الفصل الثالث

الجنة التوراتية

في رواية الجنة التوراتية تعود للظهور معظم العناصر الأسطورية التي وجدناها في الأسطورة السومرية والبابلية والكنعانية؛ فالجنة في التصوُّر التوراتي هي مكان زرعه الإله في شرقي عدن، مكان راحة له ونزهة، وأسكن فيه آدم الذي خلقه. ويتطابق هذا المكان في كثير من صفاته وخصائصه مع ما رأينا من وصف الأسطورة؛ فهو مكانُ أمن وسلام يعيش الإنسان فيه بدَعة واطمئنان، غير مضطر للعمل من أجل تحصيل قُوته اليومي، حيث لا يَعرف مرضًا ولا حزنًا ولا موتًا. ويقع هذا المكان عند فم الأنهار، تنبع منه أربعة أنهار هي فيشون وجيحون وحداقل والفرات، تمامًا كالجنة الكنعانية حيث يعيش الإله إيل، رب السموات، عند منبع النهرَين العظيمَين، في وسط التيارَين. كما نجد العناصر الأسطورية الخاصة بخلق الإنسان الأول تدخل في الرواية التوراتية؛ فقد خُلق آدم من طين ومنه خُلقت زوجته حواء.

وتروي لنا حكاية آدم وحواء التوراتية عن العصر الذهبي للإنسان كما روته الأسطورة السومرية، وعن سقوطه وخسارته الخلود، كما روت أسطورة آدابا البابلية.

ولنأتِ الآن إلى الرواية التوراتية كما وردت في سفر التكوين، الإصحاحَين الثاني والثالث:

«وجبل الرب الإله آدم ترابًا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسًا حية، وغرس الرب الإله جنةً في عدن شرقًا، ووضع هناك آدم الذي جبله. وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة، وشجرة معرفة الخير والشر. وكان نهرٌ يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رءوس. اسم الواحد فيشون، وهو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب، واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع أرض كوش، واسم النهر الثالث حداقل، وهو الجاري شرقي آشور، والنهر الرابع الفرات.

وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها. وأوصى الرب الإله آدم قائلًا: من شجر الجنة تأكلان أكلًا، وأمَّا شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها؛ لأنك يوم تأكل منها تموت. وقال الرب الإله ليس جَيِّدًا أن يكون آدم وحده، فأصنع له معه نظيره. وجلب الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا آدم ذات نفس فهو اسمها … فأوقع الرب سباتًا على آدم فنام، فأخذ واحدةً من أضلاعه وملأ مكانها لحمًا. وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأةً وأحضرها إلى آدم. قال آدم هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي، هذه تُدعى امرأة لأنها من امرئ أُخذت؛ لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدًا واحدًا. وكانا كلاهما عريانَين، آدم وامرأته وهما لا يخجلان.

وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة: أحقًّا قال الرب لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ قالت المرأة للحية من ثمر شجر الجنة نأكل، وأمَّا ثمر الشجرة في وسط الجنة، فقال الرب لا تأكلا منه ولا تمسَّاه لئلا تموتا. قالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الرب عالم أنه يوم تأكلان منه تتفتَّح أعينكما وتكونان كالرب عارفَين الخير والشر. فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية المنظر، فأخذَت من ثمرها وأكلَت وأعطَت رجلها فأكل، فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق التين وصنعا لأنفسهما مآزر.

وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟ قال سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألَّا تأكل منها؟ قال آدم: المرأة التي جعلتَها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت. قال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية أغرتني فأكلت. فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذه ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعَين، وترابًا تأكلين كل أيام حياتك، وأصنع عداوةً بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأن تسحقين عَقِبه. وقال للمرأة: تكثيرًا أُكثِّر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادًا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك. وقال لآدم: لأنك سمعتَ أقوال امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلًا لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك، تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكًا وحسَكًا تُنبت لك، وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها؛ لأنك تراب وإلى تراب تعود. ودعا آدم امرأته حواء لأنها أم كل حي. وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصةً من جلد وألبسهما. وقال الرب الإله هو ذا الإنسان صار كواحد مِنَّا عارفًا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا، ويأكل ويحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أُخذ منها.»

بالإضافة لِما طرحناه سابقًا من متوازيات مع الأسطورة البابلية، أريد فيما يأتي تحليل عنصرَين هامَّين في الرواية التوراتية، كانا قد ظهرا في ملحمة جلجامش البابلية. العنصر الأول: فكرة الحصول على المعرفة عن طريق الفعل الجنسي (أكل الثمرة)، الذي يلعب دور طقس التعدية والعبور (initiation). والعنصر الثاني: دخول الحية كمسئولة عن خسارة الخلود.

فيما يتعلَّق بالعنصر الأول، تحدِّثنا ملحمة جلجامش بأن أحد الرعاة قد شاهد وهو يسوق قطيعه نحو نبع المياه، رجلًا متوحِّشًا يضاهي جلجامش قوةً وجبروتًا، وهو إنكيدو ابن البرية الذي عاش حياته مع وحوش الفلاة دون أن يعرف له أبًا أو أمًّا. فمضى الراعي إلى جلجامش يخبره بأمر ذلك المخلوق الفريد. تاق جلجامش إلى رؤية ذلك الرجل، وهو الملك الفخور بقوته التي لا يضاهيها أحد، فتفتَّق ذهنه عن حيلة يروض بها إنكيدو ويأتي به إلى المدينة. أرسل له إحدى البغايا المحنَّكات بفنون العشق والغرام، فكمنت له عند نبع المياه، وعندما أتى إنكيدو مع قطيع الغزلان لشرب الماء برزَت له المرأة كاشفةً مفاتنها. ترك إنكيدو قطيعه ولبث مع المرأة أيامًا وليالي يطارحها الغرام، ممَّا كان له كبير الأثر في تحويله عن حياته الوحشية السابقة، فيصف النص البابلي إنكيدو بعد الفعل الجنسي مع المرأة بأنه قد صار واسع الفهم والمعرفة:

تعثَّر إنكيدو في جريه. لم يعد كما كان،

ولكنه صار ذكيًّا واسع الفهم والمعرفة.١

كذلك آدم، تحوَّل عن حياة البداءة التي عاشها في الجنة إلى حياة الأرض، حياة الحضارة التي يتعب فيها الإنسان ويكد. تحوَّل آدم بعد أكل الثمرة المحرمة، ومباشرة الفعل الجنسي مع حواء، من مغمض العينَين، كليل الذهن، مغلقه، إلى كاشف البصيرة، عارف: «فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عارف أنه يوم تأكلان منه، تتفتَّح أعينكما وتكونان كالله.» وهكذا بعد مرور آدم بطقس التعدية (أكل الثمرة المحرمة، الجنس)؛ دُفع بالعقل الإنساني إلى محنته الكبرى، إلى التساؤل، التفكير، الكشف، تجاوز المعطى، ارتياد الأرض المحرمة. لقد هبط آدم من الحلم إلى الواقع، باع روحه لقاء المعرفة والحقيقة.

أمَّا العنصر الثاني، وهو ظهور الحية كمسئولة عن خسارة الخلود، فإن ملحمة جلجامش تحدِّثنا أن جلجامش العائد من سفره المضني ومعه نبتة الحياة التي تجدِّد الشباب قد:

رأى جلجامش بركة ماء بارد.
نزل فيها واستحمَّ بمائها،
فتشمَّمت الحية رائحة النبتة.
تسلَّلت صاعدةً من الماء وخطفتها،
وفيما هي عائدة تجدَّد جلدها.
وهنا جلس جلجامش وبكى.٢

فرحلته التي طاف خلالها أصقاع العالم قد انتهت إلى لا شيء، وسرقت الحية نبتة الخلود. ورغم أن الرواية التوراتية تختلف شكلًا عن ملحمة جلجامش، إلا أن الروايتَين تتفقان مضمونًا على أن الخلود وقف على الآلهة، وخسارة الإنسان له ليست نتاج غلطة، كما يبدو ظاهرًا، بل أمر مقدَّر منذ البداية. ولم يكن الإنسان ليرتكب غلطته تلك إلا تنفيذًا لمشيئة إلهية سابقة، وفي كلتا الروايتَين تلعب الحية دورًا أساسيًّا في البناء الدرامي للقصة.

أخيرًا أريد التوقُّف قليلًا عند كلمة عدن الواردة في النص التوراتي على أنها المكان الذي زرع فيه يهوه جنته. فالكلمة ربما كانت تحويرًا بسيطًا لاسم الإله أدون السوري، رب النبات والخصب والخضرة. وتعبير جنة عدن ربما كان مشتقًّا من جنات أدون المعروفة تمامًا في طقوس الخصب السورية القديمة.

يحدِّثنا جيمس فريزر في كتابه «الغصن الذهبي»٣ عن ذلك بقوله إن النساء السوريات في أعياد أدونيس، كُنَّ يصنعن سِلالًا عريضةً يملأنها بتراب ضحل، ويزرعن فيها أنواعًا متعدِّدة من النباتات والأزهار، ثم يأخذن في العناية بهذه الحدائق الصغيرة مدة ثمانية أيام، حتى تورق وتزهر. إلا أنها لا تلبث أن تموت نظرًا لضحالة الطبقة الترابية، وعدم تمكُّن النبات من مد جذوره في العمق. وهنا تحمل النساء حدائق أدونيس هذه، وقد علَّقت عليها صورة الإله، نحو البحر أو الأنهار حيث تُرمى هناك. والمغزى من هذا الطقس واضح؛ فالنمو السريع للنباتات في السلال هو رمز القوة الإخصابية الفائقة للإله أدون. وموت هذه النباتات السريع هو رمز لمصرع الإله الشاب، وتأثير ذلك على الحياة النباتية التي تتعطَّل بموته. أمَّا رمي النباتات في الماء مع صورة الإله، فهو فعل من أفعال السحر التشاكلي، يُقصد به الإيحاء للمطر كي يهطل ويروي الطبيعة التي ماتت، وبعث أدون من مرقده. هذا ويورد السيد فريزر طقوسًا مسيحيةً مشابهةً كانت ما تزال قائمةً في أوروبا، وخصوصًا في حوض البحر المتوسِّط، حيث كانت تقوم النساء في عيد الفصح ويوم الجمعة الحزينة بزرع حدائق صغيرة في أطباق، توضع عليها صورة السيد المسيح بدلًا من صورة أدونيس.

وفي اللغة العربية نستعمل تعبير جنات عدن وجنات النعيم تبادليًّا، وهنا نستطيع أن نلمح تشابهًا بين كلمة «النعيم» وكلمة «النعمان». والنعمان من أسماء أدونيس، وبقي في العربية من أصوله الآرامية، وتَسَمَّى به العرب وما زالوا. وعليه تكون جنات عدن «أدون»، وجنات النعيم «النعمان»، تسميتَين لمسمًّى واحد هو جنات أدونيس.

ولكلمة النعيم والنعمان أصداء في القواميس العربية، حيث نجد كلمة «نَعِمَ» تعني نضر واخضوضر،٤ وكذلك كلمة «الناعمة»٥ التي تعني الروضة أو الحديقة، وكلها ربما اشتقاقًا من النعمان أو أدونيس إله الزراعة والخضرة والخصب. وإلى يومنا هذا نطلق على بعض أنواع الزهور الربيعية الحمراء اسم «شقائق النعمان»؛ أي جراح أدونيس. وذلك بقية من الاعتقادات القديمة التي كانت ترى على هذه الأزهار دم الإله القتيل الذي افترسه الخنزير البري.

يفسِّر فرويد ومدرسة التحليل النفسي أسطورة الجنة على أنها انعكاس للحالة التي عاشها الفرد في رحم أمه. إن وضع الإنسان الأول في الجنة وعيشه السهل دونما مشقة أو جهد أو قلق، هو صورة لِمَا كان عليه الطفل قبل الولادة ملتصقًا برحم أمه، يأتيه غذاؤه عن طريق الحبل السري، في حالة من الاستقرار والدَّعَة والطمأنينة، حالة سوف يفتقدها في حياته الآتية كلها وحتى مماته. وسوف يبقى في حالة حنين دائم لها. وقد تجلَّى حنينه هذا في كل ما أنتج لا شعوره من أساطير تتعلَّق بفردوس قادم سيئوب إليه بعد نهاية عناء هذه الحياة.

وهناك تفسير تاريخي للأسطورة يقول به أرنولد توينبي؛٦ فمنذ عهود سحيقة تحرَّكت جماعات من المتوحِّشين العراة من موطنهم الدافئ في المنطقة الحارة، واندفعت قدمًا نحو الشمال، عند بداية الربيع وحتى نهاية الصيف. ولم يفطن هؤلاء إلى أنهم قد خلفوا أرض الدفء الدائم. وعندما انتهى شهر أيلول بدءوا يشعرون ببرد غير مستحب في الليل، واستمرَّت الحالة تسوء يومًا بعد يوم. ولمَّا كانوا لا يدركون علة هذا التغيير أخذوا يرتحلون في هذا الطريق أو ذاك هربًا من البرد. اتجه بعضهم شطر الجنوب راجعًا إلى موطنه الأصلي، وما زال جزء من ذرياتهم على حالتهم القديمة تلك إلى يومنا هذا. أمَّا من بقي هائمًا على وجهه في الاتجاهات الأخرى، فقد هلك إلا جماعةً صغيرةً ارتأت ألَّا سبيل إلى الهرب من الهواء القارس، وأنه لا بد من مواجهة الموقف. فاستعان أفرادها بملكة الإبداع، وهي أسمى ملكات الإنسانية جمعاء، وحاول بعضهم أن يجد ملاذًا بحفر الأرض، وجمع آخرون أغصانًا وأوراقًا لإقامة أكواخ دافئة، واكتسى آخرون بجلود الحيوانات. وما لبث هؤلاء المتوحِّشون أن نجحوا في اجتياز بضع خطوات، تعتبر من أكبر الخطوات في سبيل الحضارة. وهكذا نالوا البقاء حيث ظنوا في البداية أنهم هالكون. وفي غضون عملية تكييف أنفسهم للبيئة القاسية، تقدَّموا للأمام خطوات هائلةً مخلِّفين وراءهم بعيدًا الجانب المداري من الإنسانية.

إن صورة آدم وحواء في جنة عدن ما هي إلا ترديد للمرحلة الاقتصادية القائمة على الْتقاط الطعام في فترة ما قبل الحضارات. أمَّا السقوط الناتج عن الأكل من شجرة المعرفة، فيرمز إلى قَبول تحدٍّ يهدف إلى ترك هذا التكامل التام، والشروع في عملية تفاضل جديدة قد تُسفر عن تكامل جديد. كما أن الطرد من الجنة إلى عالم غير صديق يُفرض على المرأة فيه أن تلد بالحزن، وعلى الرجل أن يأكل بعرق جبينه، هو تجرِبة ترتَّبت على قَبول تحدي الحية. وما المعاشرة الجنسية بين آدم وحواء، التي تلت ذلك، إلا فعل الخلق الاجتماعي أثمرت ثمرتها في إنجاب ولدَين يمثِّلان حضارتَين؛ هابيل راعي الغانم، وقابيل زارع الأرض.

١  Alexander Heidel, the Gilgamesh Epic, Phoenix Books, Chicago, 1970.
٢  ibid.
٣  Sir James Frazer, The Golden Bough, Mcmillan, New York 1971, p. 396.
٤  القاموس المحيط: صفحة ١٨٣، سطر ١٤.
٥  القاموس المحيط: صفحة ١٨٤، سطر ٢٠.
٦  أرنولد توينبي: دراسة للتاريخ، المجلد الأول، مترجم، القاهرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤