ضحك وبكاء

أقام الوليد طويلًا بالصحراء حتى جفاها وجفته، وأسأمها بالشكاية وأسأمته، وبينما كان جالسًا ذات يوم إلى ندمائه وهم يتحدثون في دمشق، وليالي دمشق، وما فيها من إشراق ومتاع؛ إذ طاف به خيال سلمى، فاستبد به شوقه، واشتد إليها حنينه، وصاح: لقد انقطعت الرسل بيني وبينها، وأصبحت لا أطيق لهذا البين احتمالًا، ولا عليه صبرًا، ليت شعري أين الآن وجهها؟ وماذا تفعل الآن بعدي؟ ألا تزال راعية لعهدي حافظة لودي؟ أخشى أن يكون ابن عنبسة قد وجد إليها الطريق ذلولًا، وأخشى أن يكون أبوها قد تغلب على عنادها، ودفعها إلى قبول هذا العتل الزنيم زوجًا، ثم تأوه وزفر، وطلب إلى عمر الوادي أن يغني:

طاف من سلمى خيال
بعد ما نمت فهاجـا
قلت عد نحوي أسائلـ
ـك عن الحب فعاجا
بفـلاة ليس ترعى
أنبتت شيحًا وحاجًا١

فغنى الأبيات بصوت حزين بكى له الوليد، وبكى له من معه، ثم عاوده الفرح فجأة، وطلب إلى أبي كامل أن يغني:

أصبح اليوم وليد
هائما بالفلوات
ابعثوا خيلًا لخيل
ورماة لرمـاة!

فلما سكت أطرق الوليد طويلًا، ثم اتجه إلى عبد الصمد بن الأعلى وقال: أما لهذا الليل من آخر يا ابن عبد الأعلى؟ أما آن لهذه الغمرات أن تنجلي؟ لقد طالت مدة هشام حتى مللت انتظار يومه، وكأنه يريد أن أسبقه إلى الموت.

فقال عبد الصمد: رفقًا بنفسك يا مولاي، فإني أرى في ظلمات الغيب نورًا يأتلق، وأسمع في صدري همسًا يبشر بالفرح القريب:

ألم تر للنجم إذ شيّعـا
يبادر في برجه المرجـعا؟
فقلت وأعجبني شـأنه
وقد لاح إذ لاح لي مطمعـا
لعل الوليد دنا مـلكه
فأمسي إليه قد استجمعـا
وكنا نؤمل في مـلكه
كتأميل ذي الجدب أن يمرعا
عقدنا له محكمات الأمو
ر طوعًا، فكان لها موضعـًا

فاهتز الوليد للشعر وقال: حياك الله يا ابن عبد الأعلى! ألا تزال تؤمل في ملكي كتأميل ذي الجدب أن يمرع؟ إذّا فلتؤمل طويلًا، ولتصبر طويلًا، فإن بينك وبينه سدًّا من صخر، وجنادل يسميه الناس هشامًا، ثم وجه الحديث إلى المنذر بن أبي عمرو، فقال: أتعرف يا ابن أبي عمرو أن ليلة لم تأت عليّ منذ عقلت عقلي أطول من ليلة الأمس؟ وأخذت أفكر في هذا الرجل الذي شردني وتجرد لإيذائي، فاركب بنا نتنفس؛ فقد كدت أضيق بكل ما حولي، فركبا حتى إذا سارا ميلين وقف الوليد على كثيب، وأعاد الكلام في هشام، وفي الشكوى من هشام، وبينما هو يعدد أفاعيله، إذا رجلان على البريد مقبلان، أحدهما مولى لأبي محمد السفياني، والآخر يُدْعى جردبة، فلما قربا أتيا الوليد يعدوان حتى دنوا منه، فسلما عليه بالخلافة، فدهش الوليد وتملكه ذهول كاديسقطه على الأرض، فجعل جردبة يكرر السلام عليه بالخلافة، وهو مشدوه يفتح فمه ولا يستطيع الكلام، ثم جاهد حتى ملك نفسه وقال: ويحك أمات هشام؟

– نعم يا أمير المؤمنين، فصاح الوليد: صدق الله العظيم حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ. اكتب يا ابن أبي عمرو إلى العباس بن الوليد أن يأتي الرُّصافة، ويحصي ما فيها من أموال هشام، وأن يسجن أولاده وعماله وخدمه، ثم قال:

طاب يومي ولذ شرب السلافة
إذ أتاني نعي من بالرصافة
وأتانا البريد ينعي هشـامًا
وأتانا بخاتم للخـلافة

وأمر من معه بالرحيل إلى دمشق، ودخل المدينة في موكب حافل وهو فوق فرسه «الرائد»، وقد لبس خلع الخلافة، وقبض على عصاها، ووضع فوق رأسه عمامة بها ياقوتة حمراء بقدر الكف قبّلتها أشعة الشمس، ثم ارتدت عنها فأرسلت بريقًا وألوانًا تتخطف العيون، وحف به ندماؤه وكتابه وعماله وكبار أهل الرأي من بني أمية، واصطف الناس وتزاحموا على الجانبين، ورددوا صيحات الفرح، والاستبشار بالخليفة الشاب، ونثر أمامه النثّار الدنانير والدراهم، فانكب عليها الناس في هرج وشره كما تنقض سباع الطير على فرائسها، ومشى المغنون وهم ينقرون الدفوف، ويعزفون بالطنابير، وكان أشعب يرقص أمامهم رقصات عجيبة يتلوى فيها جسمه كما يريد، كأنه خلا من العظام، ويرسل النكات سافرة ومحجبة لا يبالي من يقذف بها.

وبلغ الموكب قصر الخلافة، وجلس الوليد على عرش آبائه بعد أن طال إليه اشتياقه، وكاد يدركه اليأس منه، وتقدم صنايد الأمويين، وعظماؤهم يبايعونه، ويسلمون عليه بالخلافة، وبايع الناس جميعًا، وطارت إليه الرسل من أقصى الأرض بالبيعة والتهنئات، وجال بخاطره — وهو في هذه النشوة الساحرة، وذلك العز الشامخ — بيت من الشعر قالته لسليمان بن عبد الملك إحدى حظاياه:

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى
غير أنْ لا بقاء للإنسـان!

فغام وجهه، وزاغ بصره، فهز رأسه هزًّا عنيفًا، كأنه يريد أن يطرد عنه طائر التطير، ثم أمر ابن عبد الأعلى أن يدعو إليه سعيد بن خالد، وقدم عليه في هذه الأثناء وفد الشعراء، وكان في مقدمتهم يزيد بن ضبة، وهو شيخ جاوز السبعين، دخل يتوكأ على عصاه، فهنأ الوليد بالخلافة، وانكب على رجليه يقبلهما، وكان ابن ضبة في أول عهده منقطعًا إلى الوليد، فلما أفضت الخلافة إلى هشام فرّ من وجهه إلى الطائف، وحين رآه الوليد فرح به وهش للقائه وأدناه، وقال لحاشيته: هذا طريد هشام لصحبته إياي، وانقطاعه إليّ! هات يا ابن ضبة ما عندك، فأنشده قصيدة منها:

سخـا بالذهب الأحمر وزنًا بالقناطير
كريم العود والعنصر غمر غير منزور

فطرب الوليد للشعر، وأمر بأن تعد أبيات القصيدة، وأن يُعطى بكل بيت ألف درهم، وكانت خمسين بيتًا، ثم أمر كاتبه عياضًا أن يجري عطاء دائمًا على عجزة أهل الشام من الشيوخ، والمرضى، والعميان، والفقراء المعدمين، وأن يخص كل واحد منهم بخادم، وأمره بأن يزيد في عطاء كل صاحب عطاء عشرة دنانير، وأن يصل بأعطية أهل الشام إلى ضعف ما كانوا يأخذون.

ثم طلب منه أن يكتب إلى نصر بن سيار عامله على خراسان، أن يسير إليه مع وجوه من أهل خراسان، وأن يحضر معه برابط وطنابير ودفوفًا وأباريق من ذهب وفضة، وأن يجمع كل صنّاجة يقدر عليها، وكل باز، وكل برذون فاره، ثم أطرق قليلًا وقال: وعليك أن تحصر علماء الحديث والقرآن بالشام والمدينة، ثم تجري على كل واحد منهم مائتي دينار في العام.

والتفت إلى ابن سهيل وقال: وأنت يا ابن سهيل مُرْ كبير شرطتي أن يقبض على يزيد بن عنبسة، وسليمان بن عبد الملك، وعمر بن الوليد، والزهري، وأبناء القعقاع، وأن يزجّ بهم في سجن الظلام، فقد كنت أحن إلى اليوم الذي أشفي فيه نفسي منهم.

وما كاد ينتهي من أوامره حتى وصل سعيد بن خالد فاستأذن له، فدخل وهو يرتجف من الخوف، فقبل يد الوليد وهنأه بالخلافة، فقال الوليد: أقبل عليّ يا ابن خالد، فإن بيننا حسابًا عسيرًا.

– لقد سعدت الدنيا بك يا أمير المؤمنين وسعد الناس، وهذا يوم صفاء يجب ألا يكدر بذكر الماضي.

– صدقت يا ابن خالد، ولكنك كنت عليّ إلبًا مع هشام، ولو شئت أن أنتقم لفعلت، ولكن شفيعًا لا يرد يأتي دونك ودوني، فيرد عنك يدي، ويغمد سيفي. كيف سلمى؟

– هي بخير، تقبل يدي أمير المؤمنين، وترجو رضاه.

– ترجو رضاي؟ ولقد لبثت شهورًا بائع ثياب لألتمس منها كلمة رضا! والآن وقد أصبحت أمير المؤمنين أتقبل أن تزوجنيها؟

– هي خادمة لأمير المؤمنين، فوثب الوليد من مجلسه وثبة عصبية، وصاح في أصحابه: أعدّوا كل شيء للعروس.

وكان عرسًا لم تر له دمشق مثيلًا، تألقت فيه الأنوار، ومدّت الموائد، ونثرت الدنانير واللآلئ، وتواترت فيه الهدايا من كبار الدولة، وعمال الأمصار، ولم يبق عود ولا طنبور ولا دف في المدينة إلا أطلق العنان للألحان، ولم تبق راقصة ولا شادية إلا عرضت من فنونها ما يثير الوجدان، ويعجز البيان، ولعبت نشوة الفرح بالرءوس فسالت الأعطاف، وجمد اللسان، وعرض أشعب ألاعيبه وفنونه بين ابتسامات الشيوخ، وضحكات الحسان، واخترق الوليد الجمع الحاشد وهو يصيح في غير مبالاة:

أو لا تخرج العـرو
س فقد طال حبسها؟!
قد دنا الصبح أو بدا
وهي لم يُقض لبسها!

وبعد قليل تحققت أمنيته وابتسم له القدر العابس، وزفت إليه حبيبة قلبه وريحانة حياته بعد أن ضرب الدهر بينه وبينها، وكاد اليأس يقضي عليه وعليها.

وكانت سلمى في بُرد شبابها زينة شبابها، وزهرة أترابها، جسم رخص ريان ناصع البياض كأنما صيغ من صافي الدر، أو سبيك اللجين، وقامة مياسة يزيدها العجب حسنًا ولدانة، وصدر ممتلئ رجراج كأنه الزئبق يفر من البنان، ووجه تأنقت يد القدرة في تكوينه وتلوينه، فجاء صورة للجمال البارع الذي حاول وصفه كل شاعر فنّد على أوزانه، وخطر لكل رسام فأبى على ألواحه وألوانه، جبين يتألق كأنه الصباح الباسم، وعينان فيهما سحر، وفيهما خمر، وفيهما كل ما يثير الفتنة، ويعبث بالعقول، وأنف عربي أموي فيه الشمم، وفيه العزة، وفيه الجمال، وفم ياقوتي يبسم عن درر لم تظفر بمثلها صدفات البحار.

جلست سلمى إلى جانب الوليد فتشاكيا البعد، وتبادلا الوجد، وشربا من رحيق الحياة أكوابه صافيه مترعة، ومرت بهما ساعات هنيئات أطلق الدهر الغادر لهما فيها العنان، ومد الحب عليهما الظلال، فمن عناق إلى عناق، ومن قبلات إلى أشواق، ومن ضحك إلى بكاء هو الضحك، ومن مزاح إلى جد هو المزاح، حب وملك ونشوة وشباب وجمال، فماذا بقي من صنوف النعيم؟ وماذا تخلف من نضارة الحياة؟ حقًّا إن السعادة لو طمعت في أكثر من هذا لكانت بطرة ملولًا!

ومضى سبعة أيام والعاشقان يتساقيان كؤوس الحب، ويتراشفان رضاب الغرام، وترك الوليد شؤون الدولة تسير كما تريد أن تسير، أو تقف كما تريد أن تقف، وانفرد بحبيبته في ناحية من قصره كما ينفرد طائران في وكن، وجعل بينه وبين صخب الحياة وضجيجها وآلامها ودسائسها حجابًا مستورًا، لم يخطر بباله تألب العلويين، ولا مؤامرات العباسيين، ولا تذمر الأمويين، ولا تلك الثورات التي أخذت تشتعل في أطراف الدولة، الدنيا عنده سلمى، والحياة سلمى، وكل جميل في هذا الوجود ليس إلا سلمى، وطالما كان يقول، وطالما كان يردد:

أنا في يمنى يديها
وهي في يسرى يديّه
إن هذا لقضـاء
ليس عدلًا يا أخـيّه
ليت من لام مـحبا
في الهوى لاقى منيّه
فاستراح الناس منه
ميتة غيـر سويّـه!

بقيا على تلك الحال سبعة أيام، وجاء اليوم الثامن فكان شديد الحر، لوّاح الهجير، متقد أديم الأرض، مات فيه النسيم العليل، وبعثت نيران الجحيم، وصبت الشمس فيه شواظًا على جبل قاسيون، فأبى أن يحمله وأشفق منه، فرمى به إلى المدينة شررًا وحممًا، واغبر الجو فاختفت الأنفاس، وضاقت الصدور، ولم تطق سلمى ذلك الحر اللافح، فأمرت جواريها أن يضعن لها ثلجًا في الماء، فلما ذاب فيه قامت لتبترد، فتسلبت من ثيابها، وأخذت تصب الماء على جسمها، وحين شعرت بلذة الماء وبرده والت الصب، ثم والته، كأنها كانت تطفئ لهيبًا، ثم لبست غلالة رقيقة من الحرير، وخرجت إلى أحد مشارف القصر فوقفت به طويلًا، وما كاد يولي النهار حتى شعرت ببرد شديد يسري في أوصالها، ثم أخذتها غشية فسقطت على الأرض لا تحس ولا تبين، فأسرع إليه الوليد فحملها إلى سريرها، وأقبلت أمه مذعورة واجفة، وطفق الجواري يدلكن جسمها، وينضحن وجهها بماء الورد لتفيق، واضطرب الوليد وأخذه البكاء، واستولى عليه الهلع، وجعل يصيح: أين الطبيب؟ أين الطبيب؟ اذهبوا إلى فرات بن شحناثا اليهودي، أحضروه على جناح الريح، على جناح البرق، على جناح الشيطان! حبيبتي! حبيبتي تموت وأنتم هنا أمامي يا أولاد الإماء!

ولم يمضِ إلا قليل حتى جاء الطبيب، وكانت البرودة التي في جسم سلمى انقلبت حرارة متأججة، وأخذ تنفسها يتلاحق، وصدرها يرتفع وينخفض كأنه كير حداد، ثم اعترتها نوبة هُذاء وخلاط، فجعلت تثب من سريرها وتصيح: دعوني أذهب إلى زوجي، أنا أعرف أنه بعمان، لقد حال هشام بيني وبينه، حبيبي! أنت لا تصلح بائع ثياب، إن وجهك يشي بك، إن به نبلًا موروثًا، إنه وجه ملك، أثواب وألوان للعذارى الحسان! دعني يا أبي من ابن عنبسة، عم مساء يا أبي، هاتوا حلي العروس! مشطوا العروس! ما هذه البئر؟ إنها بعيدة الغور مظلمة، لقد زلقت رجلي، أدركوني! أنقذوني! ثم سقطت على السرير مجهودة لاهثة، تطلب نفس النسيم فلا تكاد تجده، وغاصت في غشية لا قرار لها، وارتفع بكاء الوليد، وبكاء من حوله من الجواري والخدم، وأخذ يلطم وجهه كما تفعل النساء إذا حزبهن الحزن، ولا يجدن له متنفسًا، ومس الطبيب المريضة، وسأل عما يكون سببًا في المرض، ثم اتجه إلى الخليفة مكفهر الوجه حزينًا وقال: إن هذا المرض في الرئتين يا أمير المؤمنين، وقد سببه صب الماء البارد، ثم التعرض للجو في غلالة رقيقة، وهو مرض قوي الحملة، شديد الوطأة، ولكن الله يشفي ما هو أشد منه وأعضل، ودواؤه الدفء، والأشربة الساخنة، ويجب ألا تخاطب المريضة وهي تهذي، وإلا اختلط عقلها، وإذا احتملت مولاتي هذا المرض خمسة عشر يومًا نجت وزالت أسباب الخوف، وإني يا أمير المؤمنين مستبشر خيرًا، راج في وجه الله الكريم، وسأعد لمولاتي دواء، وسأتردد في كل يوم مرات، مسح الله السوء عن مولاتي، ولا أحزن قلب أمير المؤمنين!

وانصرف الطبيب، ومر يوم وثانٍ وثالث والمرض يستشري، والآمال تتضاءل، حتى إذا كان اليوم السابع هدأت المريضة، وسكن صدرها من الخفقان، فاستبشر الوليد وأرسل صيحة فرح دوَّت في جوانب الحجرة، وكادت تهز الكلة التي ضربت فوق سريرها، ثم أخذ يداعبها ويدللها ويقول: لقد شفيت يا حبيبتي، وزال عنك الضر، سأذهب بك عندما يتم شفاؤك إلى لبنان، إن هواءه يبرئ السقيم، وماءه من تسنيم، وتفاحه كفمك مسكيّ النفحات، سكري اللثمات، أتحبين تفاح لبنان يا سلمى؟ حدثيني، أتفضلينه على مشمش دمشق؟ قولي يا حبيبتي أيهما تفضلين؟ مالك ساكنة؟ أواجدة أنت عليّ؟ لا لا، إن الوليد لا يغضب ريحانة حياته، بالله أجيبي يا سلمى!

ولكنها لم ترد عليه، ولم تجاذبه الحديث، فرفع الكلة ونظر، فإذا جثة هامدة! وإذا الجمال الباهر الذي كان جمالًا في جسم وروح أصبح جمالًا في تمثال؛ فصرخ وشق ثيابه، وأخذ يدور في الحجرة كالمجنون، ويضرب الجدران برأسه ويصرخ: ماتت سلمى! ماتت سلمى! ذهبت حياتي! طويت آمالي! غابت شمسي! جفت زهرتي! صوحت روضتي! أدركوني يا عبيد القصر، خذوني وادفنوني معها، لا شأن لي بالحياة بعدها، إن الحياة ليست نفسًا يتردد، ولكنها أمل ورجاء وحب، وكان أبو رقية يجلس في ناحية من الحجرة مشدوه العينين ساهمًا، يرتل القرآن ترتيلًا، وقدم رجال الدولة وعم البكاء، وارتفع العويل، وطوي بساط السرور، وفرش بساط للأحزان.

وفي اليوم التالي دفنت سلمى بعد إباء من الوليد وممانعة، وبعد أن شيعها بأبيات تقطع نياط القلوب، وتستنزف ماء الشؤون:

ألمـا تعلما سلمى أقـامت
مضمنّة من الصـحراء لحدًا؟
لعمري يا وليـد ولقد أجنوا
بهـا حسبًا ومـكرمة ومـجدًا
ووجها كان يقتصر عن مداه
شعاع الشمس، أهلًا أن يفدى
فلم أر مـيّتًا أبـكَى لعين
وأكثر جـازعـًا، وأجلّ فقدا!

وعكف بعد ذلك الوليد على أحزانه، ولم يجد تسلية لهمومه إلا أن يصب عذابه على من ناصبوه العداء أيام هشام، فأحضر سليمان بن هشام من السجن، وأمر بأن يضرب أمامه مائة سوط، وأن يحلق رأسه ولحيته ثم ينفي إلى عمان، وطلب يزيد ابن عنبسة والزهري، فقيل له: إنهما فرّا إلى حيث لا يعلم مكانهما، فأرسل خلفهما الجنود ليقبضوا عليهما ولو كانا في أقصى الأرض، ثم أمر بأن يدفع بنو القعقاع إلى عامل قِنسِّرين ليذيقهم مرّ العذاب إلى أن يموتوا، ودعا عياضًا كاتبه، وطلب منه أن يكتب إلى يوسف بن عمرو والي العراق بقتل خالد بن عبد الله القسري، وهكذا كان يقضي الوليد نهاره في تعذيب وانتقام، وليله في تطريب وأنغام!

واجتمع أهل الدعوة بخراسان عندما وصلت إليهم أنباء الوليد وأحاديث لهوه وظلمه، ورأوا أن دولة الأمويين تخطو حثيثًا إلى الزوال، وأن من الحكمة أن ينتظروا بإظهار دعوتهم قليلًا حتى تجفّ الثمرة فتسقط وحدها؛ لأن عبث بني أمية وحده سيزيد من كراهية الناس وانصرافهم عنهم، وبذلك يسهل ثل عرشهم، ومحو سلطانهم، واستبشر الدعاة بالوليد خيرًا؛ فزادت قوتهم، وتجددت آمالهم، وظهرت منهم بوادر رآها نصر بن سيار عامل خراسان فتوجس الشر، وأحس بسوء المصير، وكتب إلى الوليد:

أرى خلَل الرمـاد وميض نار
ويوشك أن يكون لها ضرام!
فـإن النار بالعـودين تذكى
وإن الحرب أولها كـلام!
فقلت من التعجب: ليت شعري
أأيـقاظ أمـيّـة أم نيـام!

فلما قرأ الوليد كتاب نصر كتب في أسفله: بل نيام يا ابن البلهاء! لقد أقطعك أمير المؤمنين خراسان هبة فاعمل بها ما شئت، فإنه مشغول عنك وعن خراسانك!

١  الحاج: الشوك

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤