الفصل الثاني

الجنة البابلية

لم يعثر حتى الآن على أسطورة بابلية مشابهة لأسطورة دلمون، رغم الإشارات الدالة على وجود مثل هذه الأسطورة. فنحن نعلم من أسطورة الطوفان البابلية أن أرض دلمون هي مكان الخالدين؛ لأن أوتنابشتيم وزوجته بعد أن يُنقذا الحياة على سطح الأرض من الطوفان، يكافئهما إنليل يجعلهما من الخالدين، وكانا قبلًا من البشر الفانين، ويسكنهما في دلمون حيث منابع الأنهار. دلمون إذن هي الجنة السومرية البابلية، وهي مرتع الآلهة الخالدين، ولكنها في نفس الوقت مسكن البشر ممَّن أسبغت عليهم نعمة الخلود. وتحدِّثنا ألواح أوغاريت عن جنة مماثلة. فالإله إيل يسكن عند منبع الأنهار أيضًا، كما هو الأمر في دلمون وفي فردوس التوراة حيث تنبع أنهار فيشون وجيحون وحداقل والفرات.

أمَّا سقوط الإنسان فتنقله لنا أسطورة أخرى وهي أسطورة آدابا. وآدابا هنا هو الإنسان الأول الذي خسر الخلود بسبب غلطة، وهذه الغلطة رغم أنها ترجع إلى سوء تفاهم وإلى سوء نية الإله إياه الذي خلقه، إلا أنها في نتائجها تتلاقى مع نتائج خطيئة آدم؛ فكلاهما خسر الحياة الأبدية وجلب الموت على ذريته، ونلاحظ هنا تشابه الاسمين آدم-آدابا.

قام الإله إيا بخلق آدابا لخدمة معبده، وصيد السمك للآلهة، وجعله عاقلًا وأسبغ عليه الحكمة الكاملة، غير أنه لم يهبه الحياة الأبدية. وفي أحد الأيام بينما كان آدابا يصطاد على شاطئ الخليج العربي، هبَّت رياح الجنوب وقلبت قاربه ورمت به في الماء. فغضب لذلك ولعنها على ما فعلت، فانكسر أحد جناحَيها ولم تستطع الهبوب مرةً أخرى. وبعد سبعة أيام من اختفاء ريح الجنوب، دُعي آدابا للمثول أمام آنو كبير الآلهة لاستجوابه على ما فعله. وقبل صعوده زوَّده خالقه «إيا» بعدد من النصائح، وأشار عليه أن يطيل شعره، ويلبس ثياب الحِداد؛ للتأثير على الإلهَين تموز وجيزيدا حارسَي بوابة السماء، عندما يسألان عن سبب حِداده، فيجيب أنه حزنًا على تموز وجيزيدا اللذَين كانا يعيشان في الأرض ثم اختفيا؛ فإن ذلك سيسرهما وسيسمحان له بالمرور. كما قال له إن طعام الموت وماء الموت سيقدَّمان له في السماء، وعليه ألَّا يأخذ منهما شيئًا.

وعندما مثل آدابا أمام آنو واستجوبه قام تموز وجيزيدا بالوقوف إلى جانبه، ويبدو أن المسألة سارت في صالحه، فلم يكتفِ آنو بالعفو عنه، بل قرَّر مكافأته بضمِّه إلى صف الخالدين، طالما أنه دُعي للمحكمة واطلع على أسرار السماء. فأمر له بطعام الحياة ليأكل، إلا أن آدابا ملتزمًا بوصية إيا لم يمد يده إلى الطعام. وعندما أمر له بشراب الحياة امتنع عن الشرب. فدعاه آنو للاقتراب منه ضاحكًا وقال له: لماذا فعلت ذلك يا آدابا؟ لماذا لم تأكل ولم تشرب؟ أليست صحتك على ما يرام؟ ثم التفت إلى حاشيته وقال: خذوه وأعيدوه إلى الأرض. وهكذا خسر آدابا الحياة الأبدية لأنه لم يأكل ولم يشرب ممَّا قُدِّم له، فأعيد إلى الأرض الفانية يعمل ويتعذَّب هو وذريته من بعده.

عُثر على الأسطورة في نسختَين في مكتبة آشور بانيبال، وكل نسخة مكتوبة بخط مغاير، وتختلف قليلًا في روايتها عن الأخرى. كما عُثر على نسخة منها بالخط المسماري في أرشيف الفرعون المصري أمنحوتب الثالث، إلى جانب النصوص السامية الأخرى التي وُجدت هناك، والتي كانت تشكِّل جزءًا من التبادل الثقافي بين الحضارتَين. وقد كُتبت كلٌّ من النسختَين على لوحَين إلا أن الألواح قد وصلتنا في حالة مشوَّهة مع فقدان معظم أجزائها.

(١) أسطورة آدابا، النسخة الأولى١

(١-١) اللوح الأول

لقد أُعطي كل الحكمة […]
وأمره من أمر آنو وكلمته […].
لقد زوَّد بالفهم الكامل لإنفاذ كلمة الآلهة على الأرض.
لقد أُعطي الحكمة ولكنه لم يُمنح الحياة الأبدية.
في تلك الأزمان ابن أريدو الحكيم.
إيا خلقه ليكون أول البشر ورائدًا لهم،
وأمر إيا الحكيم كان نافذًا لا رادَّ له،
فهو البارع والفائق الحكمة بين الآلهة.
خلق آدابا الطاهر حافظًا للمعبد وقيِّمًا على الشعائر،
فكان خبَّازًا يصنع الخبز.
كان خبَّازًا يقدِّم الخبز لإريدو (مدينة إيا).
كان يقدِّم الطعام والماء كل يوم لإريدو،
وبيده الكريمة خطَّ الألواح المقدسة
التي لم تكن لتوجد لولاه.
كان يُشرع مركبه ويصطاد السمك لإريدو.
في تلك الأزمان آدابا ابن إريدو،
آدابا ابن إيا كان يئوب مساءً إلى بيته،
ويقصد بوابة المدينة في نهاية كل يوم،
ويرسي مركبه على رصيفها في ميناء القمر الجديد.
وذات مرة هبَّت الريح ودفعت بمركبه بعيدًا،
فراح يضرب بمجذافَيه بقوة
 […] في البحر الواسع.

(بقية اللوح مفقودة)

(١-٢) الكسرة الثانية

(البداية مكسورة)

لقد هبَّت ريح الجنوب وأغرقته
دافعةً إياه إلى عالم إيا.
ريح الجنوب […]
«سأكسر لك جناحك.» وما إن نطق فمه بذلك
حتى كُسر جناح الريح، ولسبعة أيام
لم تهبَّ على أرض آنو.
استدعى آنو وزيره لابرات قائلًا:
«لماذا لم تهبَّ رياح الجنوب في الأيام السبعة الأخيرة؟»
فأجابه وزيره لابرات قائلًا:
«إن آدابا ابن إيا قد كسر جناح رياح الجنوب.»
فلمَّا سمع آنو هذا القول
نهض عن عرشه وصاح قائلًا: «ليأتوا إليَّ به!»
وهنا عرف إيا بالأمر، وهو المطلع على مجريات السماء،
فألبس آدابا شَعرًا طويلًا،
وزوَّده بوشاح الحِداد يضعه عليه،
وقال له: «أي آدابا، ستمضي إلى آنو، الملك،
وفي صعودك ستأخذ طريق السماء،
وتقترب من بوابة آنو.
وسيكون في حراستها تموز وجيزيدا،
وعندما يريانك سيسألانك قائلَين: أيها الإنسان،
من أجل من تبدو في هذه الهيئة؟
من أجل من ترتدي وشاح الحزن؟ فتجيب:
لقد غاب عن الأرض إلهان؛
ولذا تجدانني حزينًا عليهما. فيسألان:
ومن هما الإلهان الغائبان؟ فتجيب:
إنهما تموز وجيزيدا. وهنا سينظران لبعضهما
وسيبتسمان ويقولان لك قولًا كريمًا،
وسيتحدَّثان من أجلك في حضرة آنو،
وسيقفان إلى جانبك لدى مثولك أمام آنو.
ولسوف يقدَّم لك طعام الموت
فلا تأكله، وشراب الموت سيقدَّم إليك
لا تشربه، وسيعطونك عباءةً
فالبسها، وزيتًا فادهن به نفسك.
هذه وصاياي فاعمل بها، والكلمات
التي أقولها لك فاحفظها.»
ثم وصل رسول آنو وقال: «لقد كسر آدابا
جناح ريح الجنوب، وعليه أن يمثل أمام آنو.»
ثم أعطاه طريق السماء، وإلى السماء دفع به.
وعندما وصل إلى بوابة آنو
كان تموز وجيزيدا يقفان على البوابة،
وما إن شاهداه حتى صاحا به:
«أيها الإنسان، من أجل من تبدو في هذه الهيئة؟
آدابا، من أجل من ترتدي وشاح الحزن؟»
– «لقد غاب عن الأرض إلهان ولذا فأنا حزين.»
– «ومن هما هذان الإلهان؟»
– «إنهما تموز وجيزيدا». فنظرا إلى بعضهما،
وابتسما. وعندما دخل آدابا على آنو الملك،
رفع آنو صوته لمَّا رآه قائلًا:
«اقترب مني يا آدابا. لماذا كسرت جناح ريح الجنوب؟»
فأجاب آدابا قائلًا:
«مولاي،
لقد كنت أصطاد السمك في عرض البحر لبيت سيدي،
وكان البحر هادئًا كأنه المرآة،
ثم هبت رياح الجنوب وأغرقتني،
دافعةً بي إلى عالم سيدي،٢ وفي ثورة غضبي
لعنت رياح الجنوب.» تموز وجيزيدا
وقفا إلى جانبه وقالا لآنو كلمات حسنة،
فهدأت خواطر آنو ولبث ساكنًا:
«لماذا كشف إيا لإنسان غير مقدس
مكنونات السماء والأرض؟٣
لقد جعله قويًّا وجعل له اسمًا
فماذا نصنع به؟ هاتوا له
بطعام الحياة ليأكل منه.»
فجلبوا طعام الحياة ولكنه لم يقربه، وشراب الحياة
فلم يشرب منه. وعباءةً
جلبوا له فلبسها، وزيتًا
جلبوا له فدهن به نفسه،
فنظر آنو إليه وضحك منه:
«تعالَ إليَّ يا آدابا. لماذا لم تأكل ولم تشر؟
أليست صحتك على ما يُرام؟»
– «لقد أمرني إيا سيدي
ألَّا آكل أو أشرب.»
– «خذوه وأعيدوه إلى الأرض.»

وهكذا فعل إيا كما فعل يهوه في الأسطورة التوراتية. لقد خلق الإنسان وحجب عنه الخلود. صنعه كاملًا وحكيمًا وسيدًا، ولكنه دفعه للخطيئة المميتة؛ لأن الحياة الأبدية يجب أن تبقى وقفًا على الآلهة وحدهم. ونستطيع أن نلمح تشابهًا بين العباءة التي أُعطيت لآدابا ليلبسها وبين الرداءَين اللذَين أُعطيا لآدم وزوجه ليلبساهما عشية خروجهما من الجنة (وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصةً من جلد وألبسهما).

(٢) النسخة الثانية

(٢-١) اللوح الأول

(البداية تالفة)

عندما سمع آنو هذه الأمور
 […] وفي سورة غضبه وحنقه
 […] أرسل من عنده رسولًا
 […] غير أن إيا العليم بسرائر الآلهة العظيمة
 […] أرسل كلمة لآدابا
 […] فحضر آدابا إلى إيا الملك
 […]
ثم إن إيا العليم بما تُخفي صدور الآلهة
دلَّه على معارج السماء،
وأسدل عليه شَعرًا طويلًا،
 […] وألبسه وشاح الحزن،
وأخذ ينصحه قائلًا له:
«أي آدابا ستمضي الآن إلى آنو الملك،
فاسمع وصاياي واحفظ كلماتي،
عندما تصعد إلى السماء وتقرب بوابة آنو،
ستجد تموز وجيزيدا على بوابة آنو.»

(البقية مكسورة)

(٢-٢) اللوح الثاني

(البداية تالفة)

أمر له بالزيت فدهن به نفسه،
وطلب له العباءة فلبسها،
فضحك آنو عاليًا من فعل آدابا:
يا آلهة السماء جميعًا من حفزه على ذلك؟

ثم يمنع النقص الحاصل في السطور من إعطاء فكرة واضحة عن بقية اللوح، إلا أننا نعلم أن فعلة آدابا قد جرت الأمراض والعلل على جنسه. غير أن هذه الأمراض والعلل قابلة للشفاء عن طريق الإلهة نن كارا إلهة الشفاء. ويبدو أن هذه الأسطورة كانت تُتلى كجزء من تعويذة لشفاء المرضى.

ولقد عُثر على ختم بابلي أثار كثيرًا من الجدال بسبب تمثيله لقصة شبيهة جدًّا بقصة سقوط الإنسان التوراتية. نجد في الرسم رجلًا وامرأةً يجلسان متقابلَين وبينهما شجرة يمدان يدَيهما إلى ثمارها، وخلف المرأة تنتصب حية طويلة في وضعٍ أشبه بوضع الهامس في أذن المرأة.

فهل يحكي لنا هذا الرسم فعلًا أسطورة السقوط الأصلية؟ وهل سنجد في المستقبل النص الذي يحدِّثنا عنه؟ في الواقع إن شدة قرب الرسم للرواية التوراتية يجعلني أميل للرأي القائل بأن هذا الختم يصوِّر لنا روايةً فقدت نصوصها لتظهر في التوراة من جديد.

(٢-٣) متوازيات في أساطير الشعوب

إن الحديث عن ابتلاء الإنسان بالشرور والأمراض والأوبئة نتيجة خطئه يُحضر للأذهان عددًا من الأمثلة الموازية في ميثولوجيا الحضارات الأخرى، ومنها أسطورة باندورا اليونانية؛٤ فقد عهدت الآلهة إلى بروميثيوس وأخيه أمر تجهيز المخلوقات بما يلزمها لمواجهة عوامل الطبيعة، ومشاق الحياة على الأرض، فقام أخوه منفردًا بهذه العملية وأعطى كل شيء للحيوانات من شعر وصوف وأنياب وأظفار … إلخ … وترك الإنسان عاريًا لا سلاح ولا كساء. لكن بروميثيوس، إحساسًا منه بالمسئولية، قام بسرقة النار الإلهية من السماء، وأفشى سرها لبني البشر. فغضب زيوس أشد الغضب لفعلة بروميثيوس وقرَّر الانتقام منه، فأوعز إلى ابنه هيفستوس (فولكانو) أن يصنع نموذجًا من طين أعطاه زيوس الحياة ودعاه (المرأة)، ثم جاءت الإلهات فأعطينها من حسنهن وجمالهن وعذوبتهن، وأطلق عليها اسم (باندورا) أي سيدة النعم، وأرسل بها زيوس إلى بروميثيوس وأخيه. أمَّا الأول فقد كان حذرًا من هدية زيوس ولم يقبلها، بينما قبلها الثاني واتخذها زوجةً له. فما كان منها بعد أن استقرَّ بها المقام إلا أنْ جاءت إلى الجرة الكبيرة التي كان زيوس قد أودعها لدى الأخوَين قائلًا لهما ألَّا يفتحاها ففتحتها … ومنها خرجت إلى الأرض كل الأوبئة والأمراض والشرور، التي ما زال الإنسان مبتلًى بها حتى الآن بسبب المرأة.
وتشترك أساطير شعوب عديدة في القول بمسئولية المرأة عن فقدان الإنسان للحياة الأبدية وابتلائه بالأوبئة والأمراض، منها بعض الأساطير البدائية كأسطورة قبائل في مونتانا. تقول الأسطورة:٥

كان في قديم الزمان إله عجوز. ثم إن هذا الإله فكَّر في أن يخلق الأشياء والإنسان ومظاهر الطبيعة المختلفة، فقام إلى عمله مرتحلًا من الجنوب إلى الشمال، صانعًا في طريقه الحيوانات والطيور والجبال والأنهار والوديان والشلالات، مشكِّلًا صورة العالم كما نراه الآن. ثم إنه صنع نموذجَين من الطين على شكل امرأة وابنها، وغطَّاهما بغطاء قائلًا يجب أن تُصبحا بشرًا. ثم تركهما وعاد إليهما في اليوم التالي، ورفع عنهما الغطاء، فوجد أنهما قد تغيَّرا قليلًا، فتركهما وعاد في اليوم الثاني والثالث والرابع، حيث وجد أن التحوُّل قد تم، وأن باستطاعتهما الآن أن يكونا رجلًا وامرأة، فقال لهما انهضا وامشيا، ففعلا ذلك وسارا إلى جانب صانعهما إلى ضفة النهر، وهناك تساءلت المرأة هل نعيش للأبد أم تكون هناك نهاية لهذه الحياة؟ قال الإله: في الواقع لم أفكِّر بذلك بعد. ولكن انظرا إليَّ، سأرمي بهذه القطعة من روث الجاموس، فإن هي عامت على سطح الماء فإن الإنسان سيموت أربعة أيام فقط ثم يعود للحياة مرةً أخرى، وأمَّا إذا غرقت فسيكون هناك نهاية لحياته. ورمى القطعة فعامت، ولكن المرأة كانت طمَّاعةً وشرهةً للحياة، قالت: بل سأرمي هذه القطعة من الحجر، فإن هي عامت سنعيش أبدًا، وإن غاصت سنموت. ورمت بالحجر فغاص إلى القاع. قال الإله: حسنًا. لقد قمت بالاختيار وسيكون هناك نهاية للإنسان.

١  E. A. Speiser, Akkadian Myths and Epics (in: Ancient Near Eastern Texts, edited, Princeton), New Jersy 1969.
٢  عالم إله المياه.
٣  ربما كان هذا السطر يشير إلى مقدرة آدابا على كسر جناح الريح بقوة كلمته السحرية المستمدَّة من إيا، أو ربما كان يشير إلى نتائج الحادث حيث صعد آدابا إلى السماء وتعرَّف على ما لا يجب من الأسرار.
ويُذكِّر هذا السطر بقول يهوه في أسطورة الفردوس التوراتية: «هو ذا الإنسان صار كواحد مِنَّا عارفًا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد.»
٤  M. S. Shapiro, A Dictionary of Mythology, Granada, London and New York 1981 pp. 14, 161.
٥  Philip Freund, Myths of Creation, W. H. Allen, London 1964.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤