الفصل السابع

أهو دورٌ ثانويٌّ دائمًا؟

ثمة جانب مثير للاهتمام من علم النفس الشرعي يبرز من الوثبة التي قطعتها عبر ميدانه في الفصول السابقة. فعادةً ما يكون علماء النفس الشرعيون مستشارين في تخصصات تُعتبر مجال مهنة أخرى أو أكثر. فيمكن أن يساعدوا المحققين في تحقيقاتهم ويقدموا النصح إلى محامين بشأن كيفية إعداد قضية للمرافعة بالمحكمة، أو يُبدوا آراءهم إلى القضاة وهيئات المحلفين، ويمكن أن يعملوا في السجون أو مع مسئولي المراقبة، أو في مستشفيات خاصة للجناة المرضى عقليًّا تحت إشراف طبيب نفسي، أو يشتركوا في مشروعات مجتمعية متنوعة يباشرها الأخصائيون الاجتماعيون أو ممرضات الطب النفسي أو الموظفون العموميون. فالأمر كما لو أن دورهم دومًا دور داعم، مثل دور وصيفة العروس التي نادرًا ما تُسلط عليها الأضواء.

ربما لن يظل الحال كذلك طويلًا؛ لأن الاهتمام المتزايد بعلم النفس الشرعي يجذب أشخاصًا أكثر كفاءة إلى هذا المجال. وفي جميع أصقاع العالم، هو يعد أسرع مجالات علم النفس المهني تطورًا. ولهذا نتيجة مثيرة للاهتمام: أن ثمة عددًا متناميًا من الأشخاص المؤهلين جيدًا يتقدمون للعمل في مجال علم النفس الشرعي. وستميل عمليات الانتقاء إلى اختيار الأقدر؛ لذا تزداد فعالية العاملين في هذا المجال طيلة الوقت. وكما حدث في مجالات علم النفس المهني التي نشأت في عقود سابقة — لا سيما في المجالات التنظيمية والتعليمية والإكلينيكية — فإن مَن بدءوا باعتبارهم مجرد مقيِّمين تابعين للاعبين آخرين أساسيين سريعًا ما تقلدوا أدوارًا إدارية وقيادية أخرى. وفي هذه الأدوار الجديدة، تسنى لتأثير علم النفس بوصفه علمًا — باختباراته القياسية وأساليبه التجريبية، ونظرياته المتطورة وإجراءاته الموضوعية — إبداء قدرته.

الأساس المهم القائم عليه هذا كله هو اتباع منهج بحث دقيق. وأغلب الظن أن علماء النفس الشرعيين بدءوا يتقلدون الصدارة في هذا الميدان الأكثر أكاديمية. وللقيام بهذا، كان عليهم أن ينزعوا عنهم أصفاد منهج إكلينيكي قوي. بالنسبة للجيل الأقدم، كان هذا صعبًا، لكن لا يرى الباحثون حديثو السن أنفسهم أتباعًا لعلم النفس الإكلينيكي، ولديهم الاستعداد للاعتماد على العلوم النفسية والسلوكية كلها ويتمتعون بالقدرة على ذلك.

أضافت أيضًا الزيادة في فرص وظائف علم النفس الشرعي مزيدًا من القدرة له. فمنذ ربع قرن، كان يمكن لأي شخص يتمتع بخلفية ما عن علم النفس أن ينخرط في سياق شرعي ويعرض النصح. لكن جرت العادة أن يقتصر مصطلح «عالم النفس الشرعي» على أشخاص تمتعوا بخلفية من علم النفس الإكلينيكي، حيث يعملون مع مرضى وجدوا سبيلهم إليهم من خلال الأحكام التي تصدرها المحاكم. ولا تزال هذه التقاليد موجودة في بعض الأماكن، ولكن في الدول الناطقة بالإنجليزية يزداد بقوة الاتجاه لإنشاء أقسام مهنية مستقلة لعلماء النفس الشرعيين.

ويتجلى هذا في المملكة المتحدة من خلال اللقب «عالم نفس شرعي معتمد» الذي يمنح بموجب القانون. ولكي يُسمح لك بحمل هذا اللقب، عليك أولًا الحصول على درجة علمية في علم النفس معترَف بها من الجمعية النفسية البريطانية. ثم عليك إتمام برنامج معتمد لنيل درجة الماجستير في مجال محدد يستغرق اثني عشر شهرًا. وفي النهاية، يجب أن تعمل لعامين تزاول فيهما المهنة، تحت إشراف شخص يحمل بالفعل مرتبة محلف. وهذا يعني أن فترة التدريب لن تقل عن ست سنوات، بما يكافئ أغلب المهن الأخرى.

عمل غير مكتمل

في مقابل هذا النمو المتزايد لعلم النفس الشرعي، يجب وضع مجموعة الموضوعات الكبيرة التي لا يزال يندر التطرق إليها ولكن يمكن أن يساهم فيها المجال دون شك. ويمكن العثور على هذه الموضوعات في كلٍّ من الأطر التي تحريناها في الفصول السابقة.

فيما يتعلق بالمحاكم، يزداد اشتراك علماء النفس في إجراءات الدعاوى المدنية. ويمكن أن يكون ذلك على شكل التعامل مع مستندات متخاصم عليها، أو الطعن على سلامة عقول أشخاص كتبوا وصايا متنازعًا عليها. ويتداخل بعضٌ من هذا مع عمل علماء اللغة، ولكن في قضايا أخرى — لا سيما في محاكم الأسرة — يمكن أن يستفيد تقييم أطراف النزاع استفادة عظيمة من المعلومات النفسية، لكن لا يزال الأساس العلمي لأنشطة علماء النفس في حاجة إلى تطوير كبير.

ينمو العمل مع الجناة بخطًى حثيثة، في الوقت الذي يصبح علماء النفس جزءًا متكاملًا ومعتبرًا أكثر من أي وقت مضى من أنظمة الاحتجاز. وثمة مجال ينمو سريعًا من رحم علم النفس الشرعي، يتمثل في مساعدة الجناة الذين لا تشتمل الأحكام الصادرة عليهم على فترة سجن، أو مساعدة الجناة بعد خروجهم من تلك المؤسسات. ومع ذلك — كما لاحظنا كثيرًا — لا يزال دور علماء النفس داعمًا فحسب في الغالب، مما يحد من تأثيرهم الممكن.

ربما يعد مجال علم نفس التحقيقات الجديد هو المجال الذي يطرح أكبر عدد من الأسئلة الجديدة التي تنتظر دراسة تفصيلية. وسأنتقي القليل منها فيما يلي:
  • لماذا يقدِّم أناس أعذارًا كاذبة لدعم أشخاص يعرفون أنهم مجرمون؟

  • ما العملية التي تدفع الجانيَ إلى تقديم طلب كاذب، ملتمسًا المساعدة في البحث عن حبيب مفقود، رغم أنه في الحقيقة هو من قتله؟

  • ما أكثر السبل فعالية للتعامل مع حشد غاضب؟

  • ما المسارات النفسية التي تؤدي بالأشخاص إلى الإرهاب؟

fig14
شكل ٧-١: يمكن للقتل أن يكون ذا تأثير مدمر على المجتمع بأسره، كما يشهد هذا النصب التذكاري لضحايا مارك ديترو.1

يفسح علم النفس الشرعي من نطاقه وحدوده بمعدل قد يعتبره البعض مقلقًا. فمبدئيًّا، تعامل علم نفس الجرائم بالأساس مع جرائم متطرفة ذات طبيعة انفعالية كبيرة ارتبطت بمشكلات عقلية واضحة. ولكن الآن صارت الجرائم المعروفة باسم «جرائم الاستيلاء على الممتلكات» — مثل السطو والسرقة — تدخل في نطاق عمل علماء النفس. والإمكانات هنا كبيرة، مع الأخذ في الاعتبار أنه لا تُحل سوى قضية واحدة تقريبًا من كل عشرٍ من هذه قضايا.

كانت المحاكم الجنائية الميدان الذي هيمن عليه الخبراء النفسيون، ولكنهم يجدون سبيلهم أيضًا على نحو متزايد إلى محاكم الأسرة ونطاق آخذ في الاتساع من الإجراءات المدنية. بل ويدلي بعض الخبراء في الولايات المتحدة الأمريكية بشهادات دعمًا لدعاوى الإهمال التي ترفعها شركات كبرى، مثل تلك المرتبطة بإدارة مراكز التسوق. ويرفع هذه الدعاوى ضحايا جرائم يطلبون تعويضًا على أساس أن المركز التجاري سهَّل أنواعًا معينة من الأعمال الإجرامية.

ليست الجريمة بشيء جامد؛ فلها قدرة بيئية على التطور وتحيُّن أي فرصة تتاح لها. لذلك، يتمخض عن التقنيات الجديدة والعولمة أشكال جديدة من الجريمة، مثل الجرائم الإلكترونية والإرهاب الدولي. وثمة سؤال مهم هو: هل هذا يجذب أنواعًا مختلفة من الأشخاص لارتكاب الجريمة، أم أن أولئك الذين سيصبحون مجرمين على أية حال يغيرون فحسب الطريقة التي يخالفون بها القانون؟ وتمثل هذه الجرائم تحديًا صارخًا للأمم المتقدمة؛ ومن ثمَّ يحاول علماء النفس أن يقدموا بعض الإسهامات فيها.

تضمينات السياسة

بخلاف تخصصات كثيرة من علم النفس، يحمل علم النفس الشرعي في طياته على نحو لا مفر منه تقريبًا تضمينات سياسية وأخلاقية وقانونية. مع ذلك لا تُسمَع حاليًّا أصوات علماء النفس بقدر كبير من الاهتمام في أروقة السلطة، مثل البرلمانات ومحاكم العدل العليا. وقد يرجع سبب هذا جزئيًّا إلى أن الأسلوب العلمي الذي درس به علماء النفس ينزع إلى التقليل من أهمية القيم والتضمينات المجتمعية المحتواة في «اكتشافها».

من الأمثلة الموضحة لمدى الصعوبة التي يمكن أن تكون عليها هذه الاعتبارات ذلك الاستخدام المعمم ﻟ «أوصاف محددة» للجناة المحتملين، سواءٌ عند التوقيف والتفتيش أو إجراءات الفحص الأمنية بالمطارات. ستُظهر الإحصاءات البسيطة أنه إذا جرى فحص أشخاص من النوع س عدد مرات أكثر من فحص أشخاص من النوع ص، فسيُكتشف أن عددًا أكبر من الأشخاص من النوع س مذنبون بطريقة ما؛ وهذا من ثَمَّ يزيد من الاعتقاد بأن الأوصاف المحددة للنوع س مفيدة لعمليات الفحص هذه، وهكذا تبدأ دائرة مفرغة. ينبغي أن يكون علماء النفس على وعي بهذه المسائل. وهم في موضع يمكِّنهم من تفسيرها والمساعدة في وضع إجراءات ستحد من التأثيرات الهدامة التي يمكن أن تسببها هذه الدائرة المفرغة والاستخدام الساذج لهذه الأساليب التنبؤية.

وعلى المستوى الأعم، ساهم علماء النفس على استحياء في العمليات التي من شأنها أن تساعد في خفض الجريمة. وركزوا على المساعدة في الإيقاع بالمشتبه بهم وإدانتهم — أو تقديم سبل لمساعدتهم ما إن يدانوا — لكن توجد حاجة إلى نقاش يستند أكثر إلى علم النفس حول ما إذا كان الحد من الجريمة شأنًا اجتماعيًّا أم اقتصاديًّا أم سياسيًّا فحسب.

هوامش

(1) © David Canter.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤