الفصل الثامن

نشوء الذريرات والأجرام

يحسن بنا هنا أن نبحث في كيف نشأت الذريرات والذرات والأجسام والأجرام بقوة الجاذبية أو بعمل خواص المادة الثلاث التي مر ذكرها في [الفصل الرابع: مصدر القوى – الهيولي].

(١) أصل السُّدُم

شكرًا للنور وللآلات البصرية التي اخترعها العلم لتحليل النور واستكشاف نواميسه وخواصه، شكرًا له ولها لأنها جميعًا وضعت تحت بصرنا كتاب الطبيعة المادية Cosmophysics مشتملًا على صور العوالم المادية من ملايين السنين إلى اليوم، فهو يكشف لنا طبيعة مجموعات العوالم في عصور مختلفة ومتباعدة أكثر مما تكشف لنا الأحافير عن طبقات الأرض.
تصوَّر التلسكوب (المقراب) والسبكتروسكوب (المطياف) يجلوان لك كثيرًا من ظاهرات سديم١ يبعد عنا مئة مليون سنة نورية أو أكثر، يعني أن نوره يقضي هذا العدد من السنين لكي يصل إلينا، فهو بعد مضي هذه السنين لم يبق كما نراه الآن سديمًا غازيًّا، بل لا بد أنه أصبح كمجرتنا، وقد تجمعت أجزاؤه في أجرام من شموس ومجموعات شموس (كوكبات)، وربما كان بين شموسه شموس ذات سيارات كشمسنا، فبُعْده السحيق عنا حفظ لنا في الفضاء صورته كما كان منذ مئة مليون سنة أو مئات الملايين، فإذا وجَّهنا مرصدنا العظيم بمطيافه إلى النواحي المختلفة في الفضاء، أو بالأحرى في الحيِّز الكوني، نرى سُدُمًا مختلفة الأبعاد، وبالتالي مختلفة المظاهر تبعًا لاختلاف أبعادها، فنرى بعضها في الحالة الغازية الصرفة كأنها لهيب مندلع، وبعضها كأنها ضباب محترق، وبعضها ضباب يشتمل على عقل أكثف من الضباب، وبعضها نجوم ومجموعات نجوم، وأقربها إلينا أكثر مشابهة لمجرتنا وأبعدها غازي صِرْف، فكل هذه الظاهرات الواصلة إلينا على أجنحة النور إذا أدخلنا أبعادها المختلفة في الحساب، تدلنا على أنه لو كان في إمكان عقلنا أن يتنقل بينها بأسرع من النور ألوف المرات أو فجأةً، لكان يراها كلها مقاربة في النضوج إلى مجرتنا، وربما كان بعضها أنضج منها.

ومن ذلك نفهم أن كل جِرْم أو مجموعة أجرام، أو كل مجرَّة كمجرتنا كانت في الأصل سديمًا غازيًّا لطيفًا جدًّا، ثم جعلت ذراته تتجمَّع بعضها إلى بعض؛ فتتكوَّن منها جماعات فجماعات أكثر من الأصل عددًا، ثم جعلت أجزاء كل جماعة منها تتجمَّع في جماعات أخرى أكثف منها فتتكوَّن مجموعات الأجرام إلى أن بلغت مثل ما نرى في مجرتنا.

فلا شبهة في أن جميع العوالم كانت في الأصل سُدُمًا غازية لطيفة جدًّا، ثم تقلَّصت وتجمَّدت أجرامًا، والمطياف (السبكتروسكوب) يقول لنا إن جميع هذه السدم متشابهة المادة تشابهًا كليًّا، مثلًا يريك في كل منها عنصر الهيدروجين أو عنصر الهيليوم وكثيرًا من العناصر التي عندنا في أرضنا منها، بل يريك صفات البروتونات والكهيربات فيها جميعًا، ولا يخفى ما في هذه الظاهرات من الدليل الجازم على أن السُّدُم جميعًا متكوِّنة من أصل واحد أي من ذرات مادية متماثلة، فماذا كانت تلك الذرات؟

لا يحتاج الجواب إلى تكهُّن أو إلى تخرُّص، نحلل أية ذرة من الذرات المادية التي عرفناها، فما تنحل إليه نهائيًّا فهو الذريرة التي تألفت منها السدم، بل تؤلف السديم الأعظم الذي انشقت منه السدم وانفصلت بعضها عن بعض، فقد علمنا فيما سبق أن آخر جزء تنحل إليه الذرة هو الفوتون (الضويئة)، ولا نعرف ذريرة أدق من الفوتون، أو أن الفوتون ينحل إلى أجزاء أدق منه، حتى إننا لاعتبارات علمية اعتبرنا الإيثر بحر فوتونات (وتجينز يظن هذا الظن)، وربما كان بحر ذريرات أدق من الفوتونات والله أعلم.

(٢) البحر الفوتوني أو الضويئي

هبْ أن ذريرة الإيثر أصغر من ذريرة الفوتون، وأن الفوتون مؤلَّف من ذريرات إيثرية فمهما تمادينا في تجزئة المادة فلا نستطيع أن نتمادى بلا تناهٍ؛ لأن عدم التناهي خارج عن منطقة العقل البشري فلا يتطوَّح العقل إليه، ولأن المادة خاضعة لتصور العقل فلا بدَّ أن تكون متناهية التجزئة، ولأن الفوتون آخر أجزائها كما نعلم حتى الآن، فلنا أن نفرض أن السديم الأعظم الذي اشتقت منه جميع السُّدُم كان بحر فوتونات، وإذا شئت أن تتصوَّر بحر ذريرات إيثرية أدق من الفوتونات فلا بأس، وإنما لكي نجعل حدًّا لبساطة المادة ودقتها نفرض الفوتون الذي لم نعرف حتى الآن ذرة أبسط منه وأدق، نفرضه أصلًا لمادة الكون (الهيولي)، هو عنصر البحر الإيثري والمادي.

في هذه الحالة نتصور الحيز الكوني المتناهي (لا الفضاء الخالي اللامتناهي الذي نعتبره عدمًا) في البدء مملوءًا فوتونات منتشرة فيه على مسافات متساوية تمام التساوي، وقد حسب بعض العلماء ذرات أو جزيئات جميع المجرات والسُّدُم الكونية فإذا هي ٧٩ صفرًا عن يمين الواحد، أي هي عشرة مضروبة بنفسها ٧٩ مرة، وتُكْتَب بالاختصار هكذا ١٠ ٧٩ × ١٠ ٥ × ١٨٤، وإذا كانت أصغر ذرة — الهيدروجين مثلًا — تنحلُّ إلى نحو ١٨ مليون فوتون تقريبًا ١٠٠٠٠ × ١٨٤٠ فيكون عدد فوتونات الكون ١٠ ٧٩ + ٥ × ١٨٤ أي ١٨٤ وأمامها ٨٤ صفرًا، هذا ما عدا ذريرات البحر الإيثري التي يمكن استخراجها بحساب آخر ليس هنا متسع له.

ثم حسب بعض العلماء نصيب كل جزيء من الحيز الكوني إذا تشتتت أجزاؤه بالتساوي فيه فإذا هي من ٢ إلى ٣ يردات مربعة، أي إنه بين كل جزيء وكل واحد من جيرانه نحو ٢ إلى ٣ يردات، وبناءً على هذا الحساب يكون نصيب الفوتون الواحد من الحيز الكوني نحو سنتيمتر مكعب، أي إن كل فوتون يبتعد عن جيرانه نحو سنتيمتر، هذا إذا انحلَّت ذرات الكون كله إلى فوتونات وتشتتت هذه في الحيز الكوني.

أضف إلى هذا الحساب الذي لا يستطيع العقل تصوره أن النور يقضي نحو ١٠ آلاف مليون سنة لكي يقطع الحيز الكوني من جنب إلى جنب، وثمَّ تصور ما شئت من سعة هذا الكون.

حساب آخر: وقد حسب هوبل رئيس مرصد جبل ويلسن (أعظم مرصد في العالم الآن) في أميركا أنه لو انتشرت ذرات جميع الأجرام والسدم وتوزَّعت في الحيِّز الكوني توزُّعًا متعادلًا لبلغت كثافتها فيه ١٥ جزءًا من ٣١ صفرًا إلى يمين الواحد من كثافة الماء، وتُكْتَب للاختصار هكذا: ١٫٥ × ١٠ ٣١ ، وبعبارة أخرى: إن سنتيمترًا مكعبًا من الماء يصبح حينئذٍ ١٥ إلى يمينها ٣١ صفرًا سنتيمترات مكعبة.

(٣) نشأة الكون الهيولي

تصورنا الحيز الكوني المتناهي في بدئه مفعمًا بفوتونات أو ذريرات إيثرية متماثلة وموزَّعة فيه على نسبة واحدة؛ أي إن كثافتها فيه واحدة في أي منطقة في ذلك الحيز.

وهنا يقاطع القارئ حديثنا بالأسئلة التالية:
  • (١)

    من أين جاءت هذه الفوتونات (أو الذريرات الإيثرية أو كيف وُجِدَت مرتَّبة هذا الترتيب)؟

    الجواب: إن هذا السؤال استفزاز للعقل؛ لكي يثب من دائرة المتناهي إلى دائرة اللامتناهي، وهو عاجز عن هذا الوثوب.

    إذا بحثنا عن سبب وجود فوتونات المادة، أو إذا فرضنا لوجودها سببًا أو موجدًا انبرى أمامنا سؤال آخر، وهو كيف وُجِد ذلك السبب أو الموجد؟ وعلى هذا النحو نستمر في سلسلة فروض لا نهاية لها، والعقل متناهٍ فلا يستطيع أن يشمل اللامتناهي، فخيرٌ للسائل أن يكفَّ عن هذا السؤال المحير؛ لأنه لا يستطيع أن يجد فيه مزيلًا لحيرته، فإن كان يرتاح إلى نظرية وجوب وجود الله موجدًا للمادة فذلك خير ما يعتقده ويريح باله، اللهمَّ إذا كان لا يجد بُدًّا من السؤال «مَنْ أوجد الله؟» وحينئذٍ فافتراض أن المادة وُجِدَت هكذا وجوبًا يغنيه عن هذا السؤال؛ لأن افتراض أن المادة وُجِدَت هكذا وجوبًا هو كافتراض وجود الله وجوبًا، إذن فلنقل: إن المادة وجدت فوتونات مرتبة هكذا بكيفية يستحيل أن ندركها أو أن نخمِّنها وُجِدَت والسلام، أو أن الله الواجب الوجود أوجدها وهو منظمها ومدبرها، والبحث في أصل وجودها عقيم.

  • (٢)

    متى وُجِدَت فوتونات المادة؟

    الجواب: إن الزمان ليس شيئًا قائمًا بذاته، بل هو تعبير عن حركة المادة، فإذا كانت المادة ساكنة بلا حركة — إن كان قد وُجِدَت ساكنة — فلم يكن ثمة مرور زمن، إذ لا نجد أثرًا في الكون له؛ ولذلك لا نستطيع أن نُعيِّن لبدء وجودها زمنًا، وإنما نُعين لبدء حركتها زمنًا سواء أكانت الهيولي أزلية أو حادثة، ولا يستحيل علينا أن نستنتج بدء ظهور حركتها، أي منذ كم من الزمن ابتدأت تتحرك؟ أي متى صارت الفوتونات تتألَّف في كهيربات وبروتونات؟ فإن كانت قد وُجِدَت متحركة فنعلم بدء حدوثها أو وجودها من معرفتنا بدء حركتها، وإنما نبقى جاهلين كيفية ذلك الحدوث كما تقدَّم القول، فمهلًا بهذا السؤال الذي يمكن الجواب عليه وإزالة الحيرة فيه، وحينئذٍ يعلم القارئ أن لا أزل ولا أبد، بل هناك بداية للكون المادي الذي نحن فيه الآن وكما نعرفه وله نهاية على الأرجح (انظر الفصل العاشر).

  • (٣)

    كيف نعلم أن المادة وُجِدت فوتونات أولًا، ثم تألَّفت من الفوتونات ذريرات فجزيئات وتجمعت منها سُدُم وأجرام؟ ولماذا لا نقول إنها وُجِدَت جزيئات تامة التركيب كما نراها في شمسنا وأرضنا؟ ولماذا لا نقول إنها وُجِدَت ذريرات أصغر من الفوتونات وهذه الفوتونات تألفت منها؟

    والجواب: إننا نرى في السدم المترامية جميع درجات التركيب من الفوتونات إلى البروتونات والكهارب إلى الجزيئات … إلخ، ولم نشاهد أو نعثر على ما هو أدق من الفوتونات، فإن كان هناك ما هو أدق منها فإلى الآن لم نكتشفه، ولا كلام فيما نجهله جهلًا مطلقًا، وفي أرضنا نرى خليات حيوية مؤلفة من جزيئات أيضًا، وكل ذلك يدلنا على أن التركيب حادث في المادة بعد وجودها، فلا يمكن أن تكون قد وُجِدَت هكذا كما نراها ما دمنا نرى تركبًا وانحلالًا، نرى في درجات السدم دلائل التكاثف والتركُّب واضحة كالنهار، فنتأكد أن التركُّب طُبِع في المادة، وإذن ابتدأ التطور منذ كان الحيز الكوني بحر فوتونات فقط.

  • (٤)

    بالبرهان على أن الحيز الكوني الذي كان مملوءًا فوتونات فقط ومتوزِّعة فيه بالتساوي كان متناهيًا أي له حجم مقرَّر، ولماذا لا يقال إنه غير متناهٍ؟

    الجواب: إن العلم مكَّننا من ارتياد الكون وأقنعنا بأنه متناهٍ، وأن الحيز الذي يشغله محدود الحجم، وعِلْمُنا أو استكشافنا محصور في هذا الحيز المحدود، وبعده لا ندري شيئًا؛ إذ لا وسيلة لاتصالنا بما بعده كما لنا وسائل الاتصال بجميع نواحي حيِّزنا هذا، ولكن جهلنا بما بعده لا ينفي نفيًا قاطعًا إمكان وجود حيز أو حيزات كونية أخرى لا وسيلة عندنا للاتصال بيننا وبينها، فهي بالنسبة إلى عقلنا في حكم التخيُّل الظني فقط، إذ لا تأثير لها على عقليتنا، فكأنها من مستنبطات عقلنا فقط؛ ولذلك من السخف أن نفرض أو نزعم أو نعتقد بما ليس له صلة بحواسنا أو عقلنا أو تعقُّلنا.

    إذن نحصر بحثنا في حيز كوننا المادي فقط؛ لأن لنا اتصالًا حسيًّا بنواميسه؛ ولأن هذا الاتصال ينتهي عند حدود نستطيع أن نقيس أبعادها بالتقريب.

  • (٥)

    هل وُجِدَت المادة متحركة أو أن الحركة طارئة عليها؟

    الجواب: ليس لأيٍّ من الأمرين جواب يرتاح إليه العقل أو يزيل الحيرة، فقد يمكن أنها وُجِدَت متحركة، ولا جواب للسؤال: «كيف وُجِدَت متحركة؟» إلَّا الجواب الذي بسطناه للسؤال الأول، وقد يمكن أن تكون الحركة طارئة عليها بعد وجودها، وحينئذٍ يتصدر السؤال التالي:

  • (٦)

    إذا كانت الحركة قد طرأت على المادة بعد وجودها فما هي القوة التي أحدثتها؟

    والجواب على هذا السؤال من رتبة الجواب على السؤال الأول، فيستحيل على العقل البشري أن يتصوَّر قوة مستقلة قد حرَّكت المادة أو أثارتها فتحرَّكت؛ لأنه في الحال يقوم أمامه سؤال آخر وهو: ما هي هذه القوة؟ أو إذا كان يعتقد أنه ليس هناك شيء قائم بذاته يسمى قوة، بل إن ما نعنيه بالقوة وما عرفناه منها إنما هو حلقة من سلسلة حلقات الحركة، إذا كان العقل البشري يعتقد هكذا فلا بد أن يسأل ما هي الحركة السابقة التي أحدثت حركة الفوتونات؟ وهكذا يدخل في سلسلة غير متناهية من الأسئلة.

    فإذن نترك البحث في اللامتناهي — لأنه عقيم — ونبحث في تطور المادة كما رأيناها منذ بدء تحركها، سواء أكانت قد وُجِدَت ساكنة فطرأت عليها قوة فحرَّكتها، أو وُجِدت متحركة فشرعت تتطوَّر.

١  السديم: مجموعة مادية عظيمة جدًّا كمجموعة مجرتنا، ولكنه في الحالة النارية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤