الفصل الخامس

سر التجاذب

(١) نظرية الإيثر

أول عقبة قامت أمام نظرية الجاذبية هي الإجابة على السؤال الآتي: ما هي الوسيلة التي تنتقل عليها أو فيها أو بها هذه القوة من ذريرة إلى ذريرة ومن جِرْم إلى جِرْم؟ لأنه إذا كانت الذريرات كالأجرام تدور بعضها حول بعض بفعل قوة الجاذبية، فإذن بينها فراغ تحيط به أفلاك (مدارات) فكيف تعبر تلك القوة هذه المدارات؟ وباصطلاح العلماء كيف يمكن أن يكون الفعل عن بُعْد؛ عن مسافة؟

تشاهد هذا الفعل السري أو الغامض إذا كنت تدني مسمارًا مثلًا إلى نضوة مغنطيس، فنرى أن المغنطيس اجتذب المسمار قبل أن تقربه إليه وبينهما في نظرنا فراغ، فما في هذا الفراغ من الواسطة أو الوسط لنقل هذه القوة من المغنطيس إلى المسمار، ومن الأرض إلى القمر، ومن الشمس إلى سياراتها؟

مثل هذه العقبة السرية المحيرة قامت في سبيل انتقال نور الشمس وحرارتها إلى الأرض — أو انتقالهما على الإطلاق — أيضًا.

أما من حيث انتقال النور والحرارة معه فقد زعم نيوتن أن النور ذريرات Corpuscles تنطلق من الجسم المنير بسرعة ١٩٠ ألف ميل في الثانية (والسرعة التي تقررت أخيرًا ١٨٦ ألف ميل)، ولكن رُئي أن النور يسير أمواجًا، فقالوا: إن الزعم الأصح أن تفرض مادة خفيفة جدًّا جدًّا مالئة الفضاء سموها إيثرًا، وأن النور حركة صادرة من الجسم المنير تصدر أمواجًا في هذا الفضاء الإيثري. ولا يزال فرض الإيثر بين الشك واليقين إلى اليوم، ولكن بعض أساطين العلماء مثل تجينز ولودج وغيرهما يرجِّحونه وأينشطين لا ينقضه، ولكن يقول: إن نظريته النسبية تستغني عنه.

هذا من جهة انتقال النور، وأما من جهة انتقال الحرارة فهي ضلع من النور مصاحِبة له.

وأما من جهة انتقال قوة الجاذبية فلم يقل نيوتن شيئًا، بل لم يقل كيف يحدث التجاذب عن بُعْد بتاتًا، فبقي هذا سرًّا غامضًا إلى اليوم.

على أن أينشطين المغرَم بنظرية «الزمكان» (اندماج الزمان بالمكان) ينسب للفعل الجاذبي زمانًا، وبهذه النسبة نقح جاذبية نيوتن، فإذا كانت قوة الجاذبية تستغرق وقتًا في انتقالها فهي إذن كالنور تموُّج إيثري؛ أي إن حركات ذرات الجسم الجاذب تُحْدِث أمواجًا جاذبية في الإيثر، فتصدم الجسم المجذوب وتُحْدِث فيه حركة الدورانين: الدوران المحوري والدوران المركزي من حول المركز.

(٢) لغز الجاذبية

اكتشف نيوتن ناموس الجاذبية وطبَّقه على جميع السيارات حتى على جميع الأجرام المتحركة، ولكنه لم يقل لنا: ما هي الجاذبية أو ما هو سرها، أو بعبارة أصح: ما هو سبب دوران السيارات حول الشمس بسرعات متناسبة مع أبعادها عن الشمس؟

وما زال العلماء حتى اليوم حيارى في هذا السر، حتى إذا كلُّوا عن فهمه قالوا: لماذا نحسب الجاذبية سرًّا؟ لماذا لا نحسبها طبيعة في المادة؟ لماذا لا نقول إن المادة مخلوقة يجذب بعضها بعضًا؟ فلا سر هناك، وإنما نحن اختلقنا لها سرًّا وجعلناه مجهولًا أو مستحيل التفسير، في حين أن المسألة بسيطة لا تحتاج إلى إعمال فكر، الجاذبية صفة من صفات المادة كما أن الألفة الكيميائية صفة من صفات الذرات، والتبلُّر صفة من صفات الجزئيات Molecules، والذوبان صفة أخرى وهلمَّ جرًّا (والحقيقة أن لهذه جميعًا أسبابًا طبيعية ليس هنا محل بيانها).

ولكن لو كانت الجاذبية تجاذبًا فقط بين جسمين لاكتفينا بتفسيرها بأنها خاصية من خاصيات المادة، ولكنها ليست مجرد تجاذب فقط، بل هي مع ذلك دوران جسم حول مركز بسرعة مقيدة ببُعْد الجسم عن المركز. هذه أهم ظاهرة من ظواهر الجاذبية، وغرضنا هنا كشف هذا السر في صميمه إن أمكن.

(٣) ضلعا الجاذبية

إذا حلَّلنا ظاهرة الجاذبية رأيناها تنحلُّ إلى ظاهرتين: الأولى التجاذب بين جسمين في خط مستقيم إلى أن يتصل أحدهما بالآخر كتجاذب المغنطيس والحديد وسقوط التفاحة من الشجرة إلى الأرض.

الظاهرة الثانية: دوران جِرْم صغير حول جِرْم كبير كدوران القمر من حول الأرض، أو دوران الأرض وسائر السيارات من حول الشمس، أو دوران جِرْمين غير متفاوتين بالحجم والكثافة المادية Mass كثيرًا حول مركز التجاذب بينهما، كدوران فرعي النجم المزدوج Binary star المتباعدين حول نقطة التجاذب بينهما.

في الظاهرة الثانية يدور الجِرْم الدائر حول المركز بسرعة مناسبة لبُعْده عن المركز، وهذه النسبة بين السرعة والبُعْد خاضعة لناموس الجاذبية كما تقدَّم بيانه في الفصل السابق، حتى إذا اختلَّت نسبة السرعة هذه سقط الجِرْم إلى المركز إن كان أبطأ أو شرد عنه إن كان أسرع من القدر القانوني [راجع الفصل الثاني: القوة القصوى – سر الدوران].

فيظهر مما تقدَّم أولًا: أن الجِرْم الدائر (كالقمر من حول الأرض أو الأرض من حول الشمس) واقع تحت سلطة قوتين١ القوة الواحدة تسوقه في خط سيره المستقيم، والقوة الأخرى تستميله نحو المركز فتجعل خط سيره منحنيًا في دائرة حول المركز، ولأننا نرى جميع الأجرام — سيارات وغير سيارات — تدور من حول مراكز خاصة بكل منها، وما من جِرْم شارد عن مركز ولا جِرْم هابط إلى مركز، نفهم من هذا أن القوتين المسيطرتين على الظاهرتين اللتين نحن بصددهما متكافئتان، أو أنهما متعاضدتان، أو أنهما صادرتان من مصدر واحد.٢
ويظهر أن الجاذبية تشتمل على حالتين من الحركة، أو بالأحرى على قوتين متعامدتين تُنتجان حركتين متعامدتين أيضًا: حركة الجذب نحو المركز وحركة الشرود عنه، والحاصل من تسلطهما على جِرْم واحد هو الدوران حول المركز لا اقتراب ولا شرود؛ أي إن هذه الحالة تحول دون هبوطه، كما أن تلك تحول دون شروده وهما:
  • (١)
    قوة الانجذاب نحو المركز Centripetal Force.
  • (٢)
    قوة الابتعاد عن المركز Centrifugal Force فلنبحث في كل منهما بحثًا تعليليًّا.
١  راجع [الفصل الثاني: القوة القصوى – القوتان المتعامدتان].
٢  راجع [الفصل الثاني: القوة القصوى – القوتان المتعامدتان].

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤