أيها التاريخ ترقَّب

سبحانه جل وعلا، له عند اليأس يدُ لطف تردُّ اليأس إلى أمل، وتُحيل ظلام القنوط إلى إشراقة فرحة، وهو سبحانه وتعالى مَن يقول: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ.

ويكرر سبحانه وتعالى إن مع العسر يسرًا مرتين في بلاغة معجزة لا يَصِل إليها إلا بارئ النفوس. العالم بمداخلها الخبيئة والخبير بأين تستقر الكلمة في الضمائر، وهو سبحانه حين يقول هذا لنبيه عليه الصلاة والسلام لا يقصر قوله عليه وحده، وإنما هو يخاطب الناس كافة والتاريخ بأَسْره.

فكل إنسان أنقض ظهرَه الوِزْرُ يضع الله عنه وِزْره، إيمان يملأ صدره بلطف الله العلي القدير، ثم هو سبحانه يرفع له ذِكْره ويؤيده بالقول الثابت؛ إن مع العسر يسرًا إن مع العسر يسرًا. فامضِ في غايتك أيها العبد المؤمن، وارغب إلى ربك الذي وضع عنك وزرك، ورفع لك ذكرك، وهيأ لك بعد العسر يسرًا؛ لأن الله سبحانه يتبع عسر المؤمن بيسر من لدنه، تقدست مشيئته.

وقد مرت مصر بعصر أي عسر وتعرَّض شبابنا لفترة من أحلك فترات التاريخ، وقد استقبلوها في مشارق أعمارهم وفي غضارة حياتهم، والعبد أن منهم كانت لا تزال خضرًا غضة، فوضعوا كل ثقتهم في جماعة لا تستحق هذه الثقة، وفجأة تفجرت الحقيقة على نفوسهم الشابة المفعمة بالأمل المترعة بالوثوق فيمن أسلموهم قيادهم عن اقتناع وخبرة، وقد كانوا قد ضربوا صفحًا وأغلقوا أُذُنًا عن كل ما كان يتناقله آباؤهم وإخوانهم الذين يكبرونهم عما يرتكبه العهد من آثام تبدأ بالاعتداء على الأعراض وتنتهي بالاعتداء على الحياة بإزهاقها، وكانوا قد ضربوا صفحًا وأغلقوا أُذُنًا وعينًا عن الرعب الذي تفشَّى وجه مصر جميعًا مقتنعين في حماسة الشباب أن كل هذا يهون في سبيل مصر، فقد كانوا يظنون أن ما كان العهد يقترفه كان من أجل مصر، وليس من أجل الاستيلاء على مصر، والإلقاء بها ورقة مراهنة لاصطياد الأمجاد الفردية، وإقامة إمبراطورية لشخص في زمان اندثرت فيه الإمبراطوريات؛ حتى إذا رأى الشباب مصر، وقد صرعت كرامتها في عام ٦٧ أفاقوا إلى صُراح الحق، ورفضوا من بعد أن يضربوا صفحًا أو يُغلقوا أُذُنًا أو يغضُّوا عينًا، وهالَتْهم — كان الله لهم — تلك الهُوَّة السحيقة بين ما اقتنعوا به وبين ما طالعتهم به الحقيقة التي ترفض المناقشة وانماعت أمامهم وجوهُ الحياة، وغامست في أعينهم مسالك الطريق، وراحوا يُنعمون النظر فإذا دينهم قد ضاع في غمرة الإلحاد، ووطنهم قد تلاشى في تقديس الأفراد، وقِيَمهم قد انهارت في حماة الشعارات، وإذا الفراغ يُطلُّ عليهم من وراء اللافتات، وكفروا بما وقع عليهم من أقوال يردد أن الولاء سابق على الكفاءة، والولاء هنا لغة كاذبة يعنى في صريحها النفاق، فمن شاء أن يصحح الكذب بالصدق فعليه أن يقول النفاق قبل الكفاءة أو الوطنية أو الإيمان بالله أو بالحرية أو بالكرامة الإنسان.

هكذا تصدَّعت قلوبنا نحن الآباء والأخوة الكبار على شباب هذا الجيل المصري، وحسبنا أنه تاهَ عن مصريته وضل السبيل عن ربِّه وفقد الانتماء لقِيَمه الأصيلة، وما كان لا يعرف الإيمان بالله والحب للوطن أن يكون منتميًا.

وازددنا جزعًا ونحن نرى الدين يُصبح عند بعض منهم سُلَّمًا يصطنعونه إلى مغانم دنيوية، وطريقًا يُزيِّفونه ليستولوا به على الحكم، ورأينا فئاتٍ منهم تغلوا في دينها غلوًّا ينأَى بها عن الدين في جوهره وروحه، ويدنو بهم إلى مظهر لا يعني إلا الفراغ من لحية تطلَق، أو جلباب أصبح كأستار مسرح للمضحكات التي لا جد فيها ولا عمق. ويزداد بنا الجزع ويبلغ أقصى مداه في نفوسنا حين نرى فئة أخرى يخدعها الشيوعيون عن أديانهم وعن عروبتهم ليقذفوا بهم إلى متاهات ماركس ولينين وإلى مذابح ستالين وماو.

ولكن الله سبحانه وتعالى يمدُّ من فوق سبع سماوات يدَه باللطف الرباني فيرفع عنَّا وعنهم وزرنا ووزرهم الذي أنقض ظهورنا وظهورهم، ويرفع بذكر مصر وذكرهم. ونلتفُّ فجأة فنجد مصر على حقيقتها تموج بالحياة في نفوس الأصلاء من شبابنا، أولئك الذين لا تعرف الأرض مفرقهم إلا مصلين، فهم شُمُّ الأنوف عامرة أفئدتهم بالإيمان برب العالمين مخضلة جنبات جوانحهم بحب مصرهم العالية، فإذا هم يزحفون زرافاتٍ ووجدانًا إلى قلعة صلاح الدين، ومسجد محمد علي ليُعيدوا إليها وإليه رونق مصر وجلال الإيمان.

إن الشباب الذي عمل في صمت ولكن في عزم يعيد الزخرف إلى الآثار التي هُدمت والمتاحف التي احترقت وإلى المساجد التي دُمرت، أن يعيد بشبابه الشباب إلى مصر، وبجمال روحه الجمال إلى وجه مصر، وبعزمه الفتوة إلى عزمات مصر، وبفنِّه الريادة إلى فن مصر. أراد الشباب وفعل.

إذن فذاك هو الشباب الذي أحزننا بعضٌ منه بمظهره، ها هو ذا يتكشف لنا عن أصوله ويزيح عن حقيقته الباذخة ما ألصقه بها التافهون منهم والضائعون والمضيعون.

هذا الشباب الذي وقف الأيام الطوال والشهور المتلاحقة على الهواء ليزيح عن آثار مصر ما أفسدته أزمان مقيتة، أزاح في ذات الوقت عن نفسه سوء الظن به الذي رماه عليه فئة منه قليلة قلة الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، والقاعدة هنا عملاقة تقف رءوسها عالية مع المآذن التي عاد إليها الله أكبر الله أكبر ولا إله إلا الله، ومحمد رسول الله.

إن هذا الشباب هو مصر القادمة. فأصبح أيها التاريخ أن مصر المؤمنة بالله وبالشرف وبالحق والحرية قادمة إلينا في الطريق، وقد بدَت منها الطلائع كإشراقة فجر في يوم ربيع.

إن هذا الشباب الذي عرف الله والوطن والجمال لن يعرف الرشوة الكافرة، ولا التجارة الشائنة، ولا الخنوع القليل. إنه غد مصر أيها التاريخ … فترقب … إنه كلمة الله ووعده الحق، إن بعد العسر يسرًا. إن بعد العسر يسرًا، إن بعد العسر يسرًا. فاللهم شكرًا لك على ما شرحت من صدورنا وما وضعتَ من أحمالنا، وما رفعت من ذكرنا واللهم غفترى هذا البلاء الذيرانك لنا حين تولانا اليأس في عسرنا وحين نسينا إن بعد العسر يسرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤