الفصل العاشر

تمدد الكون وتقلصه

رأينا في الفصل السابق أن عناصر المادة تتحوَّل تدريجيًّا من ذرات إلى فوتونات تتفانى في بحر الإيثر؛ بسبب أن الأحداث المختلفة في الطبيعة تُفضي إلى إطباق الكهرب على البروتون، فينطلقان فوتونات في أشعة كهرطيسية في ذلك البحر الإيثري كما علمت، فمادة الكون إذن تتناقص تدريجيًّا بسبب هذا التشعع.

وقد حسب العلماء الأخيرون أن الشمس تنقص بهذه التشععات المتوالية كل ثانية ٤ ملايين طن من وزنها تقريبًا، أو نحو ٢٥٠ مليون طن كل دقيقة، فبعد ملايين السنين تذوب الشمس (وكل جِرْم) ذوبان قطعة الجليد في ماء البحر، وهناك مَنْ يقول ٣٥٠ طنًّا في الدقيقة والعلم عند الله.

ولا يخفى أنه كلما نقصت مادة الشمس وخفَّ وزنها ضعفت قوة جاذبيتها؛ لأن الجاذبية تتوقف على حاصل ضرب ذرات الجِرْمين المتجاذبين كما علمت في فصل قانون الجاذبية، وبالتالي تتباعد سياراتها عنها، وقد حسب تجينز أن الأرض تبتعد في فلكها عن الشمس بهذا السبب نحو يردة كل قرن من السنين، وعلى هذا القياس تتباعد السيارات عن الشمس، وتتباعد الأجرام بعضها عن بعض لهذا السبب عينه، فتنتفخ المجرَّة لتباعد أجرامها وكوكباتها، وعلى هذا النحو تتباعد المجرات أيضًا، فالكون كله ينتفخ رويدًا ويتسع حيِّزه.

ليس هذا الانتفاخ الكوني مجرد تكهُّن أو تخرُّص أو تفلسف، وإنما هو حقيقة واقعة مشاهدة، فقد شاهد هوبل مدير مرصد ويلسن (أعظم مرصد في العالم اليوم) في كاليفورنيا أن الأجرام السحيقة تتباعد بسرعات مختلفة لا تكاد تُصدَّق.

فهذا الكون العجيب العظيم الذي تجمعت فيه ملايين المجرات مصاب بمصيبتين: الأولى أنه يتشتَّت بسرعة في الفضاء الفارغ، وعلى التمادي يملأ حيِّزًا أكبر، يضاعف أضعاف حيِّزه الحالي، والثاني أنه يضمحل تدريجيًّا في أمواج كهرطيسية حاملة فوتونات إلى أن تمتزج فوتوناته في البحر الإيثري، وتلتبس فيه كمادة منه.

وتجينز يقول: إنه بعد هذا الاضمحلال النهائي على هذا النحو تعود الذريرات الفوتونية الإيثرية تتجمَّع في كهارب وبروتونات فذرات فجزيئات فكتل أجرام وجماعات أجرام … إلخ، تعود تتجمع بقوة التجاذب بينها كما فعلت أولًا على نحو ما شرحناه في الفصل السابق، فكأن الكون يعيد رواية نشوئه وتطوره من جديد، والله أعلم، كما أعاد هذه الرواية قبلًا وكم يعيدها بعدُ ذلك هو الأزل، وهذا هو الأبد السرمد الذي تقف عنده الأفهام حائرة ذاهلة.

أجل، إن الكون الأعظم ينشأ ويتطور ويشيخ ويضمحل مرة بعد مرة إلى ما لا نهاية له كما كان لا بداية له، فهو تطور دوري يطوي في كل دور ملايين ملايين الأدهار والأحقاب.

وكان أينشطين قد قدر بحسب نسبيته أن للكون الأعظم الشامل ملايين المجرات قدرًا معينًا من المادة يشغل حيِّزًا معينًا من الفضاء بشكل بيضة فارغة لا زلال فيها ولا مح؛ أي إن مادة الكون تشغل قشرة البيضة فقط، وضمن هذا الحيز البيضي فراغ مطلق وحوله فراغ مطلق أيضًا، وقال: إن حجم الكون هذا وشكله ثابتان لا يتغيران، ومجال الحركة فيه مقتصر على هذه القشرة.

ولكن لما أعلن هوبل أرصاده عن تباعد الأجرام والمجرات قام دي ستر ودرس أرصاد هوبل، وبرهن أن الكون الأعظم آخذ بالانتفاخ؛ أي إنه ليس ثابت الحجم كما قال أينشطين، ثم حسب دي ستر سرعة الأجسام أو الأجرام المتباعدة ومعدل الانتفاخ، ولكنه لم يقل متى ابتدأ الانتفاخ؟ أي لم يبين الحالة التي كان عليها الكون حين ابتدأ ينتفخ.

وكان الأب ده لامتر العالم البلجيكي إنه لما اطلع على نظرية أينشطين نشر رسالة في إحدى المجلات الحقيرة (لأنه لم تتكرم مجلة معتبرة بنشر رسالته) فحواها أن الكون كما وصفه أينشطين، واستنتج حجمه وشكله من نظريته النسبية لا بد أنه ابتدأ صغيرًا جدًّا، ثم جعل يتمدد حتى صار كما هو الآن، وإلا لما اقتضى أن يكون فارغًا في داخله، إن تفرغه الداخلي دليل قاطع على أنه كان كتلة كثيفة متجمعة حول المركز، ثم صار ينتفخ كانتفاخ فقاعة الصابون إذا نفخت فيها.

فلما ظهرت أرصاد هوبل وأبحاث دي ستر عاد العلماء إلى رسالة الأب لامتر التي لم يعيروها سابقًا أقل اعتبار، وقالوا كما قال: إن الكون يتمدد باستمرار، فالأب لامتر عرف بالمنطق والحساب ما اكتشفه هوبل بالرصد.

الكون ابتدأ كما برهن الأب لامتر.

وهو الآن كما برهن أينشطين.

ومستقبله كما برهن دي ستر.

أما أينشطين فلما سمع بخبر أرصاد هوبل ذهب إلى أميركا ونظر بنفسه الأرصاد ورصد مع هوبل، فاقتنع بنظرية التمدد ونقَّح نظريته في شكل الكون وتمدده.

•••

وهنا يرى القارئ أن الجاذبية تلعب دورها في هذا التمدد كما لعبت دورها في التجمع.

وقد علم القارئ أن الجسم أو الجِرْم المندفع يأخذ بالطبع في سيره خطًّا مستقيمًا، ولكن قوة جاذبية المركز تلويه نحوها، أي إنه لولا جاذبية المركز لبقي مندفعًا في خط مستقيم.

ولذلك إذا كانت قوة الجاذبية تضعف قرب المركز بسبب نقص مادتها فلا بد أن يضعف إحناؤها له، وبالتالي يبتعد خط الانحناء؛ أي إنه يميل إلى خط الاستقامة ما استطاع، كالقضيب المرن إذا لويته يظل يميل إلى الاستقامة بقدر ما تخفف قوتك في إمالته، وهكذا الجِرْم يميل إلى خط الاستقامة ما استطاع، أو بقدر ما تطلق له قوة الجذب الحرية للعودة نحو خط سيره الأصلي (المستقيم).

وقد نسبوا هذا الشرود عن المركز إلى قوة النزوع إلى الاستقامة على نحو ما قلنا هنا، وسموها قوة الدفع الكوني Cosmic Repulsive أي إن للجسم المندفع نزعة طبيعية للميل إلى الاستقامة.

لدى هذا التطور الكوني العظيم يقف العقل البشري مدهوشًا ذاهلًا.

ولماذا هذا الذهول؟ أليس أن العقل نفسه هو الذي غلغل في أعماق هذا الكون وأدرك هذه الحقائق؟

فما باله يُدهش مما اكتشف وعرف؟

أجل، يذهل لأنه يرى نفسه حقيرًا لدى عظمة هذا الكون العجيب.

لا، لا تستصغر نفسك أيها العقل الأعجب والأعظم.

أتزعم أنك جِرْم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤