الفصل الأول

الجحيم السومري

تقدِّم لنا الأسطورة السومرية: «جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل» وصفًا مفصَّلًا لعالم الموتى. وقد ذكرنا في فصل التكوين مقدمة الأسطورة في معرض حديثنا عن المفاهيم السومرية في الأصول.

وجدت ألواح الأسطورة في مدينتَي نيبور وأور السومريتَين، وعمل عدد من العلماء في استنساخ الألواح المكتشفة منها ونشرها. إلا أن الترجمة الكاملة للأسطورة لم تتم إلا على يد السيد س. ن كريمر. الذي عثر في متحف إسطنبول على عددٍ من كسرات الألواح التي تُكمل ما استنسخ ونَشر من الكسرات السابقة، فعمل على ترتيب النص كاملًا بشكل مفهوم وترجمه للمرة الأولى عام ١٩٣٨م.

وقد كان لترجمة هذه الأسطورة وفهم محتواها العام قيمة عظيمة؛ لأنها ألقت الضوء على مسألة لفَّها الغموض مدةً طويلة؛ فهي توضِّح أن اللوح الثاني عشر من ملحمة جلجامش البابلية هو ترجمة شبه حرفية للجزء الثاني من الأسطورة السومرية. وبذلك تحقَّقت توقُّعات مترجمي ودارسي الملحمة البابلية، عندما اعتقدوا بأن اللوح الثاني عشر ليس إلا قصةً غريبةً أُدمجت في سياق الملحمة دون أن يكون لها علاقة وثيقة بها. وسأقوم هنا بتقديم نص الأسطورة اعتمادًا على النصَّين السومري والبابلي؛ لأن النص البابلي يُكمل كثيرًا من النواقص والفجوات في النص السومري.

تجري القصة على النحو الآتي:١

بعد المقدمة ينتقل النص للحديث عن شجرة الحلبو (ربما الصفصافة) التي نمت على ضفة نهر الفرات، وعاشت وكبرت بفضل مياهه زمنًا. إلا أن ريح الجنوب هبَّت يومًا واقتلعت الشجرة فحملتها مياه الفيضان. وكانت الإلهة إنانا تسير على مقربة، فمدَّت يدها وحملت الشجرة إلى أوروك مدينتها المفضلة وموضع حرمها المقدس، حيث زرعتها في حديقتها وأولتها كل عناية واهتمام؛ لتصنع من خشبها بعد أن تكبر كرسيًّا وسريرًا.

ومرَّت السنون والشجرة تنمو وتكبر، إلا أن أفعى خبيثةً اتخذت لنفسها مسكنًا عند قاعدتها، وعلى أغصانها الضخمة بنى طائر الزو (الوارد ذكره في فصل التنين) عشًّا لصغاره، وفي وسطها اتخذت ليليث — شيطانة القفار — مقرًّا لها. وبذلك لم تعد إنانا المسكينة قادرةً على الوصول لشجرتها الحبيبة، فوقعت في غمة وأسًى، وراحت تبكي وهي الفتاة اللاهية أبدًا، الفرحة دائمًا. ثم مضت إلى أخيها أوتو إله الشمس لدى خروجه الصباحي من غرفة نومه وسردت على مسامعه قصتها مع شجرة الحلبو، ولكن أوتو تلكَّأ في مساعدتها، فهُرع إليها جلجامش ملك أوروك وبطلها المقدام (الذي رأيناه في أسطورة سومرية أخرى يقتل وحش غابة الأرز)، لابسًا درعه السميك وحاملًا فأسه الجبارة، فقتل الحية عند قاعدة الشجرة. فلمَّا رأى طائر الزو هذا المشهد فرَّ هاربًا بصغاره إلى الجبال، أمَّا ليليث فقوَّضت بيتها وعادت إلى القفار حيث اعتادت أن تصيد. عند ذلك عمد رجال أوروك ممن رافقوا جلجامش إلى قطع الشجرة وتقديمها لإنانا لتصنع لنفسها منها الكرسي والسرير. ولكن إنانا اعترافًا منها بفضل جلجامش صنعت له من قاعدة الشجرة آلةً موسيقيةً هي البكو، ومن قمتها صنعت له آلةً أخرى هي المكو — ربما كانت الأولى طبلًا والثانية عصاة — وقدَّمتها له هدية. ففرح البطل بالهدية، وراح مسرورًا بها يعزف هنا وهناك إلى أن سقطت منه في كُوة إلى العالم الأسفل، فمدَّ يده وساقه لاسترجاعها دون طائل، فجلس هناك يندب ما ضاع منه:

أيا بكِّي من سيعيدك إليَّ من العالم الأسفل؟
ويا مكِّي من سيرجع بك من العالم الأسفل؟

(وهنا يسمعه خادمه إنكيدو الذي رافقه في الأسطورة السابقة إلى أرض الأحياء، وقاتل معه الوحش الرهيب، ويخفُّ إليه ملهوفًا):

لماذا يا سيدي تبكي؟ وعلامَ يتوجَّع قلبك؟
بكُّك سآتيك به من العالم الأسفل،
ومكُّك سأُرجعه إليك من العالم الأسفل.

(فينصرف جلجامش إلى تحذيره من مخاطر النزول إلى تلك الأرض، شارحًا له قوانين عالم الموات، وما يجب عليه أن يفعل وألَّا يفعل هناك):

«إذا عزمت على النزول إلى العالم الأسفل،
فإن لديَّ كلمةً أقولها لك فاستمع لها،
ونصيحةً أضعها أمامك فخذ بها:
لا تضَع عليك ثيابًا نظيفةً وإلا خفَّ إليك الأموات.
ولا تضمِّخ نفسك بالعطور الطيبة
كي لا تجذبهم الرائحة فيتجمَّعوا حولك.
ولا ترمِ رمحًا (عند تجوالك) في العالم الأسفل
لئلا يتكأكأ عليك من أصابهم رمحك.
ولا تحمل بيدك هراوةً كي لا تهيم حولك الأشباح.
لا تضع في قدمَيك صندلًا.
وفي العالم الأسفل لا تصرخ ولا تبكِ.
لا تقبِّل زوجتك المحبوبة،
ولا تقبِّل ابنك الحبيب،
ولا تضرب ابنك الذي تكره
حتى لا يمسك بك صراخ العالم الأسفل،
(صراخ) تلك المضطجعة أم ننازو، تلك المضطجعة٢
التي لا يغطِّي جسدها رداء،
ولا يستر صدرها الحرام غطاء.»
فلم يعطِ إنكيدو أذنًا صاغيةً لمشورة سيده.
وضع عليه [حلةً نظيفة]،
فهجم الأموات عليه وتصايحوا،
ودهن نفسه بالعطور الثمينة،
فتجمَّعوا لفوحانها حوله.
ورمى حربته في العالم الأسفل،
فحاق به من [أصابتهم] حرابه.
 [وأمسك] بيده هراوة،
فتراقصت أمامه الأشباح.
 [وانتعل] في قدمَيه صندلًا،
 [وأحدث] جلبةً [في العالم الأسفل].
قبَّل زوجته التي يحب،
وضرب زوجته التي يكره.
قبَّل ابنه الذي يحب،
وضرب ابنه الذي يكره.
فأمسك به صُراخ العالم الأسفل،
(صراخ) تلك المضطجعة أم ننازو، تلك المضطجعة
التي لا يغطِّي جسدها رداء،
ولا يستر صدرها الحرام غطاء،
ومنعت عنه الصعود من عالم الأموات.

ولدى تأخُّر إنكيدو في العودة عرف جلجامش ما حدث له، فاضطرب فؤاده وهُرع إلى نيبور (إيكور في النص البابلي) مدينة الإله إنليل، فسجد أمامه وبكى طالبًا معونته:

 […] بكى السيد ابن ننسون خادمه إنكيدو:
«أيها الأب إنليل، لقد سقط بكِّي إلى العالم الأسفل،
كما سقط مكِّي إلى العالم الأسفل (أيضًا).
فأرسلت إنكيدو ليرجعهما، ولكن العالم الأسفل أمسكه.
لم يقبض عليه نمتار ولا أمسك به آشاك،
ولكن العالم الأسفل أمسكه.
لم يسقط في المعركة، في ساح البطولة،
ولكن العالم الأسفل أمسكه.»
فلم يُجِبه إنليل بكلمة، فمضى إلى إيكيشيرجال موطن سن:
«أيها الأب، سن لقد سقط مكِّي إلى العالم الأسفل،
كما سقط بكِّي إلى العالم الأسفل (أيضًا).

(تكرارًا لما سبق أن قاله للإله إنليل)

فلم يُجِبه سن بكلمة. فمضى إلى أيابسو موطن إيا:
«أيها الأب إيا لقد سقط مكِّي إلى العالم الأسفل،
كما سقط بكِّي إلى العالم الأسفل (أيضًا).

(ويتكرَّر هنا للمرة الثالثة مقطع احتجاز إنكيدو)

وعندما [سمع] الأب إيا [ذلك]
 [قال لنرجال] البطل الصنديد:
«نرجال يا أيها الصنديد، [يا ابن بيليتالي]،
فلْتفتح الآن ثقبًا في العالم الأسفل،
تستطيع منه روح إنكيدو الصعود من العالم الأسفل،
 [فيشرح مسالك العالم الآخر لأخيه].»
وعلى الفور فتح نرجال ثقبًا في العالم الأسفل،
فانسلَّت من خلاله روح إنكيدو وكأنها الهواء،
وتعانق (الصديقان) وقبَّلا بعضهما بعضًا،
ثم أخذا يتحدَّثان ويتحاوران:
– أخبرني أيها الصديق، ألَا أخبرني أيها الصديق،
حدِّثني عن مسالك العالم الذي شهدت.
– لن أُخبرك أيها الصديق، لن أخبرك،
ولكن إذا كان عليَّ أن أُخبرك بمسالك العالم الذي رأيت
اجلس (أوَّلًا) وابكِ.
– سأجلس أوَّلًا وأبكي.
 [إن جسمي …] الذي لم تلمسه في العناق وقلبك مبتهج،
تنهشه الهوام حتى غدا كالخرقة،
(جثة) مليئة بالتراب.
فصرخ: يا ويلاه! وسقط على وجهه في التراب.
صرخ جلجامش: يا ويلاه! وسقط على وجهه في التراب:
– هل رأيت الذي لم ينجب أولادًا؟
– نعم، لقد رأيت.

(سطران مكسوران)

– هل رأيت الذي أنجب ولدًا واحدًا؟
– نعم، لقد رأيت.
إنه ساجد عند الجدار يبكي بحرقة.
– هل رأيت الذي أنجب ولدَين؟
– نعم، لقد رأيت.
إنه يسكن في بيتٍ من الآجر ويأكل الخبز.
– هل رأيت الذي أنجب ثلاثة أولاد؟
– نعم، لقد رأيت.
إنه يشرب الماء من ينابيع الأعماق.
– هل رأيت الذي أنجب أربعة أولاد؟
– نعم، لقد رأيت.
فقلبه فرحٌ كأنه […].
– هل رأيت الذي أنجب خمسة أولاد؟
– نعم، لقد رأيت.
إن يده مبسوطةٌ كالكاتب الطيب،
ويدلف إلى المكان (عالم الموتى) بيسرٍ وسهولة.
– هل رأيت الذي أنجب ستة أولاد؟
– نعم، لقد رأيت.
 […]
– هل رأيت الذي أنجب سبعة أولاد؟
– نعم، لقد رأيت.
إنه مقرب للآلهة وهو […].

(عددٌ من الأسئلة غير واضح المضمون بسبب بعض النقص)

– هل رأيت الذي قُتل في ساح المعركة؟
– نعم، لقد رأيت.
إن أباه وأمه يمسكان جسده، وزوجه تبكي عند رأسه.
– هل رأيت الميت الذي تُركت جثته في العراء؟
– نعم، لقد رأيت.
إن روحه لا تجد راحةً في العالم السفلي.
– هل رأيت الميت الذي لا تجد روحه من يعتني بها؟
– نعم، لقد رأيت.
إنه يأكل الأقذار وما يُرمى في الشوارع من فُتات.

لقد حقَّقت هذه الأسطورة مقاصد شتى؛ ففي مقدمتها أطلعتنا على آراء السومريين في التكوين، وعلى سبب وجود إريشكيجال في العالم الأسفل، ومنها عرفنا سبب تسمية عالم الأموات بكور وأحوال الموتى فيه. وبالإضافة إلى ذلك يبدو أن للأسطورة أهدافًا تتعلَّق بإقرار عددٍ من الممارسات الدينية والاجتماعية؛ ففيها حض على الإكثار من الإنجاب لأن الفرد يُعامل وفق عدد الأولاد الذين أنجبهم في الحياة. وفيها تأكيدٌ على شعائر الدفن، وعلى ضرورة تقديم القرابين لأرواح الموتى لتجد ما تأكله في العالم الآخر.

١  Alexander Heidel. The Gilgamesh Epic, Phoenix books, Chicago 1970.
  • E. A. Speiser, Akkadian Myths and Epics (in: James Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, edited, Princeton: New Jersey 1969).
  • S. N. Kramer, Sumerian Mythology, Harper and Row, New York 1961.
٢  إريشكيجال نفسها. ويظهر هذا جليًّا من متابعة الفقرات الآتية في النص البابلي لا السومري. ورغم أن ننازو هو أحد أزواج إريشكيجال، فإن الأسطورة دومًا تخضع للتغيير والتبديل، فيصبح زوجًا من كان ابنًا، وقد يغدو ابنًا من كان زوجًا. والأمثلة على ذلك كثيرة، ولا مجال هنا للدخول في هذا الموضوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤