الفصل السادس

السيد المسيح «آخر المخلِّصين»

في هذا الجو الثقافي المشبع بديانات الأسرار وجيش الآلهة المخلِّصين، ظهرت المسيحية إلى الوجود. وكان الأتباع الأولون للسيد المسيح هم قلةً من اليهود المُشبَّعين بالأفكار المهدية التي كانت من القوة في تلك الآونة بين جماعة اليهود لدرجةٍ كان معها ظهور المسيح المرتقب متوقَّعًا في أي لحظة وساعة؛ لينقذ الشعب من اضطهاد الرومان، ويبني ملكوت الرب على الأرض. ولم يعتقد هؤلاء في البداية بأنهم ينتسبون لدين جديد، بل نظروا لأنفسهم دومًا على أنهم فرقة مُتميِّزة في الدين اليهودي القديم. ورغم أن المسيح قد خيَّب آمال الكثيرين في ذلك الوقت عندما ترك نفسه للصلب والموت، فإن من بقوا على إيمانهم رأوا أن المسيح قد غادرهم لأن الناس ليسوا بعدُ على مرحلة تُؤهِّلهم للدخول في ملكوت الرب، وأن عليهم أن يتطهَّروا قبل أن يعود المسيح إليهم مرةً ثانية.

إلا أن المسيحية لم تحافظ على وضعها هذا كفرقة يهودية صغيرة لأسباب متعددة: فأوَّلًا: لم يتحوَّل للإيمان الجديد سوى قلة من اليهود. وثانيًا: تأخَّرت عودة المسيح إلى درجة كبيرة. ثالثًا: تدمير مدينة أورشليم إثر ثورةٍ مُسلَّحة قام بها اليهود على الرومان، وتمَّ بذلك توجيه ضربة قاضية لآمالهم القومية. أخيرًا: فقد أثبتت تعاليم السيد المسيح أنها أشمل وأوسع من التفسيرات اليهودية الضيقة، فبدأت بالانتشار في الأصقاع المجاورة والبعيدة. وقد انتشرت المسيحية أوَّلًا لدى بعض أفراد الجاليات اليهودية في أصقاع الإمبراطورية الرومانية، ولكنها ما لبثت أن انتقلت إلى أفراد من غير اليهود، وأخذت تُشكِّل تدريجيًّا دينًا قائمًا بذاته منفصلًا عن اليهودية. وقد ساعدت تعاليم بولص الرسول إلى حدٍّ كبير في تدعيم هذا الانفصال؛ فكان يؤكِّد دومًا على أن الخلاص سيأتي عن طريق الإيمان بالسيد المسيح بالدرجة الأولى، لا عن اتِّباع ما تقول به الشريعة اليهودية. وهكذا، وبدخول الغرباء إلى المسيحية، أخذت المسيحية تغدو غريبةً عن اليهودية. ولمَّا كان هؤلاء الغرباء بعيدين كل البعد عن فكرة المسيح المنتظر الذي ينقذ شعبه من الاضطهاد ويُعيد بناء أمجاده، فقد قاموا بصياغة فكرتهم الخاصة عن المسيح وطبيعته ودوره. ولأن معظم من دخلوا في الدين الجديد كانوا أتباعًا لديانات سرية، ولأن الجوهر العام لهذه الديانات هو المسيطر على أفئدة الناس في تلك الآونة، ولأن الرسل الأوائل أرادوا اجتذاب الجماهير بأسلوب يألفونه وصِيَغ اعتادوا عليها؛ لهذا كله فقد نَحَت المسيحية منحى الديانات السرية وتبنَّت كل ما استطاعت أن تتبنَّاه وما يتلاءم معها من طقوسها ومعتقداتها؛ فتحوَّل المسيح من مُبشِّر يهودي إلى إله ميت. وهو كمن سبقه من الآلهة المخلصة إله ابن يولد من عذراء ويُبشِّر برسالة جديدة، ثم يعاني ويتألَّم ويموت، ولكنه يتغلَّب على الموت ويصعد منتصرًا من عالم الأموات حاملًا الخلاص والحياة الأبدية لمن آمن به.

وقد كافح الدين الجديد كفاحًا مريرًا ضد الديانات الرسمية للإمبراطورية، ولكن كفاحه الأقوى والأَمَرَّ كان كفاحًا صامتًا لا عراك فيه ولا دماء ضد الديانات السرية. ولعل أقوى تلك الديانات التي نازعت المسيحية فترةً طويلةً من الزمن على الفوز بقلوب الناس. كانت ديانة ميثرا الشديدة الشبه بالمسيحية والواسعة الانتشار في شتى أنحاء الإمبراطورية الرومانية. وهذا التشابه الغريب بين الديانتَين أذهل المسيحيين أنفسهم فاعتبروه من صنع شيطان رجيم. وكان الميثرويون يتهمون المسيحيين باقتفاء أثرهم واقتباس معتقداتهم، والمسيحيون بدورهم يردُّون الاتهام بمثله. ولعل أثرًا من آثار ذلك العراك الطويل ما زال ماثلًا حتى أيامنا هذه؛ فالعالم المسيحي ومن ورائه العالم الحديث الذي يتبع في تاريخه التقويم المسيحي، يحتفل بميلاد المسيح يوم ٢٥ من كانون الأول، وهو يوم الانقلاب الشتوي حيث تصل الشمس إلى آخر مدًى لها في المَيَلان عن كبد السماء، وحيث يصل النهار آخر أشواطه في القِصَر، ويبدأ بعد ذلك بالامتداد على حساب الليل. فهذا اليوم بالذات اعتُبر دومًا في الديانات الشمسية عيد ميلاد للشمس فيه تتجدَّد قوتها وتستعيد عزمها لمقارعة قوى الظلام. وقد اقترنت عبادة أدونيس في سوريا وأوزوريس في مصر في فترات متأخِّرة بالشمس؛ فيحدِّثنا السيد J. Frazer في كتابه The Golden Bough١ أن السوريين ليلة ٢٥ من كانون الأول يحتفلون بمولد أدونيس، فيجتمعون في المعابد ويصرخون عند منتصف الليل: «لقد أنجبت العذراء ابنًا. والنور ينتشر.» والمقصود بالعذراء طبعًا هو إلهة الشرق الكبرى عشتار أو عستارت التي يدعوها الساميون بالسيدة السماوية أو ملكة السموات؛ فالعذراء لقبها والعذرية جوهرها رغم كونها إلهة الحب؛ لأنها تعطي دون أن تنقص.

ويوم ٢٥ كانون الأول هو بالذات عيد ميلاد ميثرا، فهو إله الضوء والخير والشمس رمزه، الشمس التي لا تُقهر والتي تبدأ في هذا اليوم بالصعود إلى كبد السماء دافعةً قوى الشر والظلام أمامها.

أمَّا فيما يتعلَّق بميلاد المسيح فإن الأناجيل لم تذكر تاريخًا محدَّدًا له؛ ولذلك فإن الكنيسة الأولى لم تحتفل بميلاده. ولكن لسبب ما بدأ مسيحيو مصر يحتفلون بميلاد المسيح يوم ٦ من كانون الثاني. وانتشرت هذه العادة حتى عمَّت في إبان القرن الثالث للميلاد الأصقاع الشرقية كافةً للإمبراطورية الرومانية. ولكن مع نهاية القرن الثالث قامت الكنيسة الغربية التي لم تحتفل حتى ذلك التاريخ بميلاد المسيح بتبني يوم ٢٥ كانون الأول تاريخًا رسميًّا لعيد الميلاد، وتبعتها في ذلك الكنيسة الشرقية، وجرى الاحتفاظ بيوم السادس من كانون الثاني على أنه «عيد الغطاس». إن تبني الكنيسة لهذا التاريخ بالذات لا يمكن تفسيره إلا على ضوء صراعها مع الديانة الميثروية، والتكتيك الذي اتبعته في صراعها مع الديانات القائمة في ذلك الوقت.

ولعل عيد الفصح يعطينا مثلًا آخر على تبني المسيحية للمناسبات والأعياد الخاصة بديانات الأسرار؛ فعيد الفصح هو عيد قيامة المسيح من بين الأموات بعد أن عانى ما عاناه في يوم الجمعة الحزينة على درب الآلام. وقد تبنَّت الكنيسة تاريخًا لهذا العيد يقع في اليوم الأول لاكتمال القمر بعد الانقلاب الربيعي؛ وبذلك يكون بعث السيد المسيح هو بعث ربيعي، شأنه في ذلك شأن آلهة الخصب القديمة والمخلِّصين الأوائل.

وبعيدًا عن هذَين العيدَين الرئيسيَّين فإننا نجد أعيادًا وثنيةً أخرى قد حُوِّرت وأُسبغت عليها الصفة المسيحية؛ فعيد الإلهة ديانا قد أصبح عيد صعود السيدة العذراء، وعيد الأموات قد أصبح عيد جميع القديسين، والأمثلة على ذلك كثيرة.

أمَّا الأم الكبرى أو القوة الإخصابية الكونية المتمثِّلة بإلهة الحب العذراء، فقد حلَّت محلَّها السيدةُ مريم العذراء التي دُعيت بسيدة السموات، وهو اللقب الرئيسي للإلهة عشتار. وحتى وقت قريب كانت السيدة مريم تُدعى في بعض المناطق الريفية في إيطاليا الجنوبية بأفروديتسا نسبةً إلى أفروديت، كما كانت تماثيل الإلهة ديمتر الباقية في بعض الخرائب العتيقة تُعبد على أنها السيدة مريم ذاتها. وليس الصليب نفسه كرمز للسيد المسيح بالرمز الجديد في عالم الديانات القديمة؛ فقد اقترن الصليب بعدد من آلهة الخصب الشرقية القديمة؛ مثل بارات إلهة مدينة بيروت، وتانيت إلهة قرطاجة. وفي مصر كانت شارة العنخ، وهي عبارة عن دائرة متصلة بصليب، رمزًا للحياة الأبدية. وفي الكتابة السومرية المسمارية كان الرمز الكتابي الذي يدل على الخصب عبارةً عن صليب.

إن الذي أعطى للمسيحية هذا الطابع الجديد المنفصل عن اليهودية والقريب من الديانات الشرقية السرية هو القديس بولص، الذي كان كلما تعمَّق بالتفكير، وكلما ازداد بالتبشير والاحتكاك بجماهير الناس في الإمبراطورية الرومانية؛ اتجه في تفسيراته للمسيحية نحو الأفكار التي تعرَّفنا عليها سابقًا في الديانات الشرقية البعلية والمتعلِّقة بالخلاص والفداء والدرام الإلهي. إلا أن هذا لم يمنع مطلقًا من أن بولص كان ناقدًا واعيًا لديانات الأسرار السائدة في ذلك الحين، وعلى وجه الخصوص تلك الديانات التي كانت تضع أمور الطقوس والقواعد الشكلية قبل قضايا الحياة الأخلاقية القويمة، وكان يقول دومًا إنه من غير المعقول أن ينال الخلاصَ إنسانٌ دون آخر لمجرَّد مروره عبر مجموعة من طقوس التنصيب.

ولقد أخبرنا بولص القليلَ جدًّا عن المسيح باعتباره مسيحًا يهوديًّا منتظرًا لتحرير شعبه، بينما أخبرنا الكثيرَ عن المسيح باعتباره مخلِّصًا للإنسان أينما وُجد ومن أي عرق كان. نقرأ في رسالته إلى أهل غلاطية ٣: ٢٦–٢٢: «لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح. ليس يهوديًّا ولا يونانيًّا، ليس عبدًا ولا حرًّا، ليس ذكرًا وأنثى، لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع.» وقد ركز كثيرًا في تبشيره على حادث الصلب والقيامة من بين الأموات. لقد كان المسيح مخلِّصًا هبط إلى الحياة وتألَّم ثم مات من أجل خطايا الإنسان، ولكنه بُعث من جديد وصعد إلى السماء، وهذا البعث هو النقطة المحورية في كل الديانة المسيحية. نقرأ في رسالة بولص إلى أهل كورنثة ١٥: ١٤: «وإن لم يكن المسيح قد قام فباطلة كِرازتنا وباطل أيضًا إيمانكم.» وأهمية هذه القيامة لا تكمن في أن المسيح قد حقَّق الآمال المهدية للشعب اليهودي بمقدار ما تكمن في أنه قد ضمن الخلود لأتباعه المتحدين معه، وخلاصًا من رِبقة الموت لمن آمن به.

ولعل أقرب الناس إلى القديس بولص كان القديس يوحنا الذي الْتقى في كثير من أفكاره مع بولص الرسول. نظر يوحنا إلى المسيح أيضًا باعتباره مخلِّصًا وفاديًا أكثر منه محقِّقًا للآمال المهدية لدى الشعب اليهودي. ولكنه على خلاف بولص كان أقل تركيزًا على الاتحاد الطقسي بالإله المعبود، وأكثر تركيزًا على أن الاتحاد إنما هو نتيجة المعرفة بالمسيح واتِّباع تعاليمه. فتكرار كلمة «أنا أومن» وحده لن يكفي لتحقيق الخلاص، بل لا بد من العمل بما يُمليه هذا الإيمان. نقرأ في الإصحاح ١٣: ٢٤: «الحق أقول لكم من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها هو أيضًا يعملها ويعمل أعظم منها أيضًا لأني ماضٍ إلى أبي»، «وإن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي.»

هذا وقد التقت المسيحية أيضًا في كثير من طقوسها بطقوس الديانات السرية السابقة عليها، كطقس المعمودية بالماء الذي كان يقصد إلى تجديد الفرد وغسل ماضيه لإدخاله في النِّحلة الجديدة. وطقس القربان المقدس الذي كان يقصد إلى الاتحاد بالإله عن طريق أكل جسده وشرب دمه رمزيًّا كما رأينا بوضوح في طقوس الديانة الديونوسيسية. يقول السيد المسيح: «أنا هو خبز الحياة»، «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية.» كما تُعطينا بعض العبارات الطقسية المسيحية دليلًا حيًّا على انبثاق المسيحية من ديانات الخصب القديمة في الشرق الأوسط؛ فصيحة هيلولويا المستعلمة في الأناشيد الطقسية، ليست إلا الصيحة التي كانت رمزًا لعباد الإله ديونيسيوس، والتي كانت على فمهم دائمًا: إيلوليو ELELEU، حتى لقد دعاهم الناس في أحيان كثيرة ﺑ «الإيلوليين» نسبةً لصيحتهم المتعبَّدة هذه.
figure
«بارات» كما يُصوِّرها عمل فني مصري وبيدها اليسرى صليب صغير.
١  J. Frazer. The Golden Bough, Macmillan, London 1971, p. 416.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤