الفصل الأول

مَنْ هو نيوتن؟

(١) ملاحظة التفاحة

روى بمبرتون صديق نيوتن الحميم، وقد وقف على الطبعة الثالثة من كتاب المبادئ لنيوتن: «كان نيوتن جالسًا ذات يوم تحت شجرة تفاح يفكر كعادته حين يكون منفردًا، فرأى تفاحة سقطت من الشجرة من تلقاء نفسها — لعلها تجاوزت دور النضج — فحوَّلت تفكيره إلى سبب سقوطها، وقال في نفسه: ما الذي أسقط هذه التفاحة إلى الأرض؟»

وكان قد عرف نظرية طيخو براهي عن مسارعة الأجسام الساقطة، فتراءى له أن التفاحة سقطت متسارعة؛ تراءى له تسارعها على الرغم من أن سقوطها لم يتجاوز ثانيتين، وهي مدة لا تكفي لملاحظة المسارعة، فاستطرد يقول لنفسه: وما الذي جعلها تسقط متسارعة؟ وما هي القوة التي تُهْبِط الأجسام من أعلى إلى أسفل؟ من الشجرة ومن الجو ومن رأس الجبل ومن البرج … إلخ. ألا يمكن أن تكون هذه القوة هي نفس القوة التي تفعل بالقمر فيدور حول الأرض بدل أن يندفع في خط مستقيم وفقًا لما نعلمه بالبديهة؟ ألا يمكن أن تكون هذه القوة في الأرض نفسها، قوة تجذب ما حول مركزها إليه؟ ألا يمكن أن تكون نفس القوة التي تُحرج السيارات أن تدور من حول الشمس؟

وما عتم أن شرع يفكر في سُنَّة طبيعية توجب على الأجسام أن تدور من حول مركز، ولأنه كان رياضيًّا بالفطرة وقد نبغ في الرياضيات منذ حداثته شرع يبحث في خطة هذه القوة. لا بدَّ أن يكون ثمة نظام حسابي لهذه القوة تسير فيه على قاعدة واحدة مهما اختلفت الأجسام حجمًا وتباعدت مسافةً أو تفاوتت زمنًا.

الغاية الرئيسية من هذا الكتاب بسط سُنَّة الجاذبية كما اكتشفها هذا الفيلسوف العظيم نيوتن في جميع ظروفها ومقتضياتها. ولكن البحث في هذه الغاية يستلزم البحث في حياة نيوتن نفسه.

هذه السُّنَّة التي برزت من ذلك الدماغ الذي بقيت أليافه تلمع لمعات الذكاء برهة ثلاثة أرباع القرن، حتى إنها أضاءت عالم العلم منذ مولد ذلك الفيلسوف الطبيعي إلى اليوم وإلى الأبد؛ هذه السنة فتحت باب أسرار الطبيعة للعلماء الحديثين، فانجَلَتْ لهم حقائق عديدة عن الكون المادي.

منذ عهد نيوتن إلى الآن انجلى من أسرار الكون ما يعادل ألف ضِعْف مما استجلى الإنسان منها من قبل.

قال أحد المدركين قيمة عمل نيوتن العلمي: «كانت نواميس الطبيعة غامضة، وفي ليلٍ حالكٍ من الجهل إلى أن قال الله: «ليكن نيوتن.» فضاءت المعرفة وأنارت الكون كله.»

قبل البحث في موضوع الجاذبية ينبغي أن نرفع الغطاء عن مشعال الذكاء الذي كشف القناع عن الجاذبية، ينبغي أن نُجمل للقارئ سيرة حياة نيوتن الملقب بحق فيلسوف الطبيعة وزعيم فلاسفتها.

(٢) نشوءُه

وُلِد إسحاق نيوتن في ٢٥ من ديسمبر سنة ١٦٤٢ في منزل وضيع في وولتروب قرب جرانثام من ولاية لنكشير في إنجلند، وقيل إنه من نسل السير جون نيوتن. وكان أبوه قد تُوفِّي في أكتوبر السابق. وفي سنة ١٦٤٥ تزوَّجت أمه برنابا سمث قسيس نورث ولهام من ليستشر. وبعد زواجها الثاني عاش إسحاق مع جدته مسز إسكوف من وولتروب أيضًا، ولكنها استعادته إليها بعد ترمُّلها الثاني.

وكان في أول عمره نحيفًا ضعيف البنية لم تُرْجَ له الحياة، يقال لأنه وُلِد قبل موعد الولادة، ولازم نحو سنتين المدرسة الابتدائية في جرانثام، إذ كانت تحت رعاية المستر ستوكس، ومنذ دخل المدرسة بَدَتْ عليه مخايل الذكاء، بيد أنه لم يتفوَّق بل كان نجاحه قليلًا، ولعل السبب أنه كان يلهو بالألعاب وصنع أشياء منها، وقد ورد في كتاب أعلام المقتطف: «قيل إنه لم يكن ليلتذ مهتمًّا بمعاشرة رفاقه التلاميذ وملاعبهم، بل كان ينفرد عنهم ويلهو بالألعاب الميكانيكية وتقليد ما يراه منها، فاصطنع بيده منشارًا وقدومًا ومطرقة وسائر أدوات الصناعة بحجم صغير يناسبه، وكان يستعملها بحذقٍ غريبٍ، فصنع بها ساعات يديرها الماء المنحدر، فكانت بغاية الضبط والإتقان.

وفي ذات يوم أنشئوا في المدرسة مطحنة هوائية كانت لذلك العهد غريبة عجيبة، فما زال يدرسها حتى فهمها وصنع مثلها، وزاد عليها أن جعل الطحان فأرًا يطحن الدقيق ويأكله» (باختصار).

وأولع أيضًا بالرسم والتصوير وبنظْم الشعر، فانصرف عن درسه بهذه الألعاب والفنون إلى أن تفوَّق أحد رفاقه عليه في إحدى المنافسات، فأثار الأمر في نفسه حماسة المناظرة، وما لبث أن صار رأس فرقته.

وكان يستلذ مراقبة نجوم السماء، فلا بدع أن يُغْرق بعدئذٍ في التفكير في الجاذبية التي تربط أجرام السماء.

في الرابعة عشرة من عمره سنة ١٦٥٦ أخرجته أمه من المدرسة لكي يساعدها في الحقل. وهل المخلوق لكي يَفْلَح السماء يطيق أن يَفْلَح الأرض؟! طبعًا لم ينجح في هذا العمل؛ لأنه كان لاهيًا في العمليات الرياضية حين كان يجب أن ينشغل في الزرع والقلع والحرث والعزق. وكانت أمه ترسله إلى سوق جرانتهام لكي يبيع غَلَّة الحقل ومعه خادم مسنٌّ، فكان يحيل أمر البيع في السوق إلى هذا الخادم، ويجنح إلى الصديق كلارك الصيدلاني حيث يطالع فيما عنده من كتب علمية وكيماوية.

ولما رأى خاله وليم إيسكوف قس بورتون كوكجل والعضو في كلية الثالوث (ترينتي) في جامعة كمبريدج ميله إلى الرياضيات والعلم؛ نصح لأمه أن تردَّه إلى المدرسة لكي يستعدَّ لجامعة كمبريدج، وكان ذلك ١٦٦٠. وفي سنة ١٦٦١ استتمَّ استعداده للدخول في كلية الثالوث. وفي سنة ١٦٦٥ نال شهادة بكلوريوس علوم. وفي سنة ١٦٦٧ اختير معلمًا في الكلية المذكورة.

(٣) اكتشافاته الرياضية

وفي سنة ١٦٦٥ اكتشف النظرية الرياضية المسماة «الكميات الثنائية»، وهي عبارتان جبريتان تربطهما علامة الإيجاب أو علامة السلب، وما لبث أن استنبط الفن الرياضي المسمى «حساب التكامل والتفاضل» Calculus وقد سماه Fluxions، وترجم المقتطف الكلمة «فن السيالة». ولهذا الفن شأن عظيم جدًّا في العلوم الرياضية النظرية والعملية كالهندسة الميكانيكية وهندسة البناء … إلخ.

وفي مايو من السنة التالية دخل في الطريقة العكسية لهذا الفن، وهي طريقة حساب المنحنيات وأحجام المجسَّمات، وقال: «وفي تلك السنة (١٦٦٦) جعلتُ أفكِّر في قوة الجذب (أو في الثقل) الممتدة إلى فلك القمر، وأخذت أقابل القوة اللازمة لحفظ القمر في فلكه بالقوة الجاذبية التي على سطح الأرض. كان ذلك في سنتَي ١٦٦٥ و١٦٦٦، وذلك أول شبابي.»

(٤) اكتشافه سر الألوان

ومنذ ذلك الحين جعل يبحث في البصريات وأسباب الألوان، وفي ١١ من يناير سنة ١٦٧٢ أرسل شرح اختباراته إلى الجمعية العلمية الملكية، وفي تلك السنة عينها اختير عضوًا في الجمعية مع لقب أستاذ، وفي الحال شرع يرسل رسائله إلى أوكدنبرج كاتب السر في الجمعية لكي تُتْلَى فيها.

ومما كتبه حينئذٍ: «سأبذل جهدي أن أبدي شكري للجمعية بتقديم ما تستطيع مجهوداتي المتواضعة أن تؤثره في ترقية البحث الفلسفي.»

وقُرئت نظريته عن النور والألوان في ٨ من فبراير في المجمع العلمي الملكي — أي الجمعية المذكورة آنفًا — وأظهرت العمليات التي شرحها أن النور مؤلَّف من مجموعة من الأشعة مختلفة الانكسار؛ أي إنها إذا مرَّت في موشور (أصبع من بلور مثلث الزوايا) خرجت أشعته ملونة منكسرة على زوايا مختلفة مع الشعاع الأصلي. ومعنى ذلك أن الألوان ليست صفات للنور المنعكس عن الأجسام الطبيعية كما كان يُظن، بل هي خواص أصلية في النور نفسه تختلف باختلاف الأشعة المنكسرة؛ أي إن اللون ليس في الجسم الذي يعكسه بل في النور نفسه الذي انعكس عليه. واختلاف الألوان يتوقف على اختلاف زوايا الأشعة المنكسرة كما نعلم نحن الآن، ونعلم أن زوايا الانكسار هذه تختلف باختلاف أحوال الموجات الضوئية وذبذباتها، والتي تُحْدِث في شبكية العين نفس الاختلاف، والدماغ يتصوَّر لكل ضرب من الموجات لونًا خاصًّا أو هو استنبطه.

وفي المدة التي كان فيها منشغلًا في هذا البحث وفي تحقيق نظريته عُيِّن أستاذًا للرياضيات، إذ استقال سلفه الأستاذ بارولكي لكي يحلَّ هو محله؛ ومن ثَمَّ كانت السلسلة الأولى من محاضراته عن البصريات مؤيدة بالمعادلات الرياضية، وهذا ما حمله على الاستمرار في البحث والاختبار التجريبيَّين بواسطة الموشور المشار إليه الذي اشتراه في معرض ستوبوردج سنة ١٦٦٦ إلى أن بلغ بحثه قمتَهُ في رسالة إلى الجمعية (أي المجمع العلمي الملكي) سنة ١٦٧٢، حيث قامت قيامة المناقشات الحادة بين العلماء الطبيعيين في هذا الموضوع، على أن المجمع أثنى عليه باحترام كلي وشكر له بحثه العظيم الشأن، وأبلغه أن المجمع عُنِي به عناية خاصة.

(٥) مُناظرة العلماء له

وحاول روبرت هوك مع «وارد» مطران سالسبوري وروبرت بويل أن يتمادوا في البحث تخطئةً لنظرية نيوتن. وهوك في كتابه ميكروجرافيا وصف عملية تجريبية بالموشور، ولكنها لم تعد بتأييد رأيه، وجميع انتقادات هؤلاء الثلاثة انتهت بتأييد رأي نيوتن.

وكان في التلسكوب «المقراب» في ذلك الحين عيب لوني، فعانى نيوتن في إصلاح هذا العيب إلى حدٍّ ما، وصنع التلسكوب المُصلَح لأول مرة سنة ١٦٦٨، ثم صنع تلسكوبًا ثانيًا وأرسله إلى المجمع الملكي في ديسمبر سنة ١٦٧١.

وتطاول البحث والنقاش في البصريات بينه وبين العلماء سنة ١٦٧٥، وكتب في تلك السنة: «لقد تعبت جدًّا في هذه المباحث التي دارت حول نظريتي في النور حتى إني لُمْتُ نفسي أخيرًا لحمقي في هجر نعمة راحتي؛ لكي أعدو وراء خيال أو ظل.»

على أن هذه المباحث كانت ذات فوائد جَمَّة؛ لأنها أدَّت به إلى تحقيق تأثيرات اللون الأخرى، وإلى البحث في سبب صدور النور، والذهاب إلى أن النور ذريرات تصدر من الجسم المنير وتنطلق في الفضاء الخالي بسرعة فائقة، وقد حسبها حينئذٍ ١٩٠ ألف ميل في الثانية، وهي الآن بالتحقيق ١٨٦ ألف ميل، فما ضلَّ كثيرًا على الرغم من فقر عصره بالآلات الفلكية والعلمية.

ثم إنه تبسَّط في أسرار انعكاس النور وانكساره كما هو معلوم الآن في علم الطبيعيات. وعاد هوك يتصدَّى إلى نقده في هذا الموضوع في كتابه ميكروجرافيا ١٦٦٤، إذ استند على نظرية هوجنس Huyghens في أن النور قوة تنتقل بحركة موجية في الإيثير المالئ الفضاء، ولكنه لم ينجح في تطبيق هذه النظرية على الانتشار «المتعامد» لكل الجهات والانعكاس والانكسار إلى غير ذلك من خواص النور. ومع ذلك كان نيوتن مضطرًّا في تعليل هذه الظاهرات إلى فرض أن النور المنتشر ذريرات من الجسم المنير تنطلق متموجة في الإيثر.
ومضى زمن بعد نيوتن كان يعتقد فيه العلماء أن النور أمواج إيثرية لا ذرية، ولكن بعض علماء هذا العصر عادوا إلى نظرية نيوتن بتنقيح كثير فيها، وقد سمى السير تجايمس تجينز أمواج الذرات النورانية Wavicles وهي نحت من كلمتي Wave-Particle.

وكانت عبارة نيوتن الأخيرة في هذا الموضوع سنة ١٦٧٥: «أظن أن النور ليس إيثيرًا ولا أمواجًا إيثيرية، بل هو شيء آخر ينتشر من الجسم المنير.» ويظن أيضًا: «أن النور والإيثير يتفاعلان الواحد مع الآخر.»

على أن شهرة نيوتن لا تتوقَّف على هذا المبحث ولا تقف عنده، بل على اكتشافات علمية أخرى تخلِّد اسمه إلى الأبد وأهمها «ناموس الجاذبية».

(٦) قوة الجذب

وفي سنة ١٦٦٦ حين عاد إلى وولتروب بسبب انتشار الطاعون في كمبريدج، جعل يفكر في قوة الجذب الممتدة إلى فلك القمر إلى أن اكتشف ناموسها، ولكن لما لم يصح تطبيق هذا الناموس على القمر الدائر حول الأرض، لم يشأ أن ينشر شيئًا بشأنه مدة طويلة؛ لظنه أنه خطأ وأن الفكرة سخيفة.

والغريب أن يظن نيوتن أن لوقوع الجسم على الأرض ودوران القمر حولها ناموسًا، أليس غريبًا أن يعتقد نيوتن أن القوة التي اجتذبت التفاحة إلى الأرض هي نفس القوة التي تدير القمر حول الأرض؟ عجبًا إذن، لماذا لا يسقط القمر على الأرض كما سقطت التفاحة وكما يسقط كل جِرْم؟ وأعجب من ذلك أن يدرك نيوتن هذا السر وهو غريب على الأذهان وبعيد عن الأفهام١ وبناءً على فهمه هذا السر عمل حسابه فضلَّ؛ لأن المعلومات التي بنى عليها كانت ناقصة كما سيرد بيانه، وكما سيعلم القارئ السر الذي أدركه نيوتن.

في ذلك الحين كان بعض أعضاء المجمع العلمي يخمِّنون تخمينات مختلفة فيما لاح لنيوتن من قبيل قوة الجذب التي تجذب الأجسام نحو المركز والسيارات نحو الشمس والقمر نحو الأرض … إلخ، وكان منهم رن، وست وارد مطران لسبوري، وروبرت بويل، وهوك، وهالي، إلى أن التقى هالي بهوك ورن يوم الأربعاء من يناير سنة ١٦٨٤، فقال رن: إنه اكتشف البرهان على نواميس الحركات الفلكية، أما هالي فاعترف بجهله، وانبرى حينئذٍ السير كريستوفور مشجِّعًا البحث في الموضوع، وقال: إنه يُهدي كتابًا بأربعين شلنًا لمن يجد حلًّا لمسألة دوران السيارات في أفلاكها، وأمهل المشتغلين بها شهرين.

بقيت المسألة بلا حل حتى شهر أوغسطس حين زار هالي نيوتن في كمبريدج وقال له: وصل إليَّ أنك توفقت إلى الحل لهذا السؤال: وهو أن تأثير قوة مركزية على جسم متحرك تختلف كمربع البُعْد، فكيف ذلك؟ وما البرهان؟

فوعده نيوتن بأن يبحث عن نسخة البرهان التي أهملها منذ ١٨ سنة لعدم ثقته بصحته، على أن نيوتن لم يجد النسخة فأعاد كتابة البرهان من جديد وأرسله إلى هالي في نوفمبر من تلك السنة، وعاد هالي إلى كمبريدج وألحَّ على نيوتن أن يقدِّم البرهان للمجمع.

وفي العاشر من ديسمبر سنة ١٦٨٤ أبلغ هالي إلى المجمع أن نيوتن أراه رسالة مستغربة وأنه ألحَّ عليه أن يرسلها إلى المجمع لكي تسجَّل فيه، فأرسلها نيوتن وسُجِّلت بالفعل في فبراير سنة ١٦٨٥ وعلى حاشيتها تاريخ صدورها في ١٠ ديسمبر سنة ١٦٨٤.

ولكن في أوائل سنة ١٦٨٥ أدَّت حساباته بهذا الشأن إلى اعتبار أن كلًّا من الشمس والسيارات كأنها نقط متجمعة في مراكزها؛ أي إن الجِرْم كله كتلة مضغوطة في مركزه، وفي هذا المركز مقر القوة الفاعلة، ولكن أحقيق هذا؟ أم أن الجِرْم مهما كان كبيرًا أو صغيرًا يُعتبر كله مركزًا إذا قورن بالمسافة السحيقة بينه وبين الجِرْم الآخر؟ وما هي هذه القوة التي تستطيع بها الشمس مثلًا أن تجتذب جِرْمًا خارجًا عنها؟

ومن ثمة جعل نيوتن يحسب حساباته على فرض أن كل ذرة في الشمس تجذب كل ذرة في الجسم الآخر البعيد عنها بقوة مناسبة لحاصل ذرات هذا مضروبة بذرات ذاك وبنسبة مربع البُعْد بينهما.

ولما خرج نيوتن بناموس الجاذبية نتيجة لحساباته سنة ١٦٦٥ رأى أن دوران القمر أسهل نموذج لاختبار صحة الناموس، فحسب حسابه على اعتبار أن القمر يبعد عن الأرض نحو ٦٠ مرة طول نصف قطر الأرض، فكانت النتيجة خطأً، وبعد مدة من الزمن ظهر أن قطر الأرض أطول مما كان يظن، فعمل حسابه على اعتبار الطول الجديد فصحَّ وثبتت السنة التي اكتشفها.

(وسيأتي شرح ذلك فيما بعد في الملحق الثالث، القسم الثالث.)

وبعد ذلك تجرَّأ نيوتن أن يُعلن ناموسه وأن يُجاهر به بثقة عظيمة، ثم طبَّقه على جميع دورانات السيارات، ثم صار يطبِّقه على كل حركة فلكية وكونية مهما كانت عظيمة وشاسعة وبعيدة أو صغيرة أو كبيرة.

وبواسطة قانون الجاذبية اكتُشف تسطيح الأرض عند قطبيها، وسبب تغير الثقل بتغير الارتفاع عن سطح الأرض، وبها فسَّر مبادرة الاعتدالين وسير المد والجزر، وقال بإمكان معرفة حجم السيارات بواسطة معرفة جذبها بعضها لبعض واضطراب حركاتها، وتعليل تقدُّم نقطة الرأس في الفلك الإهليلجي إلى غير ذلك من الحركات الفلكية.

الناموس الطبيعي لا ينقض بوجه من الوجوه، هو أساس النظام الثابت.

(٧) فلسفة المبادئ الطبيعية

عاد نيوتن بعد ذلك إلى كمبردج وشرع يؤلف كتابه المشهور العظيم الشأن «المبادئ» Principia سنة ١٦٨٦م، وقد سماه فلسفة المبادئ الطبيعية الرياضية Philosophae Naturalis Principia Mathimatice وأتمَّه في ثلاثة مجلدات، وطُبِعَت في ١٦٨٧.

وكانت الجمعية (أي المجمع العلمي) في ذلك الحين فقيرة فأخذ هالي نفقات الطبع على عهدته، وكان يزيل كل ما يستطيع من الصعوبات من أمام نيوتن؛ لكي يتمَّ هذا العمل العظيم، وما عتمت هذه المؤلفات الثلاثة النفيسة أن انتشرت في كل أوروبا، ونَشَرَت معها شهرة عظيمة له، وبقيت المرجع العظيم الشأن لعلماء العصر إلى اليوم، ومعظم نظريات علم الأكوان والأفلاك تستند إلى المبادئ التي قرَّرها نيوتن.

(٨) مرضه وتفوقه الرياضي

في سنة ١٦٨٩ انتُخِبَ نيوتن عضوًا في الجامعة، ثم انتُخِب ثانيةً في سنة ١٧٠١.

وفي سنة ١٦٩٠ عاد إلى كمبردج واستمرَّ في مباحثه الرياضية، وما عتم أن انتابه داء الأرق بين سنتي ١٦٩٢ و١٦٩٤، وقيل إنه أصيب باضطراب عصبي حتى باختلال عقلي أيضًا.

وحينئذٍ كتب هيفن إلى بستر:

لا أدري إن كنت قد علمت بما حدث للفاضل المستر نيوتن، وهو أنه أصيب بالتهاب دماغي دام ١٨ شهرًا، وقيل إن أصدقاءه عالجوه بأدوية مختلفة، وحجزوه ومنعوه من الخروج.

وقد حاول أصدقاؤه مرة أن يردوه إلى عمله في سنة ١٦٩٥، ومنهم رن وصديقه تشارلس مونتاجو ولورد هاليفاكس الذي كان سابقًا أستاذًا في كلية الترينتي، ثم وزيرًا للمالية بعد ذلك، وعرضوا عليه وظيفة مراقب مصلحة سك النقود، فقبِل الوظيفة وبقي أستاذًا في كمبردج، وبعد ٤ سنين صار مدير المصلحة، وفي تلك السنة انتُخِبَ واحد من الثمانية الأجانب لعضوية الأكاديمية الفرنساوية في الفرع العلمي.

في سنة ١٦٩٦ نشر جون برنولي الرياضي السويسري رسالة على رياضيي أوروبا يقترح فيها عليهم حل قضيتين رياضيتين، وأمهلهم ستة أشهر، وفي ٢٩ من يناير ورد لنيوتن في فرنسا نسختان مطبوعتان من هذه الرسالة، وفي اليوم التالي أرسل نيوتن حلَّهما إلى مونتاجو الذي كان حينئذٍ رئيس المجمع العلمي الفلكي، فأُرسل الحلَّان بلا توقيع إلى برنولي، ولكن برنولي لما اطلع على الحلَّين وهما بلا توقيع قال: «عرفته كما يُعْرَف الأسد بجبروته؛ هو نيوتن.»

وقضى لبنتز المنافس لنيوتن في الرياضيات ستة شهور يفكر في المسألتين ولم يوفَّق إلى حلِّهما.

وفي سنة ١٧٠١ استقال نيوتن من الأستاذية في الترينتي (كلية الثالوث)، وانتقل إلى لندن وبقي قائمًا بواجباته كأستاذ ذي إنتاج ممتاز إلى أن تُوفِّي سنة ١٧٢٧.

وكان في سِنيِّه الأخيرة ذا مقام عظيم يُذْكَر له، ففي سنة ١٧٠٣ كان رئيسًا للمجمع العلمي الملكي، وبقي يُنتخب لهذا المنصب كل سنة إلى آخر حياته.

(٩) مقامه

زارت الملكة حنة كمبردج سنة ١٧٠٥، ونزلت ضيفًا على الدكتور بنتلي رئيس كلية الثالوث، وهناك منحت نيوتن وسام فارس ولقب سير.

وفي ذلك الحين ابتدأ النقاش بينه وبين لبنتز بشأن حساب التكامل والتفاضل، وقد نشرت إحدى المجلات مقالًا بلا إمضاء يزعم فيه كاتبه أن نيوتن اقتبس فكرة فن السيالة Fluxion من لبنتز، ولكن مَن يُصدق أن ذلك الدماغ العظيم تتدنَّى نفسه إلى اقتباس نظرية رياضية من غيره، وهو ربُّ الرياضيات.

واستمرت المناقشة بينه وبين لبنتز سنتين إلى أن مات لبنتز سنة ١٧١٦، ولكنها استمرت بين الرياضيين الآخرين نحو قرن.

ومات نيوتن بعلة الحصاة في ٨ مارس من سنة ١٧٢٧، ودُفِنَ باحتفال عظيم يليق بعظيم مثله في دير وستمنستر.

(١٠) نبوغه

لم يقتصر نبوغ هذا العبقري العظيم على ضرب واحد من ضروب العلوم والمعارف، بل شملها جميعًا، كان رياضيًّا بالفطرة، لم يسبقه أحد في إدراك الرياضيات العليا كأنها سجية في عقله، فلا يُعْنت فكره في فهم قضاياها، فكان إذا رأى شكل قضية هندسية واطلع على نص القضية يفهم البرهان من غير أن يدرسه أو يطلع عليه، واستنباطه لحساب التفاضل والتمام الذي تُحل به معضلات العمليات الرياضية يدل على أن عقله كان من درجة أسمى من مستوى عقل البشر، وله مصنفات في الجبر والمعادلات وفي الهندسة.

كان أيضًا عالمًا كيماويًّا، وله في الكيمياء كتاب بحسب ما كان علم الكيمياء في عصره وربما توفَّق لزيادة على ما كان.

وأما في العلوم الطبيعية، فمباحثه في النور وفي نواميس القوة والحركة كما هي محصية في كتابه «المبادئ» لا تزال إلى اليوم مستند أهل العلم الطبيعي، وله مصنفات في الفلك والنظام الشمسي.

ومع كل دراساته العلمية التي أحاطت بكل العلوم في الطبيعة والكون كان عالمًا في اللاهوت، وله مباحث في العقيدة بوجود الله، ولكنه لم يكن يعتقد بالتثليث، وكيف يمكن ذلك العقل المنطقي الرياضي أن يقتنع به؟

(١١) أخلاقه

كان دمث الأخلاق لا يغضب ولا يعادي ولا يحقد، حتى إنه إذا قُسِي عليه في جدال عَدَل عن الموضوع تحاشيًا للنفار والجفاء؛ ولذلك لم يكن له أعداء بل أحباء معجبون.

وعلى سمو عقله واتساع دائرة علمه كثير التواضع لا يفخر ولا يدَّعي ولا يتبجَّح.

وحين كان صحبه حوله يُعْجَبون بسعة علمه وسمو عقله كان يقول: «أراني طفلًا يلهو على شاطئ من أوقيانوس المعرفة حتى إذا عثرت على صدَفة أخذتها، وهل يفرغ البحر من الأصداف؟»

وعاش عزبًا، ويقول: إنه قلَّما شغل قلبه الحب، ولعله لم يحب، ومَنْ كان مشغول اللب دائمًا لا يبقى عنده وقت للحب.

قيل إنه ترك ثروة تقدَّر بنحو ٣٢ ألف جنيه، ولم يكن مسرفًا وإنما كان محسنًا جوادًا يعمل الخير ليس لذويه فقط، بل لكل مَنْ يعرف بفاقته وبؤسه.

لا يزال أساطين العلم منذ عهده إلى اليوم وبعد اليوم يضعونه في مقام الملك في دولة العلم، أو الجبل الشامخ المشرف على روابي المعرفة.

قال لابلاس: إن كتاب «المبادئ» الذي صنَّفه نيوتن أعظم نتاج عقلي ظهر في العالم. وسألت ملكة بروسيا ذات يوم لبنتز (خصمه) رأيه في نيوتن؟ فقال: إن كل ما أنتجه العقل البشري منذ بزوغه إلى اليوم من الفنون الرياضية وأساليبها لا يساوي ما أنتجه نيوتن.

وكان كبار العلماء من معاصريه مثل هوك وهالي وبويل في إنكلترا، وهوجنس في هولاندا، وتورنلي في إيطاليا، وباسكال في فرنسا يشاركون الفيلسوف لبنتز الألماني عقيدته في عبقرية نيوتن.

وفي عصرنا قال تجايمس تجينز عنه: إنه أعظم العلماء على الإطلاق، وقال أينشطين: «إن ما جاء من النظريات العلمية الطبيعية بعده لم يكن إلا نموًّا طبيعيًّا لنظرياته.» ولذلك لم ينقض أينشطين رأي نيوتن في الجاذبية كما ظنَّ البعض، بل هو زاد على تلك الدوحة غصنًا، كما أنه لم ينقض هندسة إقليدس بل زاد مداها.

١  سترى تفسير ذلك في [الفصل الثاني: القوة القصوى – سر الدوران، القوتان المتعامدتان].

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤