الفصل السابع

الحياة العائلية في بيت أبو طاقية

مقدمة

كان أبو طاقية يتَّجه إلى بيته عصرًا، بعد يوم عمل حافل، خلال الطريق المُزدحمة بالمارة والدواب، الحافلة بالضوضاء وصُراخ الحَمَّارة الذين يُطالبون الناس بإفساح الطريق لدوابهم، وعندما تقع عيناه على ضريح قلاوون بقبَّته الضخمة يدرك أنه أصبح على مقربة من بيته، وبعد دقائق معدودات يتَّجه يسارًا قرب جامع الأقمر إلى درب الشبراوي، حيث السكينة والهدوء. وما يكاد يدلف من الباب حتى يجد الصورة اختلفت عنها خارج البيت، فهناك صخب، الأطفال يَلعبون في الفناء، والألوان المتعدِّدة التي تُناقض اللون الحجري الذي شاهده طوال الطريق، والأشجار الباسقة، والنباتات المُورقة التي تعمر بها حديقة البيت، والعبيد والخدم يتولَّون أمر الحديقة، ويعنون بالإسطبل وما به من خيول ودواب، ويقومون بخدمة البيت، فتبعث الخضرة ونسمات الهواء على الإحساس بالانتعاش. وعندما يترجَّل أبو طاقية عن حصانه، ويدخل البيت، يجد الحصان من يعتني به بالإسطبل. كان الانتقال من السوق حيث المقابلات مع الشركاء والزبائن والتردُّد على المحكمة بما يُحيطها من ضوضاء، إلى البيت، يعني الدخول في عالم العائلة؛ حيث الأبناء والحياة الخاصة. وكانت سنوات توليه الشاهبندرية، قد حوَّلت أبو طاقية إلى شخصية عامة، فانعكس ذلك على مظهره، وملبسه، وبيته؛ إذ قام بتوسيع البيت وزخرفته وأحاطه بمظاهر الترف التي عرف بها الأثرياء، فتضمَّنت حجة التركة التي أُعدَّت بعد وفاته، الشمعدان الفضي، وعديدًا من الأدوات المنزلية النحاسية، والأطباق التي صُنعت من خزف أزنيك (بالأناضول) ذائع الصيت.

وأهم من تلك المظاهر المادية للترف، نُلاحظ عند دخولنا بيت أبو طاقية، الكيفية التي تغيَّر بها هيكل العائلة نتيجة لارتفاع مكانته الاجتماعية. فنقف على الحياة العائلية في بيت تاجر ثري، ونظامها في لحظة تاريخية معينة من حياة أبو طاقية، وخاصة في سنوات النضج والنجاح في السوق، وتصاعد مكانته الاجتماعية. ويتيح لنا ذلك الفرصة لدراسة الأدوار التي لعبها أفراد العائلة وعلاقاتهم به، وببعضهم البعض، وكذلك علاقاتهم بالآخرين خارج البيت. ومعالجتنا لهذه الزاوية تدحض مقولة انعزال الأسرة عن المجتمع. فقد تركت الأحوال الاجتماعية والاقتصادية التي أثرت على مجرى حياة التجار — على النقيض من تلك المقولة — أثرًا على هيكل العائلة والعلاقات بين أفرادها وبعضهم البعض، إضافة إلى تأثيرها على الأحوال المادية. وبذلك كان للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أثرت على الحياة العملية لأبو طاقية، تأثيرها على بيته وعائلته.

وإضافة إلى ذلك، تُبيِّن لنا دراسة الحياة العائلية، كيف استطاع أفراد العائلة الذين كانت لهم مواهب خاصة، أن يُسمعوا أصواتهم للآخرين في الأمور المتصلة بهم، وذلك في إطار النظام الأبوي الذي ساد المجتمع … فرغم صرامة ذلك النظام، واحترام الأفراد له، لم يؤدِّ بالضرورة إلى سحق الرُّوح الفردية أو محو المبادَرة الفردية؛ إذ نرى — على وجه التحديد — بعض نساء الأسرة من زوجات أبو طاقية وبناته، يَلعبن أدوارًا متعددة — من منطلق القوة — في علاقتهنَّ مع غيرهن من أفراد العائلة، لما تميَّزين به من قوة الشخصية. وأخذ أفراد العائلة — الذين احتلُّوا مكان الصدارة فيها — رغبات أولئك النسوة مأخذ الجد. ورغم تعدد الزوجات، كان وضع النساء — بصورة عامة — يَفضُل وضع الفرنسيات والإنجليزيات في القرن السابع عشر من عدة وجوه. وحتى لو كان عدد اللاتي أتيحت لهن فرص التعليم من الأوروبيات آخذًا في التزايُد، فلم تُتح لهنَّ حقوق المِلكية أو التصرُّف في ممتلكاتهن؛ فقد كان للزوج — في الكثير من البلاد — حق التصرُّف في ممتلكات وثروة زوجته بمجرَّد زواجه منها. كذلك شهدت الفترة التي عاصرت زمن أبو طاقية في أوروبا — لعدة أسباب — انتشار ظاهرة مُطاردة الساحرات في فرنسا وإنجلترا وألمانيا، ومُعظم الضحايا كنَّ — بالطبع — من النساء اللاتي عِشنَ على هامش مجتمعاتهن — لسبب أو لآخر — تُعانين الاضطهاد.١

وعندما بلغ أبو طاقية ذروة النجاح في العقد الأخير من عمره، أعيد ترتيب بيته وعائلته، فكبرت حجمًا، وازدادت عددًا، واكتسابًا للصفة الهرمية، ولعلَّ ذلك راجع إلى الثراء وكبر حجم العائلة؛ فقد كان الأب في النسق الأبوي للعائلة — الذي ساد الشرق الأوسط وبعض الثقافات الأخرى — يَحظى بمكانة أرفع من مكانة الزوجة (أو الزوجات) وبسُلطة واسعة على الأبناء. وكان ذلك شأن عائلة أبو طاقية، وغيرها من عائلات ذلك الزمان. ولكن الطريف هنا ما نلاحظه في حالة عائلة أبو طاقية التي اتخذ فيها النظام الأبوي شكلًا خاصًّا عندما ارتبط بالثروة والمركز؛ ومن ثم ملاحظة الكيفية التي صاغ بها أبو طاقية علاقاته مع أخيه وأخواته، وزوجاته، وجواريه، وأولاده، والطريقة التي تصرَّفوا بها حيال تصاعد مكانته الاجتماعية. وقد ساعد أبو طاقية — إلى حدٍّ ما — على تحديد الشكل الذي اتخذته تلك العلاقات بطريقة ضمنت له تدعيم مكانته العائلية وأبرزت صورته العامة كرب لعائلة هامة.

وتحليل وظائف وحدود الهيكل العائلي قد يُساعدنا على فهم العلاقات المركبة داخل العائلة. فقد ركز معظم الدراسات المتعلِّقة بالأسرة على الهياكل الرسمية لها، ومن ثم جاءت نتائج تلك الدراسات مستندة إلى تلك الهياكل، فأكَّدت أنه في الشرائح العليا للمجتمع، كانت الحياة العائلية أكثر تحديدًا، وأن القواعد الخاصة بالسلوك كانت الأكثر صرامة، وخاصة ما يتعلَّق منها بالنساء، غير أن متابعة العديد من القضايا المتصلة بالعائلة في سجلات المحاكم تشير إلى أن ذلك كان أحد جوانب الصورة، ولكنه لا يمثل الصورة كلها. وطبيعة المصادر التي استخدمناها في هذه الدراسة تكشف عن مستوًى من الواقع يتجاوز ظاهرة صرامة وتقليدية الهيكل العائلي. وتَسمح لنا تلك المصادر بإلقاء نظرة على مُستويات العلاقات الشخصية — والحميمة أحيانًا — بين أفراد العائلة وبعضهم البعض، ويُعد ذلك أمرًا ضروريًّا لفهم أوضاع العائلة لأسباب عدة؛ فهي تُساعدنا على أن نتعرَّف على الفرد، ومشاعره، ورد فعله تجاه ظروف وأحوال بعينها، كذلك تُتيح لنا رؤية مدى قُدرة الفرد على التحرك في إطار الهرم العائلي الذي يعد من مكوناته، ومدى مرونة أو تزمُّت هيكل العائلة عندما نراه من تلك الزاوية. وبعبارة أخرى، تُتيح لنا هذه الزاوية رؤية المخرج الذي يستطيع أفراد العائلة — بما فيهم إسماعيل — أن يجدوا القنوات التي يُعبرون من خلالها عن آمالهم ورغباتهم، أو يتَّخذون عن طريقها مُبادرات فردية، وذلك في إطار الهيكل الهرمي للعائلة. ونرى عندئذٍ العائلة على حقيقتها، كما عاشها الأفراد الذين كانوا ينتمون إليها.

ويبدو بذلك الهيكل العائلي الازدواجي، الذي قامت القوى الاجتماعية والاقتصادية الخارجية بتشكيله وتحديده بدرجات متفاوتة. فقد تركت الأحوال العامة لنخبة التجار بتلك الحقبة، وبُروزهم الاجتماعي في المجتمع الحضري أثرًا على هياكل عائلاتهم، فتوازت مكانتهم الاجتماعية الجديدة مع بروز نمط جديد من التراتب الاجتماعي داخل العائلة. غير أن الحياة العائلية تشكَّلت أيضًا على يد أفراد العائلة ذاتها؛ إسماعيل أبو طاقية، والبارزين من أفراد العائلة، كما تشكَّلت أيضًا على يد بقية أفراد العائلة الذين وجدوا الفرصة متاحة لدفع الأمور في اتجاه أو آخر في مختلف الأوقات والظروف.

ودراسة العائلة من هذا المنظور تقوم على أساس اعتبار العائلة كيانًا حركيًّا ومُتغيرًا؛ فقد تتأثَّر بنية العائلة بعدد من الظروف المحيطة بها تأثيرًا لا يقل أهمية عن روابط الدم، فلا يقع التغير فيها نتيجة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تطوعها لمُقتضيات المظهر الطبقي فحسب، بل يلعب الأفراد الذين صنعوا تلك الظروف دور أداة تشكيل ملامح التغيير.

(١) العائلة الممتدة

تأرجَحت علاقة إسماعيل بأخيه وأخواته صعودًا وهبوطًا، حتى تجمَّعت العائلة حوله مع مرور الزمن؛ ففي سنوات الشباب، شهدت علاقتهم أزمة وانقسامًا، فتنازع إسماعيل وياسين أمام المحكمة، وذهبَت بدور وسيدة الكل وليلى في مخاصمتهنَّ لإسماعيل حدَّ اتهامه أمام المحكمة بالتدليس فيما يتَّصل بتركة أبيهن، وهو أمر مُستهجَن كان يُمكن حله في نطاق العائلة لتجنب إذاعة النزاع على الملأ. ومن الصعوبة بمكان معرفة ما وراء ذلك الاتهام، طالما كان باستطاعة إسماعيل أن يُثبت براءته أمام المحكمة، ولكنَّنا نستطيع أن نتصوَّر مدى تعاسة أخوات إسماعيل لعدم استطاعتهن تقديم الدليل على اتهامهن لأخيهن. ولعلَّ قدرًا من الغيرة كان وراء إفساد علاقة الأخوات بأخيهن، وهم يَرون ثراءه يتجاوَز ما لديهنَّ وما كان لدى والدهن من ثروة.

ولكن الثروة التي انهالت على إسماعيل في السنوات التي تلَت تلك الأحداث المؤسِفة، لم تُؤثِّر على علاقته بأقاربه، بل أدَّت إلى إعادة ترتيب تلك العلاقات على أساس هرمي. فعندما بلغ إسماعيل ذروة النجاح والمكانة الاجتماعية، أصبح على أخيه وأخواته أن يعترفوا له بالمكانة التي كانت موضع اعتراف المجتمع. فشهدت علاقاتهم ببعضهم البعض تغيرًا، وعبَّرت العلاقات الجديدة عن نفسها بسُبُل مُختلفة. فقد رغب إسماعيل في الاحتفاظ بعلاقة وثيقة مع ياسين دون الدخول معه في علاقات مالية، وكان أحد مظاهر تلك العلاقة هو القربى في السكن؛ إذ حرص الأخوان على أن يتَّخذا بيتين يقعان بنفس الجيرة، فكان بيت إسماعيل يقع بدرب الشبراوي، واختار ياسين أن يَبني بيته عام ١٠١٧ﻫ/ ١٦٠٨م بخط الخرشتف، وكانت له واجهة تقع على درب الشبراوي، فكان البيتان مُتقاربين وليسا متجاورين؛ مما سهَّل الانتقال من أحدهما إلى الآخر. وكانت ليلى أيضًا تُقيم بخط الخرشتف، مما قد يعني أنها حرصت على الإقامة بالقرب من أخويها. وبذلك عاش الثلاثة في بيوت تقع على مرمى حجر من بعضها البعض.

وكان هناك مظهر آخر للعلاقات المُتغيِّرة بين الأخوَين … فإسماعيل — الأكبر والأغنى — جعل ياسين وأولاده من مُنتفعي الوقف الذي أقامه. ولما كان صاحب الوقف حرًّا في تحديد المُنتفِعين بالوقف، جاء ضم ياسين وأولاده دليلًا على ترابط العائلة الذي حرص على إظهاره، وإبراز دوره كربٍّ للعائلة، يُوزع العطايا على أفرادها. وفي وقفِه الكبير الذي شملَ الوكالتَين ومطبخ السكر، ضمَّن إسماعيل حُجَّة الوقف النصَّ على أن يكون الريع مُناصفة بينه وبين ياسين، فيُقسم ريع مطبخ السكَّر مناصفة بينهما، وريع الوكالة الأولى مناصفة بين أولاد إسماعيل وأولاد ياسين، وريع الوكالة الثانية يُقسم بين أولاده وأولاد ياسين وأحمد بن عريقات (صهره وابن شقيقته ليلى). وبمَنحه تلك العطايا للعائلة، أكد إسماعيل وضعه كربٍّ للعائلة؛ لأنَّ مَن يَمنح يملك زمام أمور العائلة في يده.

(٢) تحالُف الزوجات والجواري

اختلفت علاقات المُصاهَرة التي أقامها إسماعيل في شبابه عنها في السنوات المتأخِّرة من عمره، ووجَّهت هذا الاختلاف حقيقتان: ارتفاع قدره، واندماجه التام في المُجتمَع القاهري؛ فقد بدأ باختيار زوجاته من دائرة محدودة النطاق هي دائرة العائلة وجماعة الشوام، وخاصة الحمصيِّين. ولكن علاقات المصاهرة اتسع نطاقها فيما بعد، واتخذت طابعًا أكثر انفتاحًا على المجتمع القاهري. وتُقدِّم لنا المصادر الوثائقية مادة غنية حول الطابع الذي اتخذته تلك الزيجات التي يُمكن رصدها خلال الحقبة ففيما بين الثمانينيات والتسعينيات من القرن السادس عشر، كانت العائلات الشامية والحِمصية تُمثل دائرة الأصدقاء والأقارب التي تحرَّك داخلها إسماعيل أبو طاقية، ويبدو أن علاقاتهم التجارية قد سارت على نهج مُتماثل خلال تلك العقود من الزمان، ممَّا ترك انعكاسًا على بيت أبو طاقية. فعندما بلغ إسماعيل سنَّ الزواج، كان الاختيار محصورًا بالضرورة في العائلات وثيقة العلاقة بهم. وخلال سنوات قلائل، تزوج إسماعيل وأخواته ليلى وبدور وسيدة الكل من أزواجٍ يَنتمون إلى مجموعة محدودة من ذوي القُربى، أبناء الخئولة والعمومة، وخاصة أبناء عمهم عبد الرازق، وبعض العائلات التجارية الأُخرى التي كانت — مثلهم — حديثة العهد بالإقامة بالقاهرة، ومِن هؤلاء عائلة ابن عريقات — التي عُرفت فيما بعد بعريقات — وهي عائلة من تجار حمص المعروفين، وكان لها فروع عديدة، وصل أحدها إلى مصر في وقت مُتزامن مع وصول أبو طاقية إليها.

وقد اتُّبع ذلك النسق في زواج إسماعيل أبو طاقية من بدرة بنت عبد الرحمن بن عريقات، ومن رومية بنت عبد الرازق أبو طاقية، وكان زواجُه من بدرة فيما بين ١٥٨٦–١٥٩٢م،٢ وكانت عندئذٍ أرملة شابة، مرَّت بظروف سيئة لوفاة والدها على درب الحجاز عام ١٥٨٦م — بعد استقرارهم بالقاهرة بوقتٍ قصير — ووفاة زوجها في نفس الوقت تقريبًا، ثم مات أخوها الوحيد محمد عام ١٥٩١م.٣ ولا شكَّ أن انتماء العائلتَين إلى حمص كان عاملًا مهمًّا في قرار الزواج. إضافة إلى ثراء العروس؛ فقد بلغ مؤخَّر الصداق وحده ثمانمائة دينار، وآلَ إليها إرثٌ عن أقاربها الراحلين. وربما كان زواج إسماعيل من رُومية بنت عمه عبد الخالق قد تمَّ في غضون تلك الفترة أيضًا؛ فقد كانت عائلة أحمد وعائلة عبد الرازق متقاربتَين، وكانت هذه المُصاهَرة تَبعث الرضا في نفس أبيه وعمِّه معًا. وكان النسق الذي اتَّخذه زواج إسماعيل — في تلك الفترة — مُناظرًا لما اتَّخذته زيجات أخواته؛ فقد تزوَّج ثلاثتهنَّ؛ ليلى، وبدور، وسيدة الكل، رجالًا من جماعة التجار الحمصيِّين، والواقع أنَّ الزيجات الثلاث لليلى انحصرت في عائلتي أبو طاقية وابن عريقات، فكان زوجها الأول هو الخواجة أبو بكر عريقات (والد ابنها أحمد)، والزوج الثاني ابن عمها أحمد أبو طاقية (الذي مات عام ١٠٢٥ﻫ/ ١٦١٦م) والزوج الثالث الذي تزوَّجته في السنوات الأخيرة من عمرها هو الخواجة عبد النبي بن زين الدين عريقات.٤ ولم يقَع التبايُن بين زيجات الأخ وشقيقاته إلا في تلك المرحلة المتأخِّرة من حياتهم. فقد اتَّسعت — بمرور الزمن — دائرة أصدقاء إسماعيل، وعكس النسق الذي اتبعه في زيجاته المتأخِّرة تلك الظاهرة التي تكشف عن اتساع دائرة اتصالاته عندئذٍ. وأصبح اتجاه الزواج من خارج دائرة الشوام والحمصيِّين أكثر وضوحًا عند أبنائه الذين تزوَّجوا من دائرة العلماء، وحتى دائرة الأمراء؛ ومن ثم كان اختيار نسق الزواج سبيلًا للحراك الاجتماعي، كما كان — أيضًا — سبيلًا لاندماج تلك العائلة ذات الأصول الشامية في الوسط القاهري، ومع مرور الزمن. واندماج أبو طاقية في الشرائح العليا من المجتمع القاهري، نجد عددَ حالات المصاهرة ذات الطابع التحالُفي التي تمَّت مع الشوام تقلُّ عن ذي قبل، وكان الرجال من أفراد العائلة أسبق من النساء في هذا الاتجاه.

فعندما تزوَّج إسماعيل أبو طاقية من بدرة ورومية، كان يَدفعه عندئذٍ إحساس بالواجب، والرغبة في أداء ما يلزمه الواجب اجتماعيًّا تجاه الدائرة التي انتمى إليها. وهو إحساس كان أقل توفرًا عند ياسين الذي انفرد بالبقاء خارج تلك الدائرة على عكس أخيه وأخواته. وعندما قرَّر إسماعيل الزواج من عطية الرحمن بنت الخواجة أبو بكر الأحيمر — وتنتمي إلى عائلة من التجار المصريِّين — كان يقف عندئذٍ على أرض صلبة ماليًّا واجتماعيًّا، كتاجر كبير ناجح ذائع الصيت في القاهرة، ولم يكن مَدفوعًا لتلك الزيجة بأيِّ واجب اجتماعي، ولعله عرف العائلة — وخاصة والدها وجدها — من خلال السوق أو الجيرة في السكن، وربما نشأت الصلات بينه وبينهم من خلال سوق الوراقين، فقد كان لإسماعيل حانوت هناك، كما كان لجد عطية الرحمن لأمِّها حانوت هناك أيضًا، وربما كان لوالدها أيضًا متجر بالسوق ذاته. وكان الجد يَمتلك المنزل الذي عاش فيه إسماعيل عدة سنوات، وهو المنزل الذي كان من أوقافه. ولعلَّ إسماعيل سمع بمزايا العروس التي اتَّضحت فيما بعد، مثل قُدراتها الثقافية وشخصيتها القوية. وكانت عطية الرحمن — التي عُمِّرت طويلًا بعد وفاة إسماعيل — الوحيدة بين زوجاته التي رُزق منها بابنٍ قُدر له أن يعيش، ومِن ثم احتلَّت مكانة خاصة في العائلة.

وكان زواجه الرابع مختلفًا عن الزيجات الثلاث الأخرى؛ إذ اتبع النسق المرتبط بالنخبة العسكرية، وهو الزواج من الجواري المُعتَّقات اللاتي جئن من أصولٍ شرق أوروبية. فبعد عام ١٠١٧ﻫ/ ١٦٠٨م تزوَّج إسماعيل من زوجته الأخيرة هناء عندما تجاوز الأربعين من عمره. وكانت هناء جورجية الأصل، معتوقة وزوجة زميله الخواجة أبو النصر الطرابلسي الذي كثيرًا ما تعامَل معه من قبل. وبعد وفاة أبو النصر في ١٠١٧ﻫ/  ١٦٠٨م استمرَّ إسماعيل أبو طاقية في التعامل مع محمد بن أبو النصر الطرابلسي. ولكن لماذا رغب في الزواج في تلك المرحلة من عمره، رغم وجود أزواجه الثلاث وعدد من الجواري، ورغم أنه كان — عندئذٍ — أبًا لعدد من الأبناء؟ لعلَّ السبب الذي دفع إسماعيل لذلك هو جمال هناء وافتتانه بها. ويبدو أن ابنتها الوحيدة ستيتة التي أنجبتها من إسماعيل كانت تُماثلها جمالًا؛ لأنها طُلبت كثيرًا للزواج قبل أخواتها الأخريات اللاتي كنَّ يَكبرنها سنًّا.

وإلى جانب ما كان لهناء من مزايا، لا بدَّ أن تكون هناك دوافع اجتماعية وراء زواج إسماعيل من رابعة. فرغم شيوع تعدُّد الزوجات، كانت مُعظَم حالات التعدُّد تَقتصر على زوجتين أو ثلاث زوجات. ونُلاحظ وجود تنوُّع في نسق الزواج عند زملاء أبو طاقية، فالخواجة محمد بن يغمور — مثلًا — كان على ما يبدو مُكتفيًا بزوجة واحدة تزوَّجها في التسعينيات من القرن السادس عشر، فعندما مات عام ١٠٢٤ﻫ/ ١٦١٥م كانت فاطمة بنت زكريا هي الزوجة الوحيدة التي نالت نصيبَها من تركته. ومن الطريف أن ذلك كان من شروط عقد زواجهما.٥ ومن ناحية أخرى، عندما مات عبد القوي العاصي اقتصر ورثتُه على ولده عبد الرءوف وجدَّته، ولم يكن له زوجة على قيد الحياة.٦ وكان للبعض الآخر ثلاث زوجات، مثل عبد القادر الدميري. وكان من النادر الجمع بين أربع زوجات عند سكان القاهرة فيما عدا كبار الأثرياء. وإضافة إلى ذلك، تشير الوثائق إلى قيام أبو طاقية بتسجيل شراء عدد من الجواري كنَّ يَقُمن ببيته، وهي سمة أخرى من سمات الثراء والوجاهة، شاعت بين عِلية القوم. وكان الاقتداء ببعض مظاهر الوجاهة التي ميَّزت النخبة الحاكمة أمرًا مطلوبًا في ذلك الوقت من أوقات الحراك الاجتماعي الذي شهدته القاهرة في تلك الحقبة.

والواقع أن طريقة الاختيار وعدد الزيجات تُوضِّح لنا أن إسماعيل أبو طاقية قد وضع معالم حياته الخاصة، في زيجاته وبيتِه، باتساق تامٍّ مع حياته العامة، كتاجر تتصاعد مكانته بين نخبة التجار. وبالإضافة إلى قُدرته على رعاية عائلة كبيرة، بما يتطلبه ذلك من مساحة وخدمات وتكلفة، كان موقفه كربٍّ لتلك العائلة يُضفي عليه مكانة خاصة. فقد دعم من وضعه الاجتماعي امتلاك بيت كبير مليء بالخدم والعبيد، يَلفت أنظار المارة، ويشار إليه بالبنان.

(٣) التراتب الاجتماعي في بيت العائلة

رُتِّبت الحياة في بيت العائلة على نسَقٍ هرَمي وعلى أساس تقسيم مساحة البيت، وهي سمة غلبت على بيوت العائلات الثرية المتَّسعة الأرجاء، وكلَّما كانت العائلة أكبر حجمًا وأوسع ثراءً، جاء التراتب الاجتماعي الهرمي الطابع داخلها أكثر وضوحًا، ويتجلَّى ذلك في أسلوب استقبال الضيوف، وفي شغل مختلف أفراد الأسرة لمساحات معينة من البيت.

وكان التنظيم المساحي للقسم الخاص من البيت، يسمح لإسماعيل أن يقرر عند عودته للبيت المكان الذي يتجه إليه حسب الأحوال، فإذا كان بصحبته ضيوف اتجه إلى الجزء المخصص للضيوف من البيت، وإذا عاد وحيدًا اتجه إلى الأماكن المخصصة لأهل البيت. فكانت هناك قاعات صغيرة حول فناء البيت لاستقبال الضيوف. ومع زيادة مشروعاته التجارية، وارتفاع قدره بين التجار، كَثُر زُوَّاره من عِلية القوم بما في ذلك الأمراء والمماليك، الذين دخل معهم في علاقات تجارية، وكذلك زملاؤه الذين كان يَلتقي بهم في السوق من خلال نشاطه التجاري. وعندما يَفِد على بيته أناس من علية القوم، كان يستقبلهم بالقاعة الكبرى التي تقع بالدور الأرضي من البيت، وهي قاعة فسيحة، ذات سقف مُرتفع، جيدة التهوية، مُزدانة بالرخام، توحي بالأبهة والترف، وكانت في الغالب قريبة من مدخل البيت، على مسافة بين الجزء المخصص لإقامة أهل البيت. فإذا كان الوقتُ صيفًا، وأراد إسماعيل أن يستمتع بالهواء الطلق مساءً، صعد إلى المقعد الذي يُطلُّ على الفناء من فوق سطح البيت، فيرى القادمين والغادين. أما الضيوف الذين يَبيتون بالبيت، فكانوا ينامون بغرفة ملحقة بالقاعة عُرفت بالخزنة النومية، حيث كان الخدم يفرشون أرض الحجرة، ويُرتبون الحشيات لنوم الضيوف.

أما الضيوف من المعارف والأصدقاء، كالدميري أو جماعة الشوام، فكانوا يُستقبَلون بالقاعات الصغرى، ولعلَّ الشوام عامة والحمصيِّين خاصة كانوا أكثر الزوار تردُّدًا على بيت أبو طاقية، ربما لصِلة القرابة أو لوجود علاقات تَضرب بجذورها إلى موطنهم الأصلي؛ حمص، أو لأنهم يعتبرون إسماعيل كبيرهم أو عميدهم، لما كان له من مكانة في المجتمع.

وعندما يَنصرف الضيوف مساءً، يتَّجه إسماعيل نحو مكان المعيشة بالأدوار العليا للبيت، مستخدمًا أحد الدرجين أو الثلاثة. وفي ذلك القسم من البيت كان ثمة نظام تراتبي هرمي النَّسق للمساحة المخصصة للمعيشة؛ إذ قُسِّمت المساحة إلى عدد من المساكن تختلف اتساعًا وتأثيثًا، وتعكس التراتب الاجتماعي في محيط العائلة. فقد يكون المسكن مجرَّد حجرة واحدة، أو شقة مكونة من حجرتين أو ثلاث حجرات، إضافةً إلى المنافع والمرحاض. فكان كل فرد من أفراد العائلة يُقيم في مسكن يتوافَق مع مكانته في العائلة.

والواقع أن بيت العائلة الذي ضم الزوجات الأربع، وعديدًا من الجواري والأتباع والخدم والعبيد، كان يَخضع لتقسيم مساحي يتَّفق مع الأوضاع الاجتماعية المُختلفة للمقيمين فيه، ولا يخضع للتقسيم على أساس النوع، إلى جناحٍ للذكور وآخر للإناث. كما أن هذا التقسيم المساحي أتاح لأبو طاقية إمكانية التوجه إلى القسم الذي يُريد التوجه إليه، بقدر ما أتاح لكلِّ فرد أن يتحكم في المسكن الخاص به داخل البيت بحرية تامة.

وتناول التراتب الاجتماعي داخل البيت الزوجات، والجواري، والأطفال. وقد ترتكز مكانة الزوجة على ما لها مِن ثروة خاصة، وإنجابها للأطفال، وخاصة الذكور منهم؛ فقد كانت عطية الرحمن — مثلًا — أمًّا لابنه الوحيد زكريا الذي بقيَ على قيد الحياة، ولأربعة من بناته هنَّ: جميعة، وأم الهنا، وزين التجار، وطاهرة. وجاءت أيضًا من أسرة تجارية غنية. فكان هناك فرق في المكانة الاجتماعية داخل العائلة بين الزوجة الولود، والزوجة العاقر (مثل بدرة ورومية)، وبين الزوجة والجارية المُستولدة. وكان التمييز بين الجواري يقوم على قاعدة الإنجاب، فمن أنجبَت من سيِّدها سُمِّيت مُسْتَولَدَة، وكانت تتمتَّع بعدة مزايا، فوفرت لها الشريعة الإسلامية قدرًا من الحماية؛ إذ كان لا يجوز بيعها، كما أن أطفالها كانوا أحرارًا، ولهم حقُّ الإرث في تركة الأب عند وفاته كغيرهم مِن ذريته. وعند وفاة السيد تصبح الجارية المُستولدة حرة، ولا تُعدُّ جزءًا من التركة (كغيرها من الجواري والعبيد).٧ وكثيرًا ما كان يُخصَّص للمُستولدات نصيبٌ في ريع الوقف يَحصُلن عليه بعد وفاة السيد، ويُنصُّ في الحُجج على استمرارهنَّ في الإقامة ببيت العائلة، وبذلك يتوفَّر لهنَّ الحد الأدنى من الضمانات، ولكنَّنا لا نجد ذكرًا في حجة وقف أبو طاقية للمُستولدات من جواريه، ولا يعني ذلك بالضرورة أنه قد تجاهلهنَّ تمامًا، ولعلَّه رتب لهن ما يوفر لهن الأمان بطرق ودية، فبغير ذلك يَقعن في مأزق حرج بعد وفاته. وقد يَعتمدن على ما ورثَه أولادهن من تركة الأب، أو يتزوَّجن. وفي حالة صايمة البيضاء — إحدى مُستولَدَات إسماعيل أبو طاقية — نجدها تَحصُل على نصيب صغير من التركة بعد وفاة سيدها بوقتٍ قصير؛ إذ ما لبثَت أن ماتت إحدى بنتَيها، بعد أن نالت نصيبها من تركة أبيها، فآل بعض ذلك النصيب إلى أمها بحقِّ الإرث. وإضافة إلى ما وفَّرته الشريعة للمُستولدة من الحماية، كان وضعها الاجتماعي في العائلة يَرقى على وضع غيرها من الجواري.

أما المعيار الآخر للتمييز بين الجواري فيقوم على الأصل العرقي، فهناك تمييز بين البيضاوات (ذوات الأصول الأوروبية كالبوسنيات والروسيات والجورجيات)، والحبشيات، والسود (ذوات الأصل الزنجي). وكانت هناك فروق في أسعار الجواري بسوق العبيد تبعًا للون البشرة والأصل العرقي، مما كان له انعكاسه على المكانة الاجتماعية داخل العائلة.

وبذلك تحكَّمت مجموعة من المعايير في تحديد مكان الزوجات والجواري في التراتب الاجتماعي للعائلة، والسُّلطة والامتيازات في بيت العائلة. ولكنَّنا نَستشفُّ من وراء هذا الإطار الرسمي للعلاقات داخل البيت، حقائق تتَّصل بالعلاقات الحميمة التي كانت لإسماعيل أبو طاقية، فقد مرَّ بظروف صعبة في أواخر أيام عُمرِه. ومُنيَ بخسائر فادحة، من بينها فقد زوجته الرابعة هناء بنت عبد الله البيضاء، الجورجية الأصل، التي تزوَّجها نحو عام ١٦١٥م، عندما مات عنها زوجها الخواجة أبو النصر الطرابلسي، زميل أبو طاقية. ولعله وجد السلوى عند جاريته صايمة البيضاء؛ لأنه كان يَقضي عندها وقتًا طويلًا خلال تلك السنوات، واستولدها بنتيه صالحة التي ماتت بعده بوقت قصير، وعند وفاته كانت صايمة البيضاء حاملًا، وما لبثت أن وضعت طفلتها الثانية فاطمة بعد وفاة إسماعيل عام ١٦٢٤م.

وانعكس التراتب الاجتماعي داخل بيت العائلة على طريقة استخدام البيت. ومِن المؤكَّد أن عطية الرحمن — مثلًا — كانت تعيش في مسكن كبير، تتوفَّر فيه وسائل الراحة، ولا يعود ذلك إلى ثرائها الشخصي الذي عزَّز مكانتها، ولكن إلى كونها أمًّا لخمسة من الأطفال، فكان طبيعيًّا أن تُقيم في أكثر مساكن البيت اتساعًا. وكانت إقامتها في أفضل مسكن بالبيت تُعطيها مكانًا خاصة بين سكانه. ولكن بمرور السنين، أحسَّت عطية الرحمن بتحوُّل مشاعر زوجها عنها إلى غيرها من حريمه، وكانت تراه يوميًّا عندما يُحيط به أطفالها فيما عدا طاهرة التي كانت آخر مولودةٍ لها.

ويمكن أن نتصوَّر أن مسكن بدرة كان أصغر مساحة؛ لأنه لم يكن لها أولاد. ولعله كان ثمة نوع من التراتب الاجتماعي بين الجواري والمُستولَدات؛ ففي بيت الخواجة نور الدين السجاعي — زميل إسماعيل — أقام ثلاث من مستولدات ابنه المتوفَّى في مسكن واحد، حسبما جاء بحجة الوقف.٨ وربما كانت هناك ترتيبات مُماثلة في بيت أبو طاقية، ولعلَّ الحاجة إلى تخصيص مسكن لكل واحدة من مُستولداته، كانت وراء توسعته للبيت.

وسكن الخدم والعبيد في مكان آخر من البيت، يَبعد قليلًا عن مساكن العائلة، ويبدو أن ثمة تراتب اجتماعي كان موجودًا بين مختلف الجماعات التي انتموا إليها، رغم أننا لا نَعرف إلا القليل عن نظام حياة الخدم والعبيد، والأماكن التي خُصِّصت لهم في بيت العائلة على نحو ما نَعرف عن الزوجات. وكانت بعض البيوت تشتمل على مكان مخصَّص للجواري، أو حجرة كبيرة لهنَّ، ولعلهنَّ كن من اللاتي خُصصن للخدمة المنزلية، ممَّن لا يوليهن السيد اهتمامًا خاصًّا.

ويقودنا ذلك إلى تناول مسألة ذات مغزًى بالنسبة للعائلة، هي فكرة المجالين الخاص والعام. فقد طبق بعض الباحثين هذا المفهوم على الأسرة الإسلامية بطرق مختلفة: فالخاص عندهم يعني البيت وأفراد الآسرة الذين يضمُّهم ذلك البيت، والعام يعني عندهم المجال الذي يقع خارج البيت. وربط البعض الآخر الخاص بالنساء، والعام بالرجال، ورأوا أن الفصل بينهما كان صارمًا مع وجود أو عدم وجود إمكانية محدودة للاتصال بينهما. والواقع أن تلك النماذج للمَجالين الخاص والعام، لا يقوم على ملاحظة ما كانت عليه الحال في مجتمع معين أو طبقة معيَّنة، ولكن على تعميمات شملت المجتمعات الإسلامية جميعًا، بغضِّ النظر عن الزمان أو المكان، أو الوضع الطبقي.

وتحليلنا لعائلة أبو طاقية يَدحض هذه الآراء فيما يتَّصل بالفصل بين النساء والرجال، وما يتَّصل بالفصل بين المجالَين؛ الخاص والعام في الحياة العائلية. وعلى سبيل المثال، ليس هناك دليل على أنَّ النساء كن معزولات في قطاع خاص من البيت؛ فلم يتضمَّن بيت إسماعيل أبو طاقية أو أخيه ياسين أو أيٍّ من بيوت التجار المُعاصرين، وصفًا لمكان محدَّد للحريم في حجج الوقف. وكانت الخصوصية من حيث المكان، والفصل بين الخاص والعام، أكثر مرونة مما يظن. ويُمكن تصور هذه المرونة من خلال التراتب الاجتماعي المكاني، من المسكن الخاص، إلى المنافع العامة للبيت، مثل الفناء والحمام، إلى شبه العام (الدرب المسدود الذي يقع فيه البيت)، إلى العام (الطريق الرئيسي). ويماثل ذلك ما اتصل بالناس الذين ترددوا على البيت، أو حتى على مساكن العائلة داخل البيت، حيث يمكن أن نرصد بضع درجات من الخصوصية التي ارتبطت بهم. وبعبارة أخرى، لم تكن الحركة منقطعة بين المجال الخاص والمجال العام، ولم تكن الحواجز منيعةً بين المجالَين؛ فبَين الأبيض والأسود، كانت هناك دائمًا مساحة واسعة للظلال الرمادية، واعتمدت الحركة بين المجالين العام والخاص على اختلاف المعايير والظروف، وكان الضبط واردًا عند الضرورة لاستيعاب وضع معين، دون المساس بخصوصية أي من أفراد العائلة.

ولا يَعني قضاء الزوجات مُعظم الوقت في مساكنهن — بالضرورة — أنهنَّ عِشنَ مُنعزلات؛ لأنهن كن يتحكَّمن تمامًا في الأماكن الخاصة بهن. فكان لبعض الزوجات مثل: عطية الرحمن، أو بدرة عريقات عبيدهنَّ الخصوصيون الذين تمَّ شراؤهم بِحُرِّ مالهنَّ للوقوف على خدمتهن. وحصلت ليلى — أخت إسماعيل — على تعهُّد من زوجها بأن يوفر لها جارية، واستبدالها بغيرها في حالة وفاتها. وكان لمثل تلك الزوجات أتباعهن الخصوصيُّون الذين يعملون في خدمتهن. وبذلك كان للزوجات من ذوات المكانة الاجتماعية، من يعملون لحسابهن بمعزل عن أولئك الذين يخدمون الزوج.

واستقبلت هاتان السيدتان زوارهن من العائلة والأصدقاء في مسكنيهما. فاحتفظت عطية الرحمن بعلاقات متينة مع أمها وأقاربها. وكان لبدرة رهط من عائلة عريقات التي ارتبطت بأبو طاقية برباط المصاهَرة، وظلَّ والد رومية على صلة وثيقة بها. وكان جميع هؤلاء يتردَّدون على المساكن التي وقعت بالطابق العلوي من البيت. ونعرف تمامًا أن التزاور بين أفراد العائلات المُمتدة والأقارب كان يتم من وقت لآخر، كما كان بعض الأقارب يقضون الليل عند العائلة. ولما لم تكن هناك غرف مخصَّصة للنوم، فإن كل ما يتطلبه الأمر لاستيعاب الضيوف الذين يقضون الليل، هو إعداد فراش في جانب من الحجرة لنوم الضيف. وبذلك كان بكلِّ مسكن من مساكن الزوجات مساحة مخصَّصة لاستقبال ضيوف الزوجة من الأقارب الذين يتردَّدون عليها للزيارة. وأدارت الزوجات اللاتي كن من ذوات الأملاك، شئون أعمالهن من مساكنهن، فكن يستقبلن الأشخاص الذين كانوا يتولَّون أمور أملاكهن. فكانت كل من بدرة وعطية الرحمن تتولى نظارة أوقاف لعائلتَيهما، واستخدمت كل واحدة منهما وكلاء لإدارة العمل، فيقومون بضبط حسابات الأوقاف، وتسجيل الموارد والمصروفات. وكان لهما أن تُقرِّرا ما يتم بشأن إصلاح ما يحتاج إلى إصلاح من العقارات الموقوفة، أو إحلال مُستأجَر محل آخر. ويتولى الوكيل إبلاغ الناظر بكل ما يَجري من أمور، فإذا جاء لمقابلة الزوجة (الناظرة) في مسكنها، قابلته بهيئة معينة، فتضع النقاب على وجهها مثلًا، وهو ما لا تفعله عادة أثناء وجودها بالمسكن.٩
وكان عليهما أحيانًا أن تتولَّيا بعض الأمور بنفسيهما. فقد حرصت عطية الرحمن على رعاية شئون مُمتلكاتها بنفسها بقدر المستطاع.١٠ وقد برهنت على كفاءتها حتى تمَّ تعيينها ناظرة على وقف أبيها، وتم هذا الاختيار استنادًا إلى مالها من مَقدرة على تولي المهمَّة مما يُميزها على غيرها من المرشَّحين الآخرين، وهما أخواها علي وحجازي اللذان كانا من المنتفعين بالوقف. ويبدو أن عطية الرحمن كانت حريصة ماديًّا أحيانًا، ولعلَّ ذلك يُفسر ذهابها وأمها بصحبة إسماعيل أبو طاقية إلى محكمة الباب العالي؛ حيث أقرَّت أمها «فرح» أمام المحكمة أنها اقترضت من عطية الرحمن ١٥٠ ريالًا، وهو أسلوب غريب للتعامل مع أفراد العائلة، وخاصة أن المبلغ كان مُتواضعًا نسبيًّا.١١ ولعلَّ عطية الرحمن عرَفَت أهمية الضمان القانوني من زوجها إسماعيل، وضرورة تسجيل المعاملات رسميًّا في سجلات المحكمة. وفي مثل تلك الحالة التي توجَّهت فيها عطية الرحمن إلى المحكمة المكتظَّة بأصحاب الدعاوى والشكاوى، لا بد أن تكون قد تلقَّت معاملة سريعة ودقيقة رعاية لمكانتها الاجتماعية. وبذلك كانت المساحة التي تحركت فيها عطية الرحمن لرعاية مصالحها تتَّسع أو تنكمش حسب الظروف والأحوال.

وكانت نسبة الزوار الشوام لمساكن زوجات أبو طاقية مرتفعة نوعًا ما، وتضم الأقارب والأصهار وأصدقاء العائلة. ونستطيع أن نتبين ذلك مما حدث عند وفاة إسماعيل أبو طاقية تاركًا وراءه عددًا كبيرًا من الورثة الإناث: زوجات ثلاث، وثلاث بنات بالغات، سعت كل واحدة منهن إلى اختيار وكيل يمثل مصالحها أمام المحكمة عند النظر في توزيع التركة على الورثة، لتحديد نصيب كل واحدة منهن في البضائع والأموال التي كانت في القاهرة وغيرها من المراكز التجارية التي تعامَل معها في حياته. وكان اختيار مُعظَم الوكلاء من ذوي الأصول الشامية، سواء أكانوا يمتُّون للعائلة بصلة، أم كانوا غير ذلك. فوكَّلت بدرة — مثلًا — قريبها عثمان علي الدين عريقات الذي أدَّى مهمَّته على خير وجه. ووكلت فردوس أبو طاقية زوجها عبد المعطي عريقات، وتولى رعاية مصالح رومية والدها أولًا، ثم خلفه في ذلك أحمد عريقات، وأخيرًا، عندما أحسَّت أن مصالحها التجارية لا تلقى الرعاية الكافية من أحمد عريقات، وكَّلت شخصًا آخر يُدعى أحمد بن صديق الحمصي، الذي لم يكن — على ما يبدو — من أقاربها. ومن ثم كانت العلاقات بين الشوام وبيت أبو طاقية متينة، في نفس الوقت الذي كانت الحياة العامة لأبو طاقية تتَّجه إلى الاندماج بالمجتمع القاهري بصورة واضحة.

ولما كانت مساكن الزوجات غير مُستقلة تمامًا عن بعضها البعض، قامت الصلات بينها. فقد اشترك الجميع في الاستفادة من المنافع العامة للبيت؛ كالفناء حيث يلعب الأولاد، والبئر الذي يُزودهم بالماء، والإسطبل حيث الدواب التي تُستخدم في الانتقال. وكان للبيت حمام خاص، وهو من سمات الترف؛ لأنَّ معظم البيوت كانت تستخدم الحمامات العامة، ويتكوَّن الحمام من حجرتين أو ثلاث حجرات، تزداد درجة حرارته باطراد عند دخوله حتى تبلغ أقصاها عند المغطس الذي يَستخدمه أكثر من شخص في وقتٍ واحد. وتوقف الأمر على الزوجات وعلاقتهنَّ ببعضهنَّ البعض، فإما يُخصَّص يوم لكل واحدة منهن لاستخدام الحمام، أو يَجتمعنَ معًا للاستمتاع بالحمام والثرثرة في مختلف الموضوعات، وهو مثال جيد للمرونة التي اتسم بها المجال الخاص داخل بيت العائلة.

وحتى عندما كانت الزوجات تقضين جانبًا كبيرًا من الوقت داخل البيت، لم تكن هناك حواجز معيَّنة تفصل بين مساكنهن وبعضها البعض، أو بينها وبين ما يقع خارج البيت. فكانت مساحة إقامتهن قابلة للاتساع والانكماش حسب الظروف، فيما بين السكن والأماكن الأخرى التي يقمن باستخدامها مع غيرهن من أفراد العائلة، وكنَّ يخرجن من حين لآخر لزيارة الأقارب أو المعارف، أو إنجاز بعض الأعمال في المحكمة، كما أن الصلات بين الزوار الذين يَفِدون على البيت وأفراد العائلة كانت واردة. وهكذا نجد أن كلمة الاحتجاز التي يستخدمها الباحثون كثيرًا عندما يتحدثون عن الزوجات في مجتمعات الشرق الأوسط، التي تحمل مضمونًا يشبه الاعتقال، كلمة مُضلِّلة، عندما ننظر إلى الوضع عن قرب. فرغم تمحور الحياة العائلية حول البيت، ارتبطت النساء بالمجتمع الخارجي بروابط عدة. والواقع أن وضع نساء القاهرة كان أفضل، مقارنة بوضع النساء الفرنسيات أو الإنجليزيات المعاصرات لهن، وذلك رغم انتشار تعدُّد الزوجات، والتسري بالجواري. وعلى سبيل المثال، كانت المرأة الإنجليزية — في عصر ستيوارت — تفقد حقَّها في المِلكية بمجرد زواجها، ويقوم زوجها بكل ما يتعلق بها من أعمال، فتُصبح عالةً عليه تمامًا؛ لأن الزواج يُحولها — من الوجهة القانونية — إلى قاصر.١٢ ولم يكن وضع المرأة في فرنسا — قبل الثورة — أحسن حالًا؛ حيث كان الزواج يُعطي الزوج حق الولاية التامة على أملاك زوجته.١٣ والواقع أن المركز المالي للزوجة كان عاملًا هامًّا في تحديد علاقات السلطة داخل البيت، وكانت امرأة مثل عطية الرحمن قادرةً — بصفة خاصة — على رعاية مصالحها.

(٣-١) أبناء أبو طاقية

كان إسماعيل أبو طاقية بحاجة إلى أبناء يملئون البيت الكبير، ويَبعثون الحياة فيه، ويُمثِّلون امتدادًا له بعد موته، عملًا بالمثل القائل: «اللي خلف ما مات»، ويكونون عونًا له في شيخوخته، جناح الشيخ أولاده. ولا ريب أن ارتفاع نسبة وفاة الأطفال — عندئذٍ — دفعه إلى إنجاب أكبر عدد مُمكن منهم، ولعلَّه فقد الكثير من الأبناء الذين ماتوا في طفولتهم، شأنه في ذلك شأن غيره من الآباء في ذلك العصر؛ فمثل هذه المعلومات لا تتوفَّر بالوثائق. ولكنَّنا نستطيع أن نتصوَّر أنه وقد مضى على زواجه ٣٢ عامًا (كان أول ذكر لزوجه في عام ١٥٩٢م)، وكانت له أربع زوجات، آخرهن هناء التي جاءت وفاتها قبله، إضافة إلى عدد كبير من الجواري، لا بدَّ أن يكون ارتفاع نِسبة وفيات الأطفال وراء بقاء ثلاث فقط من البنات البالغات على قيد الحياة، منهما اثنتان كانتا مُتزوِّجتين هما فردوس وجميعة، وواحدة لم تكن قد تزوَّجت بعد هي أم الهنا، أما أبناؤه السبعة الآخرون فكانوا قصرًا. ومما يؤكد ارتفاع نسبة وفيات الأطفال أنَّ الطفلة التي أنجبتها منه جاريته صايمة البيضاء وأختها الصغيرة، قد ماتتا الواحدة بعد الأخرى. ويُقال إنَّ الوباء الذي وقع عام ١٠٢٨ﻫ/ ١٦١٨م قد حصد أرواح ٦٣٥ ألف نسمة (وفق ما يذكره البكري) كانت أعمارهم تتراوح بين ١٥–٢٥ عامًا.١٤ ومن المُحتمَل أن تكون عائلة إسماعيل قد فقَدَت بعض أفرادها خلال ذلك الوباء. وبعد وفاته بجيل واحد، لم يُعقب من ذريته نسلًا إلا اثنان من أحفاده، هما ابن فردوس، وبنت زكريا. اللذان أنجبا أبناء عاشوا ليصلوا إلى مرحلة البلوغ، ومات الكثير من ذريته في طفولتهم أو في شبابهم. وإذا كان زكريا قد أنجب ذكورًا، فإنه لم يُقدَّر لهم أن يعيشوا حتى بلوغ مرحلة الشباب، كذلك مات عمر بن ياسين في سن الشباب، قبل وفاة والده بوقت قصير. ومن ثم كانت وفيات الأطفال هي المُعضلة التي واجهت معظم العائلات.
ونشأ أبناء أبو طاقية — شأنهم في ذلك شأن أبناء معظم العائلات — على توقير وطاعة والدَيهم. ويذكر لين Lane أن عدم احترام الوالدين كان إثمًا كبيرًا، وأنه كان من النادر أن يسمع الناس عن ابنٍ عاقٍّ.١٥ ويُمكننا أن نتصور العلاقة بين أبو طاقية وأبنائه في إطار النسق الذي يصفه لين. كما أن رجلًا مثل أبو طاقية تمتَّع بشخصية قوية، لا بدَّ أن تكون موضع احترام أهل بيته وأبنائه، وأن يكونوا قد دانوا له بالطاعة. يَستوي في ذلك الذكور والإناث، البالغون والقصر، والمتزوِّجون وغيرهم.
ولكن الأبناء لم يقفوا على قدم المساواة، فقد خضعوا لنوع من التراتب الاجتماعي الذي لم يكن يرجع إلى العمر أو النوع فحسب، بل يَعتمد كذلك على القدرات الشخصية … فلا تعني الطاعة والاحترام الخضوع التام، ومحو شخصية الفرد. ورغم جفاف المادة الوثائقية، نستطيع أن نستشفَّ منها بروز بعض الشخصيات، وبقاء البعض الآخر مغمورًا. ولا يُستثنى من ذلك أبناء إسماعيل أبو طاقية، فكان بعضهم عالي الصوت، مُتفتحًا اجتماعيًّا، وبعضهم الآخر هادئًا مُنطويًا، ولا نجدهم يعبرون عن أنفسهم إلا اضطرارًا في موقف أو موقفين محدَّدين. وتحدد مصير أبناء أبو طاقية بعدة عوامل بيولوجية واجتماعية، لم يكن باستطاعتهم توجيهها أو التحكم فيها؛ إذ كان هناك فرق كبير في العمر بين أولئك الأبناء الذين كان آخرهم بنتًا وُلدت بعد وفاة أبيها، في وقتٍ كانت فيه ابنتاه فردوس وجميعة قد تزوَّجتا. وهناك اختلاف آخر هام بين الذكور والإناث من الأبناء؛ فقد كان كل أبنائه من الإناث باستثناء زكريا الذي جاء إلى الدنيا بعد طول انتظار، فلا عجب أن نجد الولد موضعَ الآمال ليَخلُف أباه في أعماله التجارية ويَرعى مصالح العائلة، ولعلَّ ذلك انعكس على طريقة معاملة زكريا. وكان من المتوقع أن يرث زكريا من الثروة الكبيرة مثل حظِّ الأنثيَين وَفق الشريعة الإسلامية، غير أن إسماعيل خصَّص له بعض الترتيبات الأخرى في حياته، فأوقف عددًا من ممتلكاته الحضرية، من بينها: سرجة بالمقس، وطاحونة بالجمالية، وحمام عام بسوق الغنم،١٦ وجعل زكريا المُنتفِع الوحيد بريع تلك الأملاك، لا يشاركه فيه أيٌّ من أخواته البنات، وبذلك ضمن له أبوه دخلًا محترمًا ينفرد به وحده.

ومن المؤكد أن العائلة كانت تُميِّز بين أبناء الزوجات وأبناء الجواري، وكان خمسة — على الأقل — من أبنائه من أمهاتٍ مُستَولَدات، منهم فردوس، وفاضلة ابنتا هاجر البيضاء، وفاطمة وصالحة ابنتا صايمة البيضاء، وآمنه بنت رازية البيضاء. ودعم التنظيم المساحي للبيت هذا التراتب الاجتماعي؛ حيث كان الأبناء يقيمون مع أمهاتهم في المساكن التي خُصِّصت لهن بالبيت، وبذلك كان أبناء المُستولَدات يُقيمون في مساكن أقل اتساعًا وراحة من الأماكن التي عاش فيها أبناء الزوجات. ولنا أن نتصوَّر عطية الرحمن بما لَها من ثروة وأصول اجتماعية عريقة وأبناء، تنظر باستعلاء إلى المستولَدات وبناتهن. ولا زال مصطلح ابن الجارية أو بنت الجارية مَضربَ الأمثال حتى اليوم للتمييز في المعاملة بين الناس، ولا بد أن تكون عطية الرحمن قد بثَّت في أبنائها رُوح التعالي على أخواتهم من بنات المستولدات، وإن كان الأطفال جميعًا يَشتركون في اللعب بالفناء دون تمييز، كما أن بنات المستولدات حصلنَ على نصيبهن الشرعي من إرث أبيهن، كأبناء الزوجات الحرائر سواءً بسواء.

(٣-٢) الأتباع والخدم والعبيد

لم يَشتمل بيت عائلة التاجر الثري على زوجاته وجواريه وأبنائه فحسب، بل كان هناك آخرون عاشوا في البيت أو تردَّدوا عليه يوميًّا. فقد استخدم إسماعيل — مثلًا — مباشرًا قبطيًّا يُدعى غبريال ليتولى شئون حسابات تجارته وربما بيته أيضًا. وكان للأقباط صيت ذائع في أعمال الحسابات، وغالبًا ما كان الأمراء يستخدمون مُباشرين من الأقباط لضبط حساباتهم وحسابات بيوتهم. وكان هناك أيضًا بعض الأتباع الذين يَعملون بخدمة البيت، لعلَّ بعضهم كان مُقيمًا به، حيث تتوفر لهم الحماية، ويَحظَون بقدر من المكانة التي يختص بها سيدهم.

وكان بالبيت أيضًا عدد كبير من العبيد والخدم الذين يتولَّون أمر الخدمة من أعمال النظافة، والطهي والغسيل، ورعاية الدواب بالإسطبل، وجلب المياه من البئر للاستخدام المنزلي، وخدمة الحمام، وتلبية طلبات أفراد العائلة. ولا نَعرف عددهم تحديدًا، غير أن هناك إشارات عن عددهم ورَدَت عندما مرض إسماعيل أبو طاقية عام ١٦٢١م، وأراد أن يفعل خيرًا، فأعتق تسعة من عبيده، من بينهم ثلاثة من الأحباش، وتكروري واحد، وذُكر الآخرون على أنهم من السود (أي الزنوج). ولا يعني ذلك أنهم تركوا الخدمة بالبيت، ولكنه يعني تغيير وضعهم القانوني،١٧ ولا شك أنه كان هناك الكثير غيرهم ممَّن يَعملون بخدمة البيت.
وعاش الكثير من الناس في بيت أبو طاقية، فمع صعود نَجمِه وارتفاع مكانته، رأى أن يوسع البيت الكائن بدرب الشبراوي. وبدلًا من الانتقال إلى بيتٍ أرحب بتسع بدرجة كافية لتلبية حاجاته، اشترى عام ١٠١١ﻫ/ ١٦٠٢م البيت المجاور له، وهدم السور القائم بين البيتَين، فكسب بذلك فناءً، وقاعتَين، ومقعدًا وإسطبلًا، وحمَّامًا، وبئرًا، وحاصلين.١٨ وعندما تمَّت أعمال التجديد داخل البيت، تحوَّل البيت إلى ما يُشبه القصر حجمًا وزخرفة وأبهة، يَحتوي على مرافق لا تتوفَّر عادة إلا في قصور الطبقة الحاكمة، كالحمام والبئر والإسطبل والطاحون، والكثير من القاعات المزدانة بالنافورات الرخامية لتلطيف جوِّها، والمساحات الكافية لسُكنى أفراد عائلته، وإقامة ضيوفه وأتباعه. وأصبح بذلك بيت أبو طاقية عنوانًا على مكانة صاحبه. وتُشير حجة التَّركة التي أُعدَّت بعد وفاته إلى محتويات البيت، والكيفية التي وُزِّعت بها بين الورثة الشرعيِّين، ونصيب كل منهم منها، فكانت مكتبة أبو طاقية من نصيب أبنائه القُصَّر، وكذلك الشمعدان الفضِّي وسيفان، كما حصلوا على بعض من الأطباق الخزفية المصنوعة في أزنيك بالأناضول، وبعض الأدوات النحاسية. وحصلت كل زوجة من زوجاته الثلاث على بعض الأطباق الخزفية الأزنيكية والأدوات والأواني النحاسية، ووزعت الشمعدانات على الآخرين، وقد أدَّى هذا التوزيع الودِّي لمُحتويات البيت إلى تجنُّب الورثة بيع تلك الأشياء، وتوزيع ثمنها وَفق الأنصبة الشرعية.١٩

(٣-٣) تجاوز نطاق الهياكل التقليدية للعائلة

لقد كان كل فرد من أفراد العائلة يعرف موقعه من الهرم الاجتماعي حسب الفئة التي يَنتمي إليها، كالأقارب، والزوجات والجواري والأبناء، أو موضعه في بيت العائلة الذي تربع أبو طاقية على قمَّته كربٍّ للعائلة. ومع أهمية الفوارق البيولوجية بين أبناء أبو طاقية والحدود التي يَفرضها التراتُب الاجتماعي في بيت العائلة، فإن تلك العوامل وحدها لم تُحدِّد مصير أفراد العائلة، ولكن مصيرهم تَحدَّد بمجموعة مركبة من الأحوال الاجتماعية الاقتصادية المتغيِّرة التي تركت أثرها على العائلة، ذلك الأثر الذي نستطيع تتبُّعه لمدى زمني طويل، كما حدَّدته القدرات والكفاءات الشخصية للأفراد الذين تكوَّنت منهم العائلة. ومع وجود الهيكل الاجتماعي الهرمي، كانت هناك مجالات مُعيَّنة تتَّسم بالمرونة، وتَسمح للفرد أن يُسمع صوته للآخرين، وللمبادرة الفردية أن تؤتي أُكُلها، رغم الفوارق الاجتماعية بين أفراد العائلة.

وتكشف دراسة نسق الزواج عند أبناء أبو طاقية عن تغير أوضاع العائلة، فمن تزوَّج منهم في وقتٍ مُبكِّر كان أقل استفادةً بتغيير الأوضاع عمن تزوج فيما بعد، بما في ذلك الزيجات التي تمَّت بعد وفاة إسماعيل أبو طاقية. وكان أول من تزوَّجن من بنات العائلة فردوس وجميعة، الأولى بنت جارية، والثانية بنت عطية الرحمن، وتزوَّجت كلٌّ منهما في عائلة عريقات، التجار الذين يَنحدرون من أصول حمصية، وتَربطهم صداقة وطيدة مع آل أبو طاقية. وكان زوج جميعة هو أحمد ابن عمَّتها ليلى أبو طاقية، أما زوج فردوس فكان عطية الذي يَنتمي إلى أحد فروع عائلة عريقات، وبذلك تزوَّجت البنتان؛ بنت الجارية، وبنت الزوجة الحرة من رجلَين يتساويان في المنزلة الاجتماعية، مما يدلنا على ما يمكن أن يئول إليه وضع أبناء المُستولَدات. وكان الزوجان يَرتبطان بحمص، ويعملان بالتجارة وبذلك كانا ينتميان إلى دائرة مغلقة، هي دائرة التجار الشوام.

وبدأ ظهور نسق آخر للزواج عند أبناء أبو طاقية في المرحلة الأخيرة من عمر إسماعيل، واستمرَّ بعد موته. وحالة زواج ابنته فاطمة التي اشتهرت باسم ستيتة لا تخلو من طرافة؛ فقد كانت أمها هناء الجورجية معتوقة أحد أصدقاء إسماعيل، وبنى بها بعد وفاة زوجها. وقبل وفاة أبيها بفترة وجيزة تلقَّت فاطمة (ستيتة) عرضًا للزواج من رجل أفضل منزلة من زوجَي أختَيها، فقد أرسل «مولانا قاضي القضاة إبراهيم أفندي ابن ضياء الدين أحمد» رسولًا إلى إسماعيل محمَّلًا بالهدايا من الذهب والياقوت والزمرد طالبًا يدها.٢٠ وقد قَبلَ إسماعيل الطلب، ولكنه مات قبل إتمام إجراءات الزواج، ونُقل قاضي القضاة إبراهيم أفندي إلى الديار الرُّومية، فأعادت العائلة النظر في موضوع الزيجة، ربما لتجنيب الفتاة القاصر مشقة الاغتراب بعيدًا عن الأهل. وما لبثَت أن تزوجت عام ١٠٣٥ﻫ/ ١٦٢٥م — بعد وفاة أبيها بقليل — من محمد ابن أحد أمراء المُتفرِّقة الأمير أحمد ابن السيد الشريف إبراهيم،٢١ وبذلك دخلت فاطمة (ستيتة) دائرة جديدة من خلال هذه الزيجة هي دائرة الطبقة العسكرية الحاكمة، وقد حافَظَت على هذا الارتباط في زيجاتها الثلاث.
وتابعت أخوات ستيتة الأخريات خطاها في الزواج من أفراد الطبقة الحاكمة، سواء في ذلك مَن وُلِدنَ لأمَّهات من المُستولَدات أو من وُلِدن لزوجات حرائر. فتزوجت أم الهنا (بنت عطية الرحمن) من كاتب الخزينة العامرة القاضي شمس الدين بن مهلهل الجيزي، بينما تزوجت آمنة (بنت المستولدة رازية البيضاء) من شيخ الإسلام محمد بن تاج الدين الأميني الحنفي. وبعد ذلك بجيل تزوَّجت كريمة بنت زكريا أبو طاقية من إحدى الشخصيات الدينية الرفيعة بالمجتمع القاهري هو مولانا الشيخ أبو القصيص عبد الوهاب شيخ الساداتية الوفائية، وهي الطريقة التي كانت — إلى جانب الطريقة البكرية — أهم وأغنى الطرق الصوفية في مصر.٢٢ وكما حدث مع إسماعيل أبو طاقية ذاته، تزوَّجت بناته داخل دائرة التجار الشوام أولًا، ثم ما لبثنَ أن تزوَّجن من خارج تلك الدائرة المُغلَقة، فشملت زيجات بعض بناته وحفيداته روابط مُصاهرة مع أفراد من الشرائح العليا للمُجتمع القاهري. وكان إيقاع التغير بالنسبة لنساء العائلة بطيئًا.
ظلَّ صيت أبو طاقية — الذي عمَّر بعده ردحًا من الزمان — يُؤثر على الطريقة التي مارس بها أبناؤه حياتهم لوقت طويل، فاستفاد بعضهم من المنافع التي جلَبها لهم اسم أبو طاقية حتى في مجال المصاهرة، ولم يكن هناك من بين أبناء إسماعيل أبو طاقية من يبدو — في المصادر الوثائقية — قويَّ الشكيمة سوى إحدى بناته، وليس ابنه أو بناته الكبريات. فكانت أم الهنا لا تزال قاصرًا عندما تُوفي إسماعيل عام ١٦٢٤م، ولكنها ورثت عن أبيها قوة شخصيتِه، فكانت مُعتزةً بنفسِها، مُدركةً لما يمكن أن يعود عليها بالنفع من وراء اسم عائلتها وما كان لها من مكانة مرموقة. ويتَّضح ذلك من صيغة عقود زواجها، وخاصة تلك الشروط التي أدرجتها بالعقود واستهدفت فرض ضوابط معيَّنة على سلوك الزوج، سواء في عقد زواجها من تاجر فارسي عام ١٠٣٥ﻫ/ ١٦٢٥م، أو زواجها من كاتب الخزينة العامرة عام ١٠٤١ﻫ/ ١٦٣١م.٢٣ وكانت الشروط التي وردت بعقود زواجها تتمشَّى — إلى حدٍّ ما — مع ما جرى العمل به قانونًا بالقاهرة حينئذٍ، وتُشير عقود الزواج في تلك الحقبة إلى أنه كان شائعًا بين التجار والحرفيِّين إضافة بندَين أو ثلاثة بنود في عقود الزواج تتصل بالحد من تعدُّد الزوجات، وغالبًا ما كانت تقصر الزواج على زوجة واحدة، وتحديد مواصفات السكن الذي يقيم به الزوجان، كما تُحدِّد — أحيانًا — النفقة الخاصة بالزوجة، وبذلك كان إدراج مثل تلك الشروط في عقد زواج أم الهنا ممارسة لما جرى اتباعه عندئذٍ في مثل هذه الأحوال، وتلك ظاهرة تُحسب لصالح الوضع القانوني للنسوة في العالم الإسلامي، مقارنة بما كانت عليه أحوال النساء المُعاصِرات لهنَّ في فرنسا وإنجلترا. وتُشير دراسة عن المرأة في إنجلترا إلى أن حقَّ الطلاق والزواج مرةً أخرى — حتى نهاية القرن الثامن عشر — الذي تقرَّر بموجب قانون أصدره البرلمان، كان قاصرًا على الأزواج الذين يُثبتون على زوجاتهم ارتكاب الزنا.٢٤
ولكن الشروط التي جاءت بعقود زواج أم الهنا كانت — في الواقع — أكثر إحكامًا من الشروط التي جاءت بالعقود العادية. ويُوضِّح ذلك عقد زواجها من مولانا القاضي شمس الدين محمد بن المهلهل الجيزي، كاتب الخزينة العامرة، عام ١٦٣١م. فقد كان للرجل زوجتان بالفعل، إحداهما تُقيم بالجيزة والأخرى بمصر (القاهرة)، كما كانت له مُستولَدة. ومع ذلك قبلت أم الهنا أن تتزوَّجه مع علمها بزيجاته الأخرى، وربما كان ذلك الزواج الثالث بالنسبة له، فاشترطت عليه ألا يتزوَّج بأخرى، ولا يتسرَّى بواحدة من الجواري؛ وألا يُلزمها بالسكنى مع زوجتَيه في بيت واحد، أو حتى في بيت قريب من مكان إقامتهما. وهكذا كان باستطاعة بنت أبو طاقية — حتى في حالة تعدُّد الزوجات — أن تضع ما شاءت من الضوابط على سلوك الزوج، حتى لو كان من أصحاب المناصب الكبيرة، كذلك كشفت عن قدرتها على توجيه الأوضاع لصالحها من خلال مجموعة من الشروط غير العادية التي أضافتها إلى العقد، إلى جانب بنوده العديدة العادية. فقد أضافت أم الهنا إلى عقد الزواج بندًا يُلزم الزوج باتباع العدل في معاملة زوجاته، فلا يُفضِّل إحداهنَّ على غيرها، وهو التزام أخلاقي — وليس قانونيًّا — في الإسلام. ولما كانت الشريعة لا تنصُّ صراحة على عقاب الزوج الذي يَحيد عن مبدأ العدل في معاملة زوجاته، فقد أخذت أم الهنا الأمر على عاتقها — بإضافة هذا البند الذي كان ملزمًا للزوج، ويجعل الطلاق من حقِّها في حالة الإخلال به، واشترطت في العقد ألا يبيت الزوج ليلتين متتاليتَين خارج بيتها إذا كان موجودًا بالقاهرة دون عذرٍ شرعي، ودون إذن من أم الهنا وأمها وأخيها.٢٥ ومن النادر أن نجد بين المئات من عقود الزواج التي تتضمَّنها سجلات المحكمة شروطًا على هذه الدرجة من الإحكام والتشدُّد مع الزوج، وهو ما يُمكن تفسيره بما كان لأم الهنا من شخصية طاغية، وبالجاه الذي استمر آل أبو طاقية يتمتعون به.

وتُوفِّر لنا المصادر التي استخدمناها فرصة إمعان النظر في المظاهر الشخصية للحياة العائلية، لنرى كيف شكَّلت العلاقات الخاصة داخل العائلة، حظَّ آل أبو طاقية — أحيانًا — خارج نطاق الهيكل التراتبي الاجتماعي للعائلة. وتُوجد إشارات بسجلات المحكمة تُساعدنا على أن نرى ما وراء الهيكل التقليدي للعائلة من المظاهر الخاصة لحياة إسماعيل أبو طاقية. فقد دفعه الشوق إلى أن يكون له ابن يُعينه في كهولته، وعلمُه بعجز ولده زكريا عن تحقيق ذلك بصورة مرضية، إلى أن يَعتمد كثيرًا على أحمد بن عريقات — صهره وابن أخته ليلى — في رعاية أعماله التجارية في السنوات الأخيرة من عُمره. ومع تناقص طاقة إسماعيل على العمل، كان يَزداد اعتماده أكثر فأكثر على أحمد عريقات لإدارة أموره، وتحمُّل بعض مسئولياته الشخصية، ووكَّله عنه رسميًّا أمام المحكمة لتولي أمور التجارة نيابة عنه، وأشركه في شئون أعماله أحيانًا. وعندما أقام وقفه عام ١٦١٩م عيَّن أحمد عريقات ناظرًا للوقف بعد وفاته، ليتولى إدارته ومراقبة إيراداته ومصروفاته، ومراعاة إنفاقها وفق ما جاء بحجة الوقف، فكان له حق توزيع الدخل على المُنتفعين بالوقف من أبناء إسماعيل. ويوضح ذلك مدى الثقة التي خصَّه بها خاله. وعندما أقعد المرض إسماعيل، وحال بينه وبين العمل، تولى أحمد عريقات إدارة أعماله كلها، وتولى مسئولياته في التجارة ورعاية العائلة. وكافأه إسماعيل بجعله شريكًا لأبنائه في الانتفاع بوقف الوكالة الكبرى، وهي ميزة لم يتمتَّع بها صهره الآخر زوج ابنته فردوس. وبعبارة أخرى، احتلَّ أحمد عريقات مكان الابن عند إسماعيل أبو طاقية، واعتمد عليه اعتمادًا تامًّا، في وقتٍ كان فيه ابنه زكريا قاصرًا، لا يستطيع أن يمدَّ له يد العون.

ورغم أهمية التراتب الاجتماعي داخل العائلة، كانت هناك مساحة للتعبير الذاتي عن النفس تقوم به زوجة من الزوجات، أو واحدة من البنات، الذي يَبلغ درجة التأثير على العائلة. وتُشير مجموعة مُتفردة من القضايا التي نظرتها المحكمة، يعود تاريخها إلى عام ١٠٣٥ﻫ/ ١٦٢٥م إلى بروز ظاهرة هامة تتصل بالعلاقات العائلية، ذات صلة بتركة أبو طاقية. فعند وفاته عام ١٠٣٤ﻫ/ ١٦٢٤م كانت له ثلاث بنات بالغات من بين عشرة أبناء، أما الحادية عشرة فقد ولدت بعد وفاته، وبذلك تولى أحمد عريقات (ابن أخته وصهره) الوصاية على القُصَّر، وكان إسماعيل قد أوصى بذلك قبل وفاته، فعندما أصابه مرضٌ عُضال في ذي الحجة ١٠٣١ﻫ/ ١٦٢١م، خشي دنوَّ أجله، وفكَّر في مصير أبنائه القُصَّر من بعده، فاستدعى أحد كتاب المحكمة إلى بيته ليعد وثيقة تسجل بسجلات المحكمة، مفادها تنصيب أحمد عريقات وصيًّا على أبنائه زكريا، وزين التجار، وطاهرة، وآمنة، وفاضلة، وستيتة، إضافة إلى الجنين الذي تحمله مستولدته صايمة البيضاء، فأصبح من حق أحمد عريقات ممارسة البيع والشراء للأملاك، وعقد الصفقات نيابة عنهم، والإنفاق على كسوتهم دون مبالغة أو تبذير، حتى إذا بلغوا سن الرشد، سلَّم كلًّا منهم نصيبه الشرعي من الإرث.٢٦ وعندما مات إسماعيل بعد ذلك بثلاث سنوات، اعترض الورثة القُصَّر بحدَّة على وصاية أحمد عريقات، ولعلهم أحسُّوا أنه يستغلُّ أموالهم لمصلحته، رغم صعوبة تحديد تصرُّفات مُعيَّنة كانت موضع شكوكهم. فإذا كان ذلك شأن أحمد عريقات، فإنه يعني أن ثقة إسماعيل فيه كانت في غير مَوضِعها، وأن الرجل أساء تقدير ولاء أحمد له. ومهما كان الأمر، فإن زين التجار كانت أول من أرسلت وكيلًا عنها إلى القاضي أعلنَ أنها بلغت سن الخامسة عشرة، وأنها لم تَعُد قاصرًا، لذلك من حقها أن تتولى إدارة نصيبها من التركة بنفسها، فوافق القاضي على طلبها، وما لبثَ إخوتها زكريا وفاضلة وفاطمة (ستيتة) أن حذوا حذوها، وبعد ذلك بوقتٍ قصير لحقَت بهم آمنة، فأصبحوا مُستقلِّين ماليًّا، رغم اعتراض عريقات.٢٧ وقد أثبتت الأيام صحة نظرتهم إلى أحمد عريقات، فتُشير إحدى القضايا التي نظرتها المحكمة بعد ذلك بسنوات إلى إهماله إدارة وقف أبو طاقية الذي كان ناظرًا عليه. ولا ريب أن عطية الرحمن استطاعَت — بما لها من فِطنة — أن تدرك بسرعة حقيقة الأمر، وتدفع الأبناء إلى اللجوء للمَحكمة للتخلُّص من وصاية عريقات، رغم أن ثلاثة منهم (فاضلة، وفاطمة «ستيتة»، وآمنة) لم يكنَّ مِن بناتها. غير أنَّ اللجوء للمحكمة في مجتمع يُقدر مكانة العائلة، ويَميل إلى حل المنازعات، العائلية بالتراضي، لم يكن أمرًا بسيطًا، وكانت نتائجه بالغة الأهمية بالنسبة لمستقبل العائلة، هذا إذا صحَّ ما قيل من أن أحمد عريقات كان يستغلُّ أموال العائلة لصالحه. فكلَّما استطاع الورثة الاستقلال بأنصبتهم مبكرًا كان ذلك أفضل بالنسبة لهم.

(٣-٤) تفرق العائلة وإعادة ترتيب أمورها

لقد جمع إسماعيل أبو طاقية حوله عائلة كبيرة، ورتَّب أمورها بالصورة التي تَعكِس وضعه الاجتماعي، وللوفاء بما يتطلَّبه ذلك الوضع من حاجات. وأدَّت وفاته إلى اختلال بنية العائلة؛ لأنَّ غيابه جعل الإبقاء على الزوجات والمستولدات والأبناء معًا بنفس الترتيب من الصعوبة بمكان. واتَّضح ذلك فورًا، واتخذ التعبير عنه عدة سبل … فلم يكن هناك من يشغل مكان إسماعيل كربٍّ للعائلة؛ لأنَّ ولده الوحيد زكريا كان قاصرًا، ولعل أخاه ياسين لم يشأ أن يلعب ذلك الدور، كما أن السنوات المعدودات التي عاشها بعد وفاة أخيه كانت حافلة بالأحزان والآلام؛ إذ فقَد جميع أبنائه بما فيهم ولده الشاب عمر، وما لبث ياسين أن مات عام ١٠٤١ﻫ/ ١٦٣١م، كذلك لم يستطع أحمد عريقات — صهر إسماعيل — أن يكسب ثقة العائلة. لذلك يبدو أن العائلة مرَّت — بعد وفاة إسماعيل — بمرحلة تتَّسم بالقلق والاضطراب إلى حين، ثم ما لبثت أن استقرت أحوالها في ظل ترتيبات جديدة.

وكان من اللحظات المريرة في حياة العائلة، تركهم لبيت درب الشبراوي الذي قضوا فيه سنوات طوال، ولعب الأبناء في فنائه، وذلك بعد وفاة إسماعيل بسنوات قلائل.٢٨ فقد تمَّ تأجير البيت، لتطوي بذلك صفحة من تاريخ العائلة. وكان ترك البيت الذي قضى فيه إسماعيل معظم وقته، يعني تفرُّق العائلة التي جمعها إسماعيل حوله في حياته، إذ اتجه كلٌّ منهم إلى البحث عن مسكن آخر يُناسبه، فانتقلت بدرة — مثلًا — إلى بيت بنفس الجيرة، وبقيت عطية الرحمن وزكريا وأم الهنا وطاهرة في البيت الآخر الذي يقع بدرب الطاحون. ولا نعرف شيئًا عما فعلته رومية، التي ربما تكون قد انتقلت إلى مسكن مستقل، وما لبثت صايمة البيضاء — التي أشاعت الدفء في السنوات الأخيرة من عمر إسماعيل — أن تزوَّجت من أحد أمراء أوجاق المتفرِّقة، أما آمنة بنت إسماعيل من إحدى مستولداته، فقد عاشت وقتًا ما ببيتٍ كان يملكه والدها بخط الخرشتف.

واتَّخذ الجيل الثاني من آل أبو طاقية لنفسه ترتيبًا جديدًا للعائلة، لم يتمركز حول أحمد عريقات، أو ياسين أبو طاقية، أو زكريا، أو غيرهم من أزواج بنات العائلة، وإنما تمركز حول عطية الرحمن؛ إذ جمعت الأرملة العجوز أولادها وأحفادها حولها؛ فقد أدَّى تقسيم تركة إسماعيل على عدد كبير من الورثة إلى تحجيم ثروة كل وريث؛ ومن ثم أصبح تجميع أبناء وأحفاد عطية الرحمن في بيت واحد أمرًا ضروريًّا.

وكان وراء عملية إعادة ترتيب أمور العائلة، مناورة قامت بها أم الهنا التي بادرت بإحكام سيطرتها على أولئك الذين بالقُرب منها، ولم يكن ثمرةَ عمل يتَّصل بأصول السلوك المتعارف عليه، وعَقدا زواج أم الهنا يُوضِّحان دورها في إعادة هيكلة عائلة أبو طاقية في العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن السابع عشر؛ فقد كان دورها أساسيًّا في تشكيل بِنية العائلة ذات الطابع الأمومي، المتمركزة حول الأم. وجاء هذا الترتيب ضمن شروط عقدي زواج أم الهنا؛ فقد وافق الزوجان القزويني وابن المهلهل — كلٌّ في عقد زواجه منها — أن يعيش في بيت عطية الرحمن، حيث كان زكريا يُقيم مع أمه عندئذٍ، وكان متزوجًا، ويعيش مع زوجته بنفس البيت.٢٩ وتجلَّت عناصر سلطة الأم من البند الذي نصَّ على قبول الزوج بإرادته الحرة أن يعيش مع أمها وأخيها وشقيقاتها وأزواجهن، دون إثارة المشاكل. فجاء بالنص: «قرر الزوج … أنه متى نقلها من تحت كنف شقيقها، أو كنف أمها بغير رضاها ووالدتها وشقيقها المذكورين، أو تضرَّر من والدتها وأخيها وأخواتها وأزواجهنَّ وأتباعهن … وأبرأته من قرش واحد من مؤخر صداقها، تكون حين ذلك طالقًا طلقة واحدة …»

وأصبحت بذلك عطية الرحمن ربة بيت العائلة، تتمتَّع بقدر مُعيَّن من السلطة على ولدها وبناتها وأزواجهم. وقد عُمرت كثيرًا بعد هناء وبدرة ورومية؛ فقد عاشت لترى أبناءها يَكبُرون ويتزوَّجون، وتولَّت إدارة شئون العائلة كربة لبيتِها، تأمُر فتطاع، ويُلبي الجميع رغباتها. وعاش تحت كنفها زكريا وزوجته وأولاده، وأم الهنا وزوجها، ثمَّ ولدها الصغير محمد. وكان يقع بجوار بيتها المنزل الذي عاشت فيه جميعة وزوجها أحمد عريقات، الذي كان إسماعيل قد بناه لابنتِه، وجعَل له بابًا يتصل ببيت العائلة. واستمرَّت عطية الرحمن تزاول عملها كناظرة لوَقف العائلة، تتولى أمر الإيرادات والمصروفات الخاصة بالوقف، كما عاونت أبناءها على رعاية أملاكهم، مُستفيدين في ذلك من خبرتها.

ولكن هذا الوضع كان انتقاليًّا كسابقه، ما لبث أن انتهى بعد عدة سنوات. وكانت الصدمة الأولى التي تلقَّتها عطية الرحمن. وفاة ابنتها أم الهنا حوالي عام ١٠٤٥ﻫ/ ١٦٣٥م (ثم لحق بها ولدها الصغير محمد بعد قليل). فتأثَّر البيت بفقدها تأثرًا بالغًا؛ لأنها كانت قد ورثت عن أبيها القُدرة على تجميع أفراد العائلة وتقوية الروابط بينهم، وقد حرص زكريا — بعد ذلك — أن يُطلق اسمها على طفلةٍ رُزق بها. ولم يكن ذلك نهاية الكوارث التي مُنيت بها العائلة، إذ ماتت جميعة أيضًا عام ١٠٥٣ﻫ/ ١٦٤٣م، ولحقَ بها زوجها أحمد عريقات عام ١٠٥٧ﻫ/ ١٦٤٧م الذي كان من الشخصيات المحورية في العائلة لوقت طويل.٣٠ وكانت عطية الرحمن — عندئذٍ — في الستينيات من عمرها، تعاني الشيخوخة والوهن، وتَعتمد كثيرًا على زكريا في تصريف أمورها، وضعف نفوذها تدريجيًّا. وما لبثت أن ماتت بعد ذلك بنحو خمس سنوات.

(٣-٥) عائلة أبو طاقية: الخواجة يحيى أبو طاقية

الخواجة عبد الرازق

  • (١)

    الخواجة أحمد (تزوج من ليلى أبو طاقية تُوفي ١٠٢٥ﻫ/ ١٦١٦م).

  • (٢)

    رومية (تزوَّجت من إسماعيل أبو طاقية).

الخواجة أحمد (تُوفي ١٠٠٥ﻫ/ ١٥٩٦م).

  • (١)

    الخواجة إسماعيل (تُوفي ١٠٣٤ /١٦٢٤).

  • (٢)

    الخواجة ياسين (تُوفي ١٠٤٢ﻫ/ ١٦٣٢م).

  • (٣)

    ليلى (تزوَّجت الخواجة أبو بكر عريقات، أحمد أبو طاقية، الخواجة عبد النبي عريقات).

  • (٤)

    سيدة الكل (تزوَّجت الخواجة عثمان الحمصي).

  • (٥)

    بدور.

(٣-٦) الخواجة إسماعيل أبو طاقية

الزوجات

  • (١)

    بدرة عريقات (تُوفيت قبل ١٠٤٤ﻫ/ ١٦٣٤م).

  • (٢)

    رومية أبو طاقية.

  • (٣)

    عطية الرحمن بنت أبو بكر الأحيمر (تُوفيت ١٠٦٣ﻫ/ ١٦٥٢م).

  • (٤)

    هناء البيضاء (تُوفيت قبل ١٠٣٤ﻫ/ ١٦٢٤م).

الأبناء

  • (١)

    فردوس (تزوَّجت الخواجة عطية عريقات، القاضي شهاب الدين أحمد بن حجازي).

  • (٢)

    جميعة (تزوَّجت أحمد عريقات، تُوفيت ١٠٥٣ﻫ).

  • (٣)

    أم الهنا (تزوجت الخواجة محمد القزويني، القاضي شمس الدين محمد بن المهلهل، تُوفيت ١٠٤٥ﻫ).

  • (٤)

    زين التجار (تزوَّجت القاضي ابن المهلهل بعد وفاة أختها أم الهنا).

  • (٥)

    زكريا (تُوفي ١٠٨٠ﻫ/ ١٦٦٩م).

  • (٦)

    فاضلة (تزوَّجت الخواجة مصطفى علي الدين الشمسي).

  • (٧)

    طاهرة (تزوَّجت الخواجة منصور بن الوراق).

  • (٨)

    فاطمة الشهيرة بستيتة (تزوَّجت محمد بن الأمير أحمد بن إبراهيم المتفرقة، الأمير محمد بن كيوان، الأمير بشير أغا).

  • (٩)

    آمنة (تزوَّجت أحمد بن محمد تاج الدين الأميني).

  • (١٠)

    فاطمة (ماتت طفلة ١٠٣٤ﻫ/ ١٦٢٤م).

  • (١١)

    صالحة (ولدت وماتت رضيعة ١٠٣٤ﻫ/ ١٦٢٤م).

زكريا بن إسماعيل أبو طاقية

  • (١)

    كريمة (تزوَّجت شيخ سجادة السادات الوفائية أبا القصيص عبد الوهاب عام ١٠٥٨ﻫ/ ١٦٤٨م).

  • (٢)

    أم الهنا (تزوَّجت الشيخ زين الدين عبد اللطيف ابن القاضي أحمد حجازي في ١٠٨٨ﻫ/ ١٦٧٧م).

١  Clive Homes, “Popular Culture? Witches, Magistrates and Divines in Early Modern England,” in Steven Kaplan, ed., Understanding Popular Culture, Europe from the Middle Ages to the Nineteenth Century, Berlin 1984, pp. 85–111.
٢  القسمة العسكرية ١٤١٫١٥ بتاريخ ٩٩٥/ ١٥٨٦، ص٩٠-٩١، الباب العالي ٧٨٣٫٥٨ بتاريخ ١٠٠١ﻫ/ ١٥٩٢م، ص٣٢٠-٣٢١.
٣  الدشت ١٠٦ بتاريخ ١٠٠٠ﻫ/ ١٥٩١م، ص٦٤٢.
٤  القسمة العربية ٢٥٣٫٢١ بتاريخ ١٠٢٥ﻫ/ ١٦١٦م، ص١٧٩؛ الباب العالي ١٢٦٫١٠٠ بتاريخ ١٠٢٦ﻫ/ ١٦١٧م، ص١٤٣.
٥  الباب العالي ١٦٧٩٫٩٧، ص٢٢٢.
٦  الباب العالي ١٤١٢٫٨٢ بتاريخ ١٠١٣ﻫ/ ١٦٠٤م، ص٢٩٣.
٧  Brunschwig, “Abd,” Encyclopaedia of Islam.
٨  الباب العالي ١٢٩٣٫٩٠ بتاريخ ١٠١٧ﻫ/ ١٦٠٨م، ص٢٤٩.
٩  ناقشت عفاف لطفي السيد دور المرأة في الأعمال المالية بعد ذلك التاريخ بنحو قرنين من الزمان، انظر Afaf Lutfi al-Sayyid Marsot, “Women and Men in Late Eighteenth-Century Egypt,” Austin 1955.
١٠  عند وفاة إسماعيل، اشتركت زوجاته الثلاث في ثُمنِ (١/ ٨) التركة، وهو نصيب الزوجة (أو الزوجات في حالة تعدُّدهن) من تركة الزوج حسب الشريعة الإسلامية، وبذلك نالت عطية الرحمن ثلث الثمن (حوالى ٤٫٢٪).
١١  الباب العالي ١٠٧٧٫١٠٠ ص١٥٤، وانظر نفس المصدر ١١٤٦، ص١٦٧، و١٤٣٧٫٨٦ بتاريخ ١٠١٥ﻫ/ ١٦٠٦م، ص٢٥٧.
١٢  Roger Thompson, “Women in Stuart England and America,” A Comparative Study, London, 1974, pp. 162-3.
١٣  Adrienne Rogers, “Women and the Law in Samia I. Spencer,” ed. French Women and the Age of Enlightenment, Bloomington 1984, p. 35.
١٤  البكري، الكواكب، ورقة ٤٢ أ.
١٥  Lane, p. 62.
١٦  الباب العالي ١٩٨٫١٠٣ بتاريخ ١٠٣١ﻫ/ ١٦٢١م، ص٢١٠–٢١٦.
١٧  الباب العالي ١٠٣، القضايا ٤٢٢٫٤٢٠–٤٢٨ بتاريخ ١٠٣١ﻫ/ ١٦٢١م، ص١٣٦–١٣٨، وكل واحدة من تلك الوثائق عبارة عن حُجة إعتاق عبد.
١٨  الدشت ١١٨، بتاريخ ١٠١١ﻫ/ ١٦٠٢م، ٢٦١.
١٩  القسمة العسكرية ١٨٥٫٣٨، بتاريخ ١٠٣٤ﻫ/ ١٦٢٤م، ص١٥٤–١٥٦.
٢٠  القسمة العسكرية ٣٨ بتاريخ ١٠٣٥ﻫ/ ١٦٢٥م، ٣١٧، ص٢٥٠-٢٥١.
٢١  الباب العالي ٧٢٣٫١٠٧ ص١٠٧.
٢٢  الباب العالي ٩٢٫١١٤ بتاريخ ١٠٤١ﻫ/ ١٦٣١م، ص٣٧؛ الباب العالي ٣٠٦٫١٣٧ بتاريخ ١٠٧٠ﻫ/ ١٦٥٩م، ص٧٧-٧٨؛ الباب العالي ٣٢٤٫١٢٦ بتاريخ ١٠٥٨ﻫ/ ١٦٤٨م، ص٩٩.
٢٣  تدلنا وثائق المحكمة الشرعية على أن عدد التجار الفرس بالقاهرة في تلك الحقبة كان أقل مما كان عليه من قبل في أوائل القرن السادس عشر، ولعل ذلك يرجع إلى الحروب التي دارت بين العثمانيين والصفويِّين.
٢٤  Kathrine Rogers, “Feminism in Eighteenth Century England,” Urbana 1982, p. 9.
٢٥  الباب العالي ٩٢٫١١٤ بتاريخ ١٠٤١ﻫ/ ١٦٣١م، ص٣٧.
٢٦  الباب العالي ٤١٤٫١٠٣ بتاريخ ١٠٣١ﻫ/ ١٦٢١م، ص١٣٥.
٢٧  القسمة العسكرية ٤٨١٫٣٨ بتاريخ ١٠٣٥ﻫ/ ١٦٢٥م، ص٣٢٤؛ نفسه ٣٩٢٫٣٩ ص٢٥٤–٣٩٣، ص٢٥٤–٣٩٥، ص٢٥٥.
٢٨  الباب العالي ٨٠٧٫٦٧٫١١١ بتاريخ ١٠٣٨ﻫ/ ١٦٢٨م، ص١٩و٢٤٣.
٢٩  الباب العالي ٩٨٩٫١١٥ بتاريخ ١٠٤٢ﻫ/ ١٦٣٢م، ص١٩٩.
٣٠  الباب العالي ٢١٥٫١٢١ بتاريخ ١٠٥٣ﻫ/ ١٦٤٣م، ص٤٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤