الفصل الثالث عشر

الإقرار

وبعد أن لفظ سنيري هذه الكلمات ستر وجههُ بيديه، وجعل يذرف الدموع السخنة، وأنا شاخصٌ إليه أردِّد في ذهني ألفاظهُ الأخيرة. ثم سألتهُ أن يقص عليَّ كل ما يتعلق بتلك الحادثة المشئُومة.

فاستوى جالسًا ومسح بكمهِ العَبَرات المنحدرة على خديه، وقال: وُلِدت من أبوين إيتاليين، وكان لي شقيقة بارعة الجمال، فهام بها أحد أشراف الإنكليز الموسِرين واسمهُ مارك، فتقدم من والديَّ لطلب يدها، فلم يجيبا أولًا طلبَهُ لاختلاف الأهواء وتضارب العوائد بين الإنكليز والإيتاليان. ولكن عندما رأيا أن فتاتهما تميل إليه كل الميل ولا ترتضي بعلًا سواهُ، منحاها حق الاختيار، فاقترنت به، ثم ذهبا إلى إنكلتره مسقط رأسِه.

ومضى عليهما عدة سنين وهما في أرغد عيش وأحسن حال، ثم توفي زوجها عن ولدين وهما: أنتونيوس وهو في الثانية عشرة، وبولينا في العاشرة من العمر، وقد أوصى لزوجته بجميع ما ملكت يداهُ.

أما هي فعندما فقدت زوجها المحبوب لم يعد لها أرب بالسكن في أرض ضمَّت عظامهُ، فعادت إلى إيطاليا وانضمت إلى الأهل والأصدقاء، فصادفت بينهم كل ترحيب وإكرام، وكانت تميل إليَّ بنوع خاص وتستحسن كل الأعمال التي أُبديتها، فأطلعتها ذات يوم على مقاصدي السياسية وأني عضوٌ في جمعية سرية يترأسها غاريبالدي الرجل العظيم وزير فرنسا، وأن غاية هذه الجمعية ليس إلَّا المدافعة عن إيطاليا، وبذل النفس والنفيس في سبيل حريتها وجعل حكومتها جمهورية، فاستصوبت أفكاري ووعدتني بالمساعدة متى حان الوقت، غير أن حزنها الشديد أنهك قواها وأذبل زهرة حياتها، فلحقت بزوجها وذلك بعد موته بأشهر قليلة، وقد سلمتني ثروة ولديها وعهدت إليَّ في تربيتهما على المبادئ الإنكليزية بحسب وصية زوجها الأخيرة.

وبعد وفاتها أرسلتُ الولدين إلى مدارس كلية في إنكلتره، فكانا يصرفان معظم السنة هناك، ويأتيان إيطاليا أيام العطلة، ولذلك لعدم وجود أصدقاء يأنسان بهم. فتمكنتْ منهما طباع الإنكليز وعوائد الإيتاليان معًا. أما أنا فلم أنكث بوعدي لشقيقتي، ولا حنثت بيميني، بل كان دأبي الاهتمام بولديها والمحافظة على أموالهما إلى أن أزفت الساعة التي بها وقعت إيطاليا في ضيق وعسرٍ مالي هددها بالخذلان والذل والقهر.

فلم يعد بإمكاني إمساك الدراهم عن الجيوش المستغيثة بأهل الغيرة ومحبي الوطن، فأنفقت الألوف من ثروة ولديْ شقيقتي في هذا السبيل، ولم أُبقِ سوى دريهمات قليلة تكفيني إلى أن يبلغا سن الرشاد، وقد فعلت ذلك دون أن أجاهر به لدى أحدٍ من الناس، ورفضت جميع ما استحققت من الوسامات وألقاب الشرف من رئيس الحزب الذي كنت أقاتل معه بحَمِيَّة لأني لم أحسب ذلك إلَّا فرضًا واجبًا على كل وطنيٍّ، فلو قُدِّر أن أُقتَل حينئذٍ وانتصر بعد ذلك حزبي لما قام أحد يطالب بحقوقي فتندثر أعمالي ويتلاشى ذكري. وعندما بلغ أنتونيوس الثانية والعشرين من العمر أرسل من إنكلترا يطالبني بثروته، فوعدته بالموافاة حالًا، وكنت أضرب أخماسًا لأسداس لا أدري بما أعتذر إذا سئلت عن المال، وحينئذٍ لا يكون نصيبي سوى السجن إذ لا يلبث أنتونيوس بعد أن يتحقق فقد المال أن يستنجد بالعدالة فيقتص مني. أما بولينا فلبثت في المدرسة إلى أن بلغت الثامنة عشرة وعند ذلك أتت إيطاليا، وقد وشحها الصبا بثوب من الجمال عزيز المثال فضلًا عمَّا كانت عليه من الذكاء وسموِّ الإدراك، فكنت مطمئنًّا من نحوها لأنها عريقة بهذه الصفات التي تؤهلها من أحد الأغنياء، وبذلك تحصل على السعادة. ولا يبقى عليَّ حينئذٍ سوى التخلص من أخيها وهناك الطامة الكبرى، فبعد أن مضى عليها سنتان في إيطاليا، طلبت إليَّ بلجاجة أن تذهب إلى أخيها في إنكلترا. وكنت في أثناء هاتين السنتين قد تعرَّفت بماكيري الذي كان من حزبنا واستصحبتهُ بالحروب، فكان يقاتل بغيرة وبسالة لأنه كان يصبو إلى الحرب وتتوق نفسه للقتال، وكان يأتي بعض الأحيان لزيارتي فيتظاهر بالاحتشام لا سيما بحضور بولينا، فكان يطنب بمدح نفسه ويدعي بعلو المنزلة ويتكلف بكل حركة يظن أنه يستجلب بها رضى بولينا التي كانت تمقته قدر ما تحتقره. أما أنا فما كنت لأتحمل منه ذلك لولا احتياجي الشديد لذراعه القوية، ولمَّا لم يعد بإمكاني السكوت عن مطالبة أنتونيوس بمالهِ رحلت مع بولينا إلى إنكلترا وقد لحق بنا ماكيري، وكان لا يفتر عن ملاطفتها واستمالتها. ولكن أتعابه ذهبت أدراج الرياح، ومع ذلك فإنه لم يقنط من الحصول عليها، فتقدم من أخيها حين وصولنا إلى إنكلترا وأظهر رغبته في ذلك، فضحك أنتونيوس على جسارته، ثم بيَّن لهُ عدم أهليته لها، فكاد يتميز ماكيري من الغيظ، ولم يرَ وسيلة تقرِّبه من بولينا سوى الانتقام من أخيها زاعمًا أنها لا تلبث أن تجيب طلبه بعد أن ترى نفسها بدون نصير.

وقبل أن يفترق عنه بيَّن لهُ حقيقة الحال التي صار إليها، وأنه أصبح صفر اليدين لأني خنته وتصرفت في ثروته، فعندما سمع أنتونيوس ذلك أسرع إليَّ وعيناه متقدتان وطلب إليَّ أن أدفع لهُ ما بقي من المال، فأمهلته إلى المساء ريثما أنهي الحساب.

وهكذا خلوت بنفسي وأخذت أفكر بأقرب الطرق التي يمكنني بها الفرار من وجه أنتونيوس، فلم أجد أوفق من أن أنسب إليه الجنون بعد أن أتواطأ مع طبيب آخر من حزبنا لإعطاء الشهادة بذلك، ثم أرسله إلى البيمارستان حيث لا تطلق حرِّيته حتى يتنازل عن حقوقه. وهكذا ذهبت إلى صديق لي يدعى بيتروف لأطلعه على مقاصدي. وبينما كنت سائرًا التقيت بماكيري فأعلمني بما جرى له مع أنتونيوس، وأنه يودُّ الانتقام منهُ، فقلت لهُ: إنك تكون أعظم مساعد لي في هذا المشروع … وهنا انقطع صوت سنيري وفاض دمعه كالسيل ثم نظر إليَّ، وقال: العنِّي يا مستر فوكهان؛ فإني مستحق أن أتحمل كل أنواع الاحتقار، لأني مجرم، ولكن يشهد الله بأني لم أقصد قتله البتة، بل كنت أود من صميم قلبي أن يحيا ذاك الفتى الذي قضى ضحية الظلم والغدر، وما كنت لأسكت عن شكاية ماكيري لولا خوفي من أنهُ يفشي أسرار جمعيتنا لدى الحزب الملكي الذي كنا أضدادًا لهُ بل لكل ملك مطلق.

ثم عاد لإتمام حديثه فقال: وعند المساء حضر أنتونيوس وشقيقته إلى منزلي، وكنت حينئذٍ مجتمعًا مع ثلاثة أشخاص منهم الطبيب، وقد عرفت القصد من إحضاره مع اثنين آخرين وهما ماكيري وشخص آخر أفهمتهما أن يثبا عليه حينما يجداه في حالة الغضب الشديد من جراء فقد المال، ويوثقاه ثم يحملاه إلى مأوى المجانين. وعندما دخل أنتونيوس نظر إلى رفاقي بازدراء، فعلمت المغزى من تلك النظرة، ولكني تجاهلت عنها والتفتُّ إلى بولينا قائلًا: يمكنك أيتها العزيزة أن تخلي لنا المكان برهةً وجيزة؛ لأني أريد أن أخاطب أخاك على حدة.

– لا لزوم لذلك كما أظن، ولكن إذا كانت هذه إرادتك فسأفعل.

قالت ذلك وانثنت راجعة إلى غرفة أخرى محاذية لغرفتنا، وجلست قرب البيانو ثم جعلت توقِّع بعض الألحان بصوت رخيم. وبعد قليل قلت لأنتونيوس: إن ما استدعيتك لأجله هو المخابرة بشأن ثروتك وثروة شقيقتك التي اؤتمنت عليها.

– حسنًا، ولكني لا أرى داعيًا لحضور الغرباء بيننا في وقت كهذا.

– ولكنهم ليسوا غرباء كما زعمت، بل أصدقائي المخلصون، كما وإنهم سالكون في نفس الطريق التي أنا سالك عليها، والتي أريد أن أخاطبك عنها.

– ولكني لا أريد أن رجلًا كهذا يعلم بأسراري.

قال ذلك باحتقار وأشار إلى ماكيري، أما هذا فلم تفُت أعينه البراقة تلك النظرة، فاحمرَّ وجههُ وتقدم نحونا متمهلًا وقد ستر يدهُ بذيل جبتهِ، غير أن أنتونيوس أعرض عنهُ بازدراء ثم جلس على كرسي، وقال: أريد من الآن وصاعدًا أن تكون بولينا وثروتها تحت مطلق عنايتي؛ ومن ثمَّ لا يطمع بها أحد الأوغاد كهذا الرجل الإيتالياني صديقك … هذا كان آخر ما نطق بهِ ذلك المسكين، ولم يكن إلَّا كلمح البصر حتى علت صدرهُ يدُ ذاك الخبيث، فنظرت إليه نظرة تعني أنهُ لم يحن بعد وقت إمساكه، ولكنهُ كان قد سبق فأغمد خنجرًا في صدر المسكين فأذاقهُ كأس الحِمام.

ولما أبصرت بولينا من الغرفة الثانية ما حلَّ بأخيها، انقطعت عن الغناء وصرخت صوتًا مزعجًا وسقطت مغشيًّا عليها، فبادر بيتروف لسَدِّ فِيها خوفًا أن ينمَّ علينا أنينها المتواصل، ورمى عليها قطعة من القماش، ثم استدعى تيريزا فلبثت بجانبها كل الليل.

أما أنا فبقيت كالصنم لا أُبدي حراكًا، بينما كان ماكيري واقفًا بجانب فريسته والخنجر لم يزل بيده يقطر دمًا … وفي تلك الدقيقة دخل رجل فظن الجميع أنهُ رسول الانتقام، فتقدم ماكيري يريد أن يبطش به، فأوقفتهُ كي أستوضح كلمات ذلك المسكين بقوله إنهُ أعمى.

وعندما تأكدت صدق مدعاهُ أسقيتهُ كأسًا من المسكر أضاع منهُ الرشد، ثم أرسلت بيتروف فأتى بعربة أغريت سائقها بالتخلي عنها بضعة دقائق. وبالحال حمل بيتروف الأعمى إلى العربة وابتعد به مسافة ميلين عن شارع هوراس ثم عاد فأرجع العربة إلى حوذيها وانضم إلينا.

وفي اليوم الثاني أشعت الخبر في المدينة، أن قد فاجأ المستر مارك مرض شديد، وكان الطبيب بيتروف يأتي في كل يوم لعيادته.

وبعد أسبوع نعيناهُ للأصدقاء، وكان الجسد حينئذٍ ملفوفًا بالأكفان وموضوعًا في نعش داخل غرفة خصوصية. وبعد أن انتهت فروض التعزية ذهبنا به إلى إيطاليا وواريناه قبر والدتهِ، ونقشنا على الحجر اسمهُ وتاريخ موته، وبذلك أمنَّا كل خطر.

أما بولينا فكنت قد تركتها مريضة بين يدي تيريزا خادمتي الأمينة التي قد أحاطت علمًا بكل ما توقع. وعندما نقهت من المرض أرسلتُ فطلبتُ إليها أن تأتي مع بولينا إلى إيطاليا، وعندما اجتمعت بهما رأيت أن جريمة ماكيري أفقدت الشاب الحياة والابنة العقل.

غير أن بولينا كانت تنتقم مني بدون قصد أو علم بذلك بنظراتها الباردة التي لم تكن سوى أسهم تنفذ في فؤادي فتعدمني الراحة، وأخيرًا لم يعُد بوسعي الوقوف أمام تلك الضحية، فبذلت جهدي بالابتعاد عنها، فأقمت في غرفة قريبة من غرفتها وأوصيت الخادمة أن تعتني بها جدًّا، وتذهب أحيانًا بها إلى النزهة، ولكنها لم تأنس بالسكن في إيطاليا بل كانت تطلب بلجاجة أن تذهب إلى إنكلتره.

أما ماكيري فكان لم يزل لهُ أمل بالاقتران بها، حتى وفي الحالة التي هي فيها زاعمًا أنها لا تعي شيئًا ممَّا مضى فما يمنعه من ذلك، غير أني مع كل ما أتيت من المنكرات وما اقترفت من الذنوب لم أتجرَّد من الإحساس الشريف، ولذلك لم أرضَ عن زواج ابنة شقيقتي إلى قاتل أخيها. فأرسلتها إلى إنكلترا تصحبها تيريزا، وبذلك أمنت عليها غائلة ماكيري الذي كان كثيرًا ما يتوعدني بانتشالها من تحت حمايتي والزواج بها سرًّا، وهناك قُدِّر أنك رأيتها وأعلنت للخادمة تشوُّقك للحصول عليها، وأرسلتها تعلمني بذلك، وكنت حينئذٍ في جينوى، فلم أتأخر عن المجيء والاجتماع بك، وعندما رأيت كلفك الشديد بها لم يمكنِّي رفض طلبك وأنا على تلك الحال، فهذا ممَّا هيج غضب ماكيري وجعله ينفث عليَّ سمَّ شكايته.

وعند وصوله إلى هذه العبارة شعرت بأن حملًا ثقيلًا قد تزحزح عن صدري وحسبتها المرَّة الثانية التي كنت بها كفيفًا فشفيت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤