خلاصة مقال الشاعر إلى الأستاذ نكلسون

مذهب الأستاذ بريدلي أن كل مركز للشعور محدود، أي كل ذات مفردة، خداع نظر باطل، وأنا أقول — على خلاف هذا: إن مركز الشعور المحدود الذي لا يدرك «الذات» هو حقيقة الكائنات، فالذات حق لا باطل.

الحياة كلها فردية، وليس للحياة الكلية وجود خارجي، وحيثما تجلت الحياة تجلت في شخص أو فرد أو شيء، والخالق كذلك فرد؛ ولكنه أوحد لا مثل له.

وظاهرٌ أن هذا التصور للكائنات يخالف كل المخالفة ما ذهب إليه شراح فلسفة هيكل من محدثي الإنكليز، ويخالف أصحاب وحدة الوجود الذين يرون أن مقصد حياة الإنسان: أن يفني نفسه في الحياة المطلقة أو «أنا» المطلق، كما تفنى القطرة في البحر.

أرى أن هدف الإنسان الديني والأخلاقي، إثبات ذاته لا نفيها، وعلى قدر تحقيق انفراده أو وحدته، يقرب من هذا الهدف.

قال الرسول : «تخلقوا بأخلاق الله» فكلما شابه الإنسان هذه الذات الوحيدة كان هو كذلك فردًا بغير مثيل.

وتنقص فرديته على قدر بعده من الخالق، والإنسان الكامل هو الأقرب إلى الله، ولكن ليس القصد من هذا القرب أن يفني وجوده في وجود الله — كما تقول فلسفة الإشراق — بل هو على عكس هذا، يمثل الخالق في نفسه.

الحياة رقيٌّ مستمر، تسخر كل الصعاب التي تعترض طريقها، وحقيقتها أن تخلق دائمًا مطالب ومُثُلًا جديدة، وقد خلقت من أجل اتساعها وترقيها آلات كالحواس الخمس والقوة المدركة لتقهر بها العقبات والمشقات.

وأشد العقبات في سبيل الحياة: المادة أو الطبيعة، ولكن المادة ليست شرًّا كما يقول حكماء الإشراق، بل هي تعين الذات على الرقي، فإن قوى الذات الخفية تتجلى في مصادمة هذه العقبات.

وإذا قهَرت الذاتُ كلَّ الصعاب التي في طريقها بلغت منزلة الاختيار، الذاتُ نفسها فيها اختيار وجبر، ولكنها إذا قاربت الذات المطلقة نالت الحرية الكاملة، والحياة جهاد لتحصيل الاختيار، ومقصد الذات أن تبلغ الاختيار بجهادها.

دوام الذات أو الشخصية

مركز حياة الإنسان ذات «خودي» أو شخص، أعني: أن الحياة حينما تتجلى في الإنسان تسمى ذاتًا.

وشخصية الإنسان — من الوجهة النفسانية — حال من التوتر، ودوام الشخصية موقوف على هذه الحال، فإن زالت هذه الحال عقبتها حال من الاسترخاء مضرة بالذات، فإن يكن في حالة التوتر هذه كمال الإنسان فأول فرض عليه أن يعمل لدوام هذه الحال والحيلولة دون حال الاسترخاء.

وكل ما يمكِّننا من إدامة حال التوتر يمكِّننا من الخلود.

وهذا التصور للشخصية يقوم معيارًا ليقيِّم الأشياء، أعني أن في ذاتنا معيار الحسن والقبح، وبهذه تُحلُّ مسألة الخير والشر، فما يقوِّي الذات خير وما يُضعفها شر، ويجب أن يقوم الدين والأخلاق والفنون بهذا المعيار أيضًا.

واعتراضي على أفلاطون هو في أصله اعتراض على كل النظم الفلسفية التي تقصد إلى الفناء لا البقاء والتي تُغفل المادة، وهي أكبر العقبات في سبيل الحياة، وتدعو إلى الفرار منها لا إلى تسخيرها والتسلط عليها.

وكما تعرض مسألة المادة في مبحث حرية الذات، تعرض مسألة الزمان في مبحث خلودها.

يقول برجسون: إن الزمان ليس خطًّا ممتدًّا إلى غير نهاية يتحتم علينا المرور به، هذا التصور للزمان غير صحيح، فالزمان الخالص لا يدخل فيه تصور الطول، أي لا نستطيع قياسه بمقياس الليل والنهار.

إن خلود الذات أمل، من أراد أن يظفر به فليجدَّ ويدأب لبلوغه، والظفر به موقوف على أن نسلك طريقًا للفكر والعمل في هذه الحياة يعيننا على حفظ حالة التوتر، ولا يستطيع إبلاغنا هذا الأمل دين بوذا والتصوف العجمي، وما إلى هذين من نظم الأخلاق الأخرى، لقد أضرت بنا هذه الطرق فأضرعتنا وأنامتنا، إن هذه المذاهب هي الليالي في أيام حياتنا.

تربية الذات

لا ريب أن الذات تستحكم بالعشق، ومفهوم العشق هنا واسع جدًّا، ومعناه: إرادة الجذب والتسخير، وأعلى أشكاله أن يخلق مقاصده ويجد في نيلها، وخاصة العشق إفراد العاشق والمعشوق، أعني: إظهار الانفراد والاستقلال فيهما، وإذا جدَّ الطالب في طلب الأوحد الأسمَى ظهر فيه التوحد، ويتحقق ضمنًا توحُّد المطلوب؛ لأنه إن لم يكن واحدًا مستقلًّا بنفسه لم يسكن الطالب إليه، إنما يمكن عشق شخص أو وجود معين، ولا يمكن لشخص عشق كائن غير مشخص.

وكما تستحكم الذات بالعشق تضعف بالسؤال، وكل ما ينال بغير جهد يعد سؤالًا، فالذي يرث مال غيره سائل، والذي يتبع أفكار غيره أو يدَّعيها لنفسه سائل.

والخلاصة: أنه ينبغي — لأجل إحكام الذات — أن نخلق في أنفسنا العشق، ونتجنب كل ضروب الاستجداء (أي: البطالة).

إن في حياة الرسول أسوة حسنة للمسلم، فقد كانت حياته خير مثل للسعي الدائم، لقد كانت حياته كلها صورة للعمل.

أشرت في فصول من هذا المثنوي إلى أصول فلسفة الأخلاق الإسلامية، وبيَّنت أن لكمال الذات ثلاث مراحل:
  • (١)

    إطاعة القانون الإلهي.

  • (٢)

    وضبط النفس.

  • (٣)

    والنيابة الإلهية.

والنيابة الإلهية في هذه الدنيا هي أعلى درجات الرقي الإنساني، ونائب الحق «الله» خليفة الله في الأرض، وهو أكمل ذات تطمح إليها الإنسانية، وهو معراج الحياة الروحي.

وأول شرط لظهور نائب الحق أن ترقى الإنسانية في جانبيها الروحي والجسمي؛ فإن ارتقاء الإنسانية يقتضي ظهور أمة مثالية يتجلى في أفرادها — في الجملة — هذا التوحد الذاتي، وتصلح لأن يظهر فيها نائب الحق.

فمعنى سلطان الله في الأرض: أن تقوم فيها جماعة شورية يتوحَّد أفرادها، ويقوم على هذه الجماعة واحد يمكن أن يسمى نائب الحق أو الإنسان الكامل، وهذا الإنسان الكامل يبلغ ذروة الكمال التي لا تتصور فوقها ذروة.

وقد رأى نطشه (الفيلسوف الألماني المعروف) ضرورة ظهور هذه الأمة المثالية، ولكن دهريته وإعجابه بالسلطان مسخا فلسفته كلها ا.ﻫ.

•••

هذه خلاصة رسالة إقبال إلى الأستاذ نكلسون، وحسبنا في إيضاح مذهبه ما قدمنا من تلخيص رسائله ومقدمته لأسرار الذات، ورسالته إلى نكلسون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤