المجتمع والأدب والسياسة

قَدِم إليَّ الصحفي الأديب الفلسطيني يوسف بركات موفدًا من جريدة أردنية كبرى، وكان من بين الأسئلة التي وجَّهها إليَّ، لماذا يكتب الأستاذ إحسان عبد القدوس مقالات سياسية بكمية أكبر مما يكتب في القصة أو الرواية، ألست ترى أنه يجب عليه أن يعود إلى كتابة القصة والرواية ويقلل من كتابته للمقال.

وكان جوابي على الصحفي هو أن الكاتب يستلهم نفسه فيما يكتب، ويترك قلمه على سجيَّته، فإن أرغم القلم على لون بذاته نفر منه القلم وأبى أن يجريَ في يده، وقد رأيت الموضوع جديرًا بمناقشة أكثر اتساعًا؛ فالقصة أو الرواية لا يستطيع الكاتب أن يقتسرها اقتسارًا أو يعتسفها اعتسافًا؛ فهي فكرة تَثبُ إلى الذهن، يقذف إليه بها مجهول لا يعلم أحد إلا الله حقيقتها، يسميها بعضُ الناس وحيًا، ويسميها بعضٌ آخرون إلهامًا، وهي مسميات لمجهول يحاول بها المخلوق أن يستر جهله.

فهيهات وألف هيهات أن يكتب روائيٌّ أصيل روايةً لا تنبعث شرارتها الأولى من ذلك المجهول الذي نُطلق عليه أسماء، ولا نعرف عن سرِّه شيئًا، وكذلك الأمر في المقالة وفي القصة وفي المسرحية، فالكاتب يعتمد دائمًا على تلك الخاطرة التي تومض في ذهنه ثم تتناولها موهبتُه وقلمه وثقافته وتجربته فتصبح في الصورة التي يطالع بها الناس، فليس من حق أحد مهما يكن شأنه أن يسأل كاتبًا لماذا تكتب مقالة، ولا تكتب قصة قصيرة أو رواية أو مسرحية؛ لأن الخاطرة الأولى هي التي تحدِّد للكاتب الطريق الذي يرى أنه يصلح لمسيرة هذه الخاطرة وبلورتها.

وليس من حق أحد أن يسأل كاتبًا لماذا يكتب في السياسة ولا يكتب في الأدب، فليس هناك أدب بلا سياسة إلا أن يكون أدبًا رومانسيًّا يستنبع الخيال. فكل أدب عظيم أدب سياسي؛ لأن السياسة تتسع فتشمل كل مناحي الحياة في المجتمع، الأدب يتسع ويشمل كل خفايا الإنسان وكل أفعاله، فإذا لم يلتقِ الأدب والسياسة ومجال كل منهما الإنسان فإنها تصبح عجيبة من العجائب التي لا يسيغها منطقٌ ولا يقبلها عقل سليم، حتى الشعراء في العصور التي كان الشعر فيها وسيلة لكسب العيش، كانوا يكتبون أدبًا سياسيًّا.

فحين يقول المتنبي في رائعته شعب بوان:

يقول بشِعْبِ بوَّانٍ حصاني
أعن هذا يُسار إلى الطِّعان
أبوكم آدمٌ سنَّ المعاصي
وعلَّمكم مفارقةَ الجنان

يصبح شعره من عيون الأدب الإنساني والسياسة موضوعها الإنسان فهو يدعو بأبياته إلى السلام، ويسخر من الإنسان الذي يترك النعيم ليسعى إلى الشقاء والقتل وسفك الدماء.

وحتى حين يصف المتنبي شعب بوان وجداوله وعناقيد العنب فيه وخمائله، يصف الإنسان ومدى الجمال الذي يستطيع أن يحققه إذا أتقن عمله.

وهذا شأن من شئون السياسة.

وحين يصف سيف الدولة في الحرب ويقول:

وقفتَ وما في الموت شكٌّ لواقفٍ
كأنك في جفن الردَى وهو نائم
تمرُّ بك الأبطال كَلْمَى هزيمةً
ووجهُك وضَّاح وثَغرُكَ باسِمُ

نجده سياسيًّا من الطبقة الأولى يصف شجاعة القائد الحربي، وما ينبغي أن يكون عليه من الجرأة والسكون والهدوء في عاصف الحرب ودفاعها والحرب جزء من السياسة.

وإذا تركنا المتنبي وذهبنا إلى البحتري وتذكَّرنا أبياته الرائعة في السينية الشهيرة عن إيوان كسرى التي يصف في أبيات منها الرسوم في الإيوان، ويبلغ القمة الرفيعة من تجسيد هذه الرسوم فيقول:

يغتلي فيهموا ارتيابي حتى
تتقرَّاهمو يداي بلمس

فهو لا يصدق أن هذه الرسوم رسوم، فيُجري أصابعه عليها ليستوثق أنهم ليسوا أحياء، وأنهم حقًّا رسوم.

هو في هذه القصيدة يصف التاريخ ومدى الرفاهية التي كان يعيش فيها كسرى، والتاريخ مصدر رئيسي للسياسة، وتسجيل لها في وقت معًا، والبحتري سياسي حين يصف مقتل المتوكل بقصيدة من أروع قصائد الأدب العربي، والتي يقول فيها:

أكان وليُّ العهد أضمرَ غدرةً
فمن عجبٍ أن وُلِّيَ العهدَ غادرُه

وهو في هذه الكلمات القلائل يضع قضية سياسية كاملة مقتضاها أنه لا يجوز أن يقوم بأمر الجماعة غادرٌ لا عهد له ولا موثق.

وإذا تركنا هذا الزمان والشواهد فيه تجلُّ عن الإحصاء، وجئنا إلى عصرنا الحديث استحال علينا أن نُلمَّ بالشعر السياسي الذي قيل فيه. وحسبنا أن نُلقيَ نظرة سريعة خاطفة على شعر أمير الشعراء، ولن ألجأ إلى الديوان، وأنا أكتفي بما أذكر في السينية التي يقول في مطلعها:

اختلاف النهار والليل يُنسي
اذكُرَا لي الصِّبا وأيام أُنْسي
وسَلا مصر هل سَلا القلبُ عنها
أو أسَى جُرحَه الزمانُ المؤسِّي
كلما مرَّت الليالي عليه
رقَّ والعهدُ في الليالي تُقسي
نَفَسي مِرجلٌ وقلبي شراعٌ
بهما في الدموع سيرى وأرسي
واجعلي وجهك الفنار ومجرا
كِ يد الثغر بين رمل ومكسِ
وطني لو شُغلت بالخُلد عنه
نازعتني إليه في الخُلد نفسي

ولن أذكر شعرًا لشوقي بعد ذلك فإن الأمر يحتاج إلى كتب عديدة ليلمَّ بشعره السياسي، فإن أغلب شعره سياسي، وحسبني أن أذكر بعضًا من قصائده «كبار الحوادث في وادي النيل»، «صدى الحرب»، «انتصار الأتراك»، «بعد المنفى»، «مشروع ملنر»، «مشروع ٢٨ فبراير»، «تكليل أنقرة»، «وداع كرومر»، «نكبة دمشق»، فإذا أضفنا إلى هذه القصائد أغلب مراثي الجزء الثالث نجد أن السياسة هي المصدر الأول لإلهام شوقي.

وإذا انتقلنا إلى عزيز أباظة نجد كل رواياته سياسية؛ حتى قيس وليلى لا تخلو من السياسة، وأن نقاشه لحكم الفرد وحكم الشعب في روايته قيصر تعتبر من كنوز الفلسفة السياسية.

فإذا تركنا الشعراء وانتقلنا إلى النثر نجد أن جميع كُتَّابنا بلا استثناء تقف السياسة وراء كتاباتهم لا تتركهم، ولا هم يبتعدون عنها؛ فطه حسين، والدكتور هيكل، والعقاد، والزيات، والمازني، والحكيم، ونجيب محفوظ، ويوسف السباعي، وعبد الرحمن الشرقاوي، وإحسان عبد القدوس، وفتحي غانم وكل مَن لم أذكرهم لا يكاد يبتعد منهم أحد عن السياسة وإن ابتعد فهو إنما يولي وجهه إلى المجتمع، والمجتمع هو مسرح السياسة وشغلها الشاغل، فليس غريبًا إذن أن يكتب إحسان مقالاتِه، وليس غريبًا أيضًا أن تتجه روايات له كثيرة إلى السياسة؛ بل إن رواياته الاجتماعية هي في ذاتها سياسة؛ لأن الرواية لا مورد لها إلا المجتمع الذي هو أساس السياسة، فالسياسة هدفها الأول أن ترتقيَ بالمجتمع أو هكذا يدَّعي الساسة على الأقل، ولا يرد على هذه القاعدة خذلان أن جعل بعض الساسة مناصبَهم شباكًا لمنافع شخصية ففي كل فئة الصالح والفاسد، ولا يعيب هذا الفئة، وإنما يعيب الفرد وحده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤