الفصل الثاني

هبوط عشتار إلى العالم الأسفل

تحذو الأسطورة الأكادية حذو نموذجها السومري، ويغدو الهيكل العام للنزول الثاني صورةً تكاد تكون طبق الأصل عن النزول الأول، بحيث يشكِّل النص بمجموعه مثالًا ناطقًا عن التأثُّر الشديد للفكر والأدب الأكادي بالنماذج السومرية السابقة، وسيطرة الفكر السومري على ثقافة المنطقة؛ فدوموزي في النص البابلي هو تموز كما صار يُدعى، أمَّا إنانا فتبدو باسمها الأكادي الجديد: عشتار.

إلى الأرض التي لا عودة منها، إلى أرض [إريشكيجال] ١
اتجهت عشتار ابنة سن بأفكارها.
نعم، ابنة سن اتجهت بأفكارها
إلى دار الظلام ومسكن أركالا،٢
إلى الدار التي لا يرجع منها الداخل،
إلى الدرب الذي لا يقود صاحبه من حيث أتى،
إلى المكان الذي لا يرى سُكَّانه نورًا ولا ضياءً،
حيث الغبار طعامهم والتراب معاشهم،
يسبحون في الظلام فلا بصيص ولا شعاع،
عليهم أجنحة تنقلهم كالطيور،
بين أرجاء مسكنهم الذي علا الغبار أبوابه ومزاليجه.
وعندما وصلت عشتار إلى بوابة الأرض اللارجوع
نادت حارسة البوابة:
«افتح بابك يا حارس البوابة،
افتح بابك ودعني أدخل،
فإن لم تفتح بابك لأدخل منه؛
فسأحطمه وأكسر مزاليجه،
سأخلع عوارضه وأرمي مصاريعه،
وأطلق الموتى إلى سطح الأرض فيأكلون سُكَّانها،
ويزداد عدد الأحياء على عدد الأموات.»
ففتح حارس البوابة فمه وقال:
«رويدك سيدتي لا تُلقي بالباب أرضًا،
سأُهرع وأُعلن قدومك للملكة إريشكيجال.»
(ثم مضى) ودخل على إريشكيجال قائلًا:
إن أختك عشتار [واقفة بالباب]،
(تلك) التي تقود الاحتفالات، وتحرِّك المياه السفلية أمام إيا.
فلمَّا سمعت إريشكيجال هذا؛
شحب لونها حتى غدا كلون شجرة مُجتَثَّة،
واسودَّت شفتاها حتى غدتا بلون الكينينو المقطوع:
«ما الذي حفَّزها لتحضر إليَّ؟ ما الذي وجَّه أفكارها إليَّ؟
إني إذن سأشرب الماء مع بقية الأنوناكي،
وبدل الطعام سألتهم التراب، وبدل الجعة ماء العكر٣
إني إذن سأبكي الفتيات اللواتي انتزعن من أحضان الأحبة،
وأندب الطفل الضعيف الذي قضى قبل أوانه،
والرجال الذين خلَّفوا وراءهم زوجاتهم.
امضِ يا حارس البوابة وافتح لها الأبواب،
ثم عاملها وفقًا للشرائع القديمة.»
فمضى البواب وفتح لها:
«ادخلي سيدتي؛ فالعالم الأسفل يحييك بسرور،
وسيبتهج من أمامك قصر اللارجوع.»
ولمَّا مرَّ بها عبر البوابة الأولى، رفع عن رأسها التاج العظيم.
– «لماذا يا حارس البوابة أزحت عن رأسي التاج العظيم؟
– ادخلي سيدتي فهذه شرائع ربة العالم الأسفل.»
ولمَّا مرَّ بها عبر البوابة الثالثة رفع عن جيدها العقود.
– «لماذا يا حارس البوابة رفعتَ عن جيدي العقود؟
– ادخلي سيدتي فهذه شرائع ربة العالم الأسفل.»
ولمَّا مرَّ بها عبر البوابة الرابعة نزع عن صدرها الحلي.
– «لماذا يا حارس البوابة نزعتَ عن صدري الحلي؟
– ادخلي سيدتي فهذه شرائع ربة العالم الأسفل.»
ولمَّا مرَّ بها عبر البوابة الخامسة انتزع عن وركها تعويذة الولادة المرصَّعة بجواهر الميلاد.٤
– «لماذا يا حارس البوابة انتزعت عن وركي تعويذة الولادة المرصَّعة؟
– ادخلي سيدتي فهذه شرائع ربة العالم الأسفل.»
ولمَّا مرَّ بها عبر البوابة السادسة نزع الأساور عن يدَيها وقدمَيها.
– «لماذا يا حارس البوابة نزعت الأساور عن يدَي وقدمَي؟
– ادخلي سيدتي فهذه شرائع ربة العالم الأسفل.»
ولما مرَّ بها عبر البوابة السابعة نزع عنها ثياب جسدها.
– «لماذا يا حارس البوابة نزعت عن جسدي ثيابي؟
– ادخلي سيدتي فهذه شرائع ربة العالم الأسفل.»
فلمَّا صارت عشتار في قلب العالم الأسفل
وقع عليها نظر إريشكيجال فاستعر غضبها.
ولكن عشتار اندفعت دونما تفكُّر نحوها.
ففتحت إريشكيجال فمها قائلةً لوزيرها نمتار:
«امضِ يا نمتار، اصعد بها قصري وأغلق عليها هناك،
ثم أطلق ضدها. أطلق ضد عشتار ستين عِلَّة.
ضد عينَيها أطلق عِلَل العيون،
ضد أضلاعها أطلق عِلَل الأضلاع،
ضد أقدامها أطلق عِلَل الأقدام،
ضد أحشائها أطلق عِلَل الأحشاء،
ضد رأسها أطلق عِلَل الرأس.
ضد كل أجزائها، ضد كل جسدها (فلتطلق العِلَل).»
بعد أن هبطت السيدة عشتار إلى أرض اللاعودة
اضطجع الرجل وحيدًا في غرفته، ونامت المرأة على جنبها وحيدة.٥
بابسوكال وزير الإلهة العظيمة
ارتدى وشاحًا، وشعرًا طويلًا،
ومضى باكيًا إلى أبيه سن،
وفاضت دموعه أمام إيا الملك:
لقد مضت عشتار إلى العالم الأسفل ولم تصعد ثانية.
ومنذ أن غابت عشتار في العالم الأسفل
 […]
 […]
اضطجع الرجل وحيدًا في غرفته، ونامت المرأة على جنبها وحيدة.
 […]
قلَّب إيا الحكيم الأمر على وجوهه فخطر له خاطر؛
صنع أصوشونامير المخلوق الخصي (وقال له):
«امضِ يا أصوشونامير إلى بوابة عالم اللارجوع.
يمم شطرك يا أصوشونامير نحو بوابة عالم اللارجوع،
وستُفتح أمامك بوابات ذلك العالم السبع،
وتراك إريشكيجال وتبتهج لحضورك.
فإذا هدأت خواطرها نحوك واستقرَّت نفسها لك،
دعها تقسم بجميع الآلهة العظيمة،
ثم ارفع رأسك وحول نظرك إلى قربة ماء الحالزاكو
قائلًا:٦
«سيدتي. هلَّا أمرتِ لي بقربة ماء الحالزاكو فأشربَ منها.»
فلمَّا سمعت إريشكيجال هذا القول٧
ضربت حجرها (بكفَّيها)، وعضَّت على أصابعها:
«لقد أبديتَ رغبةً ما كان لك أن تبديها،
والآن يا أصوشونامير سألعنك لعنةً عظيمة،
فيكون طعامك من مجارير المدينة (أبد الدهر)،
وترد بالوعات البلدة لأجل شرابك،
من ظلال الحيطان تتخذ لك مسكنًا (دون البيوت)،
ومن عتبات الأبواب ملجأً (وملاذًا).
عطشان لا تجد ما تتبلَّل به، فإذا وجدت تتفجَّر ولا ترتوي.»٨
ثم التفتت إلى وزيرها نمتار قائلة:
«امضِ يا نمتار واقرع باب اﻟ (إيجالينا)،٩
زيِّن العتبة بحجر الإيريتو،
استدعِ الأنوناكي ودعهم يجلسون على عروشهم الذهبية،
ثم انضح عشتار بماء الحياة وخذها بعيدًا عني.»١٠
فمضى نمتار وقرع باب الإيجالينا،
وزيَّن العتبة بحجر الإيريتو،
استدعى الأنوناكي وجعلهم يجلسون على عروشهم الذهبية،
ثم نضح عشتار بماء الحياة وأخذها بعيدًا عن إريشكيجال،
ولمَّا مرَّ بها عبر البوابة الأولى أعاد إليها ثياب جسدها.
ولمَّا مرَّ بها عبر البوابة الثانية أعاد الأساور إلى يدَيها وقدمَيها.
ولمَّا مرَّ بها عبر البوابة الثالثة أعاد إلى وركها تعويذة الولادة المرصَّعة.
ولمَّا مرَّ بها عبر البوابة الرابعة أعاد إلى صدرها جميع الحلي.
ولمَّا مرَّ بها عبر البوابة الخامسة أعاد إلى جيدها العقود.
ولمَّا مرَّ بها عبر البوابة السادسة أعاد إلى أذنَيها أقراطها.
ولمَّا مرَّ بها عبر البوابة السابعة أعاد إلى رأسها التاج العظيم.
فإن لم تعطِه الفدية المقرَّرة كان عليه إرجاعها من حيث أتت.
أمَّا تموز زوجها الشاب:
«(فخذوه)١١ واغسلوه بماء طهور، وضمِّخوه بالعطور الطيبة.
ألبسوه عباءةً حمراء ودعوه يعزف بنايه اللازوردي.
ولْتُحِط به كاهنات عشتار يُهدئن من خواطره.»

ثم يلتقي الزوجان على سطح الأرض مرةً أخرى في المقطع الأخير لهذه الأسطورة. وهذا المقطع ما زال غامضًا رغم كماله وعدم وجود نقص أو خرم في اللوح. وهو يشكِّل الأسطر العشرة الأخيرة من النص الذي ينتهي بالتذييل الآتي:

قصر آشور بانيبال، ملك العالم وآشور،
الذي وهبه نابو وتاشميتو فهمًا عظيمًا.

لقد هبطت إنانا وحيدةً درجات الموت السبع، ثم عادت وحيدةً منتصرةً وقد حقَّقت ولادةً ذاتيةً وتجدُّدًا فريدًا بقواها الخاصة، مُؤكِّدةً بشكل رمزي طاقتها الإخصابية الكونية وماهيتها الأبدية المتجدِّدة في صراعها مع قُوى الفناء والزوال. فإنانا ليست خصيبةً ولكنها الخصب. إنها جوهر هذه القوة، الحافظة للحياة، التي تقف أبدًا في مقابل القوة الهادمة للحياة. إنها الوجود في مقابل العدم، وجود حركي دينامي يُثبت نفسه أبدًا، ويحقِّق ذاته باستمرار في حركة جدلية دائبة. ثم هبطت ثانيةً تحت اسم عشتار لتنقذ تموز القتيل وتهبه من لدنها حياة، وصعدت به معها درجات الحياة السبع ليغدو صعودهما معًا نموذجًا يتطلَّع إليه الإنسان أبدًا لِمَا يستطيع إلهه الحامي أن يفعل من أجله، وصورة للخلاص من ربقة الموت بمعونة الفادي الذي يقبل أن يذوق الموت ليهب من يؤمن به الحياة.

وفي كلا الهبوطَين كانت عشتار مثالًا منهجيًّا للإلهة الأم. الأم الكونية المخصبة بذاتها، الغامرة بظلها الرحيب عالم الإنسان بجنسَيه. وفي كلا الهبوطَين كانت صورةً مستعادة، في الضمير المبدع للأسطورة لخيال الأم في عهود سحيقة عندما كانت مركز الجماعة ومنبع قيمها وجمالاتها، وعندما كان الذكر تابعًا في مجتمع تتخذ فيه الأم لا الأب دور القائد. لقد أرسل تموز في المرة الأولى إلى الموت بناءً على أوامرها، ثم عاد في المرة الثانية بدافعٍ من رغبتها العارمة في استعادته. وفي كلا الحالَين كانت هي المرأةَ المسيطرة القوية، المكتفية. وكان هو الذكر الضعيف المعتمد عليها اللائذ بأحضانها.

إن هبوط عشتار توكيد لحق الأنوثة ودورها في مجتمع يتجه نحو «الأبوية» المطلقة في كل مظاهره العامة المعلنة، ولكنه مع ذلك يحتوي في صميمه على تلك العناصر «الأمومية» التي تؤكِّد نفسها بشكل لا شعوري في قالب من أكثر القوالب تعبيرًا عن لا شعور الفرد والجماعة؛ ألَا وهو الأسطورة. إن صراع عنصرَي الأنوثة والذكورة في نفس الإنسان، ذلك الصراع غير المعلن وغير المعترف به، وصراع العناصر الأمومية والعناصر الأبوية في المجتمع، ذلك الصراع العفْوي والتلقائي، والذي يجري بمعزل عن تدخُّل الذوات الواعية، هما صراعان يُعلنان عن نفسَيهما في هبوط عشتار للعالم الأسفل، وجميع التكرارات الموازية في أساطير المنطقة التي سنأتي على دراستها في هذا الفصل.

وأود أن ألفت النظر لخطأ شائع يقع فيه الكثيرون عندما يتحدَّثون عن الإله «تموز»، فيصفونه بأنه الحياة الزراعية المتجدِّدة، أو الدورة الطبيعية السنوية. والواقع أن غياب الحياة عن الزراعة وجفاف الأرض هو تعبير عن غياب القوة الإخصابية الواهبة للحياة والمتمثِّلة بإنانا أو عشتار، عندما بدأت رحلتها بعيدًا عن هذا العالم مُسلمةً إياه لقوى الموت والجفاف. وفي اعتقادي فإن الإله تموز لا يلعب في هذه المأساة إلا دورًا ثانويًّا؛ فهو على أية حال راعٍ، ونحن لا نستطيع أن نطلب من راعٍ أن يلعب دورًا أكثر أهميةً في مأساة محورها الزراعة. وفي الواقع فإن الطقوس والعبادات التي سُمِّيت تموزيةً من قِبَل الباحثين خطأً، هي طقوس وعبادات عشتارية، وليس النواح على تموز في مواسم أعياده إلا مشاركةً من العباد لعشتار في أحزانها. ولا نستطيع والحالة هذه أن نطلق على تموز — كما جرى الاصطلاح العام — صفة إله الخصب إلا مجازًا وكناية، ونوعًا من إيفائه حقَّه لمساهمته بنوعٍ ما في إكمال المأساة. إلا أن دور تموز الثانوي هذا لا يتدخَّل إطلاقًا في التقليل من شأنه في قلوب العباد، بل على العكس تمامًا؛ لقد كان تموز من أحب الآلهة لدى الجماهير، فلقد تألَّم وعانى عذابات الموت كأنه بشر فانٍ، ثم بُعث من بين الأموات وصعد إلى السماء في النهاية، كما نستدل على ذلك من أسطورة آدابا السابق ذكرها في فصل التكوين، عندما الْتقى به هناك آدابا عند بوابة السماء السابعة. وكان البكاء عليه في الشهر المدعو باسمه يتخذ شكلًا مأسويًّا فاجعًا، عندما تنفجر جماهير عباده في موجة هستيرية من التعبير عن الحزن والألم؛ بلطم الخدود وتمزيق الثياب وإيذاء الجسد بشتى الوسائل. والواقع أن هذا التعبير كان يحمل في طياته نوعًا من إفراغ الشحنات الانفعالية المكبوتة لجماهير ترزح تحت شتى أنواع الضغوط النفسية والاجتماعية. لقد كان تموز مِشجبًا نعلِّق عليه أحزاننا سنويًّا ونستريح.

١  A. Heidel, The Epic of Gilgamesh, Phoenix Books 1970.
٢  أركالا هي إريشكيجال نفسها.
٣  اعتقدت إريشكيجال أن عشتار قد جاءت لتُحرِّر سُكَّان العالم الأسفل. وفي هذا تهديد خطير لمملكتها التي ستغدو خاويةً برحيل سُكَّانها. وبزوال سلطانها لن يقوم الأحياء بتقديم القرابين.
٤  اعتادت النساء البابليات حمل حجاب من نوع مُعيَّن مُرصَّع بأحجار كريمة من شأنها تسهيل عملية الولادة.
٥  يُفهم من ذلك أن الرجال والنساء قد تباعدوا جنسيًّا؛ فعشتار هي القوة الإخصابية الفاعلة في الإنسان والنبات قد غابت عن الوجود وغابت معها كل مظاهر الإخصاب التي تعكسها في الحياة.
٦  يبدو أن إيا قد صنع أصوشونامير وأرسله ليُغوي بجماله إريشكيجال. فإن استمالها كان عليه أن يجعلها تُقسم بأن تلبِّي له أي طلب. وعندما فعلَت طلب منها قربة ماء الحياة بحجة الشرب، ولكنه في الواقع كان يود أن يرش بها عشتار الميتة.
٧  على غير العادة فقد قام ناسخ النص بالاختصار، وجعلَنا نقفز فورًا من تعليمات إيا إلى تنفيذها من قِبَل الخصي.
٨  قمت بالتصرُّف بترجمة هذا السطر.
٩  قَصر العدالة في العالم الأسفل ومسكن الآلهة.
١٠  كانت إريشكيجال مضطرةً لذلك بعد أن أقسمت لأصوشانامير أن تُلبِّي له أي رغبة بطلبها.
١١  الحديث هنا لإريشكيجال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤