الفصل الأول

الجنة السومرية

منذ أن زالت المشاعة الابتدائية تحوَّل العمل من متعة وتحقيق للذات إلى عبودية واغتراب، ومن طقس جماعي مُرضٍ، إلى وحدة قاسية بلا هدف أو غاية إلا لقمة عيش يومية تدفع للاستمرار يومًا آخر. ومع نضوج المجتمعات الأبوية التسلُّطية وإحكام حلقاتها على الأفراد، صار الإنسان إلى حالة إحباط دائمة هي شرطه الأساسي في حياة تبدو بلا معنًى ولا تسعى إلى غاية، سوى موت يضع حدًّا لفصل مؤلم. ولكن المجتمع التسلُّطي استطاع أن يحرم الفرد من كل شيء إلا من رغبةٍ في التغيير بادية أو كامنة و… حلم. تجلَّت رغبة التغيير في ثورات البشر عبر التاريخ في سبيل حياة أفضل وحرية أكثر. وتجلَّى الحلم، بديلًا عن الفعل في أدبيات البشر التي تصف عالمًا قادمًا، هو حرية كاملة ومساواة مطلقة وراحة من لعنة العمل المفروض على الإنسان. عالم لا مرض فيه ولا عناء ولا شيخوخة ولا موت. فكانت أساطير الجنة لدى كل الشعوب تعبيرًا سلبيًّا عن رغبةٍ في التغيير لم تخرج إلى حيِّز الفعل، أو فعل تمَّ إحباطه فصار حلمًا ينتظر.

(١) أسطورة العصر الذهبي

عبَّر السومريون عن ذلك الحلم في نص جميل يصف العصر الذهبي للإنسان قبل هبوطه إلى دنيا العبودية والعمل المغترب، حيث كان سيدًا لنفسه وسيد الطبيعة:١
في تلك الأيام، لم يكن هناك حية ولا عقرب ولا ضبع.
لم يكن هناك أسد ولا كلب شرس ولا ذئب.
لم يكن هناك خوف ولا رعب.
لم يكن للإنسان من منافس.
في تلك الأيام كانت شوبور أرض المشرق، أرض الوفرة وشرائع العدل.
وسومر أرض الجنوب، ذات اللسان الواحد، أرض الشرائع الملكية.
وأورى أرض الشمال، الأرض التي يجد فيها كل حاجته.
ومارتو أرض الغرب، أرض الدعة والأمان.
وكان العالم أجمع يعيش في انسجام تام،
وبلسان واحد يسبح الكل بحمد إنليل.

(٢) أسطورة دلمون

أمَّا الجنة، بمفهومها الذي تجلَّى فيما بعدُ في التوراة، فتحدِّثنا عنها أسطورة أخرى هي أسطورة دلمون:٢
أرض دلمون مكان طاهر، أرض دلمون مكان نظيف،
أرض دلمون مكان نظيف، أرض دلمون مكان مضيء،
في أرض دلمون لا تنعق الغربان،
ولا تصرخ الشوحة صراخها المعروف،
حيث الأسد لا يفترس أحدًا،
ولا الذئب ينقَضُّ على الحمَل،
ولا الكلب المتوحِّش على الجدي،
ولا الخنزير البري يلتهم الزرع،
والطير في الأعالي لا […] صغارها،
والحمامة لا […] رأسها.
حيث لا أحد يعرف رمد العين،
ولا أحد يعرف آلام الرأس،
حيث لا يشتكي الرجل من الشيخوخة،
ولا تشتكي المرأة من العجز،
حيث لا وجود لمنشد ينوح،
ولا لجوَّال يعول.

في هذا الفردوس كان يعيش إنكي إله الماء العظيم، وزوجته ننخرساج الأرض-الأم، كما عاش في الفردوس التوراتي فيما بعد آدم وحواء. وقد أخرج إنكي ماءه وسقى تربة زوجته الأرض، فحوَّل دلمون إلى جنة إلهية خضراء. ومن اتحاد الماء (إنكي) بالتربة (ننخرساج) يمتلئ الفردوس بالحقول والأشجار والثمار، كما تظهر مجموعة من إلهات النبات يقوم إنكي بإغوائهن تاركًا زوجته.

ثم إن ننخرساج تقوم بخلق ثمانية أنواع من النباتات العجيبة. وقبل أن تفرح بعملها يرسل إنكي رسوله إيسمند الذي يقطف له تلك النباتات فيأكلها جميعًا. وما إن تعلم الخالقة بذلك، حتى تغضب غضبًا شديدًا، وترسل على إنكي لعنةً مقيمة: «إلى أن يوافيك الموت، لن أنظر إليك بعين الحياة.» إلا أن الآلهة الآخرين يجزعون لهذا الأمر؛ ذلك أن اللعنة على إنكي تعني شُحَّ المياه وغوصها إلى باطن الأرض تدريجيًّا. ويحار مجمع الآلهة في كيفية معالجة الأمر، خصوصًا وأن ننخرساج قد غابت عن الأنظار حتى لا تُغيِّر رأيها أو تخضع لضغط أحد. أمَّا إنكي فتشتد عليه الأمراض وتهاجمه ثماني علل بعدد النباتات التي أكلها، وأخذ ينهار تدريجيًّا. وأخيرًا يُنقذ الثعلب الموقف عندما يتطوَّع للبحث عن ننخرساج ويجدها في النهاية. وتخضع ننخرساج لمشيئة الآلهة وتقوم بشفاء إنكي عن طريق خلق ثمانية آلهة. كل إله يختص بشفاء أحد أعضاء إنكي العليلة.

ننخرساج : ما الذي يوجعك يا أخي؟
إنكي : إن فكي هو الذي يوجعني.
ننخرساج : لقد أوجدتُ لك الإله ننتول.
ننخرساج : ما الذي يوجعك يا أخي؟
إنكي : إن ضرسي هو الذي يوجعني.
ننخرساج : لقد أوجدتُ من أجلك الإله ننسوتو.

وهكذا يتابع تعداد أوجاعه، وتتابع ننخرساج خلق آلهة الشفاء من أجله، إلى أن يصل إلى ضلعه:

ننخرساج : ما الذي يوجعك يا أخي؟
إنكي : إن ضلعي هو الذي يؤلمني.
ننخرساج : لقد أوجدتُ من أجلك الإلهة ننتي.

هذا ويناقش بعض علماء السومريات في أن كلمة «تي» في السومرية تعني الضلع، ولكنها تعني أيضًا «أحيا» أو «جعله يحيا». أمَّا كلمة «نن» فتعني سيدة، كما رأينا سابقًا من تحليل اسم ننخرساج التي تعني سيدة الجبل. وعلى هذا يكون اسم الإلهة «ننتي» يعني سيدة الضلع أو السيدة التي تُحيي. وهذه السيدة شبيهة بحواء التوراة التي أُخذت من ضلع آدم؛ فهي سيدة الضلع، وهي حواء بمعنى التي تُحيي.

لقد أسَّست الأسطورة السومرية لأساطير الجنة اللاحقة في المنطقة، ولأسطورة سقوط الإنسان، وفقدانه عالمه الذهبي القديم. ورغم أنه لا توجد بين أيدينا أسطورة سومرية تحكي كيفية فقدان الإنسان عصره الذهبي وهبوطه إلى عالم الذل والهوان، إلا أننا نستطيع افتراض وجود مثل هذه الأسطورة استنادًا لِمَا تقصُّه أسطورة العصر الذهبي السومرية علينا من أوضاع الإنسان السابقة على الهبوط.

١  S. N. Kramer, Sumerian Mythology, Harper and Row. New York 1961.
٢  ibid.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤