البشر لا كسرات الجرار
كانت تغطِّي الطرقات،
والجدران كانت متصدِّعة،
البوابات العالية والمسالك
قد تكدَّست فيها الموتى،
وفي الشوارع العريضة حيث تعود الناس الاحتفال،
تكدَّست هناك الموتى،
وملأ دم البلاد ثقوبها،
وكمعدن في قالب
ذابت الأجسام كالدهن تحت الشمس.

(٣) إله الطاعون يجتاح العالم

وفي الأسطورة البابلية يقوم إيرا إله الطاعون والأوبئة الفتاكة بدور أساسي في الكوارث والبلايا العظيمة التي تحل على الأرض. فنراه مشغولًا على الدوام بما يتوجَّب عليه تنفيذه من أعمال الخراب والإبادة. وفي الأسطورة التي سنأتي على ذكرها فيما يأتي نجد إيرا وقد مرَّت عليه فترة طويلة لم يلعب فيها دورًا هامًّا على مسرح الأحداث، فنال منه الكسل وفترت همته. ولكن سيبي سلاحه الفتاك ذا الشعاب السبع، المرعب الذي ينفث الموت الزؤام يخاطبه وقد نال منه الملل والضجر:٤
«انهض وسِر قُدمًا يا إيرا،
أيها المتسكِّع في أرجاء المدينة كعجوز مريض،
أيها الزاحف في البيت كطفل مريض،
لقد بتنا نأكل طعام النساء كمن لم يركب السهل أبدًا،
وصرنا نخشى الوغى كمن لم يعرف يوم كريهةٍ قط.
انهض أيها البطل الراكب السهول،
اصرع الإنسان والحيوان،
أمَّا الآلهة فستسمع (بفعالك) وتخشى (بأسك)،
والملوك ستسمع (عن بطولاتك) وتفزع (سطوتك)،
والعفاريت ستسمع (بمآثرك) وتتقي (جبروتك)،
ستسمع بك البحار المتلاطمة وتضطرب،
ستسمع بك الجبال الراسيات وتضطرب.
أي إيرا لقد قلت كلمتي فهل سمعت؟
مشدود هو القوس وحادة هي السهام،
ومسلول هو السيف قد تهيَّأ للفتك (فهلا نهضت).»

(وهنا تشتد عزائم إيرا فيستدعي وزيره إيشوم صائحًا به):

«أوسعوا لي فإني سأقتحم الدروب
وإلى جانبي سيمشي سيبي البطل الذي لا قرين له،
ومن خلفي ستمشي أنت يا مساعدي.»

(فاستمع إيشوم لكلمات إيرا بقلب حزين، وشعر بالأسى لِمَا ينتظر البشر من مصير):

«أيها الإله، لقد أزمعتَ شرًّا للبشر والآلهة،
لقد أضمرتَ للأرض دمارًا،
فهل من وسيلة لردك (عمَّا انتويت)».
ففتح إيرا فمه وقال
مخاطبًا مساعده إيشوم:
«صمتًا يا إيشوم، وأنصت لِمَا أقول.
دعني أنبئك بمصير الإنسان (وقدره).
أي مساعدي يا إيشوم الحكيم اسمع كلماتي:
في السماء أنا فأس وحشية،
في الأرض أن أسد (هصور)،
في البلاد أنا ملك فوق الجميع،
أنا الجليل بين الآلهة،
وأنا المقدام بين الإيجيجي،
وأنا القوي بين الأنوناكي.
لأن الإنسان لم يخشَ كلماتي،
ولم يأبه بتعاليم مردوخ،٥
بل عمل وفق مشيئة قلبه (ورغباته)؛
فإنني سأدعو مردوخ أن يخرج من مسكنه،
(فإن فعل) سأقوم بتدمير الإنسان».

فلأن مردوخ سيد البشر والآلهة، لا يستطيع إيرا أن يتصرَّف وفق هواه ما لم يغضَّ الطرف عنه، فيمضي إليه بخدعة ليترك مسكنه في معبد الإيزاجيلا ويمضي إلى مكان ستطهِّر ناره عباءته، فيستحم ويتجدَّد ويعود أقوى ممَّا كان، وأقدر على تصريف شئون الكون والإنسان:

إلى بابل مدينة ملك الآلهة يمم إيرا شطره.
دخل الإيزاجيلا قصر السموات والأرض ومثل أمامه.
فتح فمه وقال مخاطبًا ملك الآلهة:
«أيها الرب إن الهالة النورانية رمز ألوهيتك
المشعة أبدًا كنجم سماوي،
قد كسدت وخبا لونها،
وتاج سيادتك قد مال (عن رأسك).
اترك مكان سكنك وانطلق،
ونحو الدار التي ستطهِّر نارُها عباءتك شد الرحال.»

ولكن مردوخ يخشى إن هو ترك الإيزاجيلا مركز الكون في بابل أن يعود العالم إلى العماء وتطغى الفوضى الكونية التي تُلجمها قوة مردوخ وجبروته، وتربُّعه على عرش الكون في معبده ذي البرج العالي. كما يخشى أن تخلو الساحة لآلهة العالم الأسفل فتنطلق لتلتهم جميع الأحياء دونما رادع أو وازع. ولكن إيرا يطمئنه بأنه سيأخذ عنه المسئولية كاملةً خلال غيابه، وينوب عنه حتى عودته. فيترك مردوخ قصره ويمضي للاستجمام في المكان الذي اقترحه إيرا. وما إن يغيب الإله الأكبر حتى يستدعي إيرا وزيره إيشوم قائلًا:

أوسعوا لي فإني سأقتحم الدروب.
لقد حان اليوم وأزفت الساعة.
سأهيب بالشمس فتترك شعاعها،
وأغطِّي بالظلام الدامس وجه النهار.
فمن ولدته أمه في يوم ماطر،
ستدفنه في يوم مسغبة.
ومن مضى من طريق مروية خضراء،
سيتخذ في عودته طريق غبار ورمال.

(يتجه بالحديث لمردوخ الغائب):

«ابقَ حيث أنت في الدار التي دخلت،
وسأسهر بإخلاصٍ على تنفيذ شرائعك.
فإن سمعت أصوات ذوي الشعور السود٦ تناديك،
لا تعطِ توسُّلاتهم أذنًا صاغية.»
سأضع نهايةً لجميع مراكز الحياة
فأحيلها ركامًا.
سأُدمِّر كل المدن
فأحيلها خرابًا.
سأهدم كل الجبال
وأمسح عنها القطعان.
سأزلزل المحيطات
وأُفرغ منها الخيرات.
سأقتلع الأشجار وغيضات القصب.
سأسحق كل عظيم،
وأصرع الإنسان أرضًا،
وأمحق كل شيء حي.

ثم ينطلق إله الطاعون والأوبئة الفتاكة والخراب غير عابئ بمحاولات إيشوم ليثنيه عن عزمه، فيدمِّر أوَّلًا بابل ويقضي على سكانها، ثم ينتقل إلى إيريك مدينة البغايا المقدسات والغلمان والمخصيين واللوطيين، حيث معبد عشتار بما فيه من مخنثين نالت عشتار من رجولتهم، فيهدم المدينة ولكنه يبقى متعطِّشًا للفتك راغبًا في المزيد من الخراب:

سأظهر مزيدًا من الفتك والانتقام،
فأستلب روح الابن
ويدفنه أبوه.
ثم أستلب روح الأب،
ولا يجد أحدًا ليدفنه. فمن بنى لنفسه بيتًا وقال:
هذا مكان راحتي (وإقامتي)،
فإني جاعلٌ بيته هذا مستقرًّا لي
عندما تحملني الأقدار إليه، فألبث في وسطه
حاملًا الموت لصاحبه،
ثم أُدمِّر بيت راحته وإقامته،
فإذا صار خرابًا (يبابًا)؛
وهبته لشخص آخر.

على أن إيشوم يفزع أشد الفزع من هذا الفتك الأعمى دون تمييز بين الصالح والطالح، فيتوجَّه لإيرا قائلًا:

إيرا أيها الجليل،
قد سقيتَ التقي الردى،
كما سقيتَ الضال الردى.
قد سقيتَ الخاطئ الردى،
كما سقيتَ الطاهر الردى.
قد سلبت حياة من رفع الأضاحي للآلهة،
وسلبت حياة حاشية الملوك ورجالهم،
سلبت حياة كبير القوم،
وسلبت حياة الفتاة الغضة،
ومع هذا ترفض أن تستريح وتقول لنفسك:
سأسحق كل عظيم،
وأصرع أرضًا كل ضعيف،
سأقتل سيد القوم
فأجعل قومه في حيرة من أمرهم.
سأهدم البيوت العالية ودعائم الجدران،
سأمحق كل ثروات المدينة،
سأخلع الصواري فتضل السفن سبيلها،
وأمزِّق الأشرعة فلا تصل سفينة شاطئها.
سأمزِّق الجبال إرْبًا رافعًا عنها راياتها.
سأجفِّف الصدور حتى يموت الصغار،
وأجفِّف الينابيع حتى تتوقَّف الأنهار عن الجريان.
سأطفئ نور الكواكب والنجوم وأتركها دونما رعاية.٧
سأتلف جذور الأشجار فلا تنمو بعد (ولا تورق).
سأخلع أساسات الجدران فتهتز أعاليها (وتتداعى).
وإلى مسكن ملك الآلهة سوف أمضي حيث لن يعارضني أحد.

(ويبدو أن خطاب إيشوم قد طامن من ثورة إيرا قليلًا، فيقرِّر العفو عن الأكاديين فقط وتدمير كل ما عداهم):

أرض أرض ومدينة مدينة.
كل بيت سيهاجم البيت لآخر.
ولن يعفو الأخ عن أخيه،
فيقتل بعضهم بعضًا؛
وعند ذلك سينهض الأكاديون فيُخضعونهم جميعًا.

وبذلك يجد إيرا الهدوء والسكينة، ويُخبر الآلهة بأن مخطَّطه في البدء كان إفناء البشر جميعًا بسبب خطاياهم، ولكن حديث إيشوم قد غيَّر رأيه فأنقذ الأكاديين فقط وجعل لهم الغلَبة على أعدائهم:

ستنقلب القلة الباقية في الأرض إلى كثرة،
وسيجد كل إنسان منهم فرجًا.
سيقبض الأكاديون على أعدائهم العظماء،
فيحمل كلٌّ منهم سبعةً كما تحمل الخرفان.
ستحوِّلون مدنهم إلى خراب وتجعلون جبالهم ركامًا،
وتئوبون إلى بابل بثمين الغنائم (والأسلاب)،
(وتجعلون) آلهة البلاد الغضبى
ترجع إلى مساكنها (راضية) هادئة.
ستتكاثر القطعان وتنمو الحبوب،
والأرض التي تُركت يبابًا
ستجعلونها مُنتِجةً خصيبة.
وجميع الحكام من وسط مدائنهم
سيجلبون إلى بابل إتاواتهم.
أمَّا معابد إيكور التي دُمرت،
فستشع بالنور قممها كالشمس الصاعدة،
ويفيض الدجلة والفرات بالمياه الغزيرة،
ولأيام طويلة ستحكم بابل فوق البلاد.

وتنتهي القصيدة بخاتمة تؤكِّد على عنصر الوحي في الأسطورة، فكاتب النص يقول إنه قد دوَّن ما أُوحي إليه من قِبَل الآلهة دونما زيادة أو نقصان. وهذه الالتفاتة تكشف لنا أوجهًا هامةً في الأسطورة ودورها ونظرة الجماعة لها. ليس مدوِّن الأسطورة في نظر نفسه ونظر الجماعة المؤمنة به إلا كاتب وحي وإلهام يلعب دور الوسيط بين الإله والناس.

(ألَا) من أجل مجد إيرا
فلننشد هذه الأغنية سنوات لا عدَّ لها.
وكيف ثار غضب إيرا
فقرَّر خراب البلاد،
وإفناء الناس والحيوان.
وكيف قام مستشاره إيشوم بتهدئته،
فجرى إنقاذ قلة قليلة.
وإلى كابتي-عيلاني مردوخ٨حافظ الألواح ابن دابيبي،
عرضها (الأنشودة) إيشوم في حلم ليلي،
فعندما نهض من نومه صباحًا لم ينسَ سطرًا واحدًا،
ولم يزِد عليها سطرًا واحدًا.

(وبعد أن سَطَّر الكاتب هذه الأنشودة سمعها إيرا وإيشوم وبقية الآلهة فنالت استحسانهم):

لقد سمعها إيرا ونالت إعجابه.
راقت له أنشودة إيشوم،
وعظَّمها معه جميع الآلهة.
وهكذا نطق إيرا الجليل:
ستغمر الخيرات بيت من يقدِّس هذه الأنشودة،
ولن يتنسَّم من يُهملها رائحةً زكيةً أبدًا.
سيحكم الجهات الأربع من يرفع اسمي من الملوك،
أمَّا من يرتِّل أنشودتي من المغنين فلن يموت قتلًا،
وتبقى كلماته حلوة الوقع في آذان الملوك والأمراء.
والكاتب الذي يعلمها عن ظهر قلب سينجو من أيدي العدو،
وفي مجمع المتعلِّمين حيث يُذكر اسمي دون انقطاع،
سأفتح الآذان واسعًا.
أمَّا البيت الذي يُخزِّن هذا اللوح،
فلن يلقى ثورة إيرا وغضب إيشوم،
ولن يقرب منه سيف القتل،
فنصيبه السلام والرغد.
ألَا فلْتبقَ هذه الأنشودة أبد الدهر،
ولْتسمعها كل البلاد وتقدِّسْها،
ولتنطِق باسمي كل الأرض المسكونة وتُبجِّلْه.

(٤) يهوه والكوارث الشاملة

ولعل إله العبرانيين يهوه من أكثر الآلهة ولعًا بالدماء والكوارث الشاملة. في سفر الخروج نجد موسى يحاول إقناع فرعون عبثًا بالسماح لشعبه بمغادرة أرض مصر إلى الأرض الموعودة في كنعان، وبعد أن ينال منه اليأس يلجأ إلى ربه الذي يشن حملةً من الفتك الشامل بفرعون وقومه لإجباره على إطلاق العبرانيين؛ فهو يبدأ بما بدأت به إنانا السومرية ويملأ آبار المصريين بالدم: «خذ عصاك ومُد يدك على مياه المصريين وأنهارهم وخُلجهم ومناقعهم وسائر مجامع مياههم فتصير دمًا ويكون دم في جميع أرض مصر.» ثم ينتقل لفنون تدميرية أخرى: «فمدَّ هارون يده على مياه مصر فصعدت الضفادع وغطَّت أرض مصر.» وبعد ذلك: «مدَّ هارون يده بعصاه فضرب تراب الأرض فكان البعوض على الناس والبهائم. كل تراب الأرض صار بعوضًا.» «ودخلت الذباب بيت فرعون وبيوت عبيده وجميع أرض مصر بكثرة وفسدت الأرض من قِبل الذباب.» «فماتت مواشي المصريين بأسرها ومن مواشي بني إسرائيل لم يمت أحد.» «أخذ من رماد الآتون ووقف بين يدي فرعون وذراه موسى إلى السماء فصار قروحًا وبثورًا منتفخةً في جميع أرض مصر.» «فكان بَرَد ونار متواصلة، وبين البرد شيء عظيم جدًّا … فضرب البَرَد في جميع أرض مصر جميع ما في الصحراء من الناس والبهائم، وضرب البَرَد جميع عشبها وكسر جميع أشجارها.» «وساق الرب ريحًا شرقيةً على الأرض ذلك اليوم وطول الليل، وعند الصباح حملت الريح الشرقية الجراد على جميع أرض مصر … فغطَّى جميع أوجه الأرض حتى أظلمت الأرض وأكل جميع عشبها وجميع ما تركه البَرَد من ثمر الشجر.» «فكان ظلام مُدلَهم في جميع أرض مصر ثلاثة أيام لم يكن الواحد يبصر أخاه.» «لمَّا كان نصف الليل ضرب الرب كل بكر في جميع أرض مصر، من بكر فرعون الجالس على عرشه، إلى بكر الأسير الذي في السجن وجميع أبكار البهائم. فقام فرعون ليلًا هو وجميع عبيده وسائر المصريين، وكان صراخ عظيم في مصر حيث لم يكن بيت إلا وفيه ميت.» وعند هذا الحد فقط يقتنع فرعون بضرورة إطلاق بني إسرائيل فيفعل ذلك وهو مُكره على أمره.

ومن عادة يهوه إفناء المدن بكاملها فلا يترك منها أحدًا فينجو ليُحدِّث بأهوال ما حدث لها.

نقرأ في سفر التكوين الإصحاح ١٩: ١٢–٣٦: «وقال الرجلان للوط من لك أيضًا هنا؟ أصهارك وبنوك وبناتك وكل من لك في المدينة أَخرج من المكان؛ لأننا مهلكان هذا المكان إذ قد عظم صراخهم أمام الرب، فأرسلَنا الرب لنهلكه. خرج لوط وكلَّم أصهاره الآخرين وبناته، وقال قوموا اخرجوا من هذا المكان؛ لأن الرب مهلك المدينة، فكان كمازح في أعين أصهاره. ولمَّا طلع الفجر كان الملاكان يُعجِّلان لوطًا قائلين قم خذ امرأتك وابنتَيك الموجودتَين لئلا تَهلك بإثم المدينة. ولمَّا توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتَيه لشفقة الرب عليه وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة. وكان لمَّا أخرجاهم إلى الخارج أنه قال اهرب لحياتك، لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كل الدائرة. اهرب إلى الجبل لئلا تهلك. قال لهما لوط لا يا سيد. هو ذا عبدك قد وجد نعمةً في عينَيك وعظمةً لطفك الذي صنعت لي باستبقاء نفسي، وأنا لا أقدر أن أهرب إلى الجبل لعل الشر يدركني فأموت. ها هي المدينة هذه قريبة للهرب إليها وهي صغيرة أهرب إلى هناك. فقال له إني قد رفعت وجهك في هذا الأمر أيضًا ألَّا أقلب المدينة التي تكلَّمت عنها. أسرع اهرب إلى هناك؛ لأني لا أستطيع شيئًا حتى تجيء إلى هناك؛ لذلك دُعي باسم المدينة صوغر. وإذ أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر. فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتًا من عند الرب من السماء، وقلب كل المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض. ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح.»

١  Henri Frankfort, Before Philosophy, Pelican Books, 1964.
٢  جيبيل: إله النار.
٣  نانا: إله القمر.
٤  S. N. Kramer, Mythology of the Ancient World, Anchor Books, New York, (his charer on Sumerson Mythology).
٥  وهذا مشابه لأسباب كل أفعال الدمار الذي قام به يهوه ضد شعبه المختار الذي كان ينسى على الدوام كلمات الرب.
٦  ذوو الشعور السود أو ذوو الرءوس السود تعبير استعمله السومريون والأكاديون في وصف أنفسهم.
٧  نور النجوم ليس دائمًا، بل إنها تُشعَل كل ليلة من قِبَل الآلهة المعنية.
٨  اسم كاتب النص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤