الفصل الثاني

(الغابة مُتَّشِحة بأضواء النهار الشاحبة ساعةَ الأصيل، وقد جلس بجماليون في بَهْو داره مُطرِقًا كئيبًا، غير مُلتفِتٍ إلى جَوقَة الراقصات التسع وهُنَّ يُقْبِلن من جوف الغابة مقتربات من النافذة في رقصٍ هادئٍ بطيء.)

***

الجَوقَة (تهمس عند النافذة) : بجماليون الحزين!

(بجماليون لا يتحرك، ولا يَنبِس.)

الجَوقَة : بجماليون المسكين! … أخبِرْنا متى كان هروبها؟!
بجماليون (يرفع رأسه صائحًا) : ، اغْرُبنَ عني!
الجَوقَة : إنَّا نريد لك خيرًا؛ لأنك عرفتَ الحُب … سنبحث لك عنها!
بجماليون : لا أريد أن يبحث عنها أحد!
الجَوقَة : لا تلعنها، ولا تمقتها يا بجماليون!
بجماليون (كالمخاطِب نفسَه) : ليتني أستطيع ذلك!
الجَوقَة : تذكَّر اللحظات التي كنتَ تقضيها وحيدًا فوق هذا العشب ترقُب السماء وقد تدثرت بردائها المخملي القاتم، ونثرت على صدرها حُليَّها ولآلئَها في حراسة الليل الساجي النائم؛ لَكأنك كنتَ تحاول أن تختلس من السماء شيئًا، وكنَّا نحن نرقص على مقربة منك … وكنَّا أحيانًا نُحيط بك دون أن تشعر بنا … لقد كنتَ وقتئذٍ تفكر في صُنعها.
بجماليون (في إطراق) : وا أسفاه!

(الباب يطرق طرقًا خفيفًا، ثم يفتح وتظهر إيسمين.)

إيسمين : «بجماليون»! … أحمل إليك خبرًا … أُفضي به إليك وحدك!
الجَوقَة : إنَّا ذاهبات نرقص بعيدًا!

(تبتعد الجَوقَة في رقصتها الهادئة البطيئة حتى تختفي … وتدنو «إيسمين» من «بجماليون».)

إيسمين : عرفتُ مقرَّها! … مقرَّهما … لقد هرَبتْ معه … ألا تعلم؟
بجماليون (بلا حَرَاك) : وكيف أستطيع أن أجهل ذلك؟
إيسمين : كان يجدر بي أن أتوقَّع هذا الأمر!
بجماليون (يرفع رأسه ناظرًا إليها) : وماذا يعنيكِ أنتِ منه؟
إيسمين : «نرسيس»، هو مِلكي كما هي مِلكك!
بجماليون : هي ليست الآن مِلكي!
إيسمين : لا تَقُل هذا يا بجماليون … قُم معي!
بجماليون : إلى أين؟
إيسمين : إليهما!
بجماليون : ماذا نصنع بهما؟!
إيسمين : لا تحرج صدري يا بجماليون … إنهما في مكانٍ غير ناءٍ، أتعرف ذلك الغدير في غابة السرور؟ … هنالك كوخٌ على حافة الماء … (كالمخاطِبة لنفسها) آه للشقي … لقد مضى بها إلى المكان الذي أَريتُه إيَّاه!
بجماليون : قلت لكِ، لم يَعُد لي بها شأن.
إيسمين : ليس في إمكانك التخلِّي عن مصيرها.
بجماليون : مصيرها الآن بيدها.
إيسمين : جالاتيا الجميلة! … تلك الآية التي وضعتَ فيها كل ما اكتنزتَ من فن وحكمة وتجارب! … تحفة التُّحف التي أنتجَتْها عبقريتك الخلَّاقة، بَعد جهادِ الليالي والأعوام … لا … لن تستطيع … لن تستطيع أن تعيش بغيرها!
بجماليون (بعد لحظة) : لا أريد أن أسمع شيئًا في أمرها.
إيسمين (بعد صمت) : إني أفهم كل ما بك الآن … ومع ذلك … أنا مُوقِنة أنك غير حاقد عليها ولا ناقم!
بجماليون : لو أن هذا في الإمكان!
إيسمين : إنك تحبُّها.
بجماليون : يا لَكِ من حمقاء!
إيسمين : لستُ أعني ذلك الحب! … أنا أيضًا كنت أصنع من نرسيس كائنًا آخر، بمادةٍ من عندي؛ لهذا لا أستطيع التخلِّي عنه؛ فهو يحمل جزءًا مني … لعله خير أجزاء نفسي!
بجماليون : بل هو خيرها جميعًا!
إيسمين : أجل يا بجماليون … هو كما تقول! … لذلك لست أشعر أنا أيضًا أني حاقدة عليه أو ناقمة.
بجماليون : كيف نَمْقُت عملنا الذي صنعناه بخير مَلَكاتنا؟!
إيسمين : كل عجبي هو لانصراف هذه المخلوقات عن خالقِيها!
بجماليون : وفيمَ العجب؟ … هل ارتفع مخلوق يومًا إلى فَهْم خالقه؟!
إيسمين : عبثًا حاولتُ أن أفتح قلب نرسيس المغلق!
بجماليون : أنا لم أحاول؛ لأني أدركت أنها لن تفهم عنِّي ما أقول … كان ينبغي دائمًا أن أحادثها بما تستطيع هي أن تفهم!
إيسمين : حسنًا فعلتَ!
بجماليون : إني الآن أُدرك وسائل الإله العظيم جوبيتر، عندما كان يحب فتياتٍ من المخلوقات … لقد كان يتَّخذ لكل فتاة الصورة التي تفهمها، وتروق في عينيها! … هكذا اتَّخذ شكل بجعة جميلة للرقيقة «ليدا»، واتَّخذ شكل ثور قويٍّ للحسناء «أوروبا»، واتَّخذ شكل قطعٍ ذهبية للفاتنة «دانابيه» … بهذا استطاع أن يملك مشاعرهن! … الجمال، والقوة، والمال … آه … حتى الآلهة ينبغي لها أن تتذرَّع بهذه الأشياء للوصول إلى قلب المرأة!
إيسمين : أنت الذي تمنَّى لآيته وتحفته أن تنقلب امرأة … ومضيتَ إلى معبد فينوس تدعوها وتسألها!
بجماليون (صائحًا) : لا تذكِّريني بفينوس! … لا تذكِّريني بفينوس!
إيسمين : ماذا دهاك؟!
بجماليون (ثائرًا) : هي سبب البلاء … فينوس هي سبب البلاء … لقد كنت سعيدًا … لقد كانت معي جالاتيا هنا دائمًا … جالاتيا الأخرى … جالاتيا الأولى … هنا أمامي خلف هذا الستار … كأنها إلهة خلف السُّحُب! … نعم، لقد كانت إلهة؛ لأني كذلك صنعتُها … لقد أخرجتُها من رأسي، كما أخرج الإله جوبيتر من رأسه الإلهة منيرفا … لقد كنت أراها وتراني كلَّ يوم، فيُخيَّل إليَّ أنها تفهم كل ما يجول برأسي وقلبي؛ لأنها منهما كُوِّرت وصُوِّرت … إلَهَانِ في سماءٍ واحدة يعيشان … هكذا كنَّا … ولم يكن أحد يستطيع أن يفرِّق بيننا … آه يا فينوس … انظري ماذا فعلتِ أنتِ بي وبجالاتيا؟ … لقد وضعتِ أنتِ في آية الآيات رُوحَ هرَّة؛ أي رُوح امرأة، ذلك الرُّوح المَلُول الطَّرف! … لقد جعلتِ هذا الأثر الرائع ينقلب إلى كائنٍ تافه … لقد صيرتِها امرأةً حمقاء تهرُب مع فتًى أحمق!
إيسمين : حَسْبك يا بجماليون! … لا تُهِن الآلهة!
بجماليون : دعيني أقُل لهم ما أريد، دعيني أصارح هؤلاء الآلهة بالحقيقة! … لقد صنعتُ أنا الجمال فأهانوه هم بهذا الحُمق الذي نفخوه فيه! … كل ما في جالاتيا من روعةٍ وبهاءٍ هو منِّي أنا … وكل ما فيها من سخفٍ وهراء هو منكم أنتم يا سُكَّان أولمب.
إيسمين : بجماليون! … أخشى عليك غضب فينوس!
بجماليون (ينهض في المكان ثائرًا صائحًا منفجرًا) : اسكتي أيتها الحمقاء! … لستُ أخشى فينوس! … أين هي فينوس؟ … أودُّ أن أرى وجهها الآن! … هل احمرَّ خجلًا هذا الوجه وهو يرى هذه الهزيمة الشنعاء؟!
اعترفي يا فينوس أني انتصرت عليكِ … اعترفي أنَّ التحفة التي خرجتْ من يدي مَثَلًا للكمال في الخَلْق والإبداع قد شابها النقص بلمسةٍ من يديكِ!
إيسمين (في خوف) : بجماليون! … إني ذاهبة.
بجماليون : فينوس! … أين تلك التي سألتُها الحُب فأعطتني الشقاء! … لقد حسِبتُها تستطيع أن تمنحني شيئًا … لقد كان الحُب في يدي دون أن أشعر … اتركوني أيتها الآلهة لمَلَكاتي … فلَسْتُ في حاجةٍ إليكم!
إيسمين : لا تَقُل ذلك يا بجماليون؟ … إني ذاهبة!

(تخرج سريعًا.)

بجماليون : آه … رُدُّوا عليَّ عملي! … رُدُّوا عليَّ جالاتيا كما كانت … تمثالًا من عاج!
أيتها الآلهة … دعوني وشأني … لنفسي ومخلوقاتِ نفسي! … ما أنا إلا صِنْوُكم ونظيركم، بل إني عليكم سَمَوتُ، وعلى قدرتكم فُقْتُ؛ فأنتم ما فعلتم غير أن أفسدتم الجمال الذي أقمتُ؟! … أفسدتم جمالي الخالد! … أفسدتم جمالي الخالد!

(يرتمي على الفراش باكيًا وحيدًا.)

(تضيء النافذة بالنور السماوي، وتهبط مركبة فينوس في الغابة … ثم يظهر أبولون وفينوس وهما يدنوان من النافذة يُطلَّان منها إلى داخل الدار!)

أبولون : ينبغي أن نعترف أنه على حق!
فينوس (في غضب) : صه!
أبولون (باسمًا) : أريني وجهكِ يا فينوس! … هل احمرَّ خجلًا حقيقةً؟!
فينوس : هذا رجلٌ غير جدير بهِبَاتي!
أبولون : هو حقًّا غير جدير بهِبَاتكِ! … انظري إلى ما صنعتْ به هِبَاتكِ! … يا له من مسكين!
فينوس : أبولون! … من العار أن يسخر أحدنا من الآخر — نحن الآلهةَ الخالدين — من أجل بَشَر فانٍ!
أبولون : أوَلا تَرَين من العار أن نُمسي سخريةَ بَشَرٍ فانٍ … نحن الآلهةَ الخالدين؟!
فينوس : لست أرى في الأمر ما يدعو إلى هذا القول!
أبولون : وبماذا تصفين هذه الهزيمة؟
فينوس : أنت أيضًا تسمِّيها هزيمة؟!
أبولون : عجبًا … هل تجِدِين لها اسمًا آخر؟!
فينوس : أصْغِ إليَّ يا أبولون!
أبولون : ها أنا ذا مُصغٍ يا فينوس!
فينوس : إني أعرف تحدِّيك القديم لي … أصْغِ إليَّ بغَير تحدٍّ، وبغَير تحامُل، وبغَير تشَفٍّ، وبغَير تهكُّم! … ألم يسألني هذا الرجل لتمثاله الحياة؟ … لقد منحتُ تمثاله الحياة!
أبولون : أهذه هي الحياة التي تستطيعين أن تمنحيها؟!
إنَّ الحياة الساكنة التي وضَعَها هو في العاج كانت أنبل وأرفع وأقوى من تلك الحياة المتحركة الهزيلة الشاحبة التي وضعْتِها أنتِ في تمثاله! … هذا ما يرى … ومن حقِّه، ولا ريب، أن يقدِّر هذا التقدير.
فينوس : وأنت أيضًا ترى ذلك؟
أبولون : مع الأسف والاعتذار!
فينوس : هنالك أشياء لا تستطيع أن تراها … لا أنت، ولا هو!
أبولون : لن تنكري على الأقل أننا نستطيع أن نرى الشيء الجميل!
فينوس : وماذا تريدان منِّي الآن؟!
أبولون : أولًا اعترفي أن عبقريته قد انتصرت … ثم اسحبي بعد ذلك ما وضعتِ في عمله من عناصر النقص والسخف باسم الحياة … رُدِّي عليه — كما طلب — تمثاله ساكنًا كما كان … نابضًا كما كان بحياة الفن وحدها!
فينوس : آه! … أيَّة مَذلَّةٍ لإله أن يحني رأسه أمام بَشَر! … سأفعل ما أراد … ولكن …
أبولون : ولكن …؟
فينوس : ولكن الحرب بيننا لم تنتهِ بعدُ!
أبولون (يلتفت إلى بجماليون المنبطِح على فراشه) : إنه نائم … انظري … إنه تحرَّك قليلًا … إنه يتقلَّب … صوتُكِ، ولا ريب، يتمثل له الساعة في هيئة أحلامٍ مزعجة!
فينوس (في غيظٍ كظيم) : وصوتك أنت؟
أبولون : صوت قيثارتي هو الذي تمثَّل له دائمًا في صورة أحلامٍ جميلة … رَعَتْ ورَوتْ كلَّ عناصر نبوغه!
فينوس (في ضحكةِ استخفاف) : قيثارتك؟!
أبولون : نعم، قيثارتي!
فينوس : لماذا أتعرَّض وحدي لتحدِّي مثل هذا الرجل؟! … لِمَ لا تأتي لنجدتي يا صاحب القيثارة الساحرة!
أبولون : نجدتكِ؟!
فينوس : ألا ترى من واجبنا التعاون على إنقاذ سمعة الآلهة؟!
أبولون : لا تمكري مَكْرَ النساء! … ولا تحاولي الزجَّ بي معكِ … لقد قلت لكِ إني لا أحب التدخل في شئونكِ الخاصة!
فينوس : لقد زعمتَ أني فشلتُ وأفسدتُ … فلماذا لا تتقدم أنت لإصلاح الأمر؟ … لقد أعطيتُ أنا التمثال حياةً تقولون إنها قبيحةٌ تافهة سخيفة؛ فمَن غيرك يا أبولون يستطيع أن يجعل هذه الحياة جميلةً نبيلة رائعة!
أبولون : إنه لم يطلب إليَّ ذلك!
فينوس : إنه — ولا ريب — يفضِّل ذلك.
أبولون : كلَّا … رُدِّي جالاتيا إلى عاج في بساطة كما طلب … ولا تعقِّدي الأمور!
فينوس : ولماذا لا تحاول أن تُكمل ما في حياتها من نقص؟
أبولون : أفٍّ يا فينوس! … ما دخلي أنا؟
فينوس : إنك خائف!
أبولون : أنا؟ … وممَّ أخاف؟ … وليس أيسر عليَّ من ذلك.
فينوس : إذن فافعل.
أبولون : ليست معي قيثارتي.
فينوس : إنها في مركبتي … انتظر حتى آتيك بها.

(تتجه إلى النافذة، وتمدُّ يدَيها إلى المركبة.)

أبولون (مخاطِبًا نفسَه) : أفٍّ لها من ثرثارة! … يعزُّ عليها أن تترك الآخرين في راحة!
فينوس (تعود بالقيثارة) : بمَ تهمس؟
أبولون : لا شيء.
فينوس : هاكَ القيثارة!
أبولون (يتناول منها قيثارته) : أين هي الآن جالاتيا هذه؟!
فينوس : إنها على مقربة من هنا … في كوخ بغابة السَّرْو أمام الغدير مع ذلك الفتى … نرسيس!
أبولون : يا لها من حمقاء! … ككل النساء.
فينوس : اصنع أعجوبتك!
أبولون (يضرب على القيثارة) :
نغماتي عليها رفيع الكلام،
ونبيل المعاني ورائع الأحلام!
همساتي تفتَّحي لها زهرات،
بأريج الفن والفكر عطرات!
بأمري أسرعي إلى هذا المكان،
وبقبلاتك أيقظي زوجك بجماليون!
فينوس : أتراها الآن عائدة؟!
أبولون : على أجنحة النسيم طائرة!
فينوس : سأبقى لأرى ما يكون؟!
أبولون : فَلْنُشاهد من خلف النافذة!

(فاصلٌ موسيقي.)

(يخرجان من النافذة كما دخلا، ويقفان خلفها يشاهدان … وعندئذٍ يُفتح باب الدار في رفق، وتظهر جالاتيا كالخجِلة … وتتقدم وهي تبحث بعينيها في أنحاء المكان، حتى يقع نظرها على بجماليون.)

جالاتيا (في همسٍ عذب) : بجماليون!

(بجماليون يتحرك قليلًا.)

جالاتيا (تنحني عليه وتقبِّله) : بجماليون!
بجماليون (يفتح عينيه) : أنتِ؟!
جالاتيا : نعم، أنا! … أيزعجك أن أوقظك بقبلاتي؟!
بجماليون : متى عُدتِ؟
جالاتيا : الساعة!
بجماليون : ولماذا عُدتِ؟
جالاتيا : لست أدري … غير أنه ينبغي لي أن أبقى إلى جانبك يا بجماليون العظيم!
بجماليون (وهو يتأملها مليًّا) : بجماليون العظيم!
جالاتيا : نعم … أتُدهش لهذا؟ … ألا تعرف نفسك؟
بجماليون : قليلًا.
جالاتيا : أمَّا أنا فأعرفك كثيرًا … أي موسيقى تملأ نفسي الآن بأشياء لم أكن أُدركها قبل الآن! … إنك ناقم عليَّ! … أرى أنك ساخط عليَّ!
بجماليون : لم أسخط عليكِ لحظة قَط، ولم أنقم.
جالاتيا : حقًّا؟
بجماليون : ثِقي بذلك.
جالاتيا : ابتسِم إذن!
بجماليون : ليس الآن!
جالاتيا : إنك لست فرِحًا بعودتي!
بجماليون : ليس للسبب الذي قد يبدو لكِ.
جالاتيا : لماذا لا تصارحني بكل ما في نفسك يا بجماليون؟ … إني اليوم لستُ مثلي بالأمس … إني الآن جديرة أن تفتح لي نفسك فأُطالع كل ما سُطِّر فيها … لأني الآن أعرف مَن أنت! …
بجماليون : ماذا تعرفين؟! … هو بالطبع نرسيس الذي أخبركِ!
جالاتيا : لا تذكِّرني الساعة بنرسيس هذا!
بجماليون : لماذا؟
جالاتيا : ذاك عهدٌ انقضى … لقد كنتُ طائشةً حمقاء!
بجماليون : والآن؟
جالاتيا : لا.
بجماليون : أواثقة أنتِ من ذلك؟
جالاتيا : إني الآن أرى أشياء يُدهشني ويُدهشك أن أراها بمثل هذه السرعة!
بجماليون : لستُ أنكر أنه تُدهشني الساعة أشياء كثيرة!
جالاتيا : ومع ذلك هي حقيقة يجب أن نصدِّقها!
بجماليون : ليس بهذه السرعة يا جالاتيا … خصوصًا فيما يتعلق بي … فَلْنصبر على الأقل حتى يذهب عني أثر الحلم الذي رأيت في النوم منذ لحظة!
جالاتيا : أرأيتَ حُلمًا؟
بجماليون : مزعجًا! … بجعتين … تأكل إحداهما من قلبي … والأخرى من كبدي.

(أبولون في النافذة يلتفت إلى فينوس.)

أبولون (باسمًا هامسًا) : بجعتَاكِ!
فينوس (هامسةً غاضبة) : صه.
جالاتيا (لبجماليون في ألمٍ) : آه أيها العزيز بجماليون! … ألَمْ أقلْ لك ينبغي لي أن أبقى إلى جانبك دائمًا؟!
بجماليون : ولكن … يُخيَّل إليَّ أن البجعتين — لحسن الحظ — لم تتناولا من قلبي وكبدي شيئًا كثيرًا!
جالاتيا : لماذا؟!
بجماليون : لعلَّهما تكرهان الطعامَ الحارَّ!
جالاتيا (باسمةً) : آه يا بجماليون الظريف!
بجماليون : أو لعلَّهما! …
جالاتيا : ماذا؟
بجماليون : خُيِّل إليَّ أيضًا أني سمعت قيثارة … ما كادت تنطلق أنغامها حتى نفرت البجعتان وانطلقتا بعيدًا … بعيدًا.
جالاتيا (كالحالمة) : أنغام قيثارة!
بجماليون (يلتفت إليها) : نعم … لماذا تغيَّر وجهكِ؟
جالاتيا : لا شيء … لا شيء!
بجماليون : ولكني لست أخفي عنكِ أنَّ ما وجدتُ منكِ عند اليقظة كان أعجب من الحلم!
جالاتيا (حالمةً) : مني … حقًّا … لستُ أدري …
بجماليون : لستِ تدرين ماذا يا جالاتيا؟
جالاتيا : حياتي … أين الحلم فيها، وأين الحقيقة؟!
بجماليون : حياتكِ ليست بالطول الذي يستحقُّ التفكير فيها بعدُ.
جالاتيا : أحسُّ مع ذلك أنها طويلة … أنسيتَ مَن أنا؟ … يبدو لي أنك نسيتَ أنَّا عِشْنا معًا طويلًا!
بجماليون : نعم … عِشْنا معًا.
جالاتيا : كم من الأعوام؟
بجماليون : لستُ أذكُر … أتذكرين أنتِ؟!
جالاتيا : آه … أيها القاسي!

(تذهب إلى قرب الستار مفكِّرة، وتجلس في إهمالٍ على قاعدة التمثال مُطرِقة.)

بجماليون : ألا تجِدِين دائمًا غير هذا المقعد الرخامي؟!
جالاتيا : لطالما جلستُ هكذا … وكنتَ ترنو إليَّ دائمًا بنظراتك العميقة … ولكنك لا تذكُر الآن شيئًا!
بجماليون : لا تتألمي كثيرًا لضعف ذاكرتي!
جالاتيا : لا لهذا … بل لأني لا أعرف ماذا أصنع بعد الآن … وأنت تعاملني هكذا … إنك لم تخبرني أنك تألمتَ عندما أخذت البجعتان تلك القطعة من …
بجماليون : وماذا يعنيكِ من ذلك؟ … أحسَبكِ لن تزعمي أنكِ أنتِ تلك القطعة.
جالاتيا : كنت أرجو أن تقول: إني كذلك!
بجماليون : ما دمتِ تريدين أن أقول لكِ ذلك … فَلْأقُل لكِ ذلك: أنتِ تلك القطعة … منها تشكَّلتِ في صورةِ امرأة!
جالاتيا : نعم … أحسُّ الآن أنك لا تكذب!
بجماليون : عجبًا … كيف تحسِّين ذلك؟
جالاتيا : أمِن العسير أن أشعر أني جزءٌ منك؟!
بجماليون : أهذا كل ما تشعرين به؟
جالاتيا : عندي غير هذا … ولكن …
بجماليون : افتحي لي كل نفسكِ يا جالاتيا لأطالع كل ما سُطِّر فيها!
جالاتيا : لكأني بك لا تعرف بعدُ كلَّ خفايا نفسي … إنك لتسألني ما سألتُك منذ لحظة … ولكنك لم تجبني، وأسدلتَ دوني ستار الصمت كما يفعل الآلهة مع البشر! … أجل … ألا تراه عجيبًا أن يطلب الآلهة إلى مخلوقاتهم الإفصاحَ عمَّا في النفوس، والكشفَ عمَّا في الصدور؟ … فإذا حاولتْ هذه المخلوقات أن تسأل آلهتها عن أنفسهم؛ سكتت الآلهة، ولم يُحيروا جوابًا.
بجماليون : لعلَّهم لا يعرفون.
جالاتيا : أتظنُّ ذلك؟
بجماليون : أمِن الضروري أن تعرف الصفحات ما في صدرها من كلمات؟! إنما على البَشَر أن يقرءوا، وأن يفهموا، وأن يفسِّروا … كلٌّ على قَدْر فطنته، وتفكيره، وإدراكه!
جالاتيا : كنتُ أحسَب الآلهة يعرفون — على الأقل — مثلما نعرف.
بجماليون : أتريدين لهم أن يعرفوا القراءة والكتابة؟
جالاتيا : بجماليون! … أيها العزيز بجماليون! … إنك تحاول منذ عُدْتُ أن تخاطبني في إهمالٍ وخفَّةٍ وقلةِ احتفال … إذا كنتَ تريد الاقتصاص منِّي فثِقْ أني قد استوفيتُ العقاب!
بجماليون : أنا أعاقبكِ على أمرٍ لم تقترفه يداكِ اللطيفتان؟! … إني أعرف المسئول، وقد أعلنتُه برأيي فيه منذ قليل … ولعلَّه آثر إصلاح عمله وإتقان صناعته! … ومع ذلك هذا مستحيل … عهدي به غير قدير على أكثرَ مما صنع! … كيف حدث فيكِ إذن هذا التغيير السريع؟!
جالاتيا : للمرة الأولى منذ عُدْتُ لا أفهم ما تقول!
بجماليون : معذرةً يا جالاتيا … لا تُلقي بالًا إلى قولي … ذاك حساب بيني وبين …

(أبولون وفينوس يتبادلان نظرةً ذات مغزًى.)

جالاتيا (تدنو من بجماليون) : آه يا بجماليون!
بجماليون (رقيقًا) : ماذا بكِ أيتها العزيزة جالاتيا؟!
جالاتيا (تمرُّ بيدها مرًّا لطيفًا على صدره) : لو استطعتُ أن أقرأ كل ما في صدر هذه الصفحة من كلمات!
بجماليون : يكفيكِ يا جالاتيا أن تقرئي ما في صدركِ أنتِ!
جالاتيا : أحقًّا؟
بجماليون : ألم تقولي الساعة أنكِ تشعرين بأنكِ جزءٌ منِّي؟! … ارجعي إلى نفسكِ أنتِ دائمًا وطالعيها تعلَمي الشيء الكثير عني!
جالاتيا : في نفسي أشياء جميلةٌ نبيلةٌ … في نفسي أنك إله!
بجماليون : أنا؟!
جالاتيا : يُخيَّل إليَّ أنك خلقتني، وصنعتني، وجعلتني كما تتخيَّل وتشتهي … هذا شعور كالحقيقة الناصعة، يصعد أحيانًا من أعماق نفسي كما يصعد النهار من جوف الليل! … يُخيَّل إليَّ أنك استلقيتَ ذات أمسيةٍ مُقمِرة، على العشب الأخضر النَّضِر، في هذه الغابة الناعسة الهامسة … فحلمتَ حُلمًا بديعًا … كنتُ أنا هذا الحلم … ما أنا إلا حُلمك … لهذا يخامرني أحيانًا ذلك الإحساس الغامض عن ماضي حياتي … فأتساءل: أأنا حُلمٌ أم يقظة؟ … أأنا حُلمك دائمًا يا بجماليون أم يقظتك؟
بجماليون : خلقتُكِ؟ … من أي شيء خلقتُكِ؟!
جالاتيا : من أشعةِ فكرك المتألق اللامع! … من جواهرِ ذهنك الوهَّاج الساطع! … من حرارةِ قلبك التي يضطرم بها قلبي … من كلِّ تلك المشاعر الجميلة النبيلة التي تعجُّ بها نفسي! … نعم … نعم … ما منبع كل هذا غيرك أنت! … أنت يا زوجي بجماليون!
بجماليون : أمِن هذا فقط صنعتُكِ؟!
جالاتيا : أوَكُلُّ هذا قليل؟ … هنالك مع ذلك أسطورةٌ قد تبسِم لها إذا سمعتَها.
بجماليون : أسطورة؟!
جالاتيا (باسمةً) : قيل لي إنك صنعتني من … عاج!
بجماليون (باسمًا) : مادة نفيسة كما تَرَين!
جالاتيا : وأنَّ فينوس نفخت الحياة في كياني … فصِرتُ كما تراني!
بجماليون : لم تصدِّقي بالطبع هذا الهراء؟!
جالاتيا : لستُ أدري … لمَ لا؟ … إني أشعر حقًّا أنك إلهي، وأني مخلوقتك … على أي وجهٍ حدثَ ذلك؟ … وبأيَّة مادة؟ … هذا ما لا ينبغي أن أُعنى به كثيرًا … لعل هذا يعنيك أنت … وما دمتَ لا تريد أن تصارحني بشيء … وما دمتَ تريد أن أكشف أنا كل شيء لنفسي بنفسي … فَلْأقف إذن عند هذا الحد!
بجماليون : نعم … يحسُن أن تقفي عند هذا الحد!
جالاتيا : ومع ذلك … تستطيع أن تخبرني الآن دون أن تخشى شيئًا!
بجماليون : أعلم … أعلم أنكِ الآن امرأةٌ أخرى!
جالاتيا : لست أنسى أنك البارحة كنتَ تخشى أن تخاطبني بما لا أفهم؛ لأني كنتُ أخاف ذلك … نعم! … لستُ أكتمك أني كنتُ أخاف منك!
بجماليون : والآن؟
جالاتيا : لا … لست أخافك؛ لأني أحبك … وأحبك لأني عرفتُك وعرفتُ نفسي بعض المعرفة!
بجماليون (ينظر إليها في عجبٍ وإعجابٍ، ويهمس) : أيتها الآلهة! … أيتها الآلهة!
جالاتيا : لماذا تنظر إليَّ هكذا يا بجماليون!
بجماليون : أصغي إليَّ مليًّا يا جالاتيا! … أقول لكِ أول مرة قولًا يصعد من أعماق قلبي كما تصعد الشمس الحارَّة المضيئة … وإنكِ لتُحسِّين مثله، ولا ريب، في أعماق قلبكِ: أنتِ يا جالاتيا جديرةٌ بي … وبحبي!
جالاتيا (تركع، وتضع رأسها في حِجره) : معبودي بجماليون! … معبودي بجماليون!

(بجماليون ينحني فيقبِّلها.)

(أبولون يُمسك بقيثارته، ويعزف.)

جالاتيا (ترفع رأسها) : نفسي تجيش بموسيقى رائعة!
بجماليون (مُصغيًا) : نعم! … نعم!
جالاتيا : أتسمعها؟
بجماليون : إنها تذكِّرني باللحظة التي حَلَمتُ بكِ فيها!
جالاتيا : لكأنَّها أنغامُ قيثارة!
بجماليون : آه … عرفتُ الآن … فهمتُ كل شيء … أدركتُ كل شيء!
جالاتيا : ماذا؟ … ماذا يا بجماليون؟
بجماليون : شكرًا لك يا أبولون! … شكرًا لك يا أبولون!

(فينوس يرتسم على وجهها الغيظ.)

فينوس (تجذب ذراع أبولون في عنف) : هلُمَّ بنا … هلُمَّ بنا … قد أضعنا وقتًا طويلًا ها هنا!
أبولون (باسمًا) : ألا تَرَين من الإنصاف أن تعترفي بأني انتصرتُ؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤