الفصل الرابع

مصدر القوى

(١) ظاهرات الجاذبية

الجاذبية مصدر كل قوة في الوجود على الإطلاق، ولإيضاح ذلك نشرح ظاهرات القوى العاملة على الأرض.

نأخذ أبسط هذه الظاهرات أولًا.

أقدم ما عرفنا من الآلات لاستخدام المياه المنحدرة المطاحن أو الطواحين المائية التي يُدار فيها حجر الرحى بقوة المياه المنحدرة من علٍ في شبه بئر يجري إليها الماء، ثم يندفع من كوَّة في أسفلها بزخم شديد مساوٍ لارتفاع البئر أي عمقها، فتصدم المياه أضلاع دولاب موضوع وضعًا دقيقًا ومحوره متصل في غرفة الطحن بحجر الرحى فوقه، فيدور هذا الدولاب ويدور به حجر الرحى على حجر آخر ثابت، ويرسل القمح من ثقب كبير في الحجر الأعلى ما بين الحجرين فتُسْحَق الحِنْطة بينهما.

أما الدولاب الذي نحن بصدده فهو قرمة غليظة من الخشب مستديرة غُرِزَت في محيطها الأضلاع التي أشرنا إليها آنفًا على أبعاد متساوية متقاربة، وعرضها مائل نحو ٣٠ درجة على الأفق والمحور العمودي المار بالقرمة والمثبت فيها مركَّز على حفرة صغيرة مستديرة مقعَّرة لكي يدور عليها، حتى إذا تدفَّقت المياه على الضلع الواحدة دفعتها فحلَّت محلها الضلع التي وراءها فيدفعها الماء فتأتي التي وراءها إلى محلها، وهكذا دواليك فيدور الدولاب ويدور به حجر الرحى.

هذه أقدم عملية آلية تتحرَّك بقوة اندفاع الماء، ولا نعلم متى اختُرِعَت، ولا مَنِ اخترعها؟ وكيف تنبَّه لها القدماء وأدركوا أن للمياه المنحدرة قوة يمكن استخدامها والانتفاع بها.

على نفس هذا المبدأ تُستخدم الآن المياه المنحدرة لإدارة الدينمو لتوليد الكهرباء، وأظن أن أول ما استعملت المياه المنحدرة لهذا الغرض بقوة كبيرة كان في شلالات نياغرا في أميركا، حيث تولد قوة نصف مليون حصان، والآن قد شاع هذا النمط لتوليد القوة في كل بلد في أميركا وأوروبا حتى في لبنان أيضًا.

فكأن قوة الماء المنحدر قد تحوَّلت إلى قوة كهربائية كما لا يخفى، وهذه القوة تمتاز على القوة المائية بإمكان نقلها إلى مسافات بعيدة بواسطة الأسلاك، وإمكان توزيعها بمقادير مختلفة حسب مشيئة الإنسان، واستعمالها لإدارة الآلات المختلفة الأغراض، وتحويلها إلى نور وحرارة وإلى أمواج كهرطيسية كأمواج الراديو مثلًا، وإلى أغراض أخرى عديدة.

فمن أين هذه القوة التي في المياه المنحدرة، وقد أدارت حجر الرحى والدينمو (المحرك الكهربائي)؟

هي ثقل الماء الهابط، والثقل معادل للكتلة الهابطة، وسبب الثقل هو جذب كتلة الأرض للماء نحو مركزها، الماء هابط بفعل الجاذبية، إذن فالذي يدير الرحى هو الجاذبية، والذي يدير الدينمو هي — أيضًا بفعل الماء الهابط — الجاذبية.

ومن أين جاءت المياه المنحدرة؟

من المطر الذي يسقط من الجو ويتغلغل في أتربة الجبال وشقوق صخورها، والثلج الذي يهبط من الجو في الشتاء ثم يذوب في الصيف وينحدر بفعل الجاذبية.

ومن أين ماء المطر والثلج؟

من بخار الماء الذي كان أخف من الهواء فتصاعد في الجلد ثم برد هواء الجلد فتقلص وانعصر ماء البخار منه فهبط مطرًا أو ثلجًا، فالبخار كان وهو يتصاعد يعاكس فعل الجاذبية؛ لأن الهواء أثقل منه فيرسب، فلما برد ثقل وهبط فكأنه كان بصعوده يختزن قوة الجاذبية، فلما هبط ردَّ قوة الجاذبية التي كان يختزنها.

وما الذي بخَّر الماء؟

حرارة الشمس، فكأنها فعلت فعلًا مضادًّا لفعل الجاذبية الأرضية، وخزَّنت بالبخار هذه القوة، وسترى أن الحرارة فعل جاذبي أيضًا.

قد يقول القارئ: هناك دينمو يدور بقوة الآلة البخارية، وحجر الرحى يمكن أن يدور بقوة البخار، وكثير من الآلات تدور بها أيضًا، فمن أين قوة البخار هذه التي تدير الآلات؟

هو معلوم أن قوة الآلة البخارية ناتجة من تمدُّد البخار المائي، وهذا التمدد ناجم عن الحرارة التي تبعد الذرات بعضها عن بعض، والصادرة من إحراق الفحم والحطب والبترول أو أي شيء يحترق، والحرارة حركة نشطت من الإشعاع الشمسي والحركة حاملة قوة، فالحرارة إذن قوة أيضًا.

ومن أين جاءت الحرارة للفحم حين كان يحترق مع أنه كان باردًا قبل الاحتراق؟

كان الفحم وسواه نباتًا في الأصل، والنبات نبت ونما بفعل حرارة الشمس ونورها، فبينما هو ينمو كانت الحرارة تُخزَّن فيه، أي الحركة كمنت، فلما أُحْرِق اتحد الأكسجين مع ذرات الفحم وغيره مما يحترق، وأثار الحركة ثانية بصورة حرارة، فالحرارة قوة أيضًا.

ومن أين حرارة الشمس؟

حرارة الشمس ونورها أيضًا شكلان لا شعاع واحد يُسمى شعاعًا كهرطيسيًّا، أي كهربائيًّا مغنطيسيًّا، وهو تموُّج من صنف تموُّج الراديو، كهرطيسي.

وما هو مصدر التموُّج الكهرطيسي؟

(٢) تركب الذرة

هنا نرانا مضطرين أن نأتي باختصار وبكل بساطة على تركيب الذرة؛ أي الجوهر الفرد Atom لكي نتأثر مصدر الكهرطيسية، وهو بحث طويل جدًّا يستغرق مجلدًا فننوِّه به تنويهًا باختصار كلي.

الجوهر الفرد هو الجزء الأول للمادة؛ لأنه لا يتجزَّأ كيماويًّا، ولكن العلماء رأوا أخيرًا أنه يتجزَّأ كهربائيًّا، هو الجزء الذي تتألَّف منه أجسام المادة من حجر وماء وشجر ولحم، وإلى ما لا يُحْصَى مما يُرى من أشكال المادة، والجواهر الفردة — أي الذرات — ٩٢ صنفًا كيماويًّا تختلف باختلاف أعداد العنصرين أي الذريرتين اللتين تتألَّف منهما الذرة (الجوهر الفرد) وهما: الأُوَيل (البروتون) والكهيرب (الإلكترون).

نواة الذرة تؤلَّف من بروتونات مفردة في الهيدروجين ومتعددة فيما سواه إلى أن تبلغ ٩٢ بروتونًا في الأورانيوم جد الراديوم يصحبها ١٤٦ نيوترونًا، ولكل بروتون كهيرب يقابله دائرًا حول النواة في فلك كالسيَّار حول الشمس، والقوة التي تدير هذه الكهيربات من حول نفسها أولًا، ثم من حول النواة في أفلاك ثانيًا، هي نفس قوة الجاذبية التي تدير الأرض حول محورها ثم حول الشمس.

دورانات النواة والكهيربات على محاورها ودورانات الكهيربات من حول النواة كلها في اتجاه واحد كدورانات السيارات حول الشمس.

فالذرة صغيرة كالهيدروجين أو عظيمة كالأورانيوم تعتبر نظامًا جاذبيًّا قائمًا بذاته كالنظام الشمسي تمامًا.

وهنا أتخيلك تتعمَّق في التساؤل عن أصل هذه القوة العظمى، أمِّ القوى، أو عن مصدرها الأول، ما هو مصدر هذه القوة؟ — إذن يجب أن نتعمق في البحث عن أصل المادة — الهيولي — فإليك البيان:

(٣) الهيولي

الهيولي: أي ذرات المادة (الذرات الأصلية الأولى) هي أدق الذرات، هي أصغر من الكهيرب، إن ١٨٤٠ كهيربًا تساوي بروتونًا، والكهيرب إذا طُبِّق على البروتون انحلَّا بلمعة شعاع إلى فوتونات أي ضويئات.

ينحلُّ الكهيرب إلى عشرة آلاف فوتون، فالبروتون إذن ينحل إلى ١٨٤٠٠٠٠٠ فوتون.

والفوتون هو أدق أجزاء المادة، إلى الآن، لم يُعْرَف إن كان الفوتون مؤلَّفًا من أجزاء أدق، يعتبر الآن هو المادة الأولى: الهيولي.

وُجِدَت الهيولي أو الفوتونات أو خلقها الخالق، ولها ثلاث سجايا أو طباع أو خواص:
  • (١)

    خاصية الامتداد الثلاثي: الطول والعرض والسُّمك.

  • (٢)

    متحركة: تتحرك حركة دورانية على نفسها، دورة محورية وجميعها في اتجاه واحد.

  • (٣)

    متجاذبة: يجذب بعضها بعضًا الأقرب فالأقرب، والأقرب أقوى من الآخر الأبعد بالنسبة لواحد آخر بينهما.

هذه خواص ذريرات المادة الأولى.

إذا لم تكن لها هذه الخواص الثلاث — ولا سيما الأولى — فماذا تكون؟ إذا لم تكن ذات امتداد فهي عدم وليس للحيِّز نفسه وجود، إن الذي أوجد المكان أوجد المادة فيه، ولولا وجودها لما كان للمكان وجود، تصور الفضاء خاليًا من المادة فهل تستطيع أن تتصور وجودًا ينعدم المكان بانعدام المادة التي تشغله؟١

وإذا لم تكن متحركة فما هي موجودة أيضًا، تصور أجزاء المادة أو ذراتها أو ذريراتها أو فوتوناتها أو مجموعاتها ثابتة غير متحركة، تصورها هكذا، فما الفرق بينها وبين العدم؟ وكيف نحس بوجودها؟ بل قل لي كيف تتصور العدم؟ كيف تتصوره غير هذا الجمود المطلق؟ وإذا لم تكن ثمة حركة فكيف يكون ثمة زمان؟ الزمان مقياس الحركة.

وإذا لم تكن متجاذبة فكيف تتجمَّع في كتل وأجرام … إلخ؟ تصورها غير متجاذبة، تبقى ساكنة في أماكنها وحينئذٍ تكون كالعدم أيضًا.

نذهب إلى أن لذريرات المادة الأولى هذه الخواص الثلاث الرئيسية؛ لأن علماء الفلك الطبيعي والرياضي تحققوا أن لجميع الأجرام دورانات محورية في اتجاه واحد، وأن مجموعات الأجرام تدور من حول مراكز لها في اتجاه واحد أيضًا.

وكذلك علماء الجوهر الفرد — أي الذرة — لاحظوا أن ذريراتها الكهيربات (إلكترونات) والبروتونات تدور على محاورها، وتلك تدور حول هذه في اتجاه واحد أيضًا، ودورانها خاضع لسُنَّة الجاذبية تمام الخضوع.

فمن هذه الملاحظات نستنتج أن جميع أجزاء المادة وجماعاتها من ذريرات وذرات وكتل وأجرام وجماعات أجرام سائرة في هذا الفضاء العظيم مواكب مختلفة وسرعات مختلفة بحسب البُعْد عن المركز، ولكنها كلها في اتجاه واحد، والعامل الوحيد في هذا السير هو الجاذبية، الجاذبية بين الذريرات وبين الذرات وبين جماعات الذرات وكتلها … إلخ٢

وأخيرًا لك أن تقول إن كل حركة في هذا الكون الأعظم هي نتيجة قوة الجاذبية.

(٤) قاموس السرعة

فهمت مما تقدَّم أن الجاذبية قوة، والقوة تُحْدِث حركة، وللجسم المتحرك سرعة بمدة معينة، فمقدار السرعة إذن من فعل الجاذبية، وله ناموس مشتق من ناموس الجاذبية نفسه.

وقد علمت أن قوة الجذب تنقص كمربع البُعْد عن المركز، وكذلك مقدار السرعة ينقص بنسبة البُعْد عنه على هذه القاعدة، وهي نسبة مربع سرعة الجِرْم الواحد في الثانية إلى مربع سرعة الجِرْم الآخر كنسبة بُعْد الآخر إلى بُعْد الأول، وبعبارة رياضية أخرى أبسط:

مربع مقدار سرعة الواحد مضروب في مسافة بُعْده عن المركز تساوي مربع مقدار سرعة الآخر مضروبة في مسافة بُعْده عنه.

وقبل التمثيل على هذا القانون نلفت نظر القارئ إلى اصطلاح العلماء على الأقيسة في النظام الشمسي، فقد اتفقوا على جعل بُعْد الأرض عن الشمس — أي طول المسافة بينهما — مقياسًا للأبعاد أو المسافات الفلكية، فحسبوه مترًا فلكيًّا واحدًا (مع أنه ٩٣ مليون ميل أو ١٤٩٫٤٥ مليون كيلومتر)، والأفضل أن نسميه «المقياس الفلكي».

فإذا قلنا: إن نصف قطر فلك المشتري ٥٫٢ مقياس فلكي عنينا أن متوسط بُعْد المشتري عن الشمس خمس مرات وعُشْرَان كبُعْد الأرض.

(وكذلك سموا السنة الأرضية مقياسًا زمنيًّا لدوران السيارات حول الشمس.)

فبناءً على قانون السرعة المشار إليه إذا كانت سرعة الأرض في فلكه ميل بالثانية فيجب أن تكون سرعة المشتري ٨٫١ ميل في الثانية؛ لأننا إذا طبَّقنا هذه القاعدة على هذه النسبة كان لنا.
مربع سرعة الأرض ٢ × بعدها بالقياس الفلكي وهو واحد = مربع سرعة المشتري ٨٫١ ٢ × ٥٫٢ بُعْده عن الشمس هكذا ٢ × ١ = ٨٫١ ٢ × ٥٫٢ امتحن ذلك.

(لبرهنة القانون انظر الملحق الخامس بآخر الكتاب.)

١  تجد في كتابنا «هندسة الكون النسبية» فصلًا ضافيًّا بهذا المعنى تحت عنوان «الزمكان» (الزمان المكان).
٢  تجد بحثًا في جاذبية ذريرات الذرة في كتابي «علم الذرة» الذي سيصدر قريبًا إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤