الفصل الأول

رؤية عامة للحقبة التاريخية

(١) الإطار العام

إنَّ الحقبة التاريخية التي عاشها التاجر إسماعيل أبو طاقية جديرة بالدراسة؛ لأنها من أكثر الحقب في تاريخ مصر غموضًا، ولأنَّ البحث فيها محدود جدًّا، ونتَج عما شاب معرفتنا بها من نقص، عدم وضعها في سياق واضح بالنسبة للحقب السابقة عليها والتالية لها، وترتب على ذلك عدم رؤيتنا للكيفية التي ارتبطَت بها الحقب التاريخية المختلفة بعضها البعض، والكيفية التي يَحدث بها التغير من حقبة إلى أخرى. ومن بين أهداف هذه الترجمة السير خطوة في هذا الاتجاه، فمن خلال الترجمة لحياة تاجر، تُقدم هذه الدراسة نهجًا لمعرفة الحقبة التي تقع بين أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، وتضعها في سياقٍ تاريخي أرحب.

لقد مرَّت المنطقة خلال تلك الحقبة بتحولات ملحوظة، وقدمت تفسيرات مختلفة لتلك التحولات، فحتى عهد قريب كانت الفترة التي تلَتْ وفاة السلطان سليمان تُعدُّ بداية اضمحلال الدولة العثمانية، وتمَّت دراسة تاريخ الدولة فيما بين وفاة السلطان سليمان وتفكك الدولة بعد عام ١٩١٤م في إطار فكرة الاضمحلال.١ واتَّخذ بعض المؤرخين البارزين — مثل برنارد لويس واستانفورد شو — من الهزائم العسكرية التي حاقت بالدولة، وما فقدته من أراضٍ، معيارًا للاضمحلال. ومن عجب أن إرجاع التغيُّرات الكبرى إلى الحروب — الذي يستهجنه المؤرخون اليوم عند دراستهم للتاريخ الأوروبي — استمرَّ يُطبق في الدراسات الخاصة بالعالم العثماني. ويَذهب المؤرِّخون الذين يستخدمون هذا الإطار إلى أنَّ الاضمحلال والركود قد توقَّفا في الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، عندما تحقَّق العثمانيون من أهمية استيراد النماذج الأوروبية لتجديد الإدارة والهيئة العسكرية والمؤسَّسات التعليمية والثقافية، حتى يُواكبوا الدول الأوروبية في تقدمها.٢
وطُبقت آراء مشابهة على التاريخ الاقتصادي للدولة العثمانية، فذهب بعض المؤرخين الاقتصاديِّين إلى أن الشرق الأوسط ظلَّ يعاني الركود، حتى جاءت إصلاحات القرن التاسع عشر التي وُضعَت على أساس النموذج الأوروبي، أو جاءت بمبادرة أوروبية، فبعثت الحياة في المنطقة. وحتى برودل يُقلل في دراسته الهامة للبحر المتوسط في القرن السادس عشر، من أهمية القسم الشرقي من حوض البحر المتوسط، ويرى أن الحركة كانت تَقتصِر على حدوده الشمالية على الجانب الأوروبي منه.٣ وهناك كتابات أخرى تُروِّج للرأي القائل بأنَّ القطاع الإسلامي من حوض المتوسط قد أصبح كمًّا مُهملًا بعد قيام الطرق التجارية الجديدة عبر الأطلنطي واتصالها مباشرة بطرق التجارة الآسيوية، التي كانت تمر في الماضي بالبلاد التي تقع في إطار القطاع الإسلامي من عالم البحر المتوسط، وترتب على ذلك فقد منطقة شرق البحر المتوسط لأهميتها التجارية في تلك الحقبة. وقد تمَّت صياغة تلك الآراء قبل أن يبدأ المؤرخون دراسة ما كان يحدث بالمنطقة في تلك الحقبة دراسة جادة من خلال مصادرها الوثائقية الضخمة.

وقدم أولئك المؤرِّخون أسبابًا داخلية لتفسير حالة الركود التي أصابت التجارة من بينها ضعف مركز التجار الذين عملوا في الأسواق العثمانية، فقيل إنهم خضعوا لسيطرة الدولة التي كانت تُصادر الفوائض التي تتجمَّع عندهم، وبذلك أحبطت الدولة مَساعيهم للدخول في مشروعات تجارية ذات عائد كبير، وقيل أيضًا إنَّ أمناء الجمارك الجَشِعين اقتطعوا نسبة كبيرة من أرباح التجار، مما جعل تكوين قدر كبير من رأس المال من الصعوبة بمكان. وأرجعت بعض التفسيرات كساد التجارة إلى الأدوات التجارية التي استخدمها التجار، والتي كانت جامدة لم يتمَّ تطويعها استجابة لتحديات الاقتصاد الحديث، وأن الوضع لم يتغير إلا بعد إدخال الإصلاحات في القرن التاسع عشر.

ويزداد الآن عدد المؤرخين الذين يرون أن تلك الآراء لا تُجدي نفعًا، والذين يُعارضون الاتجاه لتفسير تاريخ المنطقة من منطلق التغريب، باستخدام سياق زمني ومفاهيم تتعلق بالتاريخ الأوروبي، مع التركيز على أثر الغرب على المجتمع التقليدي، ومعالجة الفترة السابقة على ذلك باعتبارها فترة ركود أو اضمحلال، ذات مؤسسات وهياكل تنظيمية غير صالحة، تتَّسم بالجمود، وتستعصي على التوافق مع الأحوال الجديدة، ولا يُمكن أن تتغيَّر إلا نتيجة لمؤثر خارجي فعَّال. ويرى أولئك المؤرِّخون المعارضون لتلك الآراء ضرورة مراعاة القوى الداخلية الكامنة وراء التغيير، باعتبارها جديرة بالاهتمام على وجه الخصوص.

وفى مواجهة إطار الاضمحلال والركود، برز مؤرخون من أمثال رفعت علي أبو الحاج، الذي حاول فهم تاريخ الدولة العثمانية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر من خلال سياق أوسع مدًى يتضمَّن الاتجاهات التي بدَت في مطلع العصر الحديث في أوروبا. ففي كتابه المنشور بالإنجليزية بعنوان: تكوين الدولة الحديثة، الإمبراطورية العثمانية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، يرى أبو الحاج إسقاط الرأي القائل بتفرُّد التاريخ العثماني، وإبراز كل ما هو غريب وفريد (مثل الأقفاص التي يُوضع فيها مُنافِسو السلطان)، وأن ننظر إلى تاريخ الدولة العثمانية مقارنة وقياسًا بالتواريخ الأخرى، ويعني ذلك محاولة فهم العمليات الاجتماعية والاقتصادية الأوسع مدًى التي جرَت داخل الدولة العثمانية.٤ وبذلك يُقدم من خلال تلك المعالجة تحليلًا لتاريخ الدولة من منطلق التحول في السلطة الذي أتاح الفرصة لظهور فئات جديدة لعبَت دورًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا كبيرًا؛ وذلك بدلًا من اعتبار ضعف السلطنة في إستانبول علامة على الاضمحلال العام للدولة.
وطبَّق بعض المؤرِّخين الآخرين نظرية الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي على الدولة العثمانية. وشُرحت العملية التي تمَّ ذلك الاندماج من خلالها في عدد من الدراسات تفاوَتَت في تقديرها لدرجة وتاريخ ذلك الاندماج. ومن هؤلاء هوري إسلام أوغلو — عنان، التي تُرجع بداية تهميش الاقتصاد العثماني إلى القرن السادس عشر، عندما بدأت الدولة تفقد سيطرتها على الاقتصاد، بعدما كانت تتحكَّم في قطاعاته الرئيسية، بتحديد أسعار السلع الأساسية، وحظر تصدير السلع الأساسية التي يقلُّ المعروض منها بالسوق. ولأنَّ الدولة حددت أسعار عدد من السلع، وخاصة السلع الغذائية كالغلال، والمواد الخام التي يستخدمها الحرفيون وخاصة النساجين، فإن أسعار تلك السلع كانت أقلَّ كثيرًا منها في أوروبا، التي شهدت عندئذٍ ارتفاع أسعار عدد كبير من السلع، مما دفع تجار الدولة العثمانية إلى تصدير تلك المواد إلى أوروبا، حتى لو تمَّ ذلك عن طريق التهريب، فكان ذلك عاملًا أساسيًّا في عملية الإدماج.٥.

وتشارك هذه الدراسة أصحاب الاتجاهات الجديدة في معالجة تاريخ الدولة العثمانية بعض آرائهم. فدراستنا هذه تَعدُّ التطورات المحلية والإقليمية والدولية — التي وقعت على مدى نصف القرن فيما بين القرنين السادس عشر والسابع عشر — تطوُّرات حيوية من حيث التيارات التجارية، وطرق التجارة، والسِّلع، والعرض والطلب. وكانت تلك التطورات على درجة من الأهمية جعلت أصداءها تتردد على الصعيد العالمي، تاركة أثرها على الأقاليم المختلفة بطرق مُتباينة. وكان أحد تلك الأقاليم التي تأثرت بها الدولة العثمانية عامة، ومصر خاصة. وتمثل التغيرات التي حدثت في أنماط التجارة والشبكات التجارية في تلك الأقاليم مظهرًا هامًّا من مظاهر التغيُّرات العالمية، ولكننا ما زلنا لا نعرف عنها إلا القليل. فنحن نعرف كيف أثرت تلك التحولات على التجار والأسواق في أوروبا، ونعرف القليل عن الطريقة التي تأثَّرت بها الأسواق والتجار في الشرق الأوسط، وكيف طوعوا شبكاتهم التجارية وأنماط عملهم لتلك التغيرات. وتركز هذه الدراسة على الطريقة التي واجه بها التجار — من أمثال أبو طاقية ومعاصريه — بعض تلك التحولات. وبذلك تكشف لنا ترجمة حياة أبو طاقية عن سبل تأثر التجار بالظروف التي وقعت في ذلك الزمان، والتي دفعتهم إلى إعادة تنظيم أعمالهم التجارية، بدلًا من النظر إلى تلك التغيُّرات التي تمَّت على الصعيدين الداخلي والخارجي كمنزلق لاضمحلال تجارة الشرق الأوسط والبحر المتوسط؛ ومن ثم تطرح هذه الدراسة فكرة تناول التاريخ الاقتصادي والتجاري لمصر من منطلق الاستجابة لتحديات الأحوال الجديدة، التي كان بعضها سلبيًّا، ولكن بعضها الآخر كان بالغ الإيجابية، مثل زيادة الطلب على سلع بعينها، كان باستطاعة تجار القاهرة توفيرها. ورغم التوسع الأوروبي على طرق التجارة التي كانت دائمًا تحت سيطرة التجار المسلمين، استطاع بعض التجار أن يجدوا مخارج تتيح لهم الاحتفاظ بشبكات تجارية مترامية الأطراف. وحتى إذا كانت طرق التجارة عبر الأطلنطي قد حظيت بكمٍّ كبير من البضائع، فإن تجارة البحر المتوسط لم تفقد — بالضرورة — حيويتها. وهكذا برزت صورة مُركَّبة لعالم القاهرة التجاري، ولتُجارها الذين واجهوا تحديات جديدة لأرزاقهم، وإمكانات جديدة لتحقيق الأرباح الطائلة.

ولكن هذه الدراسة لا تتَّفق مع الآراء التي صيغت في إطار فكرة الاندماج من عدة وجوه؛ فقد اهتم الكثير من المؤرِّخين أتباع تلك الفكرة في المقام الأول بإيضاح نموذج الاندماج، وجاء اهتمامهم بالبحث عن أدلة وثائقية في المقام الثاني، وتغيب عند هؤلاء النظرة الخاصة للمكان، فيتركون الانطباع أن ما يذكرونه قد يَنطبق على الأناضول بقدر ما ينطبق على البلقان أو الولايات العربية، وهو أمر لا يُمكن حدوثه مع اتساع مساحة الدولة العثمانية وصعوبة الانتقال والمواصلات فيما قبل الحداثة. فلا نستطيع افتراض أن سيطرة الدولة على الاقتصاد كانت مُتماثلة في كل الولايات البعيدة والقريبة من مركز الدولة، أو افتراض أن العمليات التي جلبت الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي اتخذت نفس الشكل. فنحن نعلم أن الدولة العثمانية كانت حريصة على إبقاء الأوضاع على ما كانت عليه في البلاد التي وقعت حديثًا في قبضتها، وبذلك أفسحت الطريق لحدوث تنوع بين الولايات. ولا يستطيع المؤرِّخون أن يعرفوا المدى الجغرافي الذي يُمكن أن ينطبق عليه هذا النموذج إلا بعد إجراء دراسات تفصيلية لكلِّ ولاية من الولايات.

والمشكلة الثانية الخاصة بإطار فكرة الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي تتصل بالمدى الزمني لتلك العملية؛ أي بالتاريخ الذي نستطيع عنده أن نلاحظ تغيرًا في الأنماط الاقتصادية سواء في التجارة أم الإنتاج؛ حيث أدى استيراد المنتجات المصنعة إلى التأثير على الصناعات المحلية، وحيث أصبحت الدولة العثمانية جزءًا لا يتجزأ من الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي، فلا يزال ذلك موضع جدل بين الباحثين.٦ وترجع إسلام أوغلو — عنان هذه العملية إلى القرن السادس عشر، بينما يرجعها رشاد قصبة إلى القرن الثامن عشر. ويرى كلاهما أن عملية الاندماج تأتي بعد الفترة التي أصبحت فيها الدولة المركزية أقل قدرة على التحكم في الاقتصاد. فانتقل الاقتصاد مباشرة من سيطرة الدولة إلى هيمنة الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي. ويُمكن أن نخرج من تلك الدراسات بأنه لم يكن هناك في الواقع اقتصاد يتحرَّك بقواه الذاتية في أي وقت من الأوقات، وإنما كان يخضع دائمًا لقوة خارجية، سواء أكانت تلك القوة هي الإدارة العثمانية، أم التجار الأوروبيين. فهذا المفهوم المُثير للجدل لا تؤيده الأدلة التي حفلت بها المصادر الوثائقية الضخمة.
فإذا كان علينا أن نُحدد تاريخ عملية الاندماج بالوقت التي ضخت فيه المواد الخام خارج الدولة العثمانية، وما لحق ذلك من تزايد حجم الواردات الأوروبية وتدمير الصناعة المحلية، فليس هناك دليل على وقوع ذلك في مصر قبل منتصف القرن الثامن عشر، عندما لاحظ المراقبون — مثلًا — وجود كميات كبيرة من المنسوجات الأوروبية في أسواق مصر. فحتى ذلك الوقت، كانت صناعة المنسوجات المصرية مُزدهرة، وكانت صادرات المنسوجات تتَّجه إلى شمال أفريقيا وبلاد الشام، وبلاد السودان، وأوروبا، ومختلف ولايات الدولة العثمانية بكميات كبيرة. وخلال القرن الثامن عشر أدَّت الواردات الكثيرة من المنسوجات الأوروبية إلى الإخلال بالتوازن لغير صالح صناعة المنسوجات المصرية.٧ ويُمكن أن يُقال نفس الشيء عن صناعة السكَّر التي ازدهرت في القرن السابع عشر، وحقَّق من ورائها التجار ثروات طائلة بتصدير السكر إلى الأسواق الخارجية. فقد تغيَّر الوضع كثيرًا خلال القرن الثامن عشر، حيث بدأت معامل السكر بمارسيليا وتريستا وفيومي تصدير السكر لعدد مِن ولايات الدولة العثمانية، فحرمت بذلك صناعة السكر المصرية من أسواقها المهمة.٨ ولعلَّ هذا التراجع في الطلب على المنتجات المصنعة، كان وراء تحول مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية إلى إنتاج محاصيل نقدية بغرض تصديرها إلى الخارج كمواد أولية. وتصور الزيادة في حجم صادرات الغلال إلى فرنسا أواخر القرن الثامن عشر هذا الاتجاه،٩ الذي تمَّ توسيعه بإنتاج القطن على نطاق واسع في القرن التاسع عشر لتلبية الطلب المُتزايد لمصانع النسيج الأوروبية. وبذلك كانت التربة مهيأة لعملية التحوُّل إلى التبعية الاقتصادية، وكانت بداية القرن السابع عشر سابقة على عملية الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي بنحو قرنَين من الزمان، أي إن ترجمة حياة أبو طاقية تقع — زمنيًّا — في الحقبة السابقة على تلك العملية. مما يُتيح لنا الفرصة لإبراز هيكل النشاط التجاري قبل مرحلة الإدماج، وفي حقبة زمنية اعتبرها البعض مرحلة اضمحلال.
وثمَّة جدل آخر يتَّصل بمفهوم الاندماج، يتناول العلاقة بين الاقتصاد والدولة. ودراسة التجار والنشاط التجاري تَدحض الآراء التي تذهب إلى أن الاقتصاد تداعى وتعثَّر عندما عجزت السلطة المركزية — لعدة أسباب — عن الاحتفاظ بسيطرتها على الاقتصاد، مما يعني أن الإدارة الجيدة للاقتصاد تتحقَّق من خلال الهيمنة عليه.١٠ وتتَّفق هذه الترجمة مع ما ذهب إليه أبو الحاج في تأكيد أنه من بين العوامل الهامة التي ساعدت على بروز دور التجار بالقاهرة أن الدولة كانت أقلَّ اهتمامًا بالتجارة من ذي قبل، مما أتاح لهم الفرصة لتحقيق المكاسب. ومِن ثمَّ تدحض هذه الترجمة الرأي القائل بأن التوصُّل إلى مستوى رفيع من الكفاية يتم عندما تكون هناك قوة خارجية تتحكَّم في الاقتصاد مثل إدارة الدولة للاقتصاد على نحو ما حدث في عصر محمد علي، أو هيمنة النظام الرأسمالي الأوروبي، وكذلك الرأي القائل بأن القوى الاقتصادية أصبحت تتَّسم بالتحديث فقط في القرن التاسع عشر.
وعلى صعيد آخر، يدور جدل كبير بين الباحثين — أيضًا — حول الحركة الداخلية للاقتصاد والمجتمع. وحسبما جاء بأحد الآراء، تعمل الهياكل القديمة التي ظلت جامدة عدة قرون كحاجز يقف في طريق التغيير، ويعوق التجديد. وتعتبر هذه النظرة الجامدة المجتمع العثماني مُجتمعًا سلبيًّا لا حراك فيه، مما يعني عدم قابلية الجماعات والمؤسسات أو الهياكل التنظيمية المتاحة لهم على أن تستجيب للتغيير أو تُحدثه. وقد تبنَّى هذا الرأي الباحثون الذين يكتبون في إطار الاضمحلال وفي إطار الاندماج على حدٍّ سواء، فالباحثون الذين ينطلقون من مقولة النظام الرأسمالي يتَّجهون إلى اعتبار الأطراف مجرد مُتلقٍّ سَلبي للقوى الفعالة القادمة من المؤثر الخارجي (المركز)، ويتَّفق مع هذه الفكرة مؤرخون من أمثال إسلام أوغلو-عنان، ورشاد قصبة، فيُشايعان آراء جب وبون اللذَين أكَّدا في دراستهما للقرن الثامن عشر تلك السلبية. وطبَّق جب وبون هذا المفهوم على جميع مظاهر الحياة، وليس على الاقتصاد وحده، فأشارا إلى وجود ضوابط قوية حكمت نشاط الفرد، تمثلت في التقاليد التي أملَتْ عليه سلوكه، وفي العائلة، والطائفة التي انتمى إليها، إلى الحد الذي لم يكن فيه للمُبادرة الفردية وجود؛ فالقواعد الصارمة حكمت السلوك سواء تلك التي وضعتها العائلة، أو الطوائف، أو الدولة، أو العقيدة الدينية.١١ ويعني ذلك أن الهياكل الاجتماعية والاقتصادية كانت تخضع في حركتها لسيطرة جاءتها مِن أعلى، بدونها تتفسَّخ تلك الهياكل وتحتاج إلى أن تستبدل بها هياكل أخرى أكثر قابلية للحياة. وهذه المعالجة تُؤكد أن التغير يحدث من أعلى، ولا تولي أهمية لإمكانية حدوث التغيير من القاعدة أو أن يكون التغيير عضويًّا.

وهذه الدراسة تُركز — بصفة خاصة — على هذه المسائل، فتُبيِّن كيف قام التجار بجهد ملحوظ لتطويع الهياكل التجارية للأنماط الخاصة بنشاطهم التجاري، ومبادرتهم إلى التوافُق مع الأوضاع المُتغيِّرة، وكيف تمَّ ذلك بمعزل عن التوسع الاقتصادي الرأسمالي الأوروبي، وعن عملية إدماج الاقتصاد العثماني في الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي، وبذلك نستطيع أن نرى كيف كان يعمل النظام الوطني المحلي، والروابط الرسمية وغير الرسمية التي أقامها التجار، والطريقة التي اتبعها التجار لاستخدام المحاكم والوكالات لتلبية حاجاتهم، تبين لنا كيف أن تلك المؤسسات لم تكن هياكل جامدة أو راكدة على نحو ما وصَفَها البعض، بل كانت على العكس من ذلك طيِّعة، صالحة للتجاوب مع الظروف، وكان الكثير من أدوات التجارة والأنماط التجارية معروفًا من زمن بعيد، ولكن خلال الحقبة موضوع الدراسة استخدمها التجار لتحقيق أغراض متنوعة، وطوَّعُوها لظروف ذلك الزمان.

(٢) اتجاهات جديدة في التجارة المصرية

كانت عملية تطويع النشاط التجاري للمُتغيرات التي شاهَدْناها خلال تلك الحقبة تنطبق على بعض الأنماط التجارية. وكانت معالمُها على درجة من الأهمية جعلتها تترك أثرها على الإنتاج والزراعة وليس على التجارة وحدها، وتركت بصماتها على الهياكل الاجتماعية. ونلاحظ أيضًا حدوث تطور في النظام القضائي نحو تلك الحقبة، ولا يعني ذلك القول بأن الأنماط الاقتصادية حددت طريقة عمل القضاء. ولكنَّنا نلاحظ أن التحولات التي حدثت كانت جزءًا من صورة أكبر حجمًا، تتجاوز النجاح التجاري لبضعة أفراد من الناس، وأن دور المحاكم كان عاملًا هامًّا في تطور التجارة في تلك الحقبة. ويُمكننا مقارنة هذا الوضع بما حدث في كل مكان مِن أوروبا من الثورات والاضطراب في القرن السابع عشر، وهو ما تصفه الكتابات العديدة بأزمة القرن السابع عشر. وقدمت عدة تفسيرات لتلك الأزمة من بينها أن الحقبة شهدت الانتقال من المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع الرأسمالي،١٢ وأن الحقبة تميزت بالتغير في العلاقة بين الدولة والمجتمع.١٣ وبالنِّسبة للدولة العثمانية، يرى أبو الحاج أن أعمال العنف والاضطرابات التي وقعت عند نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، والتي لعب فيها العسكر دورًا هامًّا، كان مبعثها التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي وقعت على نطاق واسع، بقدر ما كانت تَرجع إلى التغيُّر في طابع الدولة.١٤

ورغم أن البحث في التاريخ الاقتصادي لهذه المنطقة لا زال في بداياته، نستطيع أن نحدد العوامل الجديدة الهامة التي دخَلَت على الحياة الاقتصادية في مصر زمن أبو طاقية، وهي تُمثِّل اتجاهات ربما كان هناك ما يُقابلها في الولايات العثمانية الأخرى، وما قد تَكشِف عنه الدراسات فيما بعد. والإطار الزمني لتلك التغيُّرات يَتناسب مع الحقبة التي كانت فيها مصر تُعد جزءًا من السوق العثمانية، ولكن قبل اندماج تلك السوق في السوق الرأسمالي الأوروبي. وقبل تهميش الاقتصاد العثماني، الذي أدَّى إلى تحول الإقليم إلى منطقة إنتاج مواد أولية لتلبية الطلب عليها بدول المركز الأوروبي، وسوق لاستهلاك المصنوعات الأوروبية. وتناقش هذه الدراسة بدايات هذا الاتجاه خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر، ونرى أنها قد استمرَّت طوال القرن السابع عشر وبعض عقود القرن الثامن عشر. وتُساعدنا ترجمة حياة أبو طاقية على تحديد المعالم الرئيسية لتلك الحقبة والتعرُّف على سماتها الرئيسية.

وتتميَّز تلك الحقبة بعودة التجار لاحتلال مَوقع الصدارة من حيث الثروة والنفوذ الاجتماعي، والتأثير على الأوضاع السياسية بطريقة مُباشرة أو غير مباشرة، ويُمكن إرجاع هذا الاتجاه إلى أمرَين؛ أولهما ما اتَّسم به النشاط التجاري من حيوية نلاحظها في حوض البحر المتوسط ومختلف أنحاء أوروبا، حيث صنع الطلب المتزايد على البضائع العالَمية ثروات طائلة للتجار. فكانت البيوت التجارية كبيت أبو طاقية، أو بيت الرويعي، أو بيت ابن يغمور التي تكوَّنت ثرواتها مِن الاشتغال بالتجارة الدولية، تُعاصر البيوت التجارية الأوروبية الكبرى مثل بيت فوجر Fuggers، وبيت ولسر Welsers الذين ظهروا في الوقت الذي شهدت فيه التجارة الدولية توسُّعًا كبيرًا.١٥ والأمر الآخر، يَرجع إلى أنَّ التجار كانوا أقل خضوعًا للسيطرة السياسية، أو أكثر استقلالًا عن الدولة، أكثر ممَّا كانت عليه حالهم قبل ذلك بنِصف القرن أو القرن من الزمان.

ولا بدَّ أن يكون لقب شاهبندر التجار الذي حمله كبير طائفتهم قد حظيَ بمنزلة اجتماعية عمَّرت حتى مطلع القرن التاسع عشر. ورغم أن اللقب كان معروفًا في الحقب التاريخية السابقة على تلك الحقبة، لم تبرز أهميته الاجتماعية في مصر قبل القرن السادس عشر. وتبين لنا ترجمة حياة أبو طاقية هذه المكانة الاجتماعية الكبيرة التي عبَّر عنها التجار بمظاهر مختلفة، كان بعضها يعود إلى جهودهم. فدعموا تلك المكانة بتشييد العمائر الضخمة التي كانت بَمثابة إعلان لوضعهم الجديد بالمجتمع، فلم يقم أولئك التجار ببناء الوكالات فحسب، بل شيَّدوا عمائر دينية وخيرية، في أهم مناطق القاهرة، وقام بعضهم بإقامة أحياء حملت أسماءهم. ويتناقض ذلك مع صمت الحوليات التاريخية عما يتَّصل بالتجار، كما تدحض الرأي القائل بأن التجار كانوا كمًّا مُهملًا، والتي يبدو أنها استندت إلى الحوليات.

ونستطيع أن نرى — من دراستنا للحياة الخاصة لأبو طاقية — كيف تأثَّر نسق الزواج، وهيكل العائلة، والبيت بالثروة المتنامية والمكانة العالية التي حقَّقها التجار. فلم يكن التجار في مطلع القرن السابع عشر يَقتصرون على مُصاهرة نخبة المجتمع، بل رتبت علاقات المصاهرة وفق مكانة العائلة في المجتمع، وهي ظاهرة وقعت أواخر القرن السابع عشر على المستوى العالَمي، وكانت من بين العديد من المظاهر التي مسَّت الحياة الخاصة والعامة للتجار، ومن ثم تصبح دراسة التاريخ التجاري مُتغلغلة في طبقات مترابطة من الخبرات العملية، وليست مجرد تحليل لإطار نظري.

ونستطيع الخروج ببعض المُلاحظات حول النظام القضائي التي تتصل بإدارة دفة العمل التجاري؛ إذ تُلقي ترجمة حياة أبو طاقية الضوء على دور المحاكم في نشاط التجار، وخاصة ما اتصل بالصحوة التجارية التي شهدَتْها تلك الحقبة، ونرى أنَّ تراجُع دور الإدارة ساعد مختلف مؤسَّسات المجتمع على توسيع نطاق عملها ومجال نشاطها، وأن بعض مهام الدولة التي لم تَعُد تُمارسها، انتقلت إلى أيدي غيرها من مؤسسات المجتمع.

لم يكن النظام القضائي الذي عرَفَته مصر في العصر العثماني مُستحدَثًا؛ فقد كانت إقامة العدل من المهام الأساسية في الدولة الإسلامية، ونستطيع ملاحظة ذلك بسهولة في دولة سلاطين المماليك مثلًا، غير أن طريقة عمل النظام القضائي وتغلغله في النظام الاجتماعي اختلفت باختلاف الزمان والمكان. وليس باستطاعتنا بعدُ أن نُقارن بين النظام القضائي المملوكي والنظام القضائي العثماني؛ لأننا لا نعرف إلا القليل عن طريقة عمل المحاكم في العصر المملوكي.١٦ ولكن القرائن تُشير — بما لا يدع مجالًا للشك — إلى تزايد أهمية محاكم القاهرة في أواخر القرن السادس عشر مقارنة بأوائل القرن ذاته. فلم تتضاعف الحالات الواردة بسجلات المحاكم عدة مرات، فيما بين الثلاثينيات والأربعينيات من القرن السادس عشر والعقد الأخير من ذلك القرن عما كانت عليه من قبل فحسب، بل اشتملت الدعاوى التي رُفعت أمام المحاكم قضايا على درجة كبيرة من التنوع، واتسعت دائرة الانتماءات الاجتماعية للمُتقاضين لتشمل شرائح اجتماعية كثيرة. وعند أوائل القرن السابع عشر، أصبحت محاكم القاهرة مرتبطة بالمظاهر التجارية والاقتصادية والاجتماعية، والحضرية، والإدارية، والشخصية من حياة الناس.
ومن حيث الجوهر، كان النظام القضائي في القرن السابع عشر — كشأنه في الحقب التاريخية السابقة — يهدف إلى تطبيق الشريعة في المقام الأول. غير أنَّ بإمكاننا أن نرى — في نفس الوقت — علاقة بين التغيرات التي شهدها النظام القضائي والأحوال الاجتماعية والاقتصادية المتغيِّرة بتلك الحقبة. ونستطيع أن نجد تغيرًا موازيًا في التجربة الأوروبية؛ فقد بيَّن مارك بلوك أن الفترة التي تقع بين العصور الوسطى المتأخرة وقيام الثورة الفرنسية، شهدت تغيرًا ملحوظًا في النظام القضائي بفرنسا، حيث أخلى النظام القضائي الإقطاعي الطريق للقضاء العام الذي مارسته المحاكم.١٧ ورغم أن المقارنة لا تستقيم عند الدخول في التفاصيل؛ لأنَّ قضاء الإقطاع لا نظير له في المجتمعات الإسلامية، كما أنَّ تطبيق الشريعة الإسلامية يختلف عن القانون الأوروبي، إلا أنَّ التغيرات التي شهدتها بواكير العصر الحديث التي تناولت الطريقة التي كانت تَجري بها العدالة، تعدُّ حقيقة ذات مغزًى هام.

ولما كانت التجارة الواسعة مثل تلك التي كانت لأبو طاقية أو الرويعي أو الشجاعي، لا يمكن إدارتها دون الاعتماد على هياكل قانونية وتجارية متينة، توضح لنا هذه الترجمة الدور الذي لعبَتْه المحاكم في مختلف الظروف التي واجهها التجار أثناء ممارستهم لنشاطهم. فقد تدخَّلت المحاكم في الكثير من المظاهر العامة والخاصة للحياة اليومية؛ إذ توجه إسماعيل أبو طاقية إلى المحكمة عند شرائه بيتًا، أو بنائه وكالة، أو عند تسجيل صفقة تجارية، أو إقامة وقف أو إدارته، أو عند ضمان قرض. وبعد وفاته، تمَّ جانب من تسوية تركته بالمحكمة، بما في ذلك المطالبة بالبضائع التي لدى الغير، وتسوية الديون والشركات، إلى غير ذلك من أمور اتَّصلت بحصر التركة. والواقع أن تردُّد أبو طاقية على المحكمة، وتنوع المسائل التي كانت تنظرها المحاكم، خير شاهد على ما كان يتوقَّعه الناس من تلك المؤسسة. وفيما يتعلَّق بالتجارة والنشاط التجاري، لعبَت المحاكم دورًا حيويًّا في هذا المجال، فوفَّرت الضمانات القانونية للصفقات والمشروعات التجارية، وأصدرت الحُجج التي كان باستطاعة التجار استخدامها في الولايات الأخرى، وصدقت على معاملاتهم والشركات التي كوَّنوها. ويبدو أن التجار اعتمدوا على المحاكم عند قيامهم بعقد صفَقات مُركَّبة على نطاق واسع.

وكان للتجارة في تلك الحقبة عند نهاية القرن السادس عشر عدة ملامح مميزة؛ أولها أنه رغم استمرار التجارة في السلع الترفيهية كالذهب والمرجان والأحجار الكريمة، كملمح هام للتجارة، نلاحظ نشاطًا في التجارة الدولية في مجال السِّلع كبيرة الحجم كالنيلة التي استُخدمت في صناعة المنسوجات. وثانيها نلاحظ وجود اتجاهين للتجارة، أحدهما تجارة العبور (الترانزيت) حيث كان تجار القاهرة يَستوردون البضائع لإعادة تصديرها إلى جهات أخرى، وخاصة التوابل والبُن والمنسوجات الهندية التي تأتي عن طريق البحر الأحمر وتتَّجه إلى أوروبا أو الأسواق العثمانية، أو الأخشاب والمعادن القادمة من البحر المتوسِّط والمتجهة إلى الأسواق الأخرى؛ والاتجاه الآخر يتعلَّق بتصدير المحاصيل المحلية، كالأرز، أو الغلال، التي صدرت إلى الأناضول والحجاز، أو المُنتجات المحلية كالسكَّر والمنسوجات التيلية التي يزيد الطلب عليها في بلاد الدولة العثمانية وأوروبا.

وتدحض هذه الدراسة الرأي الذي ذهب إليه روبرت برنر Robert Brenner — وغيره من المؤرخين الاقتصاديِّين — من أن الاقتصاد لم يشهد تغييرات ذات بالٍ قبل مرحلة التصنيع، وأنه ظلَّ اقتصادًا معاشيًّا راكدًا حتى وقوع الثورة الصناعية.١٨ ولا تُوحي ترجمة أبو طاقية بأنَّ الزراعة المصرية بقيَت عند مستوى الإنتاج المعاشي حتى القرن التاسع عشر، فحقيقة تصدير كميات كبيرة من البضائع المحلية كالأرز والغلال والمنسوجات التيلية والسكر، تبين أن مساحات كبيرة من الأرض الزراعية خُصِّصت لإنتاج تلك المحاصيل بما يكفي حاجة الاستهلاك المحلي وتلبية الطلب على هذه السِّلع في الأسواق الخارجية. وحتى مع غياب الأرقام التي توضح حجم الإنتاج في تلك الحقبة، فإنَّ هناك دلالات على انتشار الزراعة التجارية في أقاليم بعينها في مصر، وقصب السكر خير دليل على ذلك، وسوف نتتبَّعه تفصيليًّا من خلال ترجمة حياة أبو طاقية ومعاصريه من التجار. وبذلك تتوفر لدينا القرائن العديدة على وجود محاصيل نقدية فيما قبل القرن التاسع عشر بوقت طويل، وهي الحقبة التي درج المؤرِّخون على القول بأنها الفترة التي اتَّسم الاقتصاد المصري فيها بالطابع المعاشي.

ورغم أنه لا تتوافر لدينا أرقام عن تجارة مصر الخارجية قبل القرن التاسع عشر، ربما كان بمقدورنا رصد بعض الاتجاهات. فقد ذهب الجانب الأكبر من تجارة مصر الخارجية في تلك الحقب إلى الدولة العثمانية، وخاصة الأناضول وبلاد الشام، وإلى جانب ذلك، ظلَّت تجارة البحر الأحمر نشطة، حيث كانت التوابل والبُن تمثل أبرز السلع الواردة من هناك، ولكن تلك الحقبة شهدت أيضًا نشاطًا تجاريًّا مع أوروبا، رغم تغلغل الدول الأوروبية في أسواق آسيا. ويُمكننا — في واقع الأمر — رصد زيادة ملحوظة في الطلب على سلع معينة بسبب ظاهرة الزيادة السكانية، وتزايد القدرة على الإنفاق في أوروبا نتيجة الثروات القادمة من العالم الجديد، وبذلك لم تكن التجارة مع أوروبا — في تلك الحقبة — قاصرةً على السِّلع التي تندرج ضمن تجارة العبور، كالبن أو التوابل، كما لم تشكل المواد الأولية الجانب الأكبر منها، على نحو ما حدث فيما بعد بالنسبة للتجارة المصرية مع أوروبا.

وتميَّزت الحقبة السابقة على مرحلة الاندماج في السوق الرأسمالية الأوروبية بملامح أخرى، ظنَّ المؤرخون الذين درسوا تاريخ مصر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أنها قد أُدخلت في وقت متأخِّر، وتتمثَّل تلك الملامح في الصلة بين الزراعة والطلب التجاري، الذي ينسب عادة إلى القرن التاسع عشر؛ كالتوسُّع في إنتاج القطن لتلبية الطلب المتزايد لصناعة النسيج في إنجلترا. وقد بيَّن لنا بيتر جران أن تلك الظاهرة كانت موجودة بالفعل عند نهاية القرن الثامن عشر؛ إذ قام أمراء المماليك — الذين ارتبطوا بالتجارة ارتباطًا وثيقًا — بتحويل مساحات واسعة من الأراضي الزراعية بالدلتا لإنتاج الغلال التي كان يشتدُّ الطلب عليها في فرنسا.١٩ وتَكشف ترجمة حياة أبو طاقية عن وجود اتجاه مماثل قبل ذلك بقرنَين من الزمان في ظل ظروف مختلفة تمام الاختلاف … فقيام التجار المُشتغلين بالتجارة الدولية مثل أبو طاقية أو الرويعي بتمويل الإنتاج الزراعي، يُشير إلى الرابطة بين الزراعة والتجارة الخارجية.

وتُحدِّد لنا دراسة أبو طاقية بعض ملامح الإنتاج في تلك الحقبة من حيث الموقع الحضري والريفي، والدور الذي لعبه التجار في التمويل، باتخاذ إنتاج السكر — الذي كان على درجة كبيرة من الأهمية عندئذٍ — مثالًا لذلك. ويُعدُّ التوسُّع في إنتاج السكر بالغ الأهمية لارتباطه بالطلب الخارجي واعتماده على تمويل التجار الذي يَشتغلون بتصدير السلعة إلى أسواق الدولة العثمانية. ولعلَّ هذا التحويل ساعد صناعة السكر على النهوض من كبوة الكساد الذي شهدَته في القرن الخامس عشر.

ونتيجة لذلك، من حقنا أن نتساءل عما إذا كانت تجربة التصنيع التي شهدتها مصر في أوائل القرن التاسع عشر تَرتبط بطريقة ما بما حدث قبلها. وقد طرح نفس التساؤل فيما يتعلق بالثورة الصناعية في إنجلترا؛ حيث ثار جدل بين الباحثين عما إذا كانت تُعد تطورًا أم انقلابًا. فقد أضاف أشتون T. S. Ashton — مثلًا — فصلًا إلى كتابه عن الثورة الصناعية عن الأنماط الصناعية المُبكرة في القرن الثامن عشر باعتبارها أصولًا لما حدث فيما بعد.٢٠ وهناك جدل حول اعتبار التصنيع الذي تمَّ في عهد محمد علي باشا كان بمَثابة تصعيد لعملية بدأت في وقتٍ سابق على نطاق أضيق، بوسائل فنية محدودة، وترجع أصول بعض التغيرات الهامة التي أدخلها محمد علي باشا في القرن التاسع عشر إلى فترات زمنية أسبق، وكان دوره يتمثَّل في دفع تلك العملية الطويلة المدى خطوة إلى الأمام.

ومن الملامح الحيوية للحقبة موضع الدراسة التي تُميِّزها تمامًا عن فترة الاندماج في السوق الرأسمالي الأوروبي في القرن التاسع عشر، أنَّ الزراعة التجارية وارتباط الزراعة بالإنتاج الصناعي وبالتجارة لم يتمَّ لصالح مصانع النسيج بمانشستر، ولكنه تم لصالح التجار الوطنيِّين المحليِّين، الذين موَّلوا تلك العملية جزئيًّا، وكانوا المنتفعين الرئيسيِّين بها. وتُوضِّح هذه الدراسة بدايات هذا الاتجاه الهام، على أمل أن تقوم الدراسات المستقبلة بإيضاح كيفية انتشارها أو تراجعها حسبما كانت الحال.

ويُمكن استنتاج أن الحقبة موضوع الدراسة، كانت فترة ازدهار تجاري، شهدت إدخال تغييرات هامة على عكس ما يتردَّد كثيرًا، وذلك رغم وجود عدة ظروف غير مواتية مثل التغلغل الأوروبي في الأسواق الآسيوية، وقيام طرق دولية جديدة للتجارة عبر الأطلنطي، وتُعدُّ الصحوة الاقتصادية في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، ذات دلالة واضحة تجعلنا لا نستطيع تفسير ما حدث خلال القرون الثلاثة التي تقع بين تلك الحقبة وتفكك الدولة العثمانية على أنها تُمثل خطًّا واحدًا من الاضمحلال المستمر، فمثل هذا التناول يطمس الحقائق المركبة الخاصة بالعصر.

وتذهب هذه الدراسة إلى أننا لا نستطيع إدراك التغيُّرات التي حدثت بالمنطقة دون فهم تلك الحقبة من التاريخ العثماني؛ فقد شهدت الحقبة قيام بعض الهياكل الاقتصادية والاجتماعية الحيوية التي تُنسب عادةً إلى التغيرات التي حدثت في القرن التاسع عشر، ولكنها ترجع إلى حِقَب زمنية سابقة على الحملة الفرنسية، ومحمد علي، وتغلغل الأنماط الأوروبية للتجارة في مصر، فكانت تستخدم أدوات وتتبَع أساليبَ عملٍ وطنية محلية. وتتَّفق هذه الدراسة — التي استخدمت مصادر مختلفة تتَّصل بحقبة زمنية أخرى — مع ما ذهب إليه بيتر جران من أن ثمة تغييرات تجارية هامة حدثت قبل فترة التوسع في استيراد النماذج الأوروبية التي بدأت بالحملة الفرنسية عام ١٧٩٨م، وأن تلك التغييرات بعثَتْها حركة ذاتية داخلية.٢١ وبذلك تُعدُّ هذه الحقبة مرحلة بالغة الأهمية من مراحل تاريخ مصر الاقتصادي والاجتماعي، وتُمثِّل قاعدة التطورات التي حدثت فيما بعد؛ ومن ثم تُعد ضرورية لفهم القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر.
١  Halil Inalcik, “The Ottoman Empire, The Classical Age,” 1300–1600, New York, 1973, p. 4; p. M. Holt, Egypt and the Fertile Crescent 1516–1922, Ithica, 1966, pp. 61-70.
٢  Bernard Lewis, “The Emergence of Modern Turkey; Stanford Shaw, History of the Ottoman Empire and Modern Turkey,” Cambridge, 1987.
٣  Fernand Braudel, “The Mediterranean and the Mediterranean World in the Age of Philip II,” 2 vols, Transl. Sian Reynolds, New York, 1972.
٤  Abou-El-Haj, “Formation of the Modern State, the Ottoman Empire Sixteenth to Eighteenth Centuries,” Albany, New York, 1991, p. 6–11.
٥  Resat Kasaba, The Ottoman Empire and the World Economy, New Yourk, 1988, p. 18-9; Huri Islamoglu-Inan, "Agenda for Ottoman History", in Huri Islamoglu-Inan, The Ottoman Empire and the World Economy, Cambridge, 1987, p. 47–52.
٦  I. Wallerstein, “The Ottoman Empire and the Capitalist World-Economy: Some Questions for Research,” Review, 2, 3, Winter 1979, pp. 389–98.
٧  Andre Raymond, “L’impact de la penetration europeenne sur l’economie de l’Egypte au XVIIIe siecle,” Annales Islamlogiques, vol. XVIII, 1982, pp. 226-227.
٨  Raymond, “L’impact de lapenetration,” pp. 231–233.
٩  Peter Gran, “Islamic Roots of Capitalism,” Austin, 1979, pp. 6–11.
١٠  Resat Kasaba, “The Ottoman Empire and the World Economy The Nineteenth Century,” New York, 1988, pp. 11–18; Ilkay Sunar, State and Economy in the Ottoman Empire, in Huri Islamoglu-Inan, ed., The Ottoman Empire and the World Economy, Cambridge, 1987, pp. 63–65; and Islamoglu-Inan’s Introduction: “Oriental despotism in world-system perspective”, in the same volume, pp. 7–11.
١١  Gibb and Bowen, “Islamic Society and the West,” Volume 1, part 1, Oxford, 1957, pp. 212-213.
١٢  E. J. Hobsbawn, “The Crisis of the Seventeenth Century, Past and Present,” Vol. 5, 1954, pp. 46–9.
١٣  H. R. Trevor-Roper, “The General Crisis of the Seventeenth Century, Past and Present,” Vol. 16, 1959, p. 44–51.
١٤  Abou-El-Haj, pp. 6-7.
١٥  Fernand Braudel, “The Mediterranean and the Mediterranean World in the Age of Philip II,” transl. Sian Reynolds, New York, 1972, vol. 1, pp. 211-212.
١٦  ليس هناك دليل على وجود سجلات للمَحاكم ترجع إلى عصر سلاطين المماليك.
١٧  Marc Bloch, “French Rural History, An Essay on its Basic Characteristics,” London, 1966, pp. 102–112.
١٨  Robert Brenner, “The Agrarian Roots of European Capitalism, in T.H.E.,” Philpin eds., The Brenner Debate, Agrarian Class Structure and Economic Development in Pre-Industrial Europe, Cambridge, 1987, pp. 213–215.
١٩  Peter Gran, “The Islamic Roots of Capitalism,” Austin, 1979.
٢٠  T. S. Ashton, “The Industrial Revolution,” 1760–1839, Oxford, 1964, pp. 18–41.
٢١  Peter Gran, “The Islamic Roots of Capitalism,” Austin, 1979, pp. 3–6.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤