الفصل الأول

هبوط إنانا إلى العالم الأسفل

لعل النص السومري «هبوط إنانا إلى العالم الأسفل» هو أول ملحمة خَطَّتها يد الإنسان في موضوع الإله الفادي؛ فإنانا في هذه الأسطورة تقوم بتضحيةٍ اختيارية وتنزل إلى عالم الأموات حيث تلبث ثلاثة أيام، يبدأ بعدها تابعها الأمين بالسعي لاستعادتها إلى عالم الأحياء. ولمَّا كانت هذه الإلهة تجسيدًا لقوة الإخصاب الكونية، فإن غيابها وعودتها يمثِّلان دورة الطبيعة من اختفاءٍ للحياة النباتية وسيادة الحر والجفاف، ثم الانتعاش والبعث الجديد.

وفي معرض حديثهم عن الأسطورة ومقارنتهم لها بالأسطورة البابلية اللاحقة «هبوط عشتار إلى العالم الأسفل» تحدَّث معظم الكُتَّاب عن سبب غامض دعا الإلهة في النص السومري للهبوط. السيد س. ن كريمر الذي كان له الفضل الأكبر في جمع الأجزاء المنشورة سابقًا.

لهذه الأسطورة واكتشاف أجزاء جديدة مكملة، لم يستطِع أن يقدِّم تفسيرًا للهبوط وسببًا له، كسبب عشتار التي هبطت فيما بعد لتُحرِّر حبيبها تموز. وجرى على منواله في ذلك كثيرون، رغم أن السبب يبدو واضحًا وجليًّا إن نحن وضعنا نصب أعيننا فكرة التضحية والفداء ودورهما في فكر المنطقة.

ولسنوات قليلة خلَت كان الجزء المعروف من الأسطورة يقف عند صعود الآلهة من العالم الأسفل، رغم أن النص ينتهي في موضع حَرِج يُشير إلى وجود نهاية ليست بالقصيرة. ولكننا مرةً أخرى نَدين بالشكر للسيد كريمر الذي كان له الفضل في إعطاء صيغة نهائية لنص آخر أمكن جمعه ونشره وترجمته في أواخر الخمسينيات، يكمل النص الأول ويضع له نهايةً منطقية.

(١) النص الأول١

من الأعلى العظيم تاقت إلى الأسفل العظيم.
من الأعلى العظيم تاقت الربة إلى الأسفل العظيم.
من الأعلى العظيم تاقت إنانا إلى الأسفل العظيم.
هجرت سيدتي السماء وتركت الأرض.
إنانا هجرت السماء وتركت الأرض.
إلى العالم الأسفل قد هبطت.
تركت الملك والسلطان.
إلى العالم الأسفل قد هبطت.
شدَّت إلى وسطها ألواح الأقدار القدس السبع،
وبقية الأقدار المقدَّسة جعلتها إلى يدها.
 […]
وعلى رأسها وضعت الشوغارا تاج السهول،
فمن محياها يشع الألَق والبهاء،
وبيدها قبضت على الصولجان اللازوردي،
وجيدها قد زُيِّنت بعقد أحجار كريمة،
وعلى صدرها ثبتت جواهر متلألئة،
وكفها قد رُصعت بخاتم ذهبي،
وجسدها وشَّحت بأثواب السيادة والسلطان،
ومسحت وجهها بالزيت والطيوب.
ثم مشت إنانا في طريقها للعالم الأسفل،
وإلى جانبها مشى ننشوبور رسولها،
فقالت له إنانا المقدسة:
أنت يا مصدر عوني الدائم،
يا رسولي ذا الكلمات الطيبة،
وناقل كلماتي الحقة،
إني لهابطة إلى العالم الأسفل،
فإذا ما بلغت العالم الأسفل
املأ السماء صراخًا من أجلي،
وفي حرم المجمع ابكِ عليَّ،
وفي بيت الآلهة اركض هنا وهناك من أجلي.
ألَا فلتكفهر عيناك ويعبس فمك من أجلي،
 […] من أجلي،
وكفقير شريد البس ثوبًا واحدًا من أجلي.
وإلى إيكور بيت إنليل اتجه وحيدًا،
فإذا دخلت بيت إنليل
انتحب في حضرته (قائلًا):
«أيها الأب إنليل، لا تدَع ابنتك للموت في العالم الأسفل.
لا تترك معدِنك الثمين يُلقى على التراب في العالم الأسفل.
لا تترك لازوردك الغالي يُكسر كحجارة البنائين،
ولا صندوقك الخشبي يُقطع كخشب النجَّارين.
لا تترك الفتاة إنانا للموت في العالم الأسفل.»
فإذا خذلك إنليل في هذه القضية امضِ إلى أور،
وفي أور لدى دخولك بيت … البلاد،
إيكيشرجال بيت نانا٢
ابكِ أمام «نانا» (قائلًا):
«أيها الأب نانا، لا تدَع ابنتك للموت في العالم الأسفل.
لا تترك معدِنك الثمين يُلقى على التراب في العالم الأسفل.
لا تترك لازوردك الغالي يُكسر كحجارة البنائين،
ولا صندوقك الخشبي يُقطع كخشب النجارين.
لا تترك الفتاة إنانا للموت في العالم الأسفل.»
فإذا خذلك نانا في هذه القضية امضِ إلى أريدو،
وفي أريدو لدى دخولك بيت إنكي
ابكِ أمام إنكي (قائلًا):
«أيها الأب إنكي لا تدع … (تكرار للمقطع السابق).»
إن الأب إنكي هو رب الحكمة،
الذي يعرف طعام الحياة، والذي يعرف ماء الحياة ولسوف يُعيدني
للحياة بكل تأكيد.
ثم سلكت إنانا طريقها نحو العالم الأسفل،
وإلى رسولها ننشوبار قالت: امضِ يا ننشوبار.
لا تنسَ ما أمرتك به ولا تُهمله.
ولدى وصول إنانا إلى قصر العالم الأسفل اللازوردي،
تصرَّفَت عند البوابة بطريقة أوقعتها في الإثم.
وفي قصر العالم الأسفل تكلَّمت بشكل أوقعها في الخطيئة:
«افتح يا حارس البوابة. افتح البيت.
افتح الباب يا نيتي افتح الباب. وحيدة سوف ألِج.»
ونيتي كبير حُجَّاب العالم الأسفل
أجاب إنانا الطاهرة:
من يا ترى تكونين؟
– أنا ملكة السماء. ذلك المكان الذي تُشرق فيه الشمس.
– فما الذي أتى بك إلى الأرض التي لا عودة منها؟
وإلى الطريق الذي لا يئوب منه مسافر كيف حفَّزك قلبك؟
فأجابته إنانا الطاهرة:
«إن أختي الكبرى إريشكيجال
قد مات زوجها الرب كولاجانا،
فجئت أحضر مراسم الجنازة،
… وصدقًا ما أقول.»
نيتي كبير حُجَّاب العالم الأسفل
أجاب إنانا الطاهرة:
«أي إنانا ابقَي حيث أنت،
ومليكتي إريشكيجال دعيني أكلِّم.»
نيتي كبير حُجَّاب العالم الأسفل
دخل بيت مليكته إريشكيجال، وقال لها:
«أي مليكتي. إن فتاة …
كأنها إلهة …
في الباب …
في إيانا …
لقد شدَّت إلى وسطها ألواح الأقدار القدس السبعة،
وبقية الأقدار المقدسة جعلتها إلى يدها
وعلى رأسها وضعت الشوغارا تاج السهول،
فمن محياها يشع الألق والبهاء،
وبيدها قبضت على الصولجان اللازوردي،
وجيدها قد زُيِّنت بعقد أحجار كريمة،
وعلى صدرها ثبتت جواهر متلألئة،
وكفها قد رصعت بخاتم ذهبي،
وصدرها قد أحاطت بدرع …
ووشَّحت جسدها بأثواب السيادة والسلطان،
ومسحت وجهها بالزيت والطيوب.»
عند ذلك إريشكيجال …
أجابت نيتي كبير حُجَّابها (قائلة):
«أي نيتي يا كبير حُجَّاب العالم الأسفل اقترب مني
وأعط أذنًا صاغيةً لِمَا آمرك به.
ارفع مزاليج بوابات العالم الأسفل السبع،
وعند بوابة جانزير واجهة العالم الأسفل أعلن قوانيننا،
ولدى دخول إنانا
منحنية حتى الأرض … دعها …»
نيتي كبير حُجَّاب العالم الأسفل
أطاع ما تفوَّهت به مليكته من أوامر،
فرفع مزاليج بوابات العالم الأسفل السبعة،
ولدى بوابة جانزير واجهة العالم الأسفل أعلن قوانينه،
وقال لإنانا الطاهرة:
«تعالَي فادخلي يا إنانا.»
ولدى دخولها من البوابة الأولى
خلع عن رأسها الشوجار تاج السهول.
– ما هذا الذي تفعلون؟
– أي إنانا، لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بعناية واكتمال،
فلا تُناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل.
ولدى دخولها من البوابة الثانية
اقتلع من يدها الصولجان اللازوردي.
– ما هذا الذي تفعلون؟
– أي إنانا، لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بعناية واكتمال،
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل.
ولدى دخولها من البوابة الثالثة
انتزعت عن جيدها الأحجار الكريمة.
– ما هذا الذي تفعلون؟
– أي إنانا، لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بكمال،
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل.»
ولدى دخولها من البوابة الرابعة،
التُقطت من صدرها الجواهر المتلألئة.
– «ما هذا الذي تفعلون؟
– أي إنانا، لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بكمال،
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل.»
ولدى دخولها من البوابة الخامسة
استلَّ من يدها الخاتم الذهبي.
– «ما هذا الذي تفعلون؟
– أي إنانا، لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بعناية واكتمال،
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل.»
ولدى دخولها من البوابة السادسة
نزع عن صدرها الدرع اﻟ…
– «ما هذا الذي تفعلون؟
– أي إنانا، لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بعناية واكتمال،
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل.»
ولدى دخولها من البوابة السابعة
رفعت عنها جميع أثواب السيادة والسلطان.
– «ما هذا الذي تفعلون؟
– أي إنانا، لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بعناية واكتمال،
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل.»
إريشكيجال المقدسة كانت مستويةً على عرشها،
يحيط بها الأنوناكي القضاة السبعة الذين يُصدرون الأحكام.
ركَّزوا أنظارهم عليها، أنظار الموت،
وبكلمة منهم، الكلمة التي تُعذِّب الروح،
تحوَّلت المرأة المتعبة إلى جثة،
ثم شدَّت هذه الجثة إلى وتد مغروس.
وبمرور ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ،
رسولها ننشوبور
ذو الكلمات الطيبة،
وحامل كلماتها الحقة،
أخذ يملأ السماء صراخًا من أجلها،
وبكى عليها في حرم المجمع،
وفي بيت الآلهة ركض هنا وهناك من أجلها.
اكفهرَّت عيناه وعبس فمه من أجلها،
وكفقير شريد لبس ثوبًا واحدًا من أجلها،
وإلى إيكور بيت إنليل اتجه وحيدًا،
ولدى دخوله إيكور بيت إنليل
بكى في حضرته قائلًا:
«أيها الأب إنليل لا تدَع ابنتك للموت في العالم الأسفل.
لا تترك معدِنك الثمين يُلقى على التراب في العالم الأسفل.
لا تترك لازوردك الغالي يُكسر كحجارة البنائين،
ولا صندوقك الخشبي يُقطع كخشب النجارين.
لا تترك الفتاة إنانا للموت في العالم الأسفل.»
فأجاب الأب إنليل ننشوبور قائلًا:
«ابنتي في الأعلى العظيم سارت بقدمَيها إلى الأسفل العظيم.٣
إنانا في الأعلى العظيم سارت بقدمَيها إلى الأسفل العظيم.
وشرائع العالم الأسفل، أنت تعرف ما شرائع العالم الأسفل،
ومن يا تُرى قادر على الوصول إلى ذلك المكان؟»
وهكذا لم يقف الأب إنليل إلى جانبه، بل خذله؛ فمضى إلى أور،
وفي أور لدى دخوله بيت … البلاد،
الإيكيشيرجال منزل نانا
انتحب أمام نانا قائلًا:

(تكرار لنفس الكلام الموجَّه إلى إنليل)

وهكذا لم يقف الأب نانا إلى جانبه بل خذله، فمضى إلى أريدو،
وفي أريدو لدى دخوله بيت إنكي
انتحب أمام إنكي قائلًا:

(تكرار للكلام نفسه)

فأجاب الأب إنكي ننشوبور قائلًا:
«إنني قلق على ابنتي، فما الذي حدث لها؟
إنني قلق على إنانا فما الذي حدث لها؟
إنني قلق على سيدة جميع البلاد فما الذي حدث لها؟
إنني قلق على كاهنة السموات فما الذي حدث لها؟»
ثم أخرج طينًا من تحت أظافره٤ فصنع منه الكوجارو،
وأخرج من تحت الظفر المصبوغ بالأحمر طينًا فصنع منه
الكالاتورو،
فأعطى الكوجارو طعام الحياة،
وأعطى الكالاتورو ماء الحياة،
وقال الأب إنكي لهما:

(تسعة عشر سطرًا تالفة)

«وعلى الجثة المشدودة إلى وتدها وجِّهوا أشعة النار،
وانثروا عليها من ماء الحياة ستين مرة، ومن طعام الحياة ستين؛
فتنهض إنانا من مرقدها حقًّا وصدقًا.»

(أربعة وعشرون سطرًا تالفة)

على الجثة المشدودة إلى وتدها وجَّهوا أشعة النار،
ونثروا عليها من ماء الحياة ستين مرة، ومن طعام الحياة ستين،
فنهضت إنانا
وصعدت إنانا من عالم الأموات.

ولمَّا كانت العودة من الموت أمرًا جللًا وحادثًا خارقًا، فإنه لم يكن ليتم ببساطة وسهولة. وكان على الإلهة إنانا لقاء قيامتها من بين الأموات أن تُرسل أحد الأحياء بدلًا عنها. ولضمان تنفيذ هذا الشرط قام جمع من أشباح العالم الأسفل وعفاريته من جند إريشكيجال بمرافقة إنانا ليعودوا بمن يقع عليها اختياره:

عفاريت صغيرة كأنها [من القصب]،
وعفاريت هائلة كأنها […]
مشت معها (جميعًا)،
فالماشون أمامها كانوا بلا […]، وفي أيديهم العصي
والماشون إلى جانبها كانوا بلا […]، وفي مناطقهم السلاح.
والذين تقدَّموها،
الذين تقدَّموا إنانا
كانوا مخلوقات لا تعرف الطعام ولا تعرف الشراب
ولا تأكل خبز القمح المذرور،٥
ولا تشرب من خمر القرابين.
تخطف الزوجة من حضن زوجها،
وتنزع الطفل عن صدر أمه الرءوم،
هكذا صعدت إنانا من العالم الأسفل.
وأول خروجها من عالم الأموات
قام ننشوبور يرمي نفسه على قدمَيها،
واقعًا على التراب، كاسيًا نفسه بالطين،
فقالت العفاريت لإنانا:
أي إنانا امضي إلى مدينتك، دعينا نحمله معنا.
فأجابت إنانا الطاهرة العفاريت قائلة:
«إنه رسولي ذو الكلمات الطيبة،
وحامل كلماتي الحقة،
لم ينسَ يومًا وصاياي،
لا ولم يخن يومًا أوامري.
لقد ملأ السموات صراخًا من أجلي،
وفي حرم المجمع بكى من أجلي،
وفي بيت الآلهة ركض هنا وهناك من أجلي.
لقد اكفهرَّت عيناه وعبس فمه من أجلي،
و[…] من أجلي،
وكفقير شريد لبس ثوبًا واحدًا من أجلي،
وإلى إيكور بيت إنليل،
وإلى أور بيت نانا،
وإلى إريدو بيت إنكي (مضى) ليرد إليَّ الحياة.»
فلنمضِ إذن إلى السيجورشاكا في أوما،
وهناك رمى شارا نفسه عند قدمَيها،
واقعًا على التراب، كاسيًا نفسه بالطين،
فقالت العفاريت لإنانا الطاهرة:
أي إنانا المقدسة امضي إلى مدينتك ودعينا نأخذه معنا.
فأجابتهم إنانا الطاهرة قائلة:

(الجواب مكسور)

فلنمضِ إذن إلى إيموشكالاما في بادتيبيرا،
وفي بادتيبيرا رمى لتراك نفسه من الإيموشكالاما عند قدمَيها،
واقعًا في التراب، كاسيًا نفسه بالطين،
فقالت العفاريت لإنانا الطاهرة:
أي إنانا امضي إلى مدينتك ودعينا نأخذه معنا.

(جواب إنانا وبضعة أسطر تالية مكسورة)

فلنمضِ إذن إلى كولاب مدينة دوموزي،٦
(وفي كولاب) وضع دوموزي عليه ثيابًا فاخرةً واعتلى عرشه،
فانقضَّت عليه العفاريت وجرَّته من ساقَيه.
انقضَّت عليه العفاريت السبع كما يفعلون مع الرجل العليل،
فانقطع الراعي عن نفخ نايه ومزماره٧
ثم ركَّزت (إنانا) أنظارها عليه. ركَّزت أنظار الموت،
ونطقت ضده بالكلمة. نطقت بالكلمة التي تعذِّب الروح،
وصرخت فيه صرخة الاتهام قائلة:
أمَّا هذا فخذوه.
وبذلك أسلمت إنانا دوموزي الراعي إلى أيديهم.
إن من رافقه،
إن من رافق دوموزي،
كانوا مخلوقات لا تأكل الطعام ولا تعرف الشراب،
ولا تأكل من خبز القمح المذرور،
ولا تشرب من خمر القرابين.
تخطف الزوجة من حضن زوجها،
وتنزع الطفل عن صدر أمه الرءوم.
فبكى دوموزي حتى ازرقَّ وجهه،
ورفع يدَيه إلى السماء نحو أوتو قائلًا:
أي أوتو، أنت أخو زوجتي وأنا زوج أختك،
وأنا من يحمل الزبدة إلى بيت أمك،
وأنا من يحمل اللبن إلى بيت ننجال،
فحوِّل يدي إلى حية وحوِّل قدمي إلى حية.
أنقذني من العفاريت ولا تدعهم يأخذونني.
عند هذه الضراعة تنتهي الكسرة الأخيرة التي تُكمل ما كُنَّا نعرفه عن هذا النص. إلا أن نصًّا آخر يحكي لنا مصير الإله دوموزي وُجد مُوزَّعًا على ثمانية وعشرين لوحًا وكسرة، جرى اكتشافها وتجميعها من متاحف العالم تدريجيًّا. ورغم أن الكسرة الأولى قد نُشرت منذ عام ١٩١٥م، فإن شكلًا واضحًا وذا معنًى للنص لم يمكن الحصول عليه حتى عام ١٩٥٢م، عندما استطاع عالم السومريات الكبير السيد Thorkild Jacobson نشر الجزء الأكبر من النص، وبعده قام بإكمال المهمة السيد S. N. Kramer الذي عثر في متحف إسطنبول على باقي القطع فاستنسخها ونشرها، ثم قام بإعطاء لمحة عامة عن النص.

يعود النص إلى عام ١٧٥٠ق.م.، ويمكن القول إنه مستلهم من نص هبوط إنانا؛ وذلك للتشابه الحرفي في بعض المقاطع. ولربما كان نسخةً من الجزء الأخير الضائع للنص قامت يد الناسخ بإجراء بعض التعديلات عليه. وأنا من المُرجِّحين لهذا الاحتمال؛ ولذا فإني أدعو قُرَّائي لاعتبار هذا النص بمثابة تكملة طبيعية للنص السابق. وهو في رأيي من أجمل ما خطَّته يد الكاتب السومري.

(١-١) مصير دوموزي٨

لقد امتلأ قلبه (حزنًا) ودموعًا،
فمضى إلى السهول (الواسعة).
امتلأ قلب الراعي (حزنًا) ودموعًا،
فمضى إلى السهول (الواسعة.)
امتلأ قلب دوموزي (حزنًا) ودموعًا،
فمضى إلى السهول (الواسعة).
علَّق نايه حول عنقه
وراح يبكي وينوح:
«ردِّدي بكائي، رددي بكائي،
أيتها السهول ألَا فلتبكِ معي،
أيتها السهول ألَا فابكِ معي ونوحي عليَّ.
أسمعي بكائي سراطين النهر،
وأسمعي نُواحي ضفادع الساقية،
دعي أمي تندب فقدي،
أمي التي لا تملك خمسة أرغفة فلتبكي عليَّ،
أمي التي لا تملك عشرة أرغفة فلتبكي عليَّ؛
لأنها لن تلقى من يُعنى بها يوم أموت.
وأنت يا عيني، تائهة في السهول، فلتدمعي كعين أمي.
وأنت يا عيني، تائهة في السهول، فلتدمعي كعين أختي.»
بين الأزاهير استلقى، بين الأزاهير استلقى،
بين الأزاهير استلقى الراعي دوموزي،
وبينما هو نائم بين الأزاهير رأى حلمًا،
فنهض من نومه مذعورًا ممَّا رأى،
وعرك عينَيه بكفَّيه ورأسه يدور.

(ثم يمضي دوموزي المذهول إلى أخته جشتينانا الشاعرة والمغنية ومفسِّرة الأحلام، فيقص عليها رؤياه):

«أختاه. سأقص عليك ما رأيت، سأقص عليك الحلم الذي رأيت:
من حولي كان السمار٩ ينمو ويندفع بسرعة من باطن التربة.
وسمارة وقفت وحيدةً وحنت رأسها أمامي.
كل السمار وقف في أزواج إلا واحدة أُزيلت من مكانها،
وفي الغيضة انتصبت حولي، انتصبت من الأرض أشجار طوال مرعبة،
وعلى مرقدي المقدَّس انسكب ماء بارد،
وممخضتي١٠ خاوية قد أُزيل ما بها،
وكوبي المقدس قط سقط من مشجب تعليقه،
وعصا الراعي قد تلاشت وذهبت ريحها،
وهناك كانت بومة …
وصقر يحمل حملًا بين مخالبه،
وماعزي الفتية تُجرجر لحالها اللازوردية في التراب،
أمَّا شياه حظيرتي فقد لمست الأرض قوائمها المنحنية.
(نعم) ممخضتي محطَّمة لا لبن فيها،
وكوبي قد انكسر. فدوموزي لم يعد بين الأحياء،
وحظيرته قد راحت نهبًا للرياح.»

(فتجيبه أخته):

«أواه يا أخي. إن الحلم الذي قصصت ليس حلمًا طيبًا.
أواه يا دوموزي. إن الحلم الذي قصصت ليس حلمًا طيبًا:
من حولك كان السمار ينمو ويندفع بسرعة من باطن التربة،
(وهذا يعني) أن عُصبةً من السفَّاحين ستنقَض عليك،
(أمَّا عن) السمارة الوحيدة (التي) وقفت وحنت رأسها أمامك؛
(فهذا يعني) أن أمك التي ولدتك ستحني رأسها من أجلك.
(وعن) كل السمار الذي وقف أزواجًا إلا واحدةً أُزيلت من مكانها.
(فذلك يعني) أنها تقول لك: أحدنا يجب أن يغيب.»

ثم تمضي جشتنانا في تفسير حلم أخيها فقرةً فقرةً إلى أن تنتهي بتحذير أخيها من الجالا، وهم عفاريت العالم الأسفل، سيُطبقون عليه ويحملونه إلى هناك. وأن عليه الاختفاء من وجههم. فيعمل دوموزي بنصيحة أخته ويُغادرها موصيًا إياها ألَّا تبوح بمكان اختبائه.

«أي صفيتي، سأختبئ بين الأعشاب
فلا تخبري أحدًا بمكمني.
سأختبئ بين الأعشاب القصيرة،
فلا تخبري أحدًا بمكمني.
سأختبئ بين الأعشاب الطويلة،
فلا تخبري أحدًا بمكمني.
سأختبئ بين القنوات والترع،
فلا تخبري أحدًا بمكمني.»
فتجيبه أخته:
«لتنهشني كلابك الضارية إن بُحت بمكمنك،
الكلاب السوداء، كلاب حراسة قطعانك،
الكلاب المتوحِّشة، رمز سلطانك،
نعم فلتنهشني كلابك.»
ثم تأتي العفاريت التي
لا تأكل الطعام ولا تعرف الشراب
ولا تقرب ماء القرابين،
لا تقبل الأُعطيات التي تهدئ الخواطر،
ولا تسكن لحضن زوجة،
ولا تُقبِّل الطفل الجميل.
فيحاولون استمالة الأخت وحثَّها بشتى الوسائل على إفشاء سر دوموزي، ولكن عبثًا. إلا أن دوموزي الذي يخشى أن ينال أخته شر على يد الأشباح القساة يعود من تلقاء ذاته ويسلِّم نفسه، فينقضُّون عليه ويوثقون يدَيه وقدمَيه، ثم يوسعونه ضربًا بالعصي والسياط، ويهيِّئونه للرحيل معهم. وهنا يتجه بالدعاء إلى أوتو١١ يستغيثه:
«أي أوتو أنت أخو زوجتي وأنا زوج أختك،
أنا الذي يحمل الطعام لإيانا،١٢
في إيريك قد أتممت زواجي،
فأنا من قبَّل الشفاه الطاهرة،
وعانق الجسد المقدس، جسد إنانا،
فحوِّل يدَيَّ إلى يدَي غزال١٣
وحوِّل قدمَيَّ إلى قدمَي غزال،
حتى لا تطالني أيدي عفاريت الجالا،
وأنجو بنفسي إلى شوبيريلا.»
فتلقَّى أوتو دمعه قربانًا،
وكإله رحمة واسعة أراه من رحمته؛
حوَّل يدَيه إلى يدَي غزال،
وحوَّل قدمَيه إلى قدمَي غزال،
فلم تطله أيدي عفاريت الجالا،
ونجا بنفسه إلى شوبيريلا.

إلا أن الأشباح القاسية تُدركه مرةً أخرى وتأخذ بضربه وتعذيبه، فيطلب من أوتو مجدَّدًا أن يحوِّل يدَيه ورجلَيه إلى قوائم غزال فيفر هاربًا. ومجدَّدًا يستجيب له أوتو، فيُهرع دوموزي إلى بيت إلهة اسمها بيليلي:

«أيتها السيدة العجوز الحكيمة. لست بشرًا ولكنني زوج إلهة،
فدعيني أشرب من ماء القرابين قليلًا،
ومن الطحين المذرور دعيني آكل بعضًا.»

ولم يكد دوموزي يلتقط أنفاسه ويتناول بعض الطعام والشراب حتى تتسلَّل الأشباح إلى بيت السيدة العجوز، وأخذوا بضرب الإله المنكود للمرة الثالثة. ولكنه أيضًا بمساعدة أوتو هرب إلى حظيرة أخته، وهناك كانت نهايته حيث:

دخل الحظيرةَ العفريت الأول،
وضرب خدود دوموزي بمسمار طويل نفَّاذ،
وتبعه إلى الحظيرة العفريت الثاني،
فراح بضرب وجه دوموزي بعصا الراعي،
ثم دخل إلى الحظيرة العفريت الثالث،
وأزال ما في الممخضة ورماها خاوية،
وتبعه إلى الحظيرة العفريت الرابع،
فرمى الكوب المقدس عن مشجب تعليقه،
ثم دخل الحظيرة العفريت الخامس،
فحطَّم الممخضة الخاوية من لبنها،
وكسر الكوب. فدوموزي لم يعد بين الأحياء،
وحظيرته قد راحت نهبًا للرياح.

وعلى هذه الصورة تنتهي أسطورة هبوط إنانا بمشهد يخلع الأفئدة حتى وقتنا هذا. لقد تنعَّم الإله الراعي بحب إنانا فترةً طويلة، ولكن كان عليه أن يدفع ثمن عدم اكتراثه بزوجه والحداد عليها. وكان ثمنًا فادحًا جدًّا، فدوموزي قد حمل مرغمًا إلى عالم الأموات بديلًا عن الإلهة الوحيدة التي تغلَّبت على الموت وقهرته، وخرجت منه ظافرة منتصرة لحياة جديدة. وهنا تكتمل أسطورة قابيل وهابيل؛ فالراعي الذي فضَّلته إنانا على الفلاح أنكمدو في أسطورة سابقة وتزوَّجت منه تعود لتقضي عليه بنفسها، ويصبح موته شرطًا لعودة القوة الإخصابية من عالم الأموات لتنعش الأرض من جديد، وتنتصر الزراعة على الرعوية على أصوات صرخات دوموزي القتيل الذي تجره عفاريت العالم الأسفل، وصرخات قابيل الذي هوَت على رأسه ضربات أخيه الفلاح، وصوت الرب المدوي يلاحقه أينما ذهب: «أين قابيل أخوك؟ …» وبصعود إنانا يكتمل درام الفداء الإلهي. لقد تركت سيدة السموات عرشها ونزلت مختارةً درجات الموت السبع مضحيةً بكل شيء في مقابل نتائج غير أكيدة وأمل ضعيف في العودة إلى الحياة، ولكن الحياة تنتصر، وتقهر إلهة الحياة قوى الموت، فتنقضُّ من مرقدها حيث عُلِّقت جثةً هامدةً على وتد، وتنبعث في عودة مستحيلة متجدِّدة شابةً كأنها الفينيق، ذلك الطائر العجائبي الذي يحرق نفسه كلما شاخ لينبعث من رماده مجدَّدًا فينيق آخر غَضٌّ وقوي وشاب. هكذا الطبيعة المتجدِّدة التي تموت وتجف، ولكنها ما تلبث أن تنبعث بشكل مذهل. لقد ظهرت الحياة على الأرض نتيجةً لتضحية إله، وهي تستمر نتيجةً لتضحية إله آخر وفدائه.

على أن دوموزي الذي كان ذهابه إلى العالم الأسفل ضروريًّا للإفراج عن إنانا، لم يبقَ في ضمير العباد مجرَّد ضحية مسكينة، بل تحوَّل إلى بطل؛ فهو شريك في ملحمة الفداء، وطرف هام لا تكتمل الملحمة دونه؛ ولذا تراه في نصوص أخرى يمضي إلى الموت ببطولة لينجز دوره:

انهض أيها البطل وامضِ في طريق اللارجوع.
ها هو يغيب، ها هو يغيب في حضن الأرض،
سيغمر أرض الأموات بالخيرات العميمة.
امضِ أيها البطل إلى الأرض البعيدة خلف مدى الأبصار.١٤

وموقف إنانا من تموز، ذلك الذي يحتوي على تركيب لنقيضَين هما الحب والكراهية، رغبة الحياة ورغبة الموت، نجد له متوازيات في ميثولوجيا الشعوب الأخرى؛ فبعض الإلهات لم يكُنَّ يجدن غضاضةً في إهلاك محبيهن، ثم استردادهم للحياة مرةً أخرى، وللحب. ففي الأسطورة اليونانية نجد أن أدونيس يُقتل من قِبل الخنزير البري، وهو الحيوان المقدَّس لدى حبيبته أفروديت وأحد رموزها. وبذلك يكون أدونيس قد قُتل من قبل حبيبته بصورة غير مباشرة. غير أن الرعب الذي تُلقيه أمثال هذه القصص في قلوب قُرَّاء العصر الحديث هو آخر ما كانت الأسطورة تهدف إليه؛ فبدون الموت لم تكن هناك حياة جديدة تحل محل الأولى التي غدت بائسةً رتيبةً وبلا معنًى باعتمادها على الخير وحده.

لقد أوردت إنانا عشيرها موارد التهلكة، ولكنها هي بالذات من سيقوم بتخليصه من أسره واسترجاعه من العالم الأسفل. وسيكون حبها له والْتصاقه بها العنصرَين الأساسيين في عملية الاستعادة. لقد حقَّقت إنانا لنفسها عودةً مستحيلةً من عالم الأموات، وهذه العودة ستُصبح نموذجًا بدئيًّا لكل عودة إلى الحياة، نموذجًا سينظر إليه البشر بأمل طالما بقي هناك حياة وموت. وسيحاولون الاتحاد بذلك الإله الميت الذي بُعث، والالتصاق به في مجموعة من الطقوس السرية التي من شأنها، في اعتقادهم، جعلهم جزءًا متوحِّدًا معه، فيسيرون على طريقه، ويُنشَلون معه من الموت المؤقَّت، إلى حياة جديدة ثانية بعيدة عن العالم الأسفل: «من آمن بي وإن مات فسيحيا» يقول السيد المسيح.

والبعث الجديد سيصبح فيما بعد وقفًا على أتباع الإله الميت ممن دخلوا في عبادته وأدَّوا الطقوس الإدخالية المفروضة واتحدوا به عبر مجموعة من الطقوس والعبادات.

وهكذا نجد أن إنانا في الأسطورة السومرية تُرسل بدوموزي إلى الموت، ولكنها في الأسطورة البابلية تقوم بتخليصه من الموت. وتشرع برحلتها إلى العالم الأسفل لهذه الغاية. وتُحقِّق لحبيبها العودة المستحيلة كما حقَّقتها لنفسها قبلًا، وكما ستحقِّقها للأتباع المخلصين ممن سيلتصقون بها في الفترات المتأخِّرة لتطوُّر الديانات الشرقية.

١  S. N. Kramer, Sumerian Mythology, Harper and Row, New York 1961.
٢  نانا هوسن إله القمر.
٣  تصرَّفت قليلًا في ترجمة هذه الأسطر الأربعة.
٤  الطين مادة أليفة لإنكي لأنه يسكن الأعماق المائية.
٥  نوع خاص من التقدُّمات.
٦  هذا السطر افتراض، وقد استحدثته للربط بين الكسرة الأخيرة من النص وما قبلها.
٧  أي دوموزي الذي كان يعزف في ذلك الوقت.
٨  S. N. Kramer, Mythology of the Ancient World, Anchor Books, New York (His chapter on Sumerian Mythology).
٩  السمار: أو الأسل، نبات أوراقه أسطوانية تُستعمل في صنع بعض أنواع الكراسي أو المكانس.
١٠  الممخضة: ما يستعمله الرعاة لمخض اللبن.
١١  إله الشمس وأخو إنانا.
١٢  معبد إنانا.
١٣  في النص السابق يطلب أن تتحوَّل يده إلى حية وقدماه كذلك.
١٤  J. L. Hendereson, The Wisdom of the Serpent, Collier Books, New York 1971.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤