الفصل الثاني

القوة القصوى

(١) البديهيات

متى شرع الطفل يستوعب شيئًا من الأحداث التي تطرأ عليه يشرع أيضًا يسأل عن أسباب بعضها مما يراه مستجدًّا أو مغايرًا لما تكرَّر له وألِفه، يسأل مثلًا: لماذا لا يخطف الكلب الجبن عن المائدة، وهو يعهد الكلب يأكل الجبنة إذا رآها على الأرض؟ ولماذا ليس له وشم في يده كما في يد آخر رآه لأول مرة، وهو يظن أن الوشم خلقة في اليد؟ أو لماذا ليس لأبيه أسنان من ذهب كما لجاره؟ ونحو ذلك؛ أعني أنه منذ يسعى يشرع يظن أن لكل شيء سببًا؛ ولهذا تكثر على الطفل الأسئلة كما هو معلوم.

ولكنه لا يسأل البتة لماذا تطلع الشمس كل صباح من وراء أفق الشرق وتغرب وراء أفق الغرب؟ ولا يسأل لماذا لا يستطيع أن يرفع حجرًا كبيرًا وهو يستطيع أن يرفع حصاة؟ ولا يسأل لماذا العصفور يطير وهو لا يطير؟

إن ما وعى له أولًا وهو يراه كل يوم لا يسأل عن سبب له لاعتقاده أنه أمر طبيعي، فكأنه بديهي عنده، وأما ما يستجدُّ لإدراكه وشعوره يود أن يعرف له سببًا.

ما أكثر البديهيات عند الطفل! فطلوع الشمس وغيابها وإحراق النار وألمه، والجوع والعطش والنعاس إلى غير ذلك مما لا يُحْصَى كلها بديهيات عند الطفل، ولكن عند الناضجين ولا سيما المثقفين، فلكل هذه أسباب أو لا بدَّ من تعليلها وتفسيرها وتبيان علل لها، حتى لطلوع الشمس كل صباح وغيابها كل مساء أسباب كما هو معلوم مهما تراءيا بديهتين.

وقد تطوَّع بعضهم إلى إنكار كل بديهية حتى البديهيات الرياضية كقولك: «الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين.» و«الخطان المتوازيان لا يلتقيان.» و«العددان اللذان يساوي كل منهما عددًا ثالثًا هما متساويان.» والحقيقة أن هذه الأوليات ليست بديهيات، وإنما هي تعريفات. فإذا قلنا: الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين عنينا أن الناس اصطلحوا على تسمية أقرب مسافة بين نقطتين بالخط المستقيم، فكأن الكلمة وتفسيرها مترادفان، وكذلك سموا الخطين اللذين كيفما امتدَّا على سطح واحد لا يلتقيان خطين متوازيين، وقضية الخطوط أو الكميات الثلاثة المتساوية كل منهما يساوي كلًّا من الخطين الآخرين أو الكميَّتين الأخريين هي تحصيل حاصل، كما أن الأربعة تساوي ٢ و٢ هي تحصيل حاصل والنكتة في التعبير.

ومعنى ذلك أنه ليس ثمة شيء بديهي بالمعنى الذي نقصده، العقل لا يعرف شيئًا بالبديهة كما نظن، وإنما يعرفه بتكرار الملاحظة حتى يعتقد أنه شيء طبيعي لا يحتاج إلى برهان فسماه «بديهية». ولا شيء أشد بداهةً من قولك: لا يوجد شيء في مكانين في وقت واحد معًا، ولكن بحسب ناموس النسبية هذا ممكن لشخصين راصدين في مكانين مختلفين.

وإذا سألت العامي: لماذا المياه تجري من أعالي الجبال إلى أسافل الأودية ثم إلى البحر؟ دُهش لسؤالك هذا وقال: «ويك! أتريد أن تصعد المياه من الأسافل إلى الأعالي؟»

تقول له: «لِمَ لا؟»

يزداد دهشةً واستغرابًا ويقول: «هذا مستحيل.»

– «قل لي: لماذا هو مستحيل؟ ماذا يمنع أن تصعد المياه من الأسافل إلى الأعالي؟ ماذا يُرغمها أن تنزل ولا تصعد؟»

حتى إذا تحيَّر ولم يحر جوابًا لجأ إلى ما وراء الطبيعة وقال: «هكذا خلقها الله، خلقها تنزل ولا تصعد.»

وإذا سألته: لماذا تسقط التفاحة عن الشجرة إذا تقادم نضجها؟ لماذا لا ترتفع في الفضاء؟ استجنَّك لهذا السؤال؛ لأنه لا يرى سببًا لهذا الشيء المألوف عند جميع العقول منذ آدم إلى اليوم، وهو أن الأشياء تسقط إلى تحت ولا ترتفع إلى فوق من تلقاء نفسها، أو إذا لم تُقْذَف قذفًا بقوة، وأخيرًا مصيرها أن تهبط إلى تحت، هذا أمرٌ بديهيٌّ عنده، كما أن طلوع الشمس صباح غد، وموج البحر … إلخ، كل هذا بديهيات عنده.

ولكن نيوتن لم يسلِّم أن سقوط التفاحة شيء بديهي، بل قدَّر له سببًا، وجعل يفكر في السبب، وعبرت القرون على الكرة الأرضية والعقول حتى الفلسفية منها تعتقد أن سقوط التفاحة وانحدار الماء وغير ذلك من أشكال السقوط إنما هي أحداث طبيعية؛ أي هي من سجايا الوجود، ولا سبب لها ولا تحتاج إلى برهان، فقال: هذه بديهية.

لم يخطر لأحد أن يبحث عن هذا السر العجيب الغامض، ولكن نيوتن لم يقتنع بهذه البداهة، فرام أن يفهم لماذا سقطت التفاحة أمام نظره من تلقاء نفسها ولم ترتفع إلى فوق؟ ففكر كل حياته ومات وهو لم يفهم ذلك السر، ولا فهمه أحدٌ آخر إلى الآن، وإنما خمَّنوه تخمينًا؛ ولذلك اضطرَّ العقل البشري أن يرضخ لحكمة الطبيعة الغامضة ويقول: ليس هناك سر، فما ذلك إلا إرادة الطبيعة، كذا أرادت الطبيعة وكذا يكون، واللاهوتي يقول: هناك يد الله تعمل.

على أن نيوتن إذا لم يعرف ذلك السر العميق الخفي، فقد عرف بتفكيره البعيد الغور ناموس ذلك السر ومقتضياته، وحسبه هذه المعرفة وكفى.

اكتشف أن لذلك السقوط سُنَّة سرمدية نظامية رياضية، وظهر بعدئذٍ للعلماء أن جميع سنن الطبيعة رياضية، كأن الطبيعة نفسها أستاذ رياضي، أو بالأحرى إن الله تعالى الباريها عالم رياضي أعلى، وقد برأ الكون كله على قواعد رياضية، وكذلك لسقوط الأجسام من أعلى إلى أسفل ناموس طبيعي رياضي، وهو ما جعل نيوتن يفكر ويبحث عن هذا الناموس.

(٢) اكتشاف نيوتن السر

ولما كان نيوتن قد علم من كتابات كوبرنيكس وبعض أسلافه من العلماء أن الأرض كرة تدور حول نفسها، وتطوف حول الشمس في مدار (فلك) واسع؛ أدرك أن الأجسام تسقط في اتجاه واحد نحو المركز، فخمَّن أن في مركز الأرض قوة غير منظورة تجذب الأجسام نحو المركز.

لما رأى نيوتن أن التفاحة أو أية مادة أخرى أينما كانت فوق سطح الأرض تسقط سقوطًا سمتيًّا إلى الأرض — أي إنها تتجه حتمًا إلى مركز الأرض — تنبَّه إلى أن هذه القوة الجاذبة نحو المركز منشرة في جميع الجهات بالتساوي؛ يؤيد ذلك ما علمه من ناموس الأجسام الساقطة الذي اكتشفه جاليليو١ أن الجسم كلما تقدَّم نحو المركز كان أسرع هبوطًا.

(انظر تفسيره في الملحق في آخر الكتاب.)

وعلم نيوتن ورأى أن هذه القوة تشتد كلما قرب الجسم الساقط إلى المركز، فهي إذن في أشدها عند المركز وأضعفها كلما ابتعدت عن المركز، ولكن على أي حساب تقوى وتضعف؟ أو ما هي قاعدة استقوائها وضعفها؟

وكان طيخو براهي قد سجَّل لعدة سنين مدارات (أفلاك) السيارات التي كانت معروفة لعهده مستعينًا بالمقراب (التلسكوب) الذي اخترعه جاليليو، ثم جاء بعده كبلر ودرس أرصاد طيخو براهي هذه درسًا دقيقًا، فلاحظ أن هذه السيارات لا تسير في الفضاء اعتباطًا بلا نظام، بل هي تسير في دوائر على أبعاد مقررة من الشمس، وليست مداراتها مستديرة تمام الاستدارة، بل هي إهليلجية الشكل قليلًا، والشمس في أحد محترقي الإهليلج، ولاحظ أيضًا أن سرعاتها متناسبة وبالتالي مدات دورانها متناسبة أيضًا بالنسبة إلى أبعادها عن الشمس، فاكتشف لحركاتها ثلاثة نواميس ثابتة لا تتغير:
  • (١)
    جميع أفلاك السيارات إهليلجية كثيرًا أو قليلًا (الفلك هو المدار الذي يدور فيه السيَّار حول الشمس، والإهليلجي منه هو البيضي الشكل أي دائرة مستطيلة Oval).
  • (٢)
    خط القوة Radius fector في كل سيَّار يمسح في أوقات متساوية مساحات متساوية (خط القوة هو الخط الوهمي الممتد من مركز الشمس إلى السيَّار يطول أو يقصر حسب ابتعاد السيَّار عن الشمس أو قربه منها في فلكه الإهليلجي).
  • (٣)
    نسبة مربع المدة التي يقضيها السيار الواحد إلى مكعب بُعْده عن الشمس كنسبة مربع مدة أي سيار آخر إلى مكعب بُعْده.٢

(٣) الناموس أو القانون

ثم جاء نيوتن فدرس ملاحظات كل من كوبرنيكس وجاليليو وطيخو براهي وكبلر درسًا دقيقًا؛ فاستنتج منها ناموس القوة التي تجذب الأجسام نحو المركز، إذ ثبت له أن مركز الشمس يفعل في السيارات التي حولها كما يفعل مركز الأرض في القمر وفي الأجسام التي عليها، أما ما هي هذه القوة الفاعلة فلم يَدرِ، وإنما دَرَى أن هناك قوة، وأن لها نظامًا رياضيًّا، فسماها جاذبية واستخرج نظامها الرياضي، وهو الناموس الذي نحن بصدده:

إن القوة التي تجذب الأجرام أو الأجسام نحو المركز تنقص كمربع البُعْد عن المركز.

مثال ذلك: إن كان الجِرْم المنجذب نحو المركز على بُعْد مقياس واحد (قل ميلًا أو فرسخًا أو ما شئت) يزن ٢٠ / ١ وزنة (واحسب الوزنة رطلًا أو طنًّا أو ألف طن كما تشاء)، فعلى بُعْد مقياسين يزن ٢٠ / ٤، وعلى بُعْد ٣ مقاييس ٢٠ / ٩، وعلى بُعْد ٤ مقاييس يزن ٢٠ / ١٦، وعلى بُعْد ٥ يزن ٢٠ / ٢٥  وهلمَّ جَرًّا.

هذا هو ناموس الجاذبية٣ الذي اكتشفه نيوتن، ورأى أنه يصدق على جميع حركات السيَّارات وأقمارها، فالسيَّارات كلها تدور من حول الشمس بحسب هذه السُّنَّة، والقمر يدور من حول الأرض حسب هذه السُّنَّة أيضًا.

(وسترى تتمة الناموس في الفصل الثالث.)

وأخيرًا رأى علماء الفلك الطبيعي Astrophysics أن جميع الأجرام أفرادًا وجماعات تجري في الفضاء في أفلاك (مدارات) حول مراكز معينة حسب هذه السُّنَّة أيضًا.

وفي يقين العلماء الآن أن سُنَّة الجاذبية هي سُنَّة تحرك الأكوان على الإطلاق.

(٤) سر الدوران

وهنا لا بدَّ من أن يعترض القارئ اعتراضًا وجيهًا قائلًا: إن دوران القمر من حول الأرض ودوران الأرض وسائر السيَّارات من حول الشمس، ودوران مجموعات الأجرام من حول مراكزها، ودوران الأكوان العظمى من حول مركزها الواحد،٤ جميع هذه الدورانات ليست كسقوط التفاحة على الأرض، ولا كانحدار المياه من الأعالي إلى الأسافل، ولا كتساقط الشهب إلى غير ذلك. تلك الأجرام تدور من حول مراكزها والتفاحة تهبط إلى جهة المركز حيث تستقر على السطح الذي يحول دونها ودون المركز، فكيف يطبق ناموس سقوط الأجسام على دوران الأجرام في أفلاك؟ ليس بين نوعَي الحركة المذكورَين من تماثل أو تشابه، حتى يصدق عليهما ناموس واحد.٥

هذا هو الظاهر في الحقيقة، ولكن لا بد له من تفسير يتضح منه أن نوعَي الحركة المذكورين يخضعان لناموس واحد، الأمر الذي انتبه له نيوتن جيدًا، وهو يدلك على سمو عقل هذا الذي لا تكفي لوصفه كلمة عبقري.

إن حركة الدوران حول المركز نتيجة فعل قوتين متعامدتين: الأولى اندفاع الجِرْم في الفضاء بقوة خاصة (سنُفْرد لها نبذة خاصة بعد أن نفرغ من هذا التفسير الذي نحن بصدده، النبذة الخامسة التالية)، والثانية جذب المركز له بقوة جاذبية نيوتن، نسميها «جاذبية نيوتن» تمييزًا لها عن أية قوة أخرى محرِّكة كما سيتضح فيما بعد.

لو كان الجِرْم يندفع في الفضاء بقوة واحدة فقط لكان يندفع في خط مستقيم، هذا أمر بديهي إذا شئت أن تعتقد في البداهة، وإلا فعليك بالاختبار، وإذا كان لا يسير في خط مستقيم فلأي ناحية يميل؟ وما الذي يميله؟ ليس له طريق طبيعي إلا الطريق الذي يندفع فيه وهو الطريق المستقيم.

ولكن إذا طرأت عليه قوة أخرى في خط اندفاعه زادت سرعة اندفاعه في خط سيره، وإذا طرأت عليه في خط معاكس لخط اندفاعه ردَّته إلى الوراء إن كانت أقوى من القوة التي دفعته أولًا، أو إذا كانت أضعف ارتدَّت هي ولكنها تنقص من سرعته بقدرها، ولكن إذا طرأت عليه قوة في خط معارض لخط اتجاهه حوَّلت اتجاهه إلى اتجاه آخر بين اتجاه القوتين معًا كما هو واضح في كتب الطبيعيات ويعلمه جميع طلبتها.

فإذا قذفت أية قذيفة في الفضاء بقوة يد أو قوة منجنيق أو قوة مدفع، وكان الجو خاليًا من الهواء الذي يقاومها وجب أن تنطلق في الفضاء في خط مستقيم إلى ما لا نهاية له، لولا أن قوة جاذبية الأرض تعترض خط اندفاع القذيفة فتستميله نحوها، وحينئذٍ تتجه القذيفة في خط ثالث هو نتيجة خطَّي القوة المتعارضين وفقًا للقاعدة التي ذكرناها آنفًا.

ولما كانت قوة الجاذبية نحو المركز أقوى، فلا بدَّ من أن تسير القذيفة إلى مركز الأرض، فنرى خط سيرها ينحني إلى أن تسقط على سطح الأرض أخيرًا، ولو كانت الأرض غازية لطيفة رقيقة المادة لانحدرت القذيفة الثقيلة إلى مركز الأرض.

ما انحنت القذيفة في سيرها إلا لأن قوة الجاذبية نحو مركز الأرض أقوى من القوة التي دفعتها إلى الفضاء.

لو كانت القوة التي دفعتها في الفضاء في خط أفقي فوق طبقة الهواء تستطيع أن تقذفها بسرعة ٤ أميال وتسعة أعشار الميل في الثانية لما سقطت هذه القذيفة إلى الأرض بتاتًا، بل لبقيت تدور حول الأرض كقمر صغير حولها إلى أبد بعيد جدًّا؛ لأن القوة التي دفعتها في تلك المنطقة حول مركز الأرض تعادل قوة جاذبية مركز الأرض لها٦ في تلك المنطقة، أي إن القوتين متعادلتين فتسير القذيفة في خط متوسط بين خطَّي القوتين، وهو بينهما عند ٤٥ درجة لكل منهما كما هو معلوم للرياضي الطبيعي (انظر قانون المسارعة في الملحق الثاني).

(٥) القوتان المتعامدتان

وهنا يبدر إلى ذهن القارئ هذا السؤال:

فهمنا أن القوة التي كانت تستميل القذيفة نحو المركز بحيث تسير في خطٍّ منحنٍ هي قوة جاذبية مركز الأرض، وكذلك هي نفس القوة التي تحني خطوط جميع السيارات من حول الشمس فهمنا ذلك، ولكن ما هي القوة الأخرى التي قذفت بالقمر وبالسيارات أولًا فاندفعت في الفضاء ثم لاقتها قوة الجاذبية فاستمالتها وحنت خطوط اندفاعها؟

هذا سؤال وجيه أيضًا، وله تفسير لا نقول: إنه بسيط، ولكن يمكننا أن نقول: إنه تفسير بديع.

هذا البحث يردنا إلى أولًا كيفية انبثاق السيارات من الشمس، وانبثاق القمر من الأرض، بل يردنا ثانيًا إلى كيفية تكوُّن الأجرام، وهذا نرجئه إلى الفصلين الثامن والتاسع، وأما انبثاق السيارات والأقمار فهو انتشار هذه الأجرام الصغيرة من أمهاتها بأسباب اختلف عليها فقهاء الفلك، ونحن نعبأ بأحدثها وأصوبها وهو ما شرحه العلَّامة الكبير السير تجايمس تجينز، ولا محل لشرحه هنا بالإسهاب وإنما نشير إلى مجمل النظرية.

وهو أن الأجرام تتجاذب فيما بينهما بحكم سُنَّة الجاذبية، فإذا تقارب جِرْمنا في سيرهما وهما في الحال الغازية؛ ارتفعت من سطوحهما أكوام بفعل الجذب كما ترتفع مياه البحر عندنا بفعل جاذبية القمر، فيُحْدِث ذلك على الشاطئ جَزرًا ثم مَدًّا بعد ابتعاد القمر، هذا نفس ما حدث للشمس حين اتفق اقترابها من جِرْم آخر، فكلاهما فعل في الآخر مثل ما يفعل القمر في بحار الأرض، والأكبر يفعل بالأصغر أكثر مما يفعل هذا به.

سلَّ ذلك الجِرْم من جِرْم الشمس كومة عظيمة تفتتت بعد تباعد الجِرْمين — الشمس والجِرْم الآخر الأكبر — وكان الفتات هذه السيارات.

وعلى هذا النمط وُلِد القمر من الأرض.

إن بيان ميلاد السيارات والأقمار ليس الجواب المباشر لسؤال القارئ الآنف الذكر، بل هو توطئة له.

إذا كنت ملمًّا بشيء من علم الفلك، فإنك تعلم أن جِرْم الشمس ككل جِرْم يدور على محوره، ويتم الدورة كل ٢٤٫٦٥ يومًا تقريبًا، وإذا علمت أن محيط الشمس الاستوائي — أي محيط منطقتها الوسطى — نحو ٢٧١٥٧٤٣ ميلًا تقريبًا علمت أن سرعة ذلك المحيط نحو ٠٫٩٣ من الميل في الثانية، في حين أن سرعة محيط الأرض أقل من ثلث ميل في الثانية.

وندرك حينئذٍ أن الكتل التي تنتثر منها تنتفض بمثل هذه السرعة أو سرعة فائقة على كل حال، ولكنها تنقذف بنفس اتجاه الدوران؛ لأنه معلوم طبيعيًّا بالملاحظة والاستقراء (وبالبديهة إذا شئت) أن الجسم يأخذ دائمًا نفس حركة الجسم الذي انفصل عنه ونفس سرعته.

إن جميع الأجرام تدور كالشمس على محاورها في اتجاه واحد على الإطلاق، ثم إنها تسير دائرة من حول مركز عام لها في نفس ذلك الاتجاه كأنها موكب حافل عظيم يطوف في الفضاء من حول ذلك المركز العام بسبب سُنَّة الدوران أيضًا.٧

الجِرْم الذي مرَّ بمقربة من الشمس أو هي مرَّت بمقربة منه وهو أضخم منها جدًّا كان يجذب كتلة الشمس كما تقدَّم القول في نفس اتجاه دوران الشمس على محورها واتجاه مسيرها، واتجاه سيره هو أيضًا في اتجاه واحد، فاتخذت تلك الكتل المنتثرة من الشمس بفعل ذلك الجِرْم الغليظ الذي كان والشمس يتقاربان وهما في اتجاه واحد أيضًا، ولكن أحدهما أسرع من الآخر، اتخذت تلك الكتل اتجاهًا أفقيًّا بالنسبة إلى الشمس، فكان ذلك الاتجاه هو الخط المعامد أو المعارض لخط قوة جاذبية الأرض.

ولما تباعد ذلك الجِرْم والشمس بقيت تلك الكتل السيارة تجري في الفضاء بعيدة عن سطح الشمس، ولكنها لم تستطع أن تشرد في الفضاء؛ لأن قوة جاذبية الشمس كانت لا تزال تكبحها وتمنع شرودها، ولا سيما لأن ذلك الجِرْم شرع يفارقها وتناقصت قوة جذبه لها وضعفت جدًّا.

ولا يخفى عليك أن مثل ذلك حدث في الجِرْم الذي سطا على الشمس وارتفعت منه كتل، ولكنها لم ترتفع أكثر مما يرتفع الماء عندنا في حالة المد؛ لأنه أكبر من الشمس جدًّا، فلا تؤثر الشمس فيه أكثر مما يؤثر القمر على أرضنا.

وهنا ملاحظة أخرى لا بد من انتباه القارئ لها وهي أن الشمس كانت أكبر حجمًا منها الآن، وكانت ألطف كثافة وكانت سرعة دورانها المحورية أشد، فالأجرام المنتثرة منها أخذت تلك السرعة القديمة.

ذلك هو مصدر «القوة الخاصة» التي أشرنا إليها في [الفصل الثاني: القوة القصوى – سر الدوران] القوة التي كانت تدفع الكتلة المشتقة في خط معارض لخط جاذبية الشمس الذي كان يحنيه، هذه هي القوة التي تعاونت مع قوة جاذبية المركز في إلزام السيارات أن تدور حول الشمس.

فترى أن مصدر القوتين واحد، الجاذبية جاذبيتان من جِرْمين مختلفين حجمًا وسرعةً تعاونتا في إحراج جِرْم أن يدور حول مركز.

ثم هناك نتيجة أخرى لانسلاخ كتل من جِرْم وبقائها تطوف من حوله كما حدث في انسلاخ السيارات من الشمس، وهذه النتيجة هي أن الكتلة المنسلخة من الجِرْم (الشمس مثلًا) تكتسب منها حركة الدوران على محورها؛ إذ هو معلوم أن جميع كتل الشمس في بدنها في ثورات دورانية عنيفة تتقلَّب ملتفَّة حول أنفسها، فإذا أفلتت من الشمس بقيت لها هذه الحركة الالتفافية؛ ولهذا ترى أن السيارات كلها تدور على محاورها، حتى القمر الذي لا يرينا إلا وجهًا واحدًا منه يتم في الفضاء دورة واحدة على محوره كلما أتمَّ دورة من حول الأرض؛ أي كل شهر قمري.

يكفي ما تقدَّم بيانًا لتسبيب الجاذبية حركة الدوران من حول المركز ومن حول المحور، وقد ظهر منه بوضوح أن التفاحة الساقطة على سطح الأرض لم تدُرْ حول الأرض كالسيار؛ لأنه ليس ثمة قوة أخرى معامدة لخط قوة الجاذبية كافية لكي تحرجها إلى الدوران، وكذلك القذيفة التي قذفتها اليد أو البندقية أو المدفع، فإنها سقطت أخيرًا على سطح الأرض؛ لأن القوة القاذفة لم تكن مكافئة لقوة الجاذبية لكي تمنحها حركة الدوران.

بقي بحث خطير الشأن في تعميم سُنَّة الجاذبية على كل جِرْم وكل جماعة أجرام، وكل جزء من أجزاء الجِرْم وكل ذرة من ذراته وذريراته، وسنُفْرد له فصلًا خاصًّا فيما يلي.

١  مات جاليليو يوم وُلِد نيوتن، وكأن علم الفلك شرع يتعرَّى من علم التنجيم، ويتسلسل سليمًا نقيًّا منذ عهد كوبرنيكس فكبلر فجاليليو فنيوتن … إلخ.
٢  ترى شرح هذا في الملحق الرابع.
٣  انظر شرحه في الملحق الثالث في آخر الكتاب.
٤  الكون مجموعة مجرَّات كمجرَّتنا المُسماة درب التبان، وكلها تدور من حول مركز واحد، ويقال إن عددها نحو مليونَي مجرَّة.
٥  انظر الملحق الثاني، قانون المسارعة الدورانية.
٦  البرهان في الملحق السادس في آخر الكتاب.
٧  بعض أقمار السيارات تدور في اتجاه مخالف للاتجاه العام، وإلى الآن لم يعلل الفلكيون هذا الشذوذ تعليلًا مقنعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤