الفصل الرابع

هجرة الإله الميت

تتنوَّع الأسطورة الواحدة بتنوُّع الزمان والمكان والناس، وبانتقالها من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان، يضيف عليها ناقلوها أو يحذفون منها أو يُغيِّرون من تسلسل أحداثها، ولكنها من حيث الجوهر تبقى واحدةً لأنها في الأصل تعبير عن دوافع دفينة واحدة وحاجات نفسية وعقلية واحدة. وهكذا انتقلت أسطورة الأم الكبرى أو الروح الإخصابية الكونية وحبيبها المفقود في سوريا وأرض الرافدَين إلى بقية أنحاء العالم المتمدِّن القديم؛ ففي مصر نجد أسطورة إيزيس وأوزوريس، وفي آسيا الصغرى وفرجيا نجد سيبيل وآتيس، وفي بلاد الإغريق نجد أفروديت وأدونيس الذي احتفظ باسمه السوري أدون دون تغيير، إلا ما فرضته طبيعة التحوير اللُّغوي، كما نجد ديونيسوس وسيميلي. قصة واحدة ولكن الأمكنة متعدِّدة والأزمنة متنوِّعة.

(١) أدونيس وأفروديت١

انتشرت عبادة بعل في جميع أنحاء سوريا وآسيا الصغرى، وكان اسمه يُسبق بلقب أدون وتعني السيد أو الرب. وقد ناب هذا اللقب عن الاسم الأصلي وصار يُعبد تحت اسم أدون أو أدوني، وخصوصًا لدى فينيقيي بيبلوس وبانو في قبرص، وهما المدينتان الرئيسيتان اللتان ازدهرت فيهما عبادة هذا الإله. إلا أن تحويرًا وقع على أسطورة بعل هنا؛ فالرب لم يمت في صراعه مع موت، وإنما قام خنزير بري بافتراسه في غابات لبنان أثناء الصيد. أمَّا حبيبته والبطلة الرئيسية في سير الأحداث، القوة الإخصابية الكونية، فلم تعُد عناة الأوغاريتية، بل زميلتها عستارت التي ظهرت بدور ثانوي في ملحمة بعل. والواقع أن هاتَين الإلهتَين هما إمَّا أصل أو انعكاس للإلهتَين إنانا وعشتار في بلاد الرافدَين. وكما كانت إنانا وعشتار إلهتَين في واحدة، كذلك الأمر فيما يتعلَّق بعناة وعستارت حيث الشخصية واحدة ولكن التسمية اختلفت تبعًا للمكان والزمان. وكما مضت عناة تبحث عن بعلها، كذلك مضت عستارت تبحث عن أدوني، إلى أن أثمرت جهودها ونهض من بين الأموات على مرأًى من عباده الذين قضَوا فترة موته في ندب وعويل. وهكذا يمضي عباد أدون في كل ربيع عند فيضان نهر إبراهيم (نهر أدون سابقًا) بالبكاء ولطم الخدود والصدور على الإله الغائب، ويجري النهر الغاضب بمياه حمراء من جرَّاء الأتربة التي تنجرف مع الثلوج الذائبة من المرتفعات، فيعتقدون أن دماء الإله القتيل هي التي أعطت للمياه صبغتها، كما أعطت لشقائق النعمان المتفتِّحة لونها. وفي اليوم التالي كانت تعم الاحتفالات بقيامة أدوني فيرفع الناس الحداد ويأخذون بالرقص والشراب والممارسات الجنسية التي من شأنها تقليد لقاء الإله والإلهة والإحياء للتربة بالخصب والعطاء.

ولقد حمل الكنعانيون (الفينيقيون) في ترحالهم معهم آلهتهم، وكان أدوني من أشهر الآلهة المرتحلة. وصل إلى اليونان حيث أُغرم به الناس هناك وزوَّجوه أفروديت إلهة الحياة والجمال، والنسخة اليونانية عن إنانا أو عشتار.٢ وأضافوا لاسمه حرف اﻟ «س» وفق ما هو معمول به في معظم الأسماء اليونانية فصار «أدونيس». وتحكي الأسطورة اليونانية قصة أدونيس السوري مع بعض التحوير في التفاصيل. فشجرة المر كانت في الماضي إلهةً شابةً أُغرمت بأبيها وتاقت إلى وصاله جنسيًّا، مدفوعةً إلى ذلك بعاطفة جارفة زرعتها فيها الإلهة أفروديت انتقامًا لإساءة سابقة. وقد استطاعت بحيلة ما أن تُشبع رغبتها من أبيها دون معرفته بمساعدة وصيفة لها. ولكن الأب ما لبث أن أدرك الخدعة وعرف ما فعلت به ابنته، فاستلَّ سيفه وجاء إليها ليغسل ذنبها بدمها. ولكن الفتاة صلَّت للآلهة وتضرَّعت إليهم بحرارة لإنقاذها؛ فاستُجيب لها وأُخفيت عن أنظار الأب بتحويلها إلى شجرة. وبعد عشرة أشهر انفتحت شجرة المر ليخرج منها أدونيس الشاب الذي حملت به من أبيها، فلمَّا وقع عليه بصر أفروديت بهرها جماله الأخَّاذ وهامت به حبًّا، فأودعته في صندوق حديدي وسلَّمته إلى برسيفوني إلهة العالم الأسفل لتُخفيه عن أنظار الآلهة. ولكن برسيفوني بدورها تُغرم به وترفض إرجاعه إلى أفروديت، وترفع الإلهتان القضية إلى كبير الآلهة زوس الذي قضى بأن يقسم أدونيس وقته في السنة إلى ثلاثة أجزاء؛ فواحد لنفسه، وآخر لبرسيفوني، وثالث لأفروديت. وبذلك كان أدونيس يهبط مدة أربعة أشهر في كل سنة إلى العالم الأسفل ليعيش مع إلهته، ثم يغادر صاعدًا إلى الحياة ثمانية أشهر أخرى، وهكذا دواليك. إلى أن أساء في إحدى المرات للإلهة أرتميس ربة الغابات والصيد، فأرسلت إليه خنزيرًا بريًّا صرعه، ففاض دمه مُضرِّجًا الورود بحُمرة أزلية باقية.

(٢) آتيس وسيبيل

من الآلهة الميتة التي وُلدت في آسيا الغربية بتأثير تموز وبعل، ثم ارتحلت غربًا. الإله آتيس الذي نشأت عبادته في فرجيا بآسيا الصغرى. وكان موته وبعثه موضع احتفالات ربيعية سنوية؛ ولهذا بلغ من تشابه هذا الإله مع أدونيس أن القدماء كانوا في كثير من الأحيان يُطلقون عليهما الاسمَين تبادليًّا. كان آتيس راعيًا شابًّا غض الإهاب، وكان محبوبًا للأم الكبرى سيبيل أحيانًا، وابنًا لها أحيانًا أخرى. ويُحكى عن مولده٣ أن أمه نانا (واسمها يُذكِّرنا بإنانا السومرية) قد حملت به وهي عذراء، وذلك عن طريق احتضان غصنٍ من شجرة اللوز (أو الرمان)، ولكن عنزةً أرضعته حتى شبَّ وكبر، ومن هنا جاءه الاسم آتيس أي التيس.٤ وتُحكى عن وفاته روايتان؛ فتراه في الأولى ضحيةً لغدر خنزير بري تمامًا كأدونيس، وفي الثانية ضحية لعملٍ عنيف قام به هو نحو ذاته عندما خصى نفسه تحت شجرة صنوبر ونزف حتى يموت. وقد حذا حذوه في ذلك جميع كُهَّان أمه سيبيل الذين كانوا يفقدون ذكورتهم قبل الالتحاق بخدمة هذه الإلهة.

وصل آتيس إلى روما حوالي سنة ٢٠٠ قبل الميلاد بعد دخول عبادة الإلهة الأم إليها. وقد مضى إلى مدينة «بيسينوس» في فرجيا — وهي المقر الرئيسي لعبادة سيبيل — سفراء دينيون وأحضروا إلى روما الحجر الأسود المقدَّس الذي يرمز للإلهة العظيمة. وبذلك تكون عبادتها قد انتقلت رسميًّا إلى الغرب حيث استُقبلت بحماس منقطع النظير، مبرهنةً على أن الشرق الذي أخفق في غزوه العسكري حوالي ذلك التاريخ عقب تراجع جيوش هانيبعل القرطاجني، لم تُعوِزه الحيلة لغزوٍ من نوع آخر أمرُّ وأدهى؛ ألَا وهو الغزو الروحي.

وقد وصلت إلينا صورة حية عن احتفالات الربيع الخاصة بسيبيل وآتيس كما كانت تجري في روما، ولا شك أن هذه الاحتفالات هي صورة عن الاحتفالات والطقوس التي كانت تُقام في آسيا الغربية. ففي اليوم الثاني من آذار تبدأ الطقوس باقتطاع غصن كبير من شجرة الصنوبر، ثم يُغطَّى بأزهار البنفسج التي يُقال بأن دماء الإله الميت هي التي أعطتها لونها، ويُحمل من قِبَل ثُلة من الكُهَّان وقد رُبطت إليه صورةٌ لرجل شاب هو آتيس، ويسيرون به طوافًا في الشوارع. إلا أن الاحتفالات لا تحافظ على هذا الطابع الهادئ؛ ففي اليوم الثالث — ويُدعى يوم الدم — يبدأ كبير الكهنة بالطقوس الدامية فيجرح ذراعه ويخرج منها الدم كالنافورة قربانًا للآلهة، ويبدأ العازفون بعزف الموسيقى المجنونة بواسطة الأبواق والمزامير والصنوج والطبول، ويروح بقية الكهنة في رقصٍ عنيف وحركات هائجة على إيقاع الموسيقى إلى أن تستبدَّ بهم النشوة الدينية الجامحة فيأخذون بتجريح أنفسهم بالآلات الحادة، فتُبعث منها الدماء وتُغطِّي المذبح والغصن المقدَّس. وهنا يقوم الكهنة المبتدئون بإخصاء أنفسهم ورمي قضبانهم المفصولة تحت قدمَي تمثال الإله المنتصب. وربما قام آخرون من المتعبِّدين المشاركين بالاحتفالات بالفعل نفسه في نوبة هستيرية من الوجد والانجذاب، فيقوم الواحد منهم بإخصاء نفسه ويركض في شوارع المدينة نازفًا متألِّمًا لا يلوي على شيء. كل هذه الأفعال تهدف إلى إظهار الحزن على الإله الغائب وحثٍّ له على الرجوع من العالم الأسفل. وما إن يحل المساء حتى ينقلب جزَع المتعبِّدين فرحًا وحزنهم بِشرًا. فلقد فُتح باب القبر ونهض الإله من بين الأموات. وفي صباح يوم ٢٢ آذار تنفجر الجموع في فرحٍ جنوني في شوارع روما في كرنفال صاخب، حيث يفعل كل امرئ ما يحلو له في يوم سنوي مشهود. ومن الجدير بالملاحظة أن توقيت هذه الاحتفالات بقيامة آتيس يُقارب توقيت الاحتفالات المسيحية بالجمعة الحزينة يوم موت السيد المسيح، ويوم الفصح، حيث قام من بين الأموات، وسنعود إلى هذه النقطة في مكان آخر من هذا الفصل.

(٣) ديونيسيوس٥

إذا كان آتيس وأدونيس قد جاءا إلى العالم الهيليني من الشرق، فإن آلهةً أخرى قد وُلدت غربيةً هيلينية، ولكن بروحٍ شرقية وبتأثيرات سوريا وبابلية. من هذه الآلهة ديونيسيوس، وهو إله ابن يهبط إلى الأرض ويموت ميتةً شنيعة، ثم يُبعث من جديد ويصعد إلى السماء ليحكم في مملكة أبيه. قام زوس كبير آلهة الأوليمب بزيارة الإلهة بيرسيفوني وهو في هيئة الأفعى فضاجعها وانسحب، فحملت منه وولدت الإله زاغروس أو ديونيسيوس الذي اعتلى عرش أبيه وهو طفل صغير. وكانت الولادة في كهف صغير كانت ديمتر قد خبَّأت فيه ابنتها بيرسيفوني. ويُظهر لنا نحتٌ بارز من العصر المتأخِّر شكلًا واضحًا للكهف، حيث وُلد الإله الطفل، وصورة للمهد الذي وضعته فيه أمه، وهذه الولادة تُحضر في أذهاننا صورة ولادة المسيح في المغارة الصغيرة.

غير أن هيرا زوجة زوس قد أكلتها الغيرة لاعتلاء أحد أبناء زوس من امرأةٍ أخرى عرش أبيه؛ فقامت بتحريض التيتان، وهم قوم متوحِّشون من آلهة الدرجة الثانية، كانوا في خصام مع زوس على قتل الطفل، فهاجموه محاولين تمزيقه، ولكن الإله كان يُغيِّر من شكله هربًا بنفسه منهم، فصار أسدًا فحصانًا فأفعى، ولكن دون جدوى؛ لأن التيتان قد نالوا منه أخيرًا وهو في صورة الثور، فقتلوه وقطَّعوا جسده سبع قِطع أكلوها جميعًا، ولم تُجدِ محاولة زوس لإنقاذ ابنه لأن التيتان كانوا قد أتَوا عليه قبل أن يصلهم برق كبير الآلهة ويحيلهم إلى رماد. وكانت الإلهة أثينا حاضرةً على مقربة من المأدبة، فقامت بإنقاذ قلب ديونيسيوس وأسلمته لأبيه. وكان زوس في تلك الأثناء على علاقة بسيميلي يزورها بهيئةٍ عادية وينام معها، تاركًا وراءه البرق والصواعق وكلَّ رموز سلطته وجبروته. فصنع من قلب ابنه شرابًا دفع به إلى سيميلي لتشربه فحملت بديونيسيوس. ولكن هيرا لم تكن لتترك الإله الطفل يولد مرةً أخرى، فتنكَّرت في زي وصيفة وحرَّضت سيميلي على أن تطلب من زوس أن يتجلَّى أمامها على صورته الحقيقية كما يفعل أمام زوجته هيرا، فلمَّا استجاب لها صعقها البرق وهبطت إلى العالم الأسفل، ولكن زوس استطاع أن يُنقذ من بطنها الطفل الذي لم يصل بعدُ إلى مرحلة النمو الكامل، ثم قام بشق فخذه وزرعه فيها وخاط عليه تاركًا إياه ليستكمل نموه. وعندما آن أوان ولادته فتح ساقه واستخرجه طفلًا تامًّا مكتملًا.

ولكن الإله الذي لم يرَ أمه سيميلي هبط إلى العالم الأسفل باحثًا عنها، وكان بحاجة إلى مرشد ودليل، غير أن المساعدة لم تُقدَّم إلا بشرطٍ واحد، وهو أن يخضع لفعل جنسي خضوعًا أنثويًّا كاملًا؛ فقام ديونيسيوس بصنع قضيب من غصن شجر التين وأولجه في استه. وقد اعتُبر هذا الفعل رمزًا للخضوع المطلوب، قُدِّمت على إثره له المعونة المطلوبة وعاد بأمه من العالم الأسفل وأصعدها إلى السماء٦ بقي أن نقول إن التيتان بعد أن صعقهم زوس ببرقه وتحوَّلوا إلى رماد، قد قام من رمادهم الجنس البشري.

وفي الاحتفالات الدينية الربيعية بديونيسيوس كان يجري تمثيل عذابات الإله الميت في لحظاته الأخيرة بدقائقها مصحوبًا بالأناشيد الحزينة والموسيقى، ثم يُؤتى بثور يمثِّل الإله القتيل الذي الْتهمه التيتان وهو على هذه الصورة فيمزِّقونه ويلتهمون لحمه ويشربون دمه على أصوات الموسيقى المجنونة، مُعبِّرين بذلك رمزيًّا عن رغبتهم في الاتحاد بالإله القتيل بواسطة أكل جسده وشرب دمه. تمامًا كما علَّمنا السيد المسيح، فيما بعد. نقرأ في العهد الجديد من الإصحاح ٣٦: «وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلًا اشربوا منها كلكم؛ لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل الكثيرين لمغفرة الخطايا.» وبعد تناول القربان كانت الطقوس تستمر فيجري تمثيل ولادة ديونيسيوس الثانية وبعثه من بين الأموات. وبالإضافة إلى الثور فإن ديونيسيوس كان يُمثَّل بشكل التيس أو الجدي تمامًا كالإله آتيس؛ ولذا فإن الجَدْي كان في أحيان أخرى هو الضحية التي تُؤكَل ويُشرَب دمها كرمزٍ للإله القتيل، وكان الراقصون يرتدون ثيابًا من جلد الماعز في احتفالاتهم تلك.

وتُدعى الديونوسيسية أحيانًا بالأورفية نسبةً إلى أورفيسوس، وهو الرجل الذي أوجدها. ولا نستطيع البتَّ في حقيقة وجود هذا الشخص؛ لأن الأساطير والخوارق قد غلَّلت حياته وسيرته، شأنه في ذلك شأن بوذا وآخرين من مُؤسِّسي الديانات الكبرى.

(٤) ديمتر وبيرسيفوني٧

من الأساطير اليونانية الأخرى ذات المادة الشرقية والحياكة الهيلينية، أسطورة ديمتر الأم اليونانية الكبرى وربة القمح والمحاصيل وابنتها بيرسيفوني. فبينما كانت بيرسيفوني تجمع الأزهار من الحقول، انشقَّت الأرض فجأةً وظهر من باطنها هاديس إله العالم الأسفل في عربته الذهبية، فاختطفها وأخذها معه إلى مملكته السفلى زوجةً له وملكة. ولمَّا طال غيابها ارتاعت الأم ديمتر وراحت تذرع الأرض بحثًا عن ابنتها المفقودة ولكن دون جدوى. وما لبثت أن علمت أن زوس قد أعطى بيرسيفوني لأخيه هاديس هدية. فراحت تهيم على وجهها دونما هدف ولا غاية، إلى أن تعاظم حقدها وغلبها الحنين لابنتها، فراحت في عمل استفزازي لآلهة الأوليمب تُرسل الأمراض والأوبئة على بني البشر، ومنعت عن الأرض شجرها ومحاصيلها. فجزع زوس لعملها هذا وأرسل الآلهة واحدًا بعد الآخر لإقناعها بالتوقُّف عن فعلها وردِّ غضبها ولكن عبثًا. فما كان منه سوى أن أقنع هاديس بأن يحرِّر بيرسيفوني، ولكن بعد فوات الأوان، وبعد أن جعلها تأكل من نبات مُعيَّن يجعل صاحبه يعود إلى العالم الأسفل إن هو خرج منه ثلاثة أشهر كل عام. فرحت ديمتر بلقاء ابنتها وكفَّت بلواها عن البشر، وأفرجت عن روح الخصوبة المحتجزة، فعادت الأرض سيرتها الأولى ولكن إلى حين؛ لأن بيرسيفوني ستعود ثانيةً إلى العالم الأسفل. وفي كل سنة ستحزن الأم على فقد ابنتها وستجف لحزنها المزروعات وتَحجب الأرض غلالها.

وقد عاشت ديمتر حيةً في قلوب عبادها فترةً طويلةً جدًّا بعد تحوُّل أوروبا إلى المسيحية، فاتخذت في مدينة إيلوسيس موطن عبادتها الأساسي اسم القديسة ديمترا، وبقي تمثالها هناك مُعزَّزًا مكرَّمًا حتى عام ١٨١٠م، عندما حمله إلى لندن رجلان إنجليزيان وقدَّماه للمتحف البريطاني. ومنذ ذلك الحين وأهل إيلوسيس يَعزون جدب الأرض وشُحَّ المحاصيل إلى غياب تمثال القديسة عن المنطقة.

(٥) إيزيس وأوزوريس٨

وفي اتجاه آخر ارتحل الإله الميت نحو الجنوب إلى مصر، فتُحدِّثنا أسطورة إيزيس وأوزوريس عن ولادة أوزوريس وموته وبعثه. ووفق هذه الأسطورة نجد الإله أوزوريس بطلًا حضريًّا يُعلِّم المصريين الزراعة والحصاد والأعمال اليدوية النافعة، تساعده في ذلك أخته وزوجته إيزيس. وفي إحدى المرات قام أخوه الإله سيت أو طيفون بحِيلة خبيثة جعلته سجين صندوق خشبي، فسمَّر عليه وقذفه في مياه النيل، فطاف الصندوق حتى صُبَّ مع مياه النهر في البحر المتوسط، وهناك تدافعته الأمواج حتى وصل إلى مدينة بيبلوس الكنعانية حيث عَلِق بإحدى أشجار الشاطئ الوارفة. وقد راحت إيزيس تبحث في جميع الأنحاء عن حبيبها الضائع إلى أن وجدته، فعادت بالصندوق والجثة إلى بلدها لتعيد له الحياة. ولكن سيت عثر على الصندوق فقام بتقطيع جسد أوزوريس، ووزَّع القطع في جميع أنحاء البلاد حتى يصبح من المستحيل إعادة الحياة إليها مرةً ثانية. ولكن إيزيس، وبدون يأس، تابعت البحث مرةً أخرى إلى أن وجدت الأجزاء جميعًا عدا عضو الذكورة الذي بقي مفقودًا. ثم أعادت له الحياة بمعونة أختها الإلهة نفتيس.

وتُشابه طقوس أوزوريس طقوس الآلهة الميتة الأخرى من بكاء على الإله وتمثيل لعذاباته، ومن ثم الفرح ببعثه وانتصاره على الموت. وقد رحل أوزوريس إلى روما تحت اسم سارابيس وشاعت عبادته هناك شيوعًا عظيمًا.

١  James Frazer, The Golden Bough, Macmillan, London 1971 (ch. Xxxl).
٢  يتابع عالم السومريات السيد M. Allegro اسم «أفرودايتي» اليوناني حتى أصوله السومرية. فكلمة Aphrodite في رأيه ليست إلا اشتقاقًا من المقطع السومري A-Buru-Da-ti الذي يدل على بعض صفات الرحم، وبالتالي على الرحم نفسه: J. Allegro, The Sacred Mushroom and the Cross, Abacus, New York 1974.
٣  J. Frazer. The Golden Bongh, Macmillan, London 1971, Ch. xxxix.
٤  كان التيس من أول الحيوانات المقدَّسة لدى الإنسان. ونظر إليه في أحيانٍ كثيرة على أنه روح النبات، وذلك ربما للدور الذي لعبه في الماضي البعيد عندما كان المزارع ينثر حبات القمح في الأرض ثم يتحرَّك قطيع الماعز ليذرع الحقل جيئةً وذهابًا فوق الحبوب المنثورة، ممَّا يدفعها إلى أسفل التربة.
٥  F. Guirand, Greek Mythology, Hamlyn London 1963.
٦  J. L. Henderson, The Wisdom of the Jerpent, Collier Books, New York 1971.
٧  J. Frazer, The Golden Bough, Macmillan, London 1971, ch. Xliv.
٨  ibid, Ch. XXXIX.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤