الفصل الثاني

التنين البابلي

(١) قتل اللابو

تتحدَّث هذه الأسطورة عن وحش جبار يُدعى باللابو. وقد خرج هذا الوحش من الأعماق المائية إلى ديار الحضارة محاوِلًا تدمير كل ما بناه الإنسان، إلى أن ينجح أحد الآلهة في القضاء عليه. يجري النص على النحو الآتي:١
تنهَّدت المدينة و[…] الناس،
تناقصت أعداد البشر […]
ولم يكن لنواحهم أحد ﻟ[…]،
ولا لصراعهم أحد ﻟ[…].
من [الذي أنجب] الحية؟
تعامة [من أنجب الحية].٢
قام إنليل برسم شكل (التنين) في السماء،٣
كان طوله خمسين ساعةً مضاعفة، وارتفاعه ساعة مضاعفة،٤
وكان اتساع فمه ست أذرع و[…] اثنتَي عشرة ذراعًا،
أمَّا محيط أذنه فست أذرع.
كان يستطيع قنص الطيور عن بعد ستين ذراعًا،
وتسع أذرع في العمق يستطيع الانسلال تحت الماء.
كان يرفع ذيله […]
وجميع آلهة السماء […]
سجد الآلهة أمام سن في السماء.
وبلهفة أمسكوا بأذيال ردائه:
«من ذا الذي سيمضي لقتل اللابو
وتخليص الأرض الواسعة
فتكون له السيادة من بعدُ على الجميع؟»
(فقال الإله سن):٥
«امضِ يا تيشباك واقتل اللابو.
خلِّص الأرض الواسعة من شره
فتكون لك السيادة من بعدُ على الجميع.»
– «لقد أرسلني سيدي لقتال وحش النهر،
ولكني لا أعرف اللابو.»

وهنا يصيب اللوحَ كسور وتشوُّهات تمنع من فهم محتوياته. ونقف عند خوف تيشباك وتردُّده في قتال التنين. وهذا ما يعيد إلى أذهاننا أجواء التحضير لقتال تعامة في الإينوما إيليش، عندما تهيَّب البعض نزالها قبل أن يتطوَّع مردوخ. وعندما يعود النص للوضوح نجد أنفسنا في معمعان المعركة، دون أن نعرف أي إله قد تجرَّأ على المضي للقاء اللابو:

 […] فتح فمه وقال للإله […]:
«حرِّك الغيوم، اصنع زوبعة،
وخاتم حياتك (ضعه) أمام وجهك.
أطلق سهمًا واصرع اللابو […].»
فحرَّك الغيوم، وصنع زوبعة،
وخاتم حياته (وضعه) أمام وجهه.
أطلق سهمًا (وصرع) اللابو […].
ولثلاث سنوات، وثلاثة أشهر، ليل نهار،
جرى دم اللابو […].

ينطبق على هذه الأسطورة التفسير العام الذي تقدَّمتُ به في فاتحة هذا السفر؛ فالتنين هنا نتاج القوى البدئية السابقة لتنظيم الكون، دفعَت به المياه التي ترمز في الأسطورة لقوى العماء والفوضى، إلى الكون المرتب لزعزعة بنيانه وإعادته إلى حالته السابقة. كما ينطبق على النص تفسيرنا للأسطورة باعتبارها مغامرةً للعقل الباحث عن الأسباب والغايات، وذلك في جزئها الخاص بشكل التنين. فعندما أتى إنليل لشرح خطة المعركة للآلهة، قام برسم شكل اللابو في السماء، يوضِّح عظمته وقوته، فكان درب المجرة الذي يقطع السماء المعتمة من أقصاها إلى أقصاها. وقد بقي ذلك الرسم محفورًا في الأعالي إلى يومنا هذا. ومن ناحية أخرى ينطبق على الأسطورة التفسير الذي يؤكِّد أن التنين ليس إلا قوى اللاشعور المكبوتة؛ ذلك أن اللابو قد اندفع من أعماق المياه التي ترمز في الأسطورة إلى أغوار اللاشعور.

ويذكِّرنا التفسير البابلي لوجود درب المجرة في السماء بأسطورة إغريقية عن طفولة هرقل. فعندما تأتي الإلهة هيرا زوجة زيوس لإرضاع الطفل الخارق، يمتص من ثديها مصةً قويةً كانت كافيةً ليندفع الحليب منه إلى السماء مشكِّلًا درب المجرة المعروف في اللغات الأوروبية باسم درب اللبن milkyway نسبةً إلى لبن الإلهة هيرا الذي انتثر في الأعالي وما زال عالقًا هناك.

(٢) الطائر «زو»

كان الطائر العملاق زو من قوى العالم الأسفل المدمِّرة. نرى رسومه على العديد من الأختام التي عُثر عليها في أرض الرافدَين، ويبدو فيها في هيئةٍ هي مزيج من الإنسان والطائر. كما ورد اسمه في كثير من النصوص الطقسية وهو في صراع مع بعض كبار الآلهة. فأحد النصوص يصف مردوخ بأنه من حطَّم رأس زو، بينما يعزو نص آخر هذا العمل إلى الإله ننورتا. أمَّا النص الذي نحن بصدده الآن فقد وصلنا في روايتَين متشابهتَين؛ الأولى من نينوى، والثانية من سوسة.

وسأقوم فيما يأتي بترجمة نص نينوى لأنه الأوضح والأكمل، مع الاستعانة بنص سوسة لتوضيح مواضع النقص في الأول.٦

تتلخَّص الأسطورة في أن زو يرغب في السيطرة على الآلهة جميعًا واحتلال مركز الصدارة. ولن يتيسَّر له ذلك إلا إذا سرق ألواح الأقدار التي يحملها إنليل، تلك الألواح التي تعطي حاملها سلطةً مطلقةً في الآلهة والبشر والأكوان. ينجح طائر العالم الأسفل في مسعاه ويهرب بالألواح بعيدًا تاركًا الآلهة في جزعٍ شديد للحادث الجلل الذي أسلم مصائر الأكوان للقوى العمياء. وكما هو الأمر في أساطير التنين السابقة، فإن مهمة القضاء على الوحش تُوكل إلى العديد من الآلهة، ولكنهم يتنصَّلون منها، إلى أن يتطوَّع أحدهم ويحقِّق نصرًا مؤزَّرًا. إلا أن تشوُّه اللوح الفخاري ونقصه يمنعنا من معرفة اسم الإله الذي نجح في تلك المهمة. والنص بمجمله ذو أصل سومري واضح؛ نظرًا إلى أن الإله إنليل يظهر فيه كرئيس لمجمع الآلهة وحامل لألواح الأقدار:

(بداية النص تالفة)

لقد شهدت عيناه سر سيطرة إنليل وقوته.
رأى تاج ملكه ورداء ألوهيته،
ورأى ألواح الأقدار وتملَّاها مرارًا،
وكلما رأى أبا الآلهة، رب الدورانكي؛
طمعت نفسه في مركز إنليل:
«سأحصل على ألواح الأقدار
وأمسك بمصائرهم جميعًا،
سأرسي دعائم ملكي وأتحكَّم في الأقدار،
سأحكم فوق جميع الإيجيجي.»
وهكذا بعد أن صمَّم على التحرُّك
انتظر طلوع النهار عند باب غرفة إنليل،
وعندما مضى إنليل ليستحم في الماء الصافي،
وخلع تاجه فوضعه على العرش.
خطف ألواح الأقدار،
فاغتصب السلطة والملك والسيادة،
ثم طار زو حيث اختفى في جباله،
فساد الوجوم وعمَّ الصمت،
وإنليل أبو الآلهة قد شُلَّت حركته؛
فالحرم المقدس قد سُرقت هيبته وضاعت روعته.
انطلقت الآلهة هنا وهناك للمشاورة.
فتح آنو فمه وقال
مخاطبًا أبناء الآلهة:
«ليقم ذلك الإله فيصرع زو
ويجعل اسمه عاليًا في العالم المعمور.»
فدعَوا باسم الأمير حدد بن آنو،
ثم تكلَّم الآمر الناهي آنو:
«حدد، أيها المنتصر الجليل، ليكن انقضاضك حاسمًا،
وبسلاحك فلترسل البرق يصرع زو،
فيغدو اسمك عاليًا في مجمع الآلهة العظام،
ولا نظير لك بين إخوتك الآلهة.
وستُبنى لك المعابد وتُشاد،
وفي جهات الأرض الأربع ستُقام هياكل لعبادتك،
وستُبنى هذه الهياكل حتى في إيكور،
فتكون جليلًا في حضرة الآلهة ويعلو اسمك.»
فأجاب حدد متحدِّثًا إلى آنو أبيه:
«أي أبت، من يستطيع الاقتراب من تلك الجبال الرهيبة؟
وهل بين الآلهة أبنائك شبيه لزو؟
لقد أمسك بين يديه بألواح الأقدار،
واغتصب السلطة والملك والسيادة،
وطار بعيدًا مختبئًا في جباله،
فكَلِمته اليوم نافذة ككلمة رب الدورانكي،
من يعترضه يئول إلى تراب،
ورؤيته تُثير في الآلهة الرهبة والقنوط.»
وهنا طلب منه آنو ألَّا يمضي في الطريق.

(يلي ذلك تشوُّه وكسور في اللوح، وعندما يتضح النص نجد آنو جادًّا في إقناع إله آخر في المضي إلى زو):

فدعوا إليه شارا بن عشتار،
فتكلَّم إليه الآمر الناهي:
«شارا أيها المنتصر الجليل، ليكن انقضاضك حاسمًا،
فيغدو اسمك عاليًا بين الآلهة العظام،
ولا نظير لك بين إخوتك الآلهة،
وستُبنى لك المعابد وتُشاد،
وفي جهات الأرض الأربع ستقام هياكل لعبادتك،
وستُبنى هذه الهياكل حتى في إيكور،
فتكون جليلًا في حضرة الآلهة ويعلو اسمك.»
فأجاب شارا متحدِّثًا إلى أبيه آنو:
«أي أبت، من يستطيع الاقتراب من تلك الجبال الرهيبة؟
وهل بين الآلهة أبنائك شبيه لزو؟
لقد أمسك بين يدَيه ألواح الأقدار،
واغتصب السلطة والسيادة.»

إلى هنا ينتهي الجزء المقروء من النص، إلا أننا نستطيع الاستنتاج بأن واحدًا من الآلهة قد تطوَّع لقتال زو وأكمل مهمته بنجاح، ذلك أن لقب قاهر زو قد أُلصق بأكثر من إله، وبأكثر من عمل فني صُوِّر مصرع ذلك الوحش الجبار.

١  L. W. King, the Seven Tablets of Creation London, 1902, (cited by A. Heidel in his Babylonian Genesis).
٢  وفي ترجمة أخرى: البحر من أنجب الحية. راجع هيديل.
٣  الشكل الذي رسمه إنليل في السماء هو درب المجرة وما زال قائمًا إلى يومنا هذا.
٤  الساعة المضاعفة مقياس بابلي ويعادل ما يقطعه الإنسان في ساعتَين (عشرة كيلومترات).
٥  سن: إله القمر.
٦  E. A. Speiser, Akkadian Myths and Epics (in: J. Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, edt., Princeton, New York, 1969).
A. Hidel, the Babylonian Genesis, Phoenix Books, Chicago, 1970.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤