سيكننرع

١

كانت السفينة تصعد في النهر المقدس، ويشقُّ مقدمها المتوَّج بصورة اللوتس الأمواج الهادئة الجليلة، يحثُّ بعضها بعضًا منذ القِدَم كأنها حادثات الدهر في قافلة الزمان، بين شاطئَين انتثرت على أديمهما القرى، وانطلق النخل جماعات ووحدانًا، وترامَتِ الخضرة شرقًا وغربًا، وكانت الشمس تعتلي كبد السماء ترسل أسلاكًا من النور إذا غمر النبت رفَّ رفيفًا، وإذا مسَّ الماء تلألأ لألاء، وقد خلا سطح الماء إلَّا من بعض زوارق صيد جعل أصحابها يوسعون للسفينة الكبيرة وهم يرمقون صورة اللوتس — رمز الشمال — بعين التساؤل والإنكار.

وكان يتصدر المقصورة رجل بدين قصير القامة، مستدير الوجه، طويل اللِّحية، أبيض البشرة، يرتدي معطفًا فضفاضًا ويقبض بيمناه على عصا غليظة ذات مقبض ذهبي، جلس بين يدَيه رجلان في مثل بدانته وزيِّه، تُداني بينهم جميعًا روح واحدة، وكان السيد يطيل النظر إلى الجنوب بعينَين مظلمتَين أضناهما الملل والتعب، ويُلقي على مَن يصادفه من الصَّيَّادِين نظرة شرزاء، وكأنَّه برم بالصَّمت فتحوَّل إلى رَجُلَيه وتساءل قائلًا: تُرى هل يُنفَخ غدًا في الصور فيتبدَّد هذا السلام الثقيل المخيم على ربوع الجنوب، وتفزع هذه الدُّور المطمئنة، ويحلِّق نسر الحرب في هذا الجو الآمن؟ .. آه .. ليت هؤلاء الرِّجال يعلمون أيَّ نذير تحمل هذه السَّفينة لهم ولسيدهم!

فهزَّ الرجلان رأسَيهما موافقةً على كلام السيد وقال أحدهما: لتكن حرب أيُّها الحاجب الأكبر، ما دام هذا الرَّجل الذي ارتضاه مولانا حاكمًا على الجنوب يأبى إلا أن يضع على رأسه تاجًا كالملوك، ويبني القصور كالفراعين، ويسير في طيبة مرحًا لا يبالي شيئًا.

فجعل الحاجب يصرف بأنيابه، وعبثَ بعصاه فيما بين قدمَيه بحركة تدل على الحنق والغيظ وقال: لا يوجد حاكم مصري سوى حاكم إقليم طيبة هذا، فإذا تخلَّصْنا منه خلص لنا حُكم مصر إلى الأبد، وبات مولانا الملك على طمأنينة لا يخشى تمرُّد أحد عليه.

قال ثاني الرجلَين بحماس، وكان لا ييئس أبدًا من أن يصير يومًا حاكمًا لمدينة عظيمة: إنَّ هؤلاء المصريين يكرهوننا.

فأمَّنَ الحاجب الأكبر على رأيه وقال بلهجة عنيفة: نعم .. نعم .. وأهل منف أنفسهم عاصمة مملكة مولانا يُظهرون الطاعة ويُضمرون الكراهية .. لقد نفدت الحِيَل ولا حيلة الآن سوى السوط والسيف!

فابتسم الرجلان أول مرة، وقال ثانيهما أيضًا: بورك رأيك أيها الحاجب الحكيم، فإنَّ السوط وسيلة التفاهم التي لا تُجدي سواها مع المصريين.

ولاذ الرجال الثلاثة بالصمت برهة، فما يُسمع إلا وَقْع المجاديف على سطح الماء، ثم لاحت من أحدهم التفاتة إلى زورق صيد يقف في وسطه فتًى مفتول الساعدَين، عاري الجسد، إلا من وزرة تغطِّي وسطه، وقد لفحَتِ الشمس بشرته، فقال بتعجُّب: كأنَّ هؤلاء الجنوبيين مشتقون من صميم أرضهم!

فقال الحاجب بسخرية: لا تعجبْ؛ فإنَّ من شعرائهم مَن يتغنَّى بسمرة اللون.

– حقًّا .. إنَّ لونهم ولوننا كالطين والشعاع السني.

قال الحاجب: حدَّثَني بعض رجالنا عن هؤلاء الجنوبيين فقال: إنَّهم على لونهم وعريهم ذوو صلف وكبرياء، وإنَّهم يزعمون أنَّهم منحدرون من أصلاب الآلهة، وإنَّ بلادهم منبت الفراعنة الحقيقيين .. ربَّاه .. إنِّي أعرف الدواء لكل هذا .. لا ينقص إلا أن تمتد ذراعنا إلى حدود بلادهم.

وما انتهى الحاجب من كلامه حتى سمع أحد رَجُلَيه يقول، وهو يشير بإصبعه إلى الشرق: انظر .. أترى طيبة؟ هذه طيبة!

فنظروا جميعًا إلى حيث يشير الرجل، فرأوا مدينة كبيرة يحيط بها سور عظيم، بدَتْ خلفه رءوس المسلَّات عالية كأنَّها عُمُد ترفع القبة السماوية، ورُئِيَت في ناحيتها الشمالية جدران معبد آمون الشاهقة، رب الجنود المعبود، فما وقعت العين فيها إلا على مارد عظيم يتعالى إلى السماء، فأُخِذ الرجال، وقطَّب الحاجب الأكبر وتمتم قائلًا: نعم .. هذه طيبة .. وقد أُتيحَت لي رؤيتها من قبل، وما أزداد على الأيام إلا رغبة في أن تعنو الهام لمولانا الملك، وأن أرى موكبه الظافر يشق شوارعها.

فقال أحد الرجلَين: وأن يُعبَد بها ربنا «ست» المعبود!

وخفَّفت السفينة من سرعتها، ومضت تدنو من الشاطئ رويدًا رويدًا مجتازة الحدائق الغن، التي تنحدر مُدرَّجاتها المعشوشبة حتى تُسقى من النهر المقدس، وقد لاحت وراءها قصور طيبة الشم، وأما غربي الشاطئ الآخَر، فتجثم مدينة الأبدية، حيث يرقد الخالدون في الأهرام والمصاطب والمقابر، تغشاهم جميعًا وحشة الموت.

وتوجَّهَت السفينة إلى ميناء طيبة، تشق سبيلها بين زوارق الصيد والسفن التجارية، وتجذب نحوها الأنظار لضخامتها وجمالها، وصورة اللوتس التي تزيِّن مقدمها، حتى حاذَتِ الرصيف، فألقت كلَّابها الضخم، وقصد إليها بعض الحراس، وانتقل إليها ضابط يرتدي فوق وزرته سترة من الكتان الأبيض، وسأل أحد رجالها قائلًا: من أين انحدرت هذه السفينة؟ .. وهل تحملون تجارة؟

فحيَّاه الرجل، وقال «اتبعني». واصطحبه إلى المقصورة، حيث أدرك الضابط أنَّه ماثل بين يدَي حاجب كبير من حجَّاب قصر الشمال، قصر ملك الرعاة كما يدعونه في الجنوب، فانحنى احترامًا وأدَّى التحيَّة العسكرية، ورفع الحاجب يده ليردَّ التحيَّة في صلف ظاهر وقال بلهجة متعالية: أنا رسول فرعون، ملك الشمال والجنوب، وابن الرب ست، مولانا أبوفيس، إلى حاكم طيبة الأمير سيكننرع لأؤدِّي إليه ما حملته من البلاغ.

وأصغى الضابط إلى الرسول في انتباه ثم أدَّى التحيَّة مرة أخرى ومضى.

٢

ومضت ساعة من الزمان، ثم جاء السفينةَ رجل وقور، يميل إلى القِصَر، بادي النحافة، بارز الجبهة، فانحنى انحناءة وقور للرسول، وقال بصوت هادئ النبرات: إنَّ الذي يتشرَّف باستقبالك حور رئيس حجَّاب قصر الجنوب.

فحنى الرجل رأسه الفخم وقال بصوته الغليظ: وأنا خيان كبير حجَّاب القصر الفرعوني.

فقال حور: يسُرُّ مولاي أن يستقبلك في الحال.

فأبدى الرسول حركة وقال: «هلُمَّ بنا». وتقدَّمه الحاجب حور وتبعه الرجل يسير في خُطًا وئيدة، متوكئًا بجسمه البدين على عصاه وقد انحنى له الرجلان إجلالًا، وشعر خيان بغضاضة وساءل نفسه بحنق: «أما كان ينبغي لسيكننرع أن يحضر بنفسه لاستقبال رسول أبوفيس …؟» وضايقه جد المضايقة أن يسلك الرجل في استقباله سلوك الملوك. وغادرا السفينة بين صفَّين من الجند والضباط، ورأى خيان على الشاطئ ركبًا ملكيًّا في انتظاره تتقدَّمه عجلات حربية، وتتأخر عنه عجلات أخرى، وأدَّى له الجند التحيَّة، فردَّها بكبرياء، وركب عجلته وركب إلى جانبه حور، ثم تحرَّك الموكب الصغير في طريقه إلى قصر حاكم الجنوب، وتحركت عينا خيان في محجرَيهما ذات اليمين وذات الشمال تشاهدان المعابد والمسلات والتماثيل والسبل والقصور والأسواق وتيارات القوم التي لا تنقطع من جميع الطبقات؛ فالعامَّة بأجسامهم شبه العارية، والضباط بمعاطفهم الأنيقة، والكهنة بأثوابهم الطويلة، والسراة بعباءاتهم الفضفاضة، والنساء بأزيائهن الجميلة، فكأنَّ كلَّ شيء يشهد لعظمة المدينة، وأنَّها تنافس منف نفسها عاصمة أبوفيس. وأدرك الرسول أول وهلة أنَّ موكبه يلفت الأنظار بقوة، وأنَّ الناس تتجمَّع على جوانب الطريق لمشاهدته ولكن في برود وجمود، وجعلت أعينهم السود تفحص وجهه الأبيض ولحيته الطويلة بغرابة وإنكار وامتعاض، فشعر بثورة باطنية وغضب شديد لذاك الاستقبال البارد الذي مُنِي به أبوفيس العظيم في شخص رسوله، وساءه أن يبدو غريبًا في طيبة بعد انقضاء مائتي عام على هبوط قومه أرض مصر وتربُّعهم على عرش ملكها، وغاظه وأحنقه أن يحكم قومه مائتَي عام يحتفظ الجنوب خلالها بشخصيته وطابعه واستقلاله، فلا يبقى به رجل واحد من الهكسوس.

ثم بلغ الموكب ميدان القصر، وكان ميدانًا فسيحًا مترامي الأركان، تُقام على جوانبه دور الحكومة والوزارات، ومقر القيادة العليا للجيش، ويبدو في مكانه الوسيط القصر الجليل يبهر الأنظار مشهده الرائع؛ كان قصرًا عظيمًا كقصر منف نفسه، وكان جنود الحرس يعتلون أسواره، ويصطفُّون صفَّين لدى بابه الكبير، فلما اجتازه موكب الرسول صدحت الموسيقى بنشيد التحيَّة، وفيما كان الموكب يقطع أرض الفناء كان خيان يسائل نفسه قائلًا: هل يستقبلني سيكننرع وعلى رأسه التاج الأبيض؟

إنه يعيش عيشة الملوك ويتبع سلوكهم، ويتخذ لنفسه حكومة كحكوماتهم، فهل يلبس تاج الجنوب أمامي؟ هل يفعل ما أحجمَ عنه أجداده وما أحجمَ عنه أبوه نفسه سيكننرع؟

وترجَّل الرسول عند مدخل ممرِّ الأعمدة الطويل، ووجد في استقباله حُجَّاب القصر ورئيس الحرس الفرعوني وكبار الضباط، فأدوا له التحيَّة جميعًا، وساروا بين يدَيه إلى بهو الاستقبال الفرعوني، وكانت الردهة المؤدية إلى باب البهو مزينة الجانبين بتماثيل أبي الهول، وفي أركانها يقف ضباط عمالقة من رجال هابو الأشداء، وانحنى الرجال للرسول وأوسعوا له، فتقدَّمه الحاجب حور إلى داخل البهو وتبعه الرجل، ورأى في صدر المكان على مسافة غير قريبة من المدخل عرشًا فرعونيًّا يجلس عليه رجل مُتوَّج بتاج الجنوب وبيده الصولجان والعصا المعقوفة، وإلى يمين عرشه يجلس رجلان، وإلى شماله رجلان، وبلغ حور العرش يتبعه الرسول فانحنى لمولاه بإجلال، وقال بصوته الرقيق: مولاي، أقدِّم لذاتكم العالية الحاجب الأكبر خيان رسول الملك أبوفيس.

وانحنى عند ذاك الرسول تحيَّةً، فردَّ الملك تحيَّته وأشار إليه فجلس على كرسي أمام العرش، أما حور فقد وقف إلى يمين العرش، وأراد الملك أن يقدِّم إلى الرسول رجال مملكته، فأومأ بصولجانه إلى الرجل الذي يلي يمينه وقال: «أوسر آمون رئيس الوزراء»، ثم أشار إلى الذي يليه وقال: «نوفر آمون الكاهن الأكبر لآمون»، ثم تحوَّل إلى شماله وأومأ إلى مَن يليه قائلًا: «كاف قائد الأسطول»، وأشار إلى مَن يليه قائلًا: «بيبي قائد الجيش»، ولمَّا تمَّ التعارف وجَّه الملك بصره إلى الرسول وقال بصوت تدلُّ نبراته على السمو والرفعة الطبيعيتَين: نزلت منزلًا يرحِّب بشخصك وبمَن أولاك ثقته.

فقال الرسول: حفظك الرب أيها الحاكم الجليل، وإنِّي سعيد باختياري لمهمة السفارة في بلادكم الجميلة ذات الشهرة التاريخية!

ولم يغب عن سمع الملك قوله: «الحاكم الجليل» ولا فاته مغزاها، ولكن لم يُبدِ على وجهه أيَّ أثر لما اضطرب في نفسه، وكان خيان في تلك اللحظة يُلقي عليه نظرة سريعة فاحصة من عينَيه الجاحظتَين، فرأى الحاكم المصري رجلًا مهيبًا حقًّا، طويل القامة، مستطيل الوجه جميله، شديد السمرة، يميِّز ملامحه بروز في أسنانه العليا، وقد قدَّر له الحلقة الرابعة عمرًا، وكان الملك يظن أنَّ رسول أبوفيس جاء لما كانت تجيء به بعثات الشمال من أجله، أيْ طلب الأحجار والحبوب، وهو ما كان يعتبره ملوك الرعاة جزية، ورآه ملوك طيبة رشوة يكفُّون بها شر الغزاة، فقال الملك بهدوئه وجلاله: يسرني أن أستمع إليك يا رسول أبوفيس العظيم.

فاعتدل الرسول في جلسته كأنما يتوثَّب للنضال وقال بصوته الغليظ: منذ مائتَي عام لا تنقطع رسل الشمال عن ارتياد الجنوب، وفي كل مرة تعود راضية.

فقال الملك: أرجو أن تدوم هذه السُّنَّة الجميلة.

فقال خيان: أيها الحاكم إنِّي أحمل إليك ثلاث رغبات فرعونية: تتعلَّق الأولى بشخص مولاي فرعون، والثانية بربه المعبود ست، والثالثة بروابط المودة بين الشمال والجنوب.

فألقى إليه الملك بانتباهه وقد بدا على وجهه الاهتمام، فاستدرك الرجل قائلًا: شكا مولاي الملك في الأيام الأخيرة آلامًا مروعة تهز أعصابه في الليل، وأصواتًا منكرة تصك أذنيه الكريمتين مما أوقعه فريسة للسهاد والضنى، وقد دعا إليه أطباءه وقصَّ عليهم ما يلقى بليله فتفحصوه بعناية، ولكنهم عادوا جميعًا من فحصه بالحيرة والجهل، وكان الملك في رأيهم جميعًا سليمًا مُعافًى، ولما يئس مولاي فرغ إلى نبي معبد ست، فأدرك الحكيم داءه، وقال له: إن مبعث آلامه جميعًا أن خوار أفراس البحر الحبيسة بالجنوب يتسرَّب إلى قلبه، وأكَّد له ألا شفاء له إلا بقتلها.

وكان الرسول يعلم أنَّ الأفراس الحبيسة في بركة طيبة مُقدَّسة، فاختلس نظرة إلى وجه الحاكم ليبلو أثر كلامه، ولكنَّه وجده جامدًا صلبًا وإن تضرَّج بالاحمرار، وانتظر أن يعلِّق الرجل على كلامه، ولكنه لم ينبس بكلمة، وبدا عليه الإصغاء والانتظار، فقال الرسول: وفي أثناء مرض مولاي رأى فيما يرى النائم ربنا المعبود ست يزوره بجلاله ونورانيته، وعتب عليه قائلًا: أيجوز أن يخلو الجنوب كله من معبد يُذكر فيه اسمي؟ فأقسم مولاي أن يطلب إلى صديقه حاكم الجنوب أن يُشيِّد في طيبة معبدًا لست إلى جانب معبد آمون.

وسكت الرسول ولكن سيكننرع ثابر على الصمت، وبدا عليه هذه المرة أنَّه أُخذ على غرَّة، وأنَّه فوجئ بما لم يدُرْ له في خلد، ولم يكن خيان ليعنيه كدر الملك ولعله كان مدفوعًا برغبة في إثارته، وأدرك الحاجب حور خطر المطالب، فانحنى على أذن مولاه وهمس قائلًا: «الأفضل ألا يناقش مولاي الرسول الآن»، فهزَّ الملك رأسه دلالة الموافقة وقد أدرك ما يرمي إليه حاجبه، وظنَّ خيان أنَّ الحاجب يفضي إلى مولاه بما يقوله فانتظر قليلًا، ولكن الملك قال: أعندك بلاغ آخَر تفضي به؟

فقال خيان: أيها الحاكم الجليل، لقد بلغ مولاي أنَّك تتوج رأسك بتاج مصر الأبيض، فراعه ذلك، ورأى أنَّه لا يتفق وما يربط الأسرة الفرعونية بأسرتك التليدة من أسباب المودة والصداقة التقليدية.

فقال سيكننرع بدهشة: ولكن التاج الأبيض غطاء الرأس لحكام الجنوب.

فقال الرسول بيقين وإصرار: بل كان تاج الملوك منهم، ولذلك لم يفكِّر والدك المجيد في لبسه، لأنه يعلم أنَّه لا يوجد سوى ملك واحد في هذا الوادي يحق له التتويج، وأرجو أيها الحاكم الجليل ألا يغيب عنك ما تدلُّ عليه ملاحظة مولاي من رغبة صادقة في توثيق الأواصر الطيبة بين أسرتَي منف وطيبة.

وسكت خيان، فساد الصمت مرة أخرى، وكان سيكننرع غارقًا في تأمُّلات حزينة ينوء صدره بمطالب ملك الرعاة القاسية التي تهاجم مَواطن الإيمان من قلبه وموضع العزة من نفسه، وبدا أثر ذلك في امتقاعه وما ظهر من جمود على وجوه مَن حوله من رجال مملكته، وكان يقدِّر نصيحة حور فلم يرتجل جوابًا وقال بصوت احتفظ بالرغم من كل شيء بهدوئه: أيها الرسول إنَّ رسالتك تنطوي على خطب خطير يمس عقيدتنا وتقاليدنا، لذلك أرى أن أكاشفك برأيي فيها غدًا.

فقال خيان: خير الرأي ما سبقته المشورة.

فالتفت سيكننرع إلى الحاجب حور وقال: تَقدَّمِ الرسولَ إلى الجناح المُعَد له.

فقام الرسول بجسمه القصير الضخم، وانحنى تحيَّةً، ثم ذهب يسير في خيلاء وعظمة.

٣

وأرسل الملك في طلب ولي عهده الأمير كاموس، وجاء الأمير على عجل دلَّ على رغبته في معرفة رسالة حاجب أبوفيس، وحيَّا الملك في إجلال، واتخذ مكانه إلى يمينه، والتفت إليه الملك وقال: لقد أرسلتُ في طلبك أيها الأمير لأطلعك على بلاغ رسول الشمال، لترى فيه معنا رأيك، وإنَّ الأمر لجد خطير، فأصغِ إليَّ!

ثم روى الملك لولي عهده ما قاله الرسول خيان بالتفصيل المبين، وأصغى الأمير لوالده باهتمام شديد بدا على محياه الحسن الذي يشبه أباه في لون بشرته وقسماته وبروز أسنانه العليا، ثم أدار الملك عينَيه في الحاضرين، وقال: فها أنتم أولاء أيها السادة ترون أنَّه لكي نرضي أبوفيس ينبغي أن نخلع هذا التاج، ونذبح أفراس البحر المُقدَّسة، ونشيِّد معبدًا لست يُعبَد فيه إلى جانب معبد آمون، فأشيروا عليَّ بما يجب عمله.

وكان الاستياء البادي على وجوههم جميعًا يدلُّ على ما يعتلج في صدورهم من الهَمِّ، وكان الحاجب حور أول المتكلِّمين، فقال: مولاي، إنَّ الذي أُنكِره أكثر من هذه الرغبات نفسها هو الروح الذي أملاها، فهو روح سيِّد يُملِي على عبده، وملك يتجنَّى على شعبه، وما أراها إلا صورة متجددة لذلك النزاع القديم بين طيبة ومنف، هذه تسعى لاستعباد تلك، وتلك تتشبث باستقلالها ما وسعتها الحيلة، وما من شك في أنَّه يسوء الرعاة وملكهم أن تظل مملكة طيبة مُغلَقة الأبواب دون حكامهم، ولعلَّهم لا يقنعون بما يدَّعون من أنَّ هذه المملكة ولاية مستقلة تابعة لتاجهم، فأرادوا أن يبطلوا مظاهر استقلالها، ويتحكموا في عقيدتها، فيسهل عليهم بعد ذلك تدميرها.

وكان حور في إلقائه قويًّا صريحًا، فذكَّر الملك تاريخ تحرُّش ملوك الرعاة بحكَّام طيبة، وكيف كان هؤلاء يدفعون شرهم بالردِّ الجميل والهدايا والتظاهر بالخضوع لكي يحفظوا الجنوب من توغلهم وشرهم، وكان لأسرته في هذا السبيل فضل، وأيُّ فضل، حتى استطاع والده سيكننرع أن يدرِّب قوات عظيمة سرًّا ليصون بها استقلال مملكته، إذا لم تنفع الحيلة والتظاهر بالولاء في صوته، ثم قال القائد كاف: مولاي .. أرى أنَّه لا يجوز التسليم بأيِّ مطلب من هذه المطالب، كيف نرضى بأن يخلع مولانا تاجه من على رأسه؟ .. كيف نقتل الأفراس المُقدَّسة إرضاءً لعدوٍّ أذلَّ قومنا؟ .. وكيف نُشيِّد معبدًا لرب الشر الذي يعبده أولئك الرعاة؟

وقال الكاهن الأكبر نوفر آمون: مولاي .. إنَّ الرب آمون لا يَرضى أن يُشيَّد إلى جانب معبده معبد لإله الشر ست، ولا أن ترتوي أرضه الطاهرة بدماء الأفراس المُقدَّسة، ولا أن ينزل حامي مملكته عن تاجه وهو أول حاكم للجنوب توج به رأسه بأمره .. كلا يا مولاي إنَّ آمون لا يرضى بذلك أبدًا، وإنَّه لينتظر مَن يخرج على رأس جيش من أبنائه لتحرير الشمال، وتحقيق وحدة الوطن، فيعود كما كان في عهود الملوك السالفين.

فجرى الحماس في عروق القائد بيبي مجرى الدماء، ووقف بقامته الفارعة ومنكبَيه العريضَين، ثم قال بصوته الجهوري: مولاي؛ صدق رجالنا العظام فيما قالوا، وإنِّي لعلى يقين من أنه لا يُراد بهذه المطالب سوى عجم عودنا وترويضنا على الذل والخضوع، وهل من دليل وراء أن يطالب ذلك الهمجي الهابط وادينا من أقاصي الصحاري الماحلة إلى مليكنا أن يخلع تاجه ويعبد رب الشر ويذبح الأفراس المقدسة؟ .. لقد كان الرعاة فيما مضى يطلبون أموالًا فلم نبخل عليهم بأموالنا، أما الآن فإنَّهم يطمعون في حريتنا وشرفنا، ودون ذلك يهون علينا الموت ويطيب، إنَّ قومنا في الشمال عبيد يحرثون الأرض ويحترقون بألسنة السياط، ونحن نرجو أن نخلِّصهم يومًا مما يعانون من عذاب، لا أن نمضي بإرادتنا إلى مثل مصيرهم التاعس.

لازمَ الملك الصمت، وكان يُصغي باهتمام ويكتم عواطفه بالنظر إلى أسفل، وقد حاول الأمير «كاموس» استطلاع وجهه فلم يتمكن، وكانت ميوله مع القائد بيبي فقال بعنف: مولاي .. إنَّ أبوفيس ينظر بجشع إلى عزتنا القومية، ويأبى إلا أن يُذلَّ الجنوب كما أذلَّ الشمال، ولكن الجنوب الذي لم يرضَ المذلة وعدوه في أوج قوته لن يرضاها الآن .. فمَن يقول إنَّنا نفرِّط فيما اشتدَّ أسلافنا في صونه ورعايته؟

وكان أوسر آمون رئيس الوزراء أدنى القوم إلى الاعتدال، وكانت سياسته موجهة دائمًا إلى تفادي غضب الرعاة أو التعرُّض لقواتهم الهمجية لكي يتفرَّغ إلى إنماء ثروة الجنوب واستثمار موارد النوبة والصحراء الشرقية وتدريب جيش قوي لا يغلب، وقد خشي مغبة اندفاع ولي العهد وقائد الجيش، فقال موجِّهًا كلامه إلى رجال المملكة: اذكروا يا سادة أنَّ الرعاة قوم نهب وسلب، ولئن حكموا مصر مائتَي عام فهم لا يزالون يخطف أبصارهم الذهب، ويستذل نفوسهم ويشغل هممهم عن شريف المقاصد.

فهز القائد بيبي رأسه ذا الخوذة اللامعة وقال: يا صاحب العظمة، لقد عاصرنا القوم عهدًا كافيًا لنعرف نفوسهم، فهم أناس إذا رغبوا في شيء طلبوه بلسان صريح دون التوسط إليه بالحيلة والمداراة، وقد كانوا يطلبون الذهب فيُحمَل إليهم، أما اليوم فهم يطلبون حريتنا.

فقال الوزير: ينبغي التريُّث الآن حتى يكمل جيشنا.

فقال القائد: إنَّ جيشنا بحالته الراهنة قادر على صدِّ العدو.

ونظر الأمير كاموس إلى أبيه فوجده ما يزال يطرق إلى أسفل فقال بحماس: ما جدوى الكلام؟ .. قد يعوز جيشنا بعض الرجال وبعض المعدات، ولكن أبوفيس لا ينتظر حتى نستكمل عدتنا، وهو يعرض علينا مطالب لو ارتضيناها حكمنا على أنفسنا بالانهيار والزوال، وليس في الجنوب رجل واحد يفضِّل التسليم على الموت، فلنرفض هذه المطالب بإباء ونرفع رءوسنا أمام أولئك الرعاة ذوي اللحى المسترسلة والبشرة البيضاء التي لن تطهِّرها الشمس!

وتأثَّر القوم بحماس الأمير الشاب، وبدا على وجوههم التحفُّز والغضب وكأنما سئموا الكلام ورغبوا في اتخاذ قرار حاسم، ورفع الملك رأسه ورنا إلى ولي عهده، وسأل بلهجته الجليلة السامية قائلًا: أترى أن نرفض مطالب أبوفيس أيها الأمير؟

فقال كاموس بثقة وعنف: بكل حزم وإباء يا مولاي.

– وإذا جرَّ الرفض إلى الحرب؟

فقال كاموس: نحارب يا مولاي.

وقال القائد بيبي بحماس لا يقل عن حماس الأمير: نحارب حتى نصد العدو عن حدودنا، وإذا شاء مولانا حاربنا حتى نحرِّر الشمال ونجلي عن أرض النيل آخِر رجل من الرعاة البيض ذوي اللحى الطويلة القذرة.

فالتفت الملك إلى الكاهن الأكبر نوفر آمون وسأله: وأنت يا صاحب القداسة ماذا ترى؟

فقال الشيخ الوقور: أرى يا مولاي أنَّ مَن يحاول إطفاء هذه الجذوة المُقدَّسة كافر!

فابتسم الملك سيكننرع راضيًا وتحوَّل إلى وزيره أوسر آمون قائلًا: ولم يبقَ إلا أنت أيها الوزير.

فبادر الرجل يقول: مولاي، لم أنصح بالتريُّث كراهية في الحرب أو خوفًا منها، ولكن لنستكمل الجيش الذي أرجو أن يحقِّق غاية أسرة مولاي المجيدة، وهي تحرير وادي النيل من قبضة الرعاة الحديدية، وأما إذا كان أبوفيس يطمع حقًّا في حريتنا فأنا أول مَن يدعو إلى الحرب.

فنظر سيكننرع في وجوه رجاله، وقال بصوت دلَّ على العزم والقوة: يا رجال الجنوب إنِّي أشرككم في عواطفكم، وأعتقد أنَّ أبوفيس يتحرَّش بنا ويطمع في أن يحكمنا بالخوف أو بالحرب، ونحن قوم لا نُذعِن للخوف ونرحِّب بالحرب، إنَّ الشمال فريسة الرعاة منذ مائتَي عام، امتصوا خير أرضه وأذلُّوا رجاله، أما الجنوب فإنَّه يكافح منذ مائتَي عام غير غافل عن غايته العليا وهي تحرير الوادي جميعه، فهل ينكص على عقبَيه لأول تهديد، ويفرط في حقه، ويُلقي بحريته وديعة بين يدَي الطامع النهم؟ .. كلا يا رجال الجنوب، سأرفض مَطالب أبوفيس المهينة، وأنتظر ما يرد به علينا، إنْ سِلمًا فسلم وإن حربًا فحرب!

وقام الملك واقفًا، فقام الرجال قومة واحدة وانحنوا إجلالًا، ثم غادر البهو على مهل يتبعه الأمير «كاموس» والحاجب الأكبر.

٤

وتوجه الملك إلى جناح الملكة أحوتبي، وأدركت المرأة حين رأته يُقبِل عليها في لباسه الرسمي أنَّ رسول الشمال جاء بأمر جلل، فارتسم الاهتمام على وجهها الأسمر الجميل، وقامت واقفةً تلقاه بقامتها الطويلة الرشيقة، ورفعت إليه عينَين متسائلتَين، فقال لها بهدوء: أحوتبي .. يبدو لي أنَّ الحرب تُطبِق علينا مع الأفق!

فقلقت عيناها السوداوان وتمتمت قائلةً بدهشة: أتقول الحرب يا مولاي؟

فحنى رأسه دلالة الإيجاب، وقصَّ عليها ما قال الرسول خيان، ورأيَ رجاله فيه، وما استقرَّ عليه عزمه، وكان يُحدِّثها وعيناه لا تتحولان عن وجهها، فقرأ في صفحته ما اضطرم في نفسها من الإشفاق والأمل والاستسلام.

وقالت له: لقد اخترتَ السبيل التي ينبغي لمثلك أن يختارها.

فابتسم وربت كتفها، ثم قال لها: هيا بنا إلى أُمِّنا المقدسة.

ثم سارا معًا جنبًا إلى جنب إلى جناح الملكة الوالدة توتيشيري زوج الملك السابق سيكننرع، وكانت في حجرة خلوتها تطالع كعادتها.

كانت الملكة توتيشيري في الستين من عمرها تبدو على محياها آي النبل والمجد والمهابة، وكانت «حيويتها» دفاقة فغلب نشاطها الكبر، ولم يعترها من آثاره سوى شعيرات بيض تكلِّل فَوْدَيها، وذبول خفيف يعلو خدَّيها، وظلَّت عيناها على صفائهما وجسمها على فتنته ورشاقته، وشاركت جميع أفراد أسرة طيبة في بروز أسنانها العليا، ذلك البروز الذي افتتن به أهل الجنوب وعبدوه كافة، وقد تخلَّتِ الملكة على أثر وفاة زوجها عن الحكم كما يقضي القانون، تاركةً مقاليد طيبة لابنها وزوجه، ولكنها ظلَّت الرأي الذي يُرجَع إليه في الملمات، والقلب الذي يلهم الأمل والكفاح، وقد أقبلت في فراغها على القراءة، وكانت تديم المطالعة في كتب خوفو وقاقمنا وكتب الموتى وتاريخ العهود المجيدة التي خلَّدها أمثال مينا وخوفو وأمنمحيت، وكان للملكة الوالدة شُهرة عظيمة في الجنوب جميعه، فما من رجل أو امرأة إلا يعرفها ويحبها ويقسم باسمها المحبوب، وذلك أنها بثَّت فيمَن حولها وعلى رأسهم ابنها الملك سيكننرع وحفيدها كاموس حب مصر، جنوبها وشمالها، وكراهية الرعاة المغتصبين الذين ختموا العهود الجليلة أسوأ ختام، ولقَّنت الجميع أنَّ غايتهم السامية التي يجب أن يعدُّوا أنفسهم لتحقيقها تحرير وادي النيل من قبضة الرعاة المستبدين، وأوصت الكهنة على اختلاف طبقاتهم من رجال المعابد ومدرِّسي المدارس أن يذكروا الناس دائمًا بالشمال المغتصب والعدو الغاصب، وما ارتكبه من آثام أذلَّ بها القوم واستعبدهم وانتهب أرضهم واستأثر بخيراتها وهبط بهم إلى مستوى البهائم التي تعمل في الحقول، فإذا كان في الجنوب جذوة نار مُقدَّسة تلهب القلوب وتحيي الآمال فالفضل في إذكائها لوطنيتها وحكمتها، ولذلك قدَّسها الجنوب جميعه ودعاها الناس الأم المقدسة توتيشيري، كما يدعو المؤمنون الربة إيزيس، وعاذوا باسمها من شر اليأس والهزيمة.

هذه هي الأم التي قصدها سيكننرع وأحوتبي، وكانت هي تتوقع تلك الزيارة بعد أن علمت بقدوم رسول ملك الرعاة، وذكرت الرسل الذين كان يبعث بهم ملوك الرعاة إلى زوجها الراحل في طلب الذهب والغلال والأحجار، وكانوا يطلبونها جزية يدفعها التابع للمتبوع .. وكان زوجها يبعث بالسفن مُحمَّلة ليتَّقي قوة القوم الهمجية، ويضاعف نشاطه الخفي في تكوين الجيش الذي كان أعزَّ ما أورثه سيكننرع ابنه وخلفه. ذكرَتْ ذلك وهي تنتظر الملك، فلما جاء وزوجه بسطت لهما ذراعَيها النحيلتَين فقبَّلا يدَيها، وجلس الملك إلى يمينها والملكة إلى شمالها، فسألت ابنها وهي تبتسم ابتسامة رقيقة: ماذا يريد أبوفيس؟

فقال بلهجة تنطوي على الحنق: يريد يا أماه طيبة وما عليها جميعًا، بل ما هو أجلُّ من هذا؛ إنَّه يساومنا هذه المرة على شرفنا.

فردَّدت رأسها بين الملكَين وقد رُوِّعت، وقالت بصوت احتفظ بهدوئه على الرغم من كل شيء: كان أسلافه على جشعهم يقنعون بالجرانيت والذهب!

فقالت الملكة أحوتبي: أما هو يا أماه فإنه يريد منا أن نقتل أفراس البحر التي يُقلِق صوتها رقاده، وأن نُشيِّد معبدًا لربه ست إلى جانب معبد آمون، وأن يخلع مولانا التاج الأبيض.

ووافق سيكننرع على قول أحوتبي، وقصَّ على أمه نبأ الرسول ورسالته، فبدا الإنكار على وجهها الجليل، ودلَّ التواء شفتَيها على الامتعاض والسخط، وسألت الملك قائلة: وبماذا أجبته يا بني؟

– لم أبلغه جوابي بعد.

– وهل انتهيتَ إلى رأي؟

– نعم .. أن أنبذ مطالبه جميعًا!

– إنَّ مَن يطلب هذه المطالب لا يسكت على رفضها!

– ومَن يقدر على رفضها جميعًا لا يخشى عواقب رفضه!

– فإذا شهر عليك حربًا؟

– شننتُ عليه حربًا بحرب.

ورنَّت الحرب في أذنيها رنينًا عجيبًا أيقظَ بقلبها ذكريات قديمة، وذكرت أيامًا مثل هذه حين كان زوجها يضيق صدره ويشكو إليها بثَّه وهمه ويتمنى لو كان يملك جيشًا قويًّا يدفع به طمع عدوه، أما ابنها فيتكلم عن الحرب بشجاعة وعزيمة وثقة، فقد تغيَّر الزمن وتجدَّد الأمل، واختلست من وجه الملكة نظرة فوجدته شاحبًا، فأدركَتْ أنَّها تكابد حيرة، وأنَّ أمل الملكة وإشفاق الزوجة يتقاذفانها بغير رحمة .. وهي نفسها ملكة وأم، ولكنها لا تستطيع أن تقول إلا ما ينبغي لمعلمة القوم وأمهم المقدسة أن تقوله، وقد سألته: وهل تقدر على الحرب يا مولاي؟

فقال بثبات: نعم يا أماه .. لديَّ جيش باسل.

– هل يستطيع هذا الجيش أن يخلِّص مصر من الأغلال؟

– يستطيع على الأقل أن يصدَّ عن مملكة الجنوب عدوان الرعاة.

ثم هزَّ منكبَيه استهانةً وقال بحنق وغيظ: أماه .. طالما دارينا أولئك الرعاة عامًا بعد عام فلم تُفلح المداراة في إسكات جشعهم، وما برحوا يرمقون مملكتنا بعين الطمع والجشع، وقد حمَّ القضاء وأرى أنَّ الشجاعة أولى بنا من المطاولة والمداراة، سأخطو هذه الخطوة وأنظر ما بعدها.

فابتسمت توتيشيري وقالت بفخار: فليبارك آمون هذه النفس الأبية العالية.

– فماذا تقولين يا أماه؟

– أقول يا بني: سِر في طريقك يرعاك الرب وتباركك دعواتي، هذه غايتنا وهذا ما ينبغي للفتى الذي اختاره آمون ليحقِّق آمال طيبة الخالدة.

وابتهج سيكننرع وتألَّق بالنور وجهه، وهوى على رأس توتيشيري يقبِّل جبينها، وقبَّلَت خدَّه الأيسر، وقبَّلَت خدَّ أحوتبي الأيمن وباركتهما معًا، فعادا من لدُنها سعيدَين مغتبطَين.

٥

وأعلن الرسول خيان أن سيكننرع سيستقبله غداة غدٍ، وفي الموعد المحدَّد ذهب الملك إلى بهو الاستقبال يتبعه كبير حجَّابه، وهناك وجد في انتظاره حول عرشه رئيس الوزراء والكاهن الأكبر وقائدي الجيش والأسطول، فقاموا لاستقباله وانحنوا بين يدَيه، وجلس على العرش وأذن لهم في الجلوس، ثم صاح حاجب الباب مُعلِنًا وصول الرسول خيان، ودخل الرجل بجسمه البدين القصير ولحيته الطويلة يمشي مشية الخيلاء، وكان يسائل نفسه: ترى ماذا وراء الشورى؟ أسلام أم حرب؟ .. ثم بلغ العرش فانحنى تحيَّةً للجالس عليه، وردَّ عليه الملك التحيَّة وأذن له في الجلوس وهو يقول: عسى أن تكون قضيتَ ليلة سعيدة.

– كانت ليلة سعيدة، شكرًا لضيافتك الكريمة.

ولاحَتْ منه التفاتة إلى رأس الملك فرأى تاج مصر الأبيض يعلوه، فانقبض صدره واحتدم الغيظ في قلبه، وكبر عليه أن يتحدَّاه كذلك حاكم الجنوب، وكان الملك لا يحرص من جهته على مجاملة الرسول لأنه كان لا يجهل ما يعنيه رفضه للمطالب، فأراد أن يقول رأيه صريحًا حازمًا قاسيًا فقال: أيها الرسول خيان: لقد درستُ المطالب التي تحملها إلينا بعناية، وشاورتُ فيها رجال مملكتي، فاتفق رأينا جميعًا على رفضها.

ولم يكن خيان يتوقع هذا الرفض الصريح الحاسم، فأُخِذ واستولى عليه الذهول، ونظر إلى سيكننرع باستغراب وإنكار وقد صار وجهه كالجُمان، واستدرك الملك قائلًا: لقد وجدتُ هذه المطالب تمسُّ عقيدتنا وشرفنا، ونحن لا نسمح لأي إنسان أن يمسَّ العقيدة والشرف منا.

وأفاق خيان من دهشته فقال بهدوء وكبرياء وكأنَّه لم يسمع ما قال الملك: إذا سألني مولاي: لماذا يرفض حاكم الجنوب أن يشيد معبدًا لست، فماذا أقول له؟

– قل له إنَّ أهل الجنوب يعبدون آمون وحده.

– وإذا سألني، لماذا لا يقتلون أفراس البحر التي تقضُّ مضجعي؟

– قل له إنَّ أهل الجنوب يُقدِّسونها.

– يا عجبًا .. أليس فرعون أعظم قداسة من أفراس البحر؟

فأطرق سيكننرع مليًّا كأنَّه يفكِّر في الجواب، ثم قال بلهجة حازمة: إنَّ أبوفيس مُقدَّس لديكم، وهذه الأفراس مُقدَّسة لدينا.

وسرَتْ موجة ارتياح في نفوس رجال الملك لهذا الجواب العنيف، أمَّا خيان فقد اشتدَّ به الغضب ولكنَّه لم يستسلم لسلطانه، وكبح جماح نفسه وقال بهدوء: أيها الحاكم الجليل، كان أبوك حاكمًا على الجنوب ولم يكن يلبس هذا التاج، فهل ترى لنفسك حقًّا غير ما كان يرى أبوك لنفسه؟

– لقد ورثتُ عنه الجنوب وهذا تاجه منذ القِدَم، ومن حقي أن أتوِّج به رأسي.

– ولكن في منف رجل آخَر يتوِّج رأسه بتاج مصر المزدوج، ويُسمِّي نفسه فرعون مصر، فماذا ترى فيما يدعيه لنفسه؟

– أرى أنَّه اغتصب وأسلافه المملكة!

ونفد صبر خيان فقال بحنق واحتقار: أيها الحاكم، لا تظن أنَّ لبسك التاج يرفعك إلى مصافِّ الملوك، فالملك من بعدُ ومن قبلُ قوة وسلطان، ولستُ أرى في أقوالك إلا استهانة بالوشائج الطيبة التي ربطت آباءك وأجدادك بملوكنا، ونزوعًا إلى التحدي لا تُؤمَن عواقبه.

فتبدَّى الغضب على وجوه الحاشية، ولكن الملك حافظَ على هدوئه وقال مسترسلًا: أيها الرسول نحن لا نعجِّل بالشر، ولكن إذا تحرَّش بشرفنا متحرِّش؛ لا ننكص على أعقابنا ولا نؤثر السلامة، ومن فضائلنا ألا نغالي في تقدير قوتنا فلا تنتظر أن تسمع مني مباهاة وفخرًا. ولكن اعلم أنَّ آبائي وأجدادي حافظوا ما وسعهم الجهد على استقلال هذه المملكة، ولن أفرِّط أنا فيما عاهدوا الرب والناس على المحافظة عليه.

فعَلَت شفتَي خيان الحادتَين ابتسامةٌ ساخرة تخفي حقدًا مرًّا، وقال بلهجة ذات مغزى: كما تشاء أيها الحاكم، وما عليَّ إلا البلاغ، وستحمل تبعة أقوالك.

فحنى الملك رأسه ولم يتكلم، ثم قام واقفًا مؤذنًا بانتهاء المجلس، فوقف الجميع إجلالًا حتى غيَّبَه الباب عن أنظارهم.

٦

وكان الملك يقدِّر خطر الحال، فأراد أن يزور معبد آمون، ليدعو الرب المعبود ويعلن الكفاح في الفناء المُقدَّس، وأعلنَ إرادته لوزيره ورجاله، فقصدت جموعهم من وزراء وقوَّاد وحجَّاب وكبار موظفين إلى معبد آمون لتكون في استقبال الملك، وتنبَّهَت طيبة الغافلة إلى ما يدور وراء جدران قصورها الشم، وتهامس كثيرون بأنَّ رسول الشمال جاء متعاليًا وآبَ غاضبًا، وذاع بين الطِّيبيِّين أن سيكننرع سيزور معبد آمون ليستلهمه الرأي ويسأله المعونة، فذهبت جموع غفيرة من الرجال والنساء إلى المعبد، وانضم إليهم خلق كثيرون أحاطوا بالمعبد، وتدافعوا إلى السبل المؤدية إليه، وكان يبدو على وجوههم الجد والاهتمام والتطلُّع، فدار بينهم التساؤل وجرى على ألسنتهم الحديث، كلٌّ يفسِّر الأمر على ما يرى، وجاء الركب الفرعوني تتقدَّمه كوكبة من الحرس تتبعها عجلة الملك وعربات أخرى تحمل الملكة والأمراء والأميرات من البيت الملكي، فسرَتْ في نفوس القوم موجة من الحماس والفرح، ولوَّحوا لمليكهم بأيديهم وهلَّلوا له وكبَّروا، فابتسم سيكننرع إليهم ولوَّح لهم بصولجانه، ولم يغِب عن أحد أنَّ الملك يرتدي لباس الحرب ذا الدرع اللامعة، فاشتدَّ تشوُّق الناس إلى سماع الأخبار، ودخل الملك فناء المعبد يسير وراءه آلُهُ، نساءً ورجالًا، فاستقبلهم كهنة المعبد والوزراء والقُوَّاد بالسجود، وهتف نوفر آمون بصوت مرتفع قائلًا: أدام الرب حياة الملك وحفظ مملكة طيبة، وردَّد القوم هتافه بحماس وأعادوا ترديده، فحيَّاه الملك برفع يده إلى رأسه وابتسامة من فمه العريض، ثم تقدَّم الجمع بأسره إلى بهو المذبح، وقدَّم الجنود ثورًا ذبيحًا للرب، ثم طافوا جميعًا بالمذبح وبهو الأعمدة، هناك وقفوا صفَّين، وأعطى الملك صولجانه لولي عهده الأمير كاموس وسار إلى السلم المُقدَّس فارتقاه إلى قدس الأقداس، واجتاز العتبة المُقدَّسة بخطى خاشعة، وأغلق وراءه الباب فكأنَّما أدركه الغسق، وحنى رأسه وخلع تاجه إجلالًا للمكان المطهَّر، وتقدَّم نحو المحراب الثاوي فيه الرب المعبود بساقَين متخاذلتَين من الهيبة، ثم سجد عند قدمَيه ولثمهما وسكن لحظةً ريثما تهدأ أنفاسه المضطربة وقال بصوت خافت كأنه النجوى: أيها الرب المعبود، رب طيبة المجيدة، ورب أرباب النيل، هبني من لدنك رحمةً وقوَّةً، فإنِّي اليوم أتعرَّض لتبعة خطيرة إن لم تشدُدْ فيها أزري عييت دونها. هي الدفاع عن طيبة وقتال عدوك وعدونا الذي سقط علينا من صحراء الشمال في جموع همجية خربت ديارنا وأذلَّت أعناق قومنا وأغلقت أبواب معابدك واغتصبت عرشنا، هَبْنِي معونتك أصد جيوشهم وأطارد فلولهم وأطهر الوادي من قوتهم الغاشمة فلا يحكمه إلا أبناؤك السمر ولا يُذكَر فيه إلا اسمك.

وسكت الملك، وانتظر برهة، ثم استغرق مرةً أخرى في صلاة طويلة حارَّة مُسنِدًا جبينه إلى قدمَي التمثال، ثم رفع رأسه في وجَل حتى بصر بالوجه النبيل المعبود يكتنفه الجلال والصمت كأنَّه ستار الغد يخبِّئ وراءه أحداث القضاء.

•••

وطلع الملك على قومه وقد وضع التاج الأبيض على جبينه المتفصد بالعرق فسجدوا له جميعًا، وتقدم منه الأمير كاموس بصولجانه فأخذه بيمناه وقال بصوت جهوري: يا رجال طيبة المجيدة، لعل عدونا في هذه الساعة التي أحدثكم فيها يحشد جيشه على حدود مملكتنا ليقتحم علينا ديارنا، فهلمُّوا جميعًا إلى الكفاح، وليكن شعار كل واحد منكم أن يبذل قصارى جهده في عمله، كي يقوى جيشنا على الثبات والقتال، ولقد صلَّيتُ للرب وسألته العون، وليس الرب بناسٍ وطنَه وأبناءه!

فصاح الجميع بصوت اهتزَّتْ له جدران المعبد: «أيَّدَ الرب مليكنا سيكننرع …» وهمَّ الملك بالمسير فدَنَا منه كاهن آمون وقال: هل لمولاي أن ينتظر قليلًا لأقدِّم إليه هدية مُقدَّسة؟

فقال الملك مبتسمًا: كما تشاء يا صاحب القداسة!

وأشار الكاهن إلى كاهنَين إشارة خاصة؛ فمضيا إلى حجرة المخلفات، وعادا يحملان صندوقًا صغيرًا من الذهب تطلَّعَت إليه الأبصار جميعًا، واقترب منهما نوفر آمون وفتح الصندوق في أناة ورفق، فرأت الأعين بداخله تاجًا فرعونيًّا، تاج مصر المزدوج، فاتسعت الأعين دهشةً وتبودلت النظرات، وحنى نوفر آمون هامته لمولاه وقال بصوت متهدِّج: مولاي هذا تاج الملك تيمايوس.

فتصايح القوم قائلين: «تاج الملك تيمايوس …» فقال نوفر آمون بحماس وقوة: نعم يا مولاي، هذا تاج تيمايوس آخِر فرعون حكمَ مصر المتحدة وبلاد النوبة قبل غزو الرعاة لوطننا، وقد شاءت حكمة الرب أن تحل نقمته ببلادنا في عهده، فسقط هذا التاج الكريم عن رأسه بعد أن أبلى في الدفاع أشد البلاء، ففقد العرش وصاحبه واحتفظ بشرفه، لذلك رفعه أسلافنا إلى هذا المعبد ليأخذ مكانه بين المُخلَّفات المقدسة، ولقد مات صاحبه بطلًا شهيدًا فهو جدير برأسك الكبير: وإنِّي أتوِّجك به أيها الملك سيكننرع، يا ابن توتيشيري الأم المقدسة، وأنادي بك ملكًا على مصر العليا والسفلى وبلاد النوبة، وأدعوك باسم الرب آمون وذكرى تيمايوس وأهل الجنوب أن تنفر إلى قتال عدوك وتحرير وادي النيل الطاهر المحبوب!

ودنا الكاهن الأكبر من الملك وخلع عن رأسه تاج مصر الأبيض وسلَّمه إلى أحد رجال الكهنوت، ثم رفع تاج مصر المزدوج بين التهليل والتكبير ووضعه على رأسه المجعَّد، ثم صاح هاتفًا: «ليحيى سيكننرع فرعون مصر». فردَّد القوم هتافه، وهرع كاهن إلى خارج المعبد وهتف لفرعون مصر سيكننرع، فردد الطِّيبيُّون الهتاف في حماسة مستعرة، ثم هتف بقتال الرعاة وأجابه القوم بأصوات كالرعد، وقد أيقنوا بما كانوا منه في شك.

وحيَّا فرعون الكهنة، ثم اتجه نحو باب المعبد تتبعه أسرته ورجال قصره ووجوه المملكة الجنوبية.

٧

وعلى أثر وصول فرعون إلى قصره دعا إلى الاجتماع به رئيس وزرائه وكبير الكهنة ورئيس حجَّاب القصر وقائدي الجيش والأسطول وقال لهم: إنَّ سفينة خيان تسبح به نحو الشمال سريعًا، وسنتعرض للغزو على أثر اجتيازه حدود الجنوب، فينبغي ألا نضيع ساعة من وقتنا.

والتفت إلى قائد الأسطول كاف وقال: أرجو أن تجد مهمتك يسيرة على سطح الماء، فالرعاة تلاميذنا في القتال في السفن، هيِّئ سفنك للحرب وأبحِر بها نحو الشمال!

فأدَّى القائد كاف التحيَّة لمولاه وفارقَ المكان على عجل، وتحوَّل الملك إلى القائد بيبي، وقال: أيها القائد بيبي، إنَّ قوة جيشنا الأساسية مُعسكِرة في طيبة، فَسِر بها إلى الشمال، وسألحق بك على رأس قوة من حرسي الأشداء، وإنِّي أدعو الرب أن يثبت جنودي أنهم جديرون بالمهمة الملقاة على عاتقهم، ولا تنسَ أيها القائد أن تبعث برسول إلى بانوبوليس على حدودنا الشمالية لينبِّه الحامية إلى الخطر المحدِّق بها حتى لا تؤخذ على غرة.

فأدَّى القائد التحيَّة لمولاه ومضى، وجعل الملك يقلب وجهه في وجوه رئيس الوزراء وكبير الكهنة ورئيس الحجاب ثم قال لهم: سيُلقَى على كواهلكم أيها السادة واجب الدفاع عن مؤخرة جيشنا، فليقم كلٌّ منكم بواجبه بما أعهده فيكم من الكفاية والإخلاص.

فقالوا في صوت واحد: كلنا فداء للملك ولطيبة.

فقال سيكننرع: يا نوفر آمون ابعث رجالك إلى القرى والبلدان يحثون قومي على الجهاد، وأنت يا أوسر آمون ادعُ حكام الأقاليم وأوصِهم أن يجنِّدوا الأشداء والقادرين من شعبي، أما أنت يا حور فإنِّي أعهد إليك بآل بيتي ولتكن لابني كاموس كما كنتَ لي.

وحيَّا الملك رجاله وغادر المكان قاصدًا إلى جناحه الخاص ليودِّع أسرته قبل الرحيل، وأرسل في طلبهم جميعًا فجاءت الملكة أحوتبي والملكة توتيشيري والأمير كاموس وزوجه الأميرة ستكيموس وابنها الصغير أحمس وابنتهما الصغيرة الأميرة نيفرتاري، فاستقبلهم استقبالًا وديًّا وأجلسهم حوله وقد شعر بالحنان يتدفَّق من بين أضلعه، ومضى يقلب عينَيه في أحبِّ الوجوه إلى قلبه وكأنه يرى وجهًا واحدًا يتكرَّر لا يفرِّق بينها سوى العمر، فتوتيشيري في الستين، وأحوتبي مثل زوجها في الأربعين، أما كاموس وستكيموس ففي الخامسة والعشرين، وأما أحمس فلم يجاوز العاشرة، وأخته نيفرتاري دون ذلك بعامين، ولكن ما من وجه فيهم إلا وتتألَّق فيه هاتان العينان السوداوان وذلك الفم الذي يميل إلى البروز أعلاه، وتلك السمرة الخمرية التي تضفي عليه صحة وحُسنًا، وارتسمت على فم الملك العريض ابتسامة وقال: تعالوا نجلس معًا ساعة قبيل الرحيل!

فقالت توتيشيري: إنِّي أدعو الرب يا بني أن يكون ذهابًا إلى النصر المبين.

فقال سيكننرع: إنِّي كبير الأمل في النصر يا أمَّاه!

ورأى الملكُ وليَّ العهد في لباس الحرب فأدرك أنَّه يظنُّ نفسه خارجًا معه فسأله متجاهلًا: لماذا ترتدي هذا اللباس؟

فبدَتِ الدهشة على وجه الشاب كأنَّه لم يكن يتوقَّع هذا السؤال، وقال باستغراب: للسبب الذي من أجله ترتديه أنت يا مولاي.

– هل جاءك أمري بذلك؟

– ظننتُ المسألة لا تحتاج إلى أمر يا مولاي.

– أخطأتَ يا كاموس.

فبدا الفزع على وجه الشاب وقال: هل أُحرَم شرف خوض معركة طيبة يا مولاي؟

– إنَّ ميادين القتال لا تستأثر بالشرف دون الميادين الأخرى، وستبقى على عرشي يا كاموس لتسهر على سعادة مملكتنا وتمد جيشنا بالرجال والمئونة.

فامتقعَ وجه الشاب، وحنى رأسه كأنَّما أثقلَه أمر الملك، وأرادت توتيشيري أن تخفِّف عنه فقالت برقة: كاموس … إنَّ القيام بأعباء الحكم ليس بالعمل الهين الذي يخزي إنسانًا وهو عمل جدير بمثلك.

وهنا وضع الملك يده على منكب ولي عهده وقال: أصغِ إليَّ يا كاموس إنَّنا مقبلون على حرب ضروس نرجو أن نفوز فيها بعون الرب، ونحرِّر بلادنا المحبوبة مما تُقيَّد به من الأغلال، على أنَّه من الحكمة أن نقدِّر جميع العواقب، وقد قال حكيمنا قاقمنا: «لا تضع كل أسهمك في جعبة واحدة.»

وسكت الملك عن الكلام، فساد الصمت ولم ينبس أحد بكلمة حتى استأنف الملك قائلًا: فإذا شاءت حكمة الرب أن يبوء جهادنا بخذلان فما ينبغي أن ينقطع جهادنا قط .. أصغوا إليَّ جميعًا، إذا سقط سيكننرع فلا تيئسوا، فسيخلف كاموس أباه، وإذا سقط كاموس خلفه أحمس الصغير، وإذا فني جيشنا هذا فمصر ملأى بالرجال، وإن تساقط بطلمايس فلتحارب كبتوس، وإن تُقتحَم طيبة فلتثب أمبوس وسيين وبيجة، أو يقع الجنوب في أيدي الرعاة فهنالك النوبة لنا فيها رجال أشداء مخلصون، وستتولى توتيشيري الأبناء بما تولت به الآباء والأجداد، فلا أحذركم إلا من عدو واحد هو اليأس!

وكان لكلام الملك وقع شديد في نفوس الجميع حتى أحمس الصغير ونيفرتاري وجما وعلاهما الارتباك، وعجبا كيف يحدِّثهما جدهما بهذه اللهجة الجديَّة أول مرة، واغرورقت عينا الملكة أحوتبي بالدموع، فتكدَّر سيكننرع وقال بلهجة لم تخلُ من عتاب: أتبكين يا أحوتبي .. انظري إلى شجاعة أمنا توتيشيري.

ثم نظر إلى أحمس وكان يكلف به كلفًا عظيمًا، وكان الغلام صورة صادقة من جده، فجذبه إليه وسأله مبتسمًا: مَن العدو الذي يجب أن نحذره يا أحمس؟

فقال الغلام وهو لا يفقه معنى ما يقول: اليأس.

فتضاحك الملك وقبَّلَه مرة أخرى: ثم قام واقفًا وقال برقة: هلمُّوا نتعانق!

ثم عانقهم جميعًا مبتدئًا بتوتيشيري وزوجه أحوتبي وستكيموس زوج ابنه، ثم أحمس ونيفرتاري: ثم انعطف نحو كاموس، وكان واقفًا في جمود واستسلام، فمدَّ له يده فشدَّ عليها بقوة، ثم انحنى عليها فقبَّلها وقال بصوت خافت: فلتصحبك السلامة يا أبتاه!

ولوَّح لهم الملك بيده وبرح المكان بقدمَين ثابتتَين وقد تجلَّى على وجهه العزم والبأس.

•••

وخرج الملك في رأس قوة من حرسه والتقى في ميدان القصر بجموع شعب طيبة المتحمس، فخال أهل طيبة جميعًا رجالًا ونساءً وأطفالًا قد انتقلوا إلى ميدان القصر يحيون مليكهم ويهتفون لمَن خرج باغيًا تحرير الوادي، وشقَّ سيكننرع طريقه بين موجهم المتلاطم قاصدًا باب طيبة الشمالي، وهناك وجد الكهنة والوزراء والحجاب والأعيان وكبار الموظفين في توديعه، فسجدوا لموكبه وهتفوا باسمه طويلًا، وكان آخِر صوت سمعه الملك صوت نوفر وهو يقول له: سأستقبلك يا مولاي بعد حين ورأسك مكلل بالغار .. اللهم استجب.

واجتاز الملك باب طيبة العظيم في طريقه إلى الشمال تاركًا وراءه أسوار المدينة العظيمة، وكان عظيم التأثر لما رأى ولما سمع، وقد شعر بخطر العمل الكبير المقبل عليه، وكيف أنَّه ينطوي على إسعاد شعبه أو إشقائه إلى أمد طويل، لقد وضع مصير القوم في قبضة يده وواجه المخاطر المروعة التي وقف منها أبوه موقف المتمهل المتريِّث، ولم يكن سيكننرع من الحكام المترفين ولكن كان خُلُقه ينطوي على الصلابة والبسالة والتقشُّف والتديُّن، وكان عظيم الأمل قوي الثقة بقومه، وقد لحق جيشه بالمعسكر في بلدة شنهور شمال طيبة قبل المساء واستقبله القائد بيبي على رأس قُوَّاد الفرق، وكان مضعضع الحواس لما أصابه من إرهاق ووصَب، ولم تغِب حالته عن عينَي الملك، فقال له: أراكَ مُتعَبًا أيها القائد.

فسُرَّ القائد بملاحظة مولاه وقال: استطعنا يا مولاي أن نجمع هنا حاميات هرمنسيس وهابو وطيبة، فكوَّنتُ جيشًا يربو عدده على عشرين ألف مقاتل.

وسار الملك بعجلته بين خيام الجنود فسرَتْ في نفوسهم موجة فرح وحماس، وتردَّد الهتاف له في المعسكر شمال بلدة شنهور، ثم كرَّ راجعًا إلى الخيمة الملكية وفي صحبته القائد بيبي، وكان الملك مطمئنًا إلى جيشه الذي بذل أجمل عهود شبابه في تدريبه فقال: جيشنا باسل .. فكيف ترى شعور القُوَّاد؟

– كلهم متفائلون يا مولاي ومتحمسون للحرب، وما من واحد منهم إلا يُبدي عظيم إعجابه بفرقة القسي ذات الشهرة التاريخية.

فقال الملك: إنِّي أشارككم هذا الإعجاب، والآن أصغِ إليَّ، لا يجوز أن نضيع من الوقت إلا ما تستلزمه ضرورة إراحة هذا العدد من الجنود، فإنه ينبغي أن نلقى عدونا — إذا هاجمنا حقًّا — في الوادي المنحدر ما بين بانوبوليس وبطلوس، فهو وادٍ شديد الوعورة ضيق المسالك، والميزة الحربية فيه لمَن يسيطر على عاليه، ومجرى النيل فيه ضيق فيمكن أن نساعد أسطولنا في أثناء اشتباكه مع العدو!

– سنشرع في المسير يا مولاي قبيل الفجر.

فأومأ برأسه دلالةً على الموافقة وقال: ينبغي أن نبلغ بانوبوليس ونعسكر في واديها قبل أن يعود خيان إلى منف.

ثم دعا الملك قُوَّاده إلى الاجتماع به.

٨

وتحرك الجيش قبيل الفجر يسبقه إلى أهدافه قوة الكشافة، وتتقدَّمه فرقة العجلات المكوَّنة من مائتَي عجلة على رأسها فرعون، وتتبعها فرقة الرماح، ثم فرقة القسي والنبال، ثم فرقة الأسلحة الصغيرة، وعربات المؤن والسلاح والخيام، وأبحرَ الأسطول في الوقت نفسه إلى الشمال، وكان الظلام شديدًا لا يخفِّف من سواده سوى شعاع النجوم الساهرة وأضواء المشاعل، فبلغوا مدينة قسي فهبَّت جميعًا لاستقبال فرعون وجيشه، وهرع الفلاحون من أقصى الحقول يحملون سعف النخل والرياحين ودنان الجعة، وساروا مع الجيش يهتفون له ويهدون إلى الجنود الأزهار وأكواب الجعة الشهية، ولم يتركوه حتى أوغلَ في المسير، وبهتت ظلمة الليل وانسكب في الأفق الشرقي نور الفجر الأزرق الهادئ يتقدَّم بشائر النور، ثم أسفر الصبح وغمر الضوء الدنيا والجيش يجد في السير حتى بلغ كتوت قبيل العصر، فاستراح فيها وقتًا بين المستقبلين من أهلها المتحمسين، ورأى الملك أن يكون مبيت الجيوش في تنثيرا، فأصدر أمره باستئناف المسير، وجدَّ الجيش حتى بلغ تنثيرا عند سدول الظلام وهنالك استسلم للنوم العميق.

وكان يستيقظ قبل الفجر ويضرب في الأرض حتى حلول الظلام يومًا بعد يوم حتى عسكر في أبيدوس، وكانت الكشافة تجول شمال المدينة، فرأى ضباط من رجالها عن بُعد سحيق أقوامًا تضرب في الأرض، فعدا على رأس ثلة من رجاله نحو القادمين، وكان كلما هبط الوادي تبيَّن له الأمر فرأى خطوطًا متعرِّجة من الفلاحين يسيرون جماعات يحملون ما خفَّ من متاعهم، ومنهم مَن يسوق غنمًا أو ثيرانًا يدل منظرهم على البؤس والتشرُّد، فعجب الرجل واعترض سبيل المتقدِّمين منهم وهمَّ بسؤالهم، ولكن رجلًا منهم صاح به: الغوث أيها الجندي .. أدركونا فقد هلكنا!

فصاح الضابط منزعجًا: تطلبون الغوث؟ .. ماذا يفزعكم؟

فأجاب كثيرون منهم في نفَس واحد: الرعاة … الرعاة!

وقال الرجل الأول: نحن أهالي بانوبوليس وبطلمايس، جاءنا جندي من جنود الحدود وقال لنا: إن جيش الرعاة يهاجم الحدود بقوات عظيمة لن تلبث أن تتدفَّق إلى بلدتنا ونصحنا بالهجرة إلى الشمال، فساد الفزع البلد والحقول وهرعنا جميعًا إلى ديارنا ننادي النساء والأطفال ونحمل ما يخفُّ حمله، ثم تركنا البلاد وراءنا فارِّين، فما ذقنا الراحة منذ صباح الأمس!

وكان يبدو على وجوههم الإعياء والخور فقال لهم الضابط: استريحوا قليلًا ثم جدُّوا في السير، فعما قليل ينقلب هذا الوادي الساكن ميدانًا للقتال.

ولوى الرجل عنان فرسه وانطلق به إلى خيمة القائد في أبيدوس، وأبلغه الخبر، وقام بيبي من فوره إلى الملك وقصَّ عليه الخبر، فتلقَّاه بدهشة وانزعاج وصاح: كيف وقع هذا .. هل بلغ خيان منف في هذا الزمن اليسير؟

فقال بيبي بحنق: لا شك يا مولاي في أنَّ عدوَّنا حشدَ جيشه على حدودنا قبل أن يبعث إلينا برسوله، فهو كان يتربَّص بنا، وما عرض علينا مطالبه إلا وهو يرجو أن نرفضها، فلما اجتاز خيان حدودنا عائدًا أصدر أمره للجيوش المحتشدة بالهجوم، هذا هو التفسير المعقول لذلك الهجوم السريع العنيف!

فاصفرَّ وجه الملك سيكننرع غضبًا وحنقًا وقال: إذَن سقطت بانوبوليس وبطلمايس.

– نعم وا أسفاه يا مولاي، ولا يُجدي في الدفاع عنهما بسالة حاميتنا قليلة العدد.

فهزَّ الملك رأسه أسفًا وقال: خسرنا أوفَقَ ميدان قتال لنا.

– لن يؤثِّر هذا في شجاعة جنودنا الفائقة!

وفكَّرَ الملك مليًّا ثم قال لقائد جيوشه: ينبغي أن نخلي أبيدوس وتنثيرا إخلاءً تامًّا.

فبدا التساؤل على وجه بيبي فقال الملك: لن ندافع عن هذه المدن.

فأدرك بيبي ما يعنيه مولاه.

– أيريد مولاي أن يلقى العدو في وادي كبتوس؟

– هذا ما أريده، فهنالك تمكن مهاجمة العدو من عدة جهات، وتوجد في أنحاء الوادي حصون طبيعية، وسأترك له في المدن التي نخليها عصابات تكرُّ عليه دون أن تشتبك معه في قتال فتعطل تقدُّمه حتى نقوِّي مراكزنا، هيا يا بيبي ابعث برسلك إلى المدن ليخلوها، ومُرِ القواد بالتقهقر في الحال، ولا تُضِع وقتًا فإن حبل الأرجوحة التي يترجَّح فيها مصير قومنا أمسى أحد طرفَيه في يد أبوفيس.

٩

وصاح المنادي في أهالي أبيدوس وبرفا وتنثيرا أنِ احملوا متاعكم وأموالكم وسيروا إلى الجنوب، فقد أمست دياركم ميدان قتال لا يعرف الرحمة، وكان القوم يعرفون مَن الرعاة وما أعمالهم، فتولَّاهم الخوف وبادروا إلى أموالهم وأمتعتهم يكدِّسون بها العربات تجرها الثيران، وإلى البقر والأغنام يسوقونها سوق المتعجِّل، ولمُّوا شعثهم وهرعوا نحو الجنوب تاركين أراضيهم وديارهم، وكأنَّما تقطَّع أوصالهم من الحزن والأسف، وكان كلما تقدَّم بهم المسير ألقوا بأبصارهم المظلمة إلى الوراء تنازعهم قلوبهم إلى أوطانهم، ثم تفزعهم المخاوف فيجدون سراعًا إلى المجاهل التي تنتظرهم، ومَرُّوا في طريقهم ببعض فِرَق الجيش فخفقت قلوبهم في صدورهم وداعب أحلامهم الأليمة أملٌ، وافترت ثغورهم عن ابتسامة فرح التمعت في جَوِّ أحزانهم كما تضيء أشعة الشمس خلل ثغرة بين السحب انقشعت عنها لحظة في يوم أدكن السماء، ولوَّحوا بأيديهم وصاح الكثيرون: «أراضينا وديعة مسلوبة .. ردوها إلينا أيها البواسل!»

كان فرعون في تلك الأثناء يشرف على توزيع قواته في وادي كبتوس ويرمق بعينَين أسيفتَين جموع المهاجرين الذين لا ينقطع تيَّارهم المتدفِّق، وكان يشاركهم آلامهم كأنه واحد منهم، ويضاعف في ألمه ما يحمله الهواء إلى أذنَيه من هتافهم باسمه ودعائهم له.

وكان القائد بيبي على اتصال دائم برجال الكشافة فيتلقى الأخبار منهم ثم يرفعها إلى مولاه، فبلغه هجوم العدو على أبيدوس ومقاومة حاميتها الصغيرة مقاومة عنيدة أتَتْ على آخِر رجل منهم، وغداة اليوم التالي حمل الرسول نبأ هجوم الهكسوس على مدينة برفا وما احتال بها الرجال المدافعون عنها من فنون الدفاع والمشاكسة لكي يعطلوا زحف العدو ما وسعتهم الحيلة، أمَّا تنثيرا فقد ثبتت حاميتها للعدو الزاحف ساعات طوالًا حتى اضطُرَّ أن يهاجمها بقوات كثيرة كأنَّما يهاجم جيشًا كامل العدد والعدة، ثم قرَّر الكشافة وبعض الضباط الذين نجوا من حاميات المدن المغزوَّة أنَّ قوات العدو يترجَّح عددها بين خمسين ألفًا وسبعين، أمَّا فرقة العجلات فلا تقلُّ عن ألف عجلة، وقد تلقى الملك النبأ الأخير بغرابة وجزع؛ لأنه لم يكن هو — ولا أحد من جيشه — يتوقع أن يملك جيش أبوفيس هذا العدد الضخم من العجلات، وقال لقائده: كيف تقاوم فرقة عجلاتنا هذا العدد الهائل من العجلات؟

وكان بيبي في حيرة من أمره، وكان يلقي على نفسه هذا السؤال فقال لمولاه: ستنهض فرقة القسي بواجبها يا مولاي.

فهزَّ الملك رأسه دهشةً وقال: لم تكن العجلات من آلات الحرب لدى الرعاة، فكيف يكون لجيشهم أضعاف ما لجيشنا منها؟

– والمؤلم يا مولاي أن تكون الأيدي التي صنعَتْها مصرية!

– حقًّا إنه لمؤلم .. ولكن هل تنفع القسي في مقاومة سيل من العجلات؟

– إنَّ جنودنا يا مولاي لا يخطئون أهدافهم، وسيرى أبوفيس غدًا أنَّ الغلبة لسواعدهم على كثرة عجلاته!

وفي ذلك المساء خلا فرعون إلى نفسه وكان يشعر بضيق وانقباض، وصلَّى للرب صلاة حارَّة طويلة ضارعًا إليه أن يشرح صدره، ويثبِّت قلبه، ويكتب له ولجيشه النصر.

وأحسَّ الجميع دنوَّ العدو، فضاعفوا من يقظتهم، وناموا ليلتهم جزعين يرجون أن يطلع الصبح ليلقوا بأنفسهم في معركة الموت.

١٠

واستيقظ الجيش قبل بزوغ الفجر بزمن غير يسير، وأخذ الرجال الأشداء من حملة القسي أماكنهم الحصينة في الميدان، يؤيد كل جماعة منهم قوة صغيرة من العجلات، ووقف سيكننرع أمام خيمته مع قائده بيبي وسط هالة من رجال حرسه الأشداء، وكان يقول لهم: «ليس من الحكمة أن نقذف بفرقة العجلات لمواجهة قوات لا قِبَل لها بها، ولكن هذه العجلات المبعثرة ستعاون رماتنا المحصَّنين على إصابة فرسان العدو وجياده، وليس من شك في أنَّ أبوفيس سيبدأ هجومه بالعجلات، لأنَّ فِرَق الجيش الأخرى لا تلتقي حتى يُفصَل في معركة العجلات، فليكن همُّنا مُوجَّهًا إلى إصابة عجلات الرعاة بالعجز، حتى نمكِّن لفِرَق جيشنا التي لا تقاوم بخوض المعركة والقضاء على عدونا.»

وكانت فكرة القضاء على عجلات العدو حلمه الذي يهيم به، وكان يدعو ربه آمون في صدق ورجاء قائلًا: أيها الرب المعبود، اقضِ لنا بالغلبة على هذه العقبة … وانصر أبناءك المؤمنين، فلئن تخذلهم اليوم لن يُذكَر اسمك في مثواك المُكرَّم، وتُغلَق أبواب معبدك المُطهَّر!

وركب الملك عجلته، وفعل القائد بيبي مثله، وأحاط بهما الحرس الفرعوني، ووقف خلفهما مائة عجلة حربية، ثم تقدَّمَت فرقة الرماح ورصَّت صفوفها إلى يمين الملك وإلى شماله، وكان الجميع ينتظر أن يُدعى إلى القتال بعد أن تقوم قوات الرماة والعجلات التي تؤيِّدها بواجبها الأول.

وحين أخذت تبدو بشائر النور، جاء رجل من الكشافة وأبلغ الملك أنَّ الأسطول المصري اشتبك مع أسطول الرعاة في معركة حامية شمال كبتوس، فقال الملك لقائد جيشه: إنَّ أبوفيس يدرك ولا شك أنَّه سيلقى مقاومة عنيفة، ولذلك أمر أسطوله بالهجوم ليتمكَّن من إنزال جنودٍ وراء مواقعنا.

فقال القائد بيبي: إنَّ الرعاة يا مولاي لا يُتقنون فنَّ القتال على سطوح السفن، وسيبتلع النيل المقدَّس جثث جنودهم، ويبتلع أمل أبوفيس في حصارنا.

كانت ثقة سيكننرع في رجال أسطول طيبة عظيمة، ولكنه أوصى قائد الكشافة أنَّ يكون على اتصال دائم بميدان المعركة البحرية، وجعل الظلام ينقشع والصبح يسفر، والميدان يتجلى للأعين الفاحصة، فرأى سيكننرع جنوده الرماة والقسي في أيديهم، والعجلات المعدودة تتحفز إلى جانبهم للقتال، ورأى في الناحية الأخرى جيش الرعاة ينتشر انتشار الغبار الثائر، وكان العدو ينتظر سفور الصبح، فما عتمت أن تحرَّكت قوات العجلات استعدادًا للمعركة، ثم انقضَّتْ قوات منها على بعض الأماكن المُحصَّنة الأمامية فتطايرت السهام وصهلت الخيل وصرخ المتقاتلون، وتدافعت قوات أخرى، فاشتبكت مع الرماة المصريين وبعض العجلات المصرية في قتال عنيف، فصاح سيكننرع: الآن تبدأ معركة طيبة.

فقال بيبي بصوت قوي النبرات: نعم يا مولاي، وقد بدأ جنودنا بدءًا حسنًا.

وصُوِّبت الأبصار جميعًا إلى الميدان تشاهد سير المعركة، فرأوا عجلات الرعاة تهاجم صفًّا ثم تتفرق جماعات شتى، وتهجم على الرماة بعنف وسرعة، وتنقضُّ على ما يعترض لها من العجلات المصرية، وكان القتلى يسقطون من الجانبَين سراعًا في استبسال وشجاعة، وبدَتْ قوة الرماة وشدة بأسهم، فكانوا يثبتون للهاجمين ويصيدون فرسانهم وجيادهم ويفتكون بهم فتكًا ذريعًا، حتى صاح بيبي قائلًا: لو دام القتال على هذا النحو، فسنتفوَّق على فِرقة العجلات في أيام قلائل.

على أنَّ قوات الرعاة كانت تهجم وتقاتل، ثم ترتدُّ إلى معسكرها وتنقضُّ غيرها كي لا تنهك قواها، على حين كان المصريون يدافعون دون سكوت أو راحة وهم ثابتون في مراكزهم، وكان سيكننرع كلما رأى فارسًا من فرسانه يسقط أو عجلة من عجلاته تتعطَّل يصيح غاضبًا: وا أسفاه، ويدرك أتمَّ إدراك ما ينزل بجيشه من الخسارة، وأخذ عدد الوحدات التي يهجم بها الرعاة يتضاعف، كانوا يهجمون ثلاثًا ثلاثًا، ثم هجموا ستًّا ستًّا، ثم عشرًا عشرًا، واشتدَّ القتال وحمي وطيسه، واطَّردَ عدد عجلات الهكسوس في الزيادة، حتى ساور سيكننرع القلق، وقال لبيبي: لا بد من مواجهة زيادة قوات العدو بما يعيد إلى الميدان اتزانه.

– ولكن يا مولاي ينبغي الاحتفاظ بعجلاتنا الاحتياطية حتى آخِر الموقعة.

– ألا ترى أنَّ العدو يكرُّ علينا كلَّ فترة يسيرة بقوات جديدة متحفزة للقتال؟

– إنِّي أدرك الخطة يا مولاي، ولكننا لا يمكن أن نجاريه فيها لوفرة عجلاته الاحتياطية وقلة عجلاتنا!

فصرَّ الملك بأسنانه وقال: لم نكن نتوقَّع قط أن تكون له هذه الغلبة في العجلات، ومهما يكن فلا يمكنني أن أترك الرماة بلا نجدة، فليس في جيشي رماة سواهم.

وأمر الملك بهجوم عشرين عجلة في خمس وحدات، فانقضَّت كالنسور الكواسر، وبعثت في الميدان حياة جديدة، ولكن أبوفيس أراد أن يرد على حملة سيكننرع الجديدة ردًّا قاسيًا، فأرسل إلى الميدان عشرين وحدة، قوام كل وحدة خمس عجلات، فزلزلت الأرض بصلصلتها، وملأت الفراغ بجبال من غبار ثائر، واستطارت المعركة وجرَتِ الدماء كالنهر، وتقدَّم الوقت وهي لا تهدأ أو تخف وطأتها حتى توسطت الشمس كبد السماء، وجاء بعد ذلك رجال الكشافة وآذنوا الملك بارتداد أسطول الرعاة بعد أن فقد في الأسر سفينتين، وغرقت له سفينة أخرى، فجاء نبأ النصر في وقته ليشد من عزيمة المصريين ويثبت قلوبهم، وأذاعه الضباط في الفِرَق المقاتلة والتي تنتظر أن يجيء دورها في الكفاح، فكان له صدى فرح في الصدور، وفورة حماس في القلوب، ولكن صك ذاك الخبر آذان أبوفيس كذلك، فاستولى عليه الغضب، وغيَّر خطته البطيئة في الحال، وأصدر أمره إلى قوة العجلات بالهجوم والانتقام، ورأى سيكننرع سيلًا عرمرمًا من العجلات ينقضُّ على رماته البواسل من كل مكان، وينشب فيهم أظافره الحادة، وارتاع الملك أيَّما ارتياع، وصاح قائلًا بغضب شديد: إنَّ قواتنا التي نهكها النضال الدائم، لا يمكن أن تثبت وحدها لهذا السيل من العجلات!

ثم التفتَ إلى قائد جيشه، وقال بعزم وإصرار: سنخوض معركة فاصلة بالقوات التي بين أيدينا، فمُرْ ضباطنا البواسل بالهجوم بفرقهم، وبلِّغهم رجائي أن يقوم كلٌّ بواجبه جنديًّا من جنود طيبة الخالدة!

وكان سيكننرع يدرك الهول الذي ينتظره وجيشه، ولكنَّه كان رجلًا باسلًا عظيم الإيمان، فلم يتردَّد لحظةً ونظر إلى السماء وقال بصوت صافي النبرات: «أيها الرب آمون لا تنسَ أبناءك المخلصين»، ثم أصدر أمره إلى قوة العجلات المحيطة به بالهجوم، واندفع أمامها ليلقى عدوه.

وبدأت معركة من أشد المعارك هولًا، علا فيها الصراخ والصهيل وتطايرت الخوذ، وتساقطت الرءوس، وجرت الدماء ولكن لم تُجدِ بسالة المصريين شيئًا في مقاومة العجلات السريعة المدرَّعة، ففتكت بهم فتكًا ذريعًا، وحصدتهم حصدًا كالهشيم، وقاتل سيكننرع قتالًا مجيدًا غير يائس ولا متخاذل، وبدا ساعةً كأنَّه رب الموت يختار له مَن يشاء من عدوه. واستمرَّت المعركة حتى الأصيل، وهناك بدَتِ الغلبة في صف الرعاة، فتحفزوا ليضربوا الضربة القاضية، وهجمت عجلة كبيرة تحرسها قوة عظيمة يقودها فارس شديد البأس طويل اللحية ناصع البياض على عجلة سيكننرع، وشقَّت إليه الصفوف ببسالة خارقة، وأدرك الملك غرض الفارس الجسور، فهرع نحوه حتى تواجها، ثم تبادلا ضربتَين هائلتَين برمحيهما، فتلقى كلٌّ منهما الضربة الموجَّهة إليه بترسه وتحفَّز للقتال، ورأى سيكننرع غريمه يسلُّ سيفه، فعلم أنَّه لم يقنع بتجربة حظه، فسلَّ سيفه واندفع نحوه، وفي تلك اللحظة الرهيبة استقرَّ سهم في ساعده، فارتعشت يده وسقط منها السيف، وصاح كثيرٌ من حرس الملك: «حذارِ يا مولاي .. حذار» ولكنَّ الغريم كان أسرع إليه من الحذر، فوجَّه إلى عنقه ضربة هائلة بأقصى قوته، فأصابت هدفها، وارتسم على الوجه الأسمر أبلغ الألم، وتوقف مقهورًا عن المقاومة، فقبض عدوه بيمناه على رمح ورشقه بقوة، فاستقرَّ في جانب الملك الأيسر، وترنَّح على أثره ذاهلًا وسقط على الأرض، وتعالى الصياح من كلِّ جانب، فقال المصريون: «رباه .. لقد سقط الملك .. دافعوا عن مليككم!» وصاح قائد العدو وهو يبتسم ابتسامة الظافر: «أجهِزوا على المتمرِّد العاصي، ولا تبقوا على أحد من رجاله»، فاشتدَّ القتال حول جسد الملك الملقى، وانقضَّ عليه فارس حقود، ورفع بلطة حادَّةً، وهوى بها على رأسه فأطاح عنه تاج مصر المزدوج، وتفجَّر منه الدم كالينبوع، وثنَّى بضربة أخرى فوق العين اليمنى، فحطمت العظام وتناثر المخ في حالة بشعة، وأراد كثيرون أن يصيبوا من تلك المأدبة الدموية ما يشفون به غلهم، فتكالبوا على الجثة ووجَّهوا إليها طعنات مجنونة قاسية، أصابت العينَين والفم والأنف والخدَّين والصدر، فمزقت الجثة وأغرقتها في بحر من الدماء!

وكان بيبي يقاتل على رأس مَن بقي من جنوده، مدافعًا قوات العدو المتدفِّقة على البقعة التي سقط فيها مولاه، واستيأس القوم في القتال، وهانت عليهم الحياة، وعزموا جميعًا على الاستشهاد في المكان الذي ارتوى بدماء مليكهم الباسل، فما زالوا يسقطون رجلًا إثر رجل حتى أدركهم المساء، ولبس الكون الحِداد، فكفَّ الفريقان عن القتال، وقد نهكهم التعب وأثخنتهم الجراح.

١١

وخرج الجنود بالمشاعل يبحثون عن قتلاهم وجرحاهم، وكان القائد بيبي واقفًا إلى جوار عجلته بعد أن نال الإعياء منه كلَّ منال، يتجه قلبه إلى الجثة التي خضبت دماؤها الزكية الميدان، فسمع صوت قائد يقول: يا للعجب .. كيف انتهت الموقعة العظيمة بمثل هذه السرعة؟! مَن يصدِّق أننا فقدنا جُلَّ قواتنا في نهار واحد؟! كيف أمكن التغلُّب على جنود طيبة الأشداء؟!

فقال له صوت آخَر كان من الإعياء كالحشرجة: إنَّها العجلات التي لا تُقاوَم، لقد حطَّمَت آمال طيبة جميعًا.

فناداهم القائد بيبي قائلًا: أيها الجنود .. هل أدَّيْتم ما عليكم نحو جثة سيكننرع؟ .. هلمُّوا نبحث عنها بين الجثث!

فسرَتْ قشعريرة في نفوسهم المتهالكة .. وأخذ كلٌّ منهم مشعلًا وتبعوا بيبي صامتين، يعقد ألسنتهم حزن عميق، وتفرَّقوا في البقعة التي سقط فيها الملك، تصك آذانهم أنات الجرحى وهذيان المحمومين، وكان بيبي لا يكاد يرى ما بين يدَيه من الحزن والألم، ولا يكاد يصدِّق أنَّه يبحث حقًّا عن جثة سيكننرع، ويكبر عليه أن يسلِّم بأنَّ موقعة طيبة قد انتهت هذه النهاية الأسيفة، وكان يقول والدموع تطفر من عينَيه: «اشهدي يا أرض كبتوس واعْجَبي … إننا نبحث عن جثة سيكننرع بين كثبانك .. ألا رفقًا بها، ولتكوني فراشًا وثيرًا لأضلعها المصابة، ألم تسقط فداءً لك ولأرض طيبة! .. واهًا يا سيدي .. مَن لطيبة بعدك؟ .. مَن لنا غيرك؟ …» وظلَّ في حيرته قليلًا ثم سمع صوتًا يصيح قائلًا: «أيها الرفاق تعالوا .. هاكم جثة مولانا»، فجرى صوبه والمشعل في يده، فزعت عيناه من الهول الذي ستراه، ولما بلغ مكان الجثة فرَّت من فمه صرخة مدوية، امتزج فيها الألم بالغضب، رأى ملك طيبة كتلة مشوَّهة من لحم ممزَّق وعظام بارزة ودم مسفوح والتاج مُلقًى إلى جانبه، فصاح غاضبًا: «يا للغربان الدنية .. لقد فعلوا ما قد تفعل الذئاب بجثة الأسد الهصور، ولن يضيرك أن يمزِّقوا جسدك الطاهر، فقد حييت كما ينبغي لملك من ملوك طيبة أن يحيا، ومتَّ ميتة البطل الباسل …» وصاح فيمَن حوله ممَّن أذهلهم الحزن: «أحضِروا الهودج الملكي، هيا يا نيام» وأتى بعض الضباط بالهودج، واشتركوا جميعًا في رفع الجثة ووضعوها عليه، ورفع بيبي تاج مصر المزدوج ووضعه إلى جانب رأس الملك، ثم سجى الجثة، وحملوا الهودج في صمت أليم، وساروا به نحو المعسكر المهيض الجناح، ووضعوه في الخيمة التي فقدت حاميها وسيدها إلى الأبد .. وكان جميع القُوَّاد والضباط الذين نجوا من الموت يقفون حول الهودج منكِّسي الأذقان، ترهقهم كآبة، ويغشى أبصارهم حزن عميق، فالتفت إليهم بيبي بصوت قوي النبرات: أفيقوا أيها الرفاق ولا تستسلموا للحزن، فليس الحزن بمُعيد سيكننرع إلينا، ولعله ينسينا واجبنا نحو جثته ونحو أسرته ونحو وطننا الذي قُتل من أجله، لقد وقعت الواقعة، ولكن المأساة لم تتم فصولها، فينبغي أن نثبت في مراكزنا حتى نؤدي واجبنا كاملًا.

فرفع الرجال رءوسهم، وأصروا بأسنانهم صرير العزم والقوة، ونظروا إلى قائدهم نظرة كأنما يعاهدونه بها على الموت، فقال بيبي: إنَّ الشجاع الحق مَن لا تُنسيه الكوارث واجبه، وقد يكون من الحق أن نُقرَّ بأننا خسرنا موقعة طيبة، ولكن واجبنا لم ينتهِ بعدُ، وعلينا أن نثبت أنَّنا أهل للميتة الشريفة، كما كنا للحياة الشريفة.

فصاحوا جميعًا قائلين: لقد ضرب لنا مليكنا المثل الأعلى، وسوف نتبع أثره.

فتهلَّلَ وجه بيبي وقال بسرور: حُيِّيتم من جنود بواسل، والآن أصغوا إليَّ؛ لم يبقَ من جيشنا إلا أقله، ولكننا سنخوض المعركة غدًا على رءوسهم حتى آخِر رجل، وسيكون من جراء قتالنا أن نعوق تقدُّم أبوفيس حتى تتهيأ فرص النجاة لأسرة سيكننرع، فما دام أفراد هذه الأسرة على قيد الحياة، فالحرب بيننا وبين الرعاة لن تنتهي، وإن سكنت في الميادين إلى حين، سأفارقكم بعض يوم لأؤدي واجبي نحو هذه الجثة ونحو ذريتها الباسلة، ثم أعود إليكم قبل مطلع الفجر، لنموت معًا في ميدان القتال.

طلب منهم أن يصلوا جميعًا أمام جثة سيكننرع، فجثوا وجثا، واستغرقوا في صلاة حارة، وختم بيبي صلاته قائلًا: أيها الرب الرحيم، تغمَّدْ مليكنا الباسل برحمتك في جوار أوزوريس، واكتب لنا ميتة سعيدة كميتته، كي نلقاه في العالم الغربي بوجوه لا يخزيها لقاؤه.

ثم نادى بعض الجنود وأمَرَهم بحمل الهودج إلى السفينة الفرعونية، والتفَتَ نحو رفاقه وقال: أستودعكم الرب وإلى اللقاء القريب.

سار خلف الهودج حتى وضعوه في المقصورة، ثم قال لهم: حين تبلغ بكم السفينة طيبة، سيروا به إلى معبد آمون، وضعوه في البهو المُقدَّس، ولا تجيبوا مَن يسألكم عنه حتى أوافيكم.

وعاد القائد إلى عجلته، وأمر السائق بالمسير إلى طيبة، فانطلقت بهما تنهب الأرض نهبًا.

•••

وكانت طيبة تسلم جفونها للنوم، تحت ستار الظلام الذي يغشى معابدها ومسلَّاتها وقصورها، في غفلة عما يقع خارج أسوارها من الأحداث الجسام، فاتخذ سبيله رأسًا إلى القصر الفرعوني، وأعلن الحرس حضوره، فجاء رئيس الحجَّاب على عجل، وردَّ تحيته، وسأله بقلق: ماذا وراءك أيها القائد؟

فقال بيبي بلهجة دلَّت على الجزع: ستعلم كلَّ شيء في حينه أيها الحاجب الأكبر، والآن استأذن لي في المثول بين يدَي ولي العهد!

فغادر الحاجب الحجرة غير مرتاح البال، ثم عاد بعد زمن قصير وهو يقول: «إن صاحب السمو ينتظرك في جناحه الخاص»، فمضى القائد إلى جناح ولي العهد وأدخل عليه في بهو الاستقبال. وسجد بين يدَيه، وقد أدهشت الزيارة غير المتوقعة الأمير، فلما رفع بيبي رأسه ورأى الأميرُ وجهه الشاحب، وعينَيه الذابلتَين، وشفتَيه الممتقعتَين، ساوره القلق، وسأل كما سأل حاجبُه من قبل قائلًا: ماذا وراءك أيها القائد بيبي؟ .. فلا بد من أمرٍ جلل دعاك إلى مفارقة الميدان في هذا الوقت؟

فقال القائد بصوت دلَّتْ لهجته على الحزن والكآبة: مولاي، ما تزال الآلهة — لأمر تخفى عليَّ حكمته — غاضبة على مصر وأهلها!

فوقع هذا الكلام من نفس الأمير موقع اليد القابضة من العنق، وأدرك ما يدلُّ عليه من الأخبار المحزنة فتساءل في قلق وجزع: هل أصيب جيشنا بكارثة؟ .. هل يطلب والدي مددًا؟

فأطرق بيبي وقال بصوت خافت: وا أسفاه يا مولاي، لقد فقدت مصر راعيها مساء هذا اليوم الكئيب.

ففزع الأمير كاموس قائمًا، وصاح به: هل أصيب والدي حقًّا؟

فقال بيبي بصوته الثقيل الحزين: سقط مليكنا سيكننرع وهو يقاتل على رأس جنوده قتال الأبطال الجبابرة.

وانطوت تلك الصفحة النبيلة الخالدة من سجل أسرتكم العظيمة.

فقال كاموس وهو يرفع رأسه: ربَّاه .. كيف تمكِّن لعدوك من ابنك المخلص؟ رباه ما هذه الكارثة التي تنزل بمصر؟ ولكن ما جدوى التشكي؟ ليس هذا وقت البكاء، لقد سقط والدي فينبغي أن أحلَّ محله .. صبرًا أيها القائد بيبي حتى أعود إليك في لباسي الحربي.

ولكن القائد بيبي قال بسرعة: لم أجئ إلى هنا يا مولاي لأدعوك إلى القتال، لقد قُضي الأمر وا أسفاه .. فحدجه بنظرة حادة قاسية، وسأله: ماذا تعني؟

– لا فائدة تُرجى من القتال!

– هل قضي على جشينا الباسل؟

فأطرق بيبي وقال بحزن شديد: خسرنا المعركة الفاصلة التي كنا نرجو أن نحرِّر بها مصر، وتحطمت قوة جيشنا الأساسية، ولن تُرجى فائدة حقة من القتال، ولن نقاتل إلا لكي نفسح لأسرة مليكنا الشهيد وقتًا للنجاة.

– أتريد أن تقاتل حتى نفرَّ فرار الجبناء، تاركين جنودنا وبلادنا فريسة للعدو؟

– بل فرار الحكماء الذين يُقدِّرون العواقب وينظرون إلى المستقبل البعيد، ويسلمون بالهزيمة إذا وقعت، ثم ينسحبون من الميدان إلى حين، ثم لا يلبثون أن يجمعوا قواهم المبعثرة ويحملوا على عدوهم عودًا على بدء .. مولاي تفضل وادعُ ملكات مصر، وليكن الأمر شورى!

ودعا الأمير كاموس حاجبًا، وأرسله في طلب الملكات، ومضى يتمشَّى جيئةً وذهابًا يتناوبه الحزن والغضب، والقائد واقف بين يدَيه لا ينبس بكلمة، وجاءت الملكات: توتيشيري وأحوتبي فستكيموس مسرعات، وحين وقعت أبصارهنَّ على القائد بيبي وقد انحنى لهنَّ تحيَّةً، ورأين الكدر مرتسمًا على وجه كاموس بالرغم من تظاهره بالهدوء، شعرن بخوف واضطراب، وزاغت أبصارهنَّ، وكان كاموس جزعًا فدعاهنَّ إلى الجلوس، وقال: سيداتي .. دعوتكنَّ لأقصَّ عليكن أنباء أسيفة!

وتريَّث لحظة كي لا يفاجئهن، ولكنهن فزعن، وقالت توتيشيري بقلق: ماذا وراءك أيها القائد بيبي؟ .. كيف حال مولانا سيكننرع؟

فقال كاموس بصوت متهدج: جدتاه .. إن قلبك لذكي الشعور، صادق الحدس .. فليثبت الله قلوبكن، ويُعِنكنَّ على تحمُّل الخبر الفاجع .. لقد قُتل أبي سيكننرع في الميدان، وخسرنا المعركة!

وعطف رأسه عنهن حتى لا يرى آلامهن، وقال وكأنَّه يحادث نفسه المكلومة: قُتل أبي وهُزمت جيوشنا، وقُضي على قومنا أن يعانوا الآلام جميعًا، من أدنى الجنوب إلى أقصى الشمال.

ولم تتمالك توتيشيري فزفرت زفرة حرَّى كأنما مجَّتْ بها فتات كبدها، ووضعت يدها على قلبها وهي تقول: ما أشدَّ جرح هذا القلب العجوز!

أما أحوتبي وستكيموس فقد ثقل رأساهما، ووكَفَتْ أعينهما دمعًا ساخنًا، ولولا وجود القائد بينهما لانتحبتا انتحابًا عاليًا.

ووقف بيبي وسط ذاك الحزن الشامل صامتًا، مجروح الصدر، مضعضع الحواس جميعًا، وكان يحزنه أن يضيع الوقت سُدى، وخشي أن تفلت من أسرة مولاه فرصة الهرب فقال: يا ملكات أسرة مولاي كاموس، تجلَّدن وتصبَّرن، فإنَّه وإن كان الخطب أكبر من العزاء، فإنَّ الساعة أولى بالحكمة وعدم الاستسلام للحزن، وأستحلفكن بذكرى مولاي الشهيد أن تُكفكِفَنَّ دموعكن، بالصبر، وتحزمن أمتعتكن، فليست طيبة بالمثوى الأمين غدًا!

فسألته توتيشيري قائلة: وجثة سيكننرع؟

– فلتطمئن نفسك يا مولاتي، سأؤدي واجبي نحوها كاملًا.

فسألته مرة أخرى: وإلى أين تريد أن نذهب؟

– مولاتي، ستقع مملكة طيبة بين يد الغزاة إلى حين، ولكن لنا وطن آخَر أمين في بلاد النوبة، ولن يطمع الرعاة في النوبة لأنَّ الحياة فيها جهاد يشق على نفوسهم المترفة، فلتكن لكم مهجرًا آمنًا، لكم فيه أنصار من قومنا وأتباع من جيراننا، وهنالك يعاودكم التفكير في هدوء، فترعون أمل المستقبل الجديد، وتتعهدونه بالصبر والبسالة، حتى يأذن الرب فيشق سنا النور البهيج ظلمات هذا الليل الدامس!

وكان كاموس يصغي إليه في هدوء وسكينة، فقال له: فلتهاجر الأسرة إلى بلاد النوبة، أما أنا فأوثر أن أسير على رأس جيشي أقاسمه حظه في الحياة أو الموت.

فساور القلق القائد، ونظر إلى مولاه بعين رجاء وتوسُّل، وقال: مولاي، لن أستطيع أن أثنيك عن إرادة تريدها، فَلْأكِلِ الأمر إلى حكمتك، ولا أسألك إلَّا أن تُصغي إليَّ قليلًا.

مولاي، إنَّ القتال اليوم عبث ضائع، ومعناه الهلاك المبين، ومصر لن تنتفع بموتك، ولا موتك بمُخفِّف عنها بعض آلامها، ولكنها بغير شك تخسر بفقدان حياتك خسارة لا تعوض، إنَّ كل أمل في النجاة منوط بحياتك، فلا تحرم مصر الأمل بعد أن حُرمت السعادة .. فاجعلوا «نباتا» هدفكم، وشدوا إليها الرحال، وهناك يتسع لكم المجال للتفكير والتدبير وإعداد وسائل الدفاع والكفاح، لن تنتهي هذه الحرب كما يتمنى أبوفيس، فلا يتسنى لشعب كشعبنا عاش سيدًا كريمًا، أن يطرق على الذل طويلًا، ولسوف تحرر طيبة يا مولاي في تاريخ قريب، ولن تقف بك الحماسة عند حد، فتطارد الرعاة القذرين حتى تطردهم من وطنك .. إنَّ سنا ذاك اليوم الأغر يتخايل لعينَي في ظلمات الحاضر الكئيب، فلا تتردد واعزمْ عزمة الحكمة، والآن وقد بيَّنتُ لك نهج الحق، فاقضِ بما أنت قاضٍ!

وكفَّ بيبي عن الكلام، وما كفَّتْ عيناه عن التوسُّل والرجاء، وتحوَّلت توتيشيري إلى «كاموس»، وقالت بصوت خافت: لقد نطق القائد بالحق فاتبع قوله.

فأحسَّ القائد البائس بندى الأمل، وانتعش فؤاده بالفرح، ووجم كاموس ولم ينبس بكلمة، فقال بيبي وكان يكذب أول مرة في حياته: أما أنا يا مولاي فسألحق بكم بعد حين .. فأمامي واجبان مقدسان: أن أُعنَى بجثة مولاي، وأن أشرف على تحصين أسوار طيبة، لعلها بالمقاومة الناجحة تساوم على التسليم بأحسن الشروط.

ولم تتمالك الملكات فأجهشن بالبكاء، وغلب التأثُّر بيبي فقال: ينبغي أن نواجه محنتنا بشجاعة، وليكن لنا في سيكننرع أسوة حسنة، ولنتذكر دائمًا يا مولاي أنَّ العجلات الحربية هي سبب هزيمتنا، فإن كررتَ يومًا على العدو، فلتكن العجلات عتادك، والآن سأذهب لأدعو العبيد إلى حمل الثمين الغالي من ذهب القصر وسلاحه، مما لا غنى عنه!

نطق القائد بيبي بهذه الكلمات، ثم ذهب.

١٢

وانبعثت في القصر حركة نشاط شاملة، وأُضيئَت حجراته جميعًا، ومضى العبيد يحملون الثياب والسلاح وصناديق الذهب والفضة، ويذهبون بها إلى السفينة الفرعونية في سكون محزن، تحت رقابة رئيس الحجَّاب، وكانت الأسرة الفرعونية في أثناء ذلك تنتظر في حجرة الملك كاموس، تشملها الكآبة والصمت، ينكس أفرادها النبلاء رءوسهم، مظلمة أعينهم من اليأس والحزن، ولبثوا على حالهم ما لبثوا، حتى دخل عليهم الحاجب حور، وقال بصوت خافت: انتهى كل شيء يا مولاي.

ووقعت كلمة الحاجب من آذانهم موقع السهم من العنق، فخفقت قلوبهم، ورفعوا وجوههم ذاهلين، وتبادلوا نظرات القنوط والكمد، أحقًّا انتهى كل شيء .. وهل أزفت ساعة الوداع؟ .. أهذا آخِر العهد بالقصر الفرعوني، وطيبة المجيدة، ومصر الخالدة؟ .. وهل يحرم عليهم غدًا أن يروا مسلة أمنمحعت، ومعبد آمون، والسور ذا الأبواب المائة؟ .. أتضيق بهم طيبة اليوم، وتفتح أبوابها غدًا لأبوفيس يعتلي عرشها ويتحكم في الرقاب؟! كيف يغدو الهداة ضالين، والسادة فارين، وأصحاب الدار مهاجرين؟

ورآهم كاموس لا يتحركون، فقام في تثاقل وتمتم قائلًا بصوت خافت: «هلمُّوا نودِّع حجرة أبي»، فقاموا قومته، وسارت الأسرة في خطى ثقيلة متخاذلة إلى حجرة الملك الراحل، ووقفوا أمام بابها المغلق متهيبين لا يدرون كيف يقتحمونه دون إذن، ولا كيف يلقونها مهجورة. وتقدَّم حور خطوة وفتح الباب، فدخلوا تسبقهم أنفاسهم المترددة وزفراتهم الحارة، وعلقت أبصارهم في رفق وحنان بالديوان العظيم، والمقاعد الوثيرة، والمناضد الأنيقة، وهامت أرواحهم حول مصلى الملك، والمحراب الجميل وقد نحتت عليه صورته جاثيًا أمام الرب «آمون»، فخالوه جميعًا جالسًا على ديوانه، متكئًا على وسادته، يبتسم إليهم ابتسامته الحلوة، ويدعوهم إلى الجلوس، وأحسوا جميعًا روحه تغمرهم وتطوف بهم، فحلَّقت أرواحهم الحزينة في سماء الذكريات، ذكريات الأمومة والزوجية والبنوة، اختلطت آثارها بتنهدهم العميق ودمعهم المسيل!

ثم تنبه كاموس إلى القلوب المنصهرة من حوله، فدنا من صورة أبيه وانحنى لها بإجلال، ولثم جبينها، وتنحَّى جانبًا، فتقدمت توتيشيري ومالت على الصورة الحبيبة، وقبَّلتها قبلة أودعتها آلام قلبها الثاكل المحزون، وودعت الأسرة جميعًا صورة ربها المفقود، ثم مضوا إلى الخارج في صمت حزين كما دخلوا.

ورأى كاموس الحاجب حور في انتظارهم، فسأله قائلًا: وأنت يا حور؟

– إنَّ واجبي يا مولاي أن أتبعكم كالكلب الأمين!

فوضع الملك يده على كتفه شاكرًا، وتقدموا جميعًا في الردهات ذات الأعمدة، يسير بين أيديهم القائد بيبي، ويمشي كاموس في طليعة أسرته، يتبعه الأميران الصغيران أحمس ونيفرتاري، فتوتيشيري، فالملكة أحوتبي، ثم الملكة ستكيموس، ويتبع الجميع الحاجب حور، وهبطوا الأدراج إلى ممرِّ الأعمدة، وانتهوا إلى الحديقة، فسايرهم على الجانبَين عبيد يحملون المشاعل ويضيئون لهم السبيل، فبلغوا السفينة، وانتقلوا إليها واحدًا إثر واحد حتى شملتهم جميعًا، وحمَّ الفراق، فألقوا نظرة الوداع، تاهت أعينهم في الظلام المخيِّم على طيبة كأنه يلفها في ثوب حداد، فتقطعت قلوبهم، وتصدعت صدورهم وعصرَ ألم الحنين قلوبهم الكسيرة وشمله الصمت فكأنهم ذابوا في الظلام ووقف بيبي بين أيديهم لا ينبس بكلمة، ولا يجرؤ على خرق هذا الصمت الحزين، حتى تنبَّه الملك لوجوده، فتنهَّد وقال له: أزفت ساعة الوداع.

فقال بيبي بصوت متهدِّج حزين، وهو يغالب عواطفه مغالبة شديدة: مولاي، وددتُ لو أدركني الموت قبل أن أقف موقفي هذا، فليكن عزائي أنكم تسيرون في سبيل الرب آمون وطيبة المجيدة، وأرى أنَّ ساعة الوداع قد أزفت حقًّا كما تقول يا مولاي، فسيروا يحفظكم الرب برحمته، ويكلأكم بعين رعايته، وإني أرجو أن يمتد بي العمر حتى أشهد يوم عودتكم كما شهدتُ يوم هجرتكم، كي يسعد قلبي برؤية طيبة العزيزة مرة أخرى .. الوداع يا مولاي .. الوداع يا مولاي!

– بل قُل إلى الملتقى.

– نعم إلى الملتقى يا مولاي.

واقترب من مولاه وقبَّل يده، وكان ما يزال يغالب عواطفه كي لا يبل يدًا كريمة بدمعه، وقبَّل يد توتيشيري، والملكة أحوتبي، والملكة ستكيموس، وولي العهد أحمس، وشقيقته الأميرة نيفرتاري، ثم شدَّ على يد الحاجب حور بمودة، وحنى رأسه للجميع، وغادر السفينة في سكون وذهول.

وعلى أدراج الحديقة وقف يشاهد بدء تحركها وقد ضربت المجاديف في الماء، وأخذت تبتعد عن الشاطئ على مهل وتؤدة كأنها تحس وطأة حزن من عليها، وقد تجمعوا على حائطها، تودع أرواحهم الخافقة طيبة … وأفلت منه زمام نفسه فبكى .. واستسلم للبكاء حتى انتفض جسمه، وما زال يتبع السفينة العزيزة وهي تغوص في الظلمة حتى ابتلعها الليل .. ثم تنهَّد من أعماق صدره، ولبث على حاله لا يدري كيف يبرح الشاطئ، وقد أحسَّ وحشة كأنَّه هوى حيًّا إلى قبر عميق، ثم تحول عن موقفه ببطء وعاد إلى القصر بخُطًى بطيئة متثاقلة، وكان يتمتم قائلًا: مولاي .. مولاي .. أين أنت؟ أين أنتم يا سادتي؟ يا أهل طيبة، كيف تهجعون والموت يحلِّق فوق رقابكم؟ هبُّوا .. لقد قُتل سيكننرع وهاجرت أسرته إلى أقصى الأرض وأنتم نيام .. هبُّوا .. لقد خلا القصر من سادته .. وودَّع طيبة ملوكها .. وسيعتلي عرشكم غدًا عدو لكم، كيف تنامون؟ هبُّوا .. إنَّ الذل وراء الأسوار!

ثم أخذ القائد مشعلًا، وسار في ردهات القصر حزينًا واجمًا يتنقَّل من جناح إلى جناح، فوجد نفسه أمام بهو العرش، واتجه نحوه واجتاز عتبته وهو يقول: «معذرةً يا مولاي عن دخولي دون إذن» وتقدم بخُطًى متخاذلة على ضوء مشعله بين صفي المقاعد التي كانت تعقد عليها الأمور وتبرم، إلى أن انتهى إلى عرش طيبة، وجثا على ركبته، ثم سجد وقبَّل الأرض بين يدَيه، ثم وقف أمامه حزينًا، وضوء المشعل ينعكس على وجهه أحمر مرتعشًا، وقال بصوت جهير: حقًّا لقد انطوت صفحة جميلة خالدة، وسنكون نحن الموتى غدًا أسعد أهل هذا الوادي الذي لم يعرف الليل أبدًا، أيها العرش .. يحزنني أن أبلغك أنَّ صاحبك لن يعود إليك، وأنَّ وريثك مضى إلى بلد بعيد، وأما أنا فلن أسمح بأن تكون منزل وحي الكلمات التي تُشقي مصر غدًا، فلن يجلس عليك أبوفيس، ولتُطْوَ كما انطوى سيدك!

وكان بيبي قد اعتزم أن يدعو جنودًا من حرس القصر، ليحملوا العرش إلى حيث يريد.

١٣

وحمل الجنود العرش كما أُمِروا، ووضعوه على عربة كبيرة، وتقدمهم القائد إلى معبد آمون وهناك حملوا العرش مرة أخرى، وساروا وراء قائدهم تسبقهم بعض الكهنة إلى البهو المقدس. وفي المثوى المقدس، قريبًا من قدس الأقداس، رأوا الهودج الفرعوني محاطًا بالجنود والكهنة، فوضعوا العرش إلى جانبه، وقد علَتِ الدهشة وجوه الكهنة الذين لم يعرفوا من الأمر شيئًا، وأمر بيبي الجنود بالانصراف، وطلب حضور الكاهن الأكبر، وغاب الكاهن زمنًا يسيرًا، ثم عاد يتبع كاهن آمون الذي قدَّر خطر الزيارة الليلية فأتى مسرعًا ومدَّ يده للقائد وهو يقول بصوته الهادئ: طاب مساؤك أيها القائد.

فقال بيبي بلهجة دلت على الاهتمام والجزع: وطالت لياليك يا صاحب القداسة .. هل تأذن لي بالانفراد بقداستك؟ وسمع الكهنة قوله فانسحبوا سريعًا على تطلُّعهم وقلقهم حتى خلا المكان، وتنبَّه الكاهن الأكبر للهودج، فبدا الانزعاج على وجهه، وقال للقائد: ما الذي أتى بالعربة إلى هنا؟ .. وما هذا الهودج؟ .. وكيف تركت الميدان في هذه الساعة من الليل؟

فقال بيبي: أصغِ إليَّ يا صاحب القداسة، فما من فائدة تُرجى من التأني، أو من تهوين شأن ما نحن فيه، ولكن ينبغي الإصغاء إليَّ حتى النهاية لأفضي إلى قداستكم بما عندي، وأمضي إلى واجبي: لقد وقعَتْ واقعة ستُذكر إلى الأبد، مصحوبة بالألم والفخار معًا، ولا عجب فقد خسرنا موقعة مصر، وقُتل مليكنا وهو يدافع عن وطنه، ومزقت الأيدي الغادرة جثته الطاهرة، واضطُرَّت أسرتنا الملكية إلى هجر طيبة، وسيصحو أهل طيبة فلا يجدون أثرًا لملوكهم ولا لمجدهم.

مهلًا يا صاحب القداسة مهلًا .. لقد انتصف الليل أو كاد، وواجبي يهيب بي أن أعجِّل، إنَّ هذا الهودج يحمل جثة مليكنا سيكننرع وتاجه، وإليك عرشه، هذا تراثنا القومي أعهد به إليك يا كاهن آمون؛ لكي تحفظ الجثة وتودعها مكانًا أمينًا، وتحفظ هذه المخلفات في مستقر حريز … والآن أستودعك الرب يا كاهن طيبة، التي لن تموت وإن أثخنتها الجراح.

وكان الكاهن قد همَّ أن يقاطع القائد من فرط انزعاجه، ولكن القائد لم يُمكِّنه، فصمت صمتًا ثقيلًا، وجمد جمودًا مطلقًا، فكأنَّه فقد حواسه جميعًا، وأدرك بيبي ما يعانيه الرجل من الذهول والألم، فقال: إنِّي أستودعك الرب يا صاحب القداسة، مطمئنًا إلى أنَّك ستقوم بواجبك كاملًا نحو المخلفات العزيزة المقدسة.

وتحوَّل القائد عنه إلى الهودج، وانحنى إجلالًا حتى لثم غطاءه وأدَّى له التحيَّة العسكرية، ثم تقهقر إلى الوراء وقد حجبت مدامعه الهودج عن عينَيه، حتى بلغ السلم المؤدي إلى بهو الأعمدة، فأدار ظهره وسار مسرعًا لا يلوي على شيء إلى خارج المعبد، وشعر بأنَّه قد آنَ له أن يلحق بضباطه وجنوده، ليهجم معهم الهجوم الأخير كما عاهدهم.

على أنَّ استغراقه في واجباته لم يُنسِه أمرًا ما تخايل لذاكرته حتى أحسَّ له غمزًا على قلبه لا يسكن، ذكر أسرته، إبانا زوجه وابنه الصغير أحمس، وأهله جميعًا الذين تضمهم مزرعته في ضواحي طيبة، ما أطول السفر! إنَّه لا يستطيع قطع الطريق إلى مزرعته في الليل، ولو فعل ما استطاع أن يفي بعهده لجنوده ولظنُّوه هاربًا، فسيلقى حتفه دون أن يُلقي نظرة وداع على وجه إبانا وأحمس .. وكان هنالك ما هو أثقل على قلبه من هذا، وكان يتساءل محزونًا: هل يترك الرعاة صاحب أرض في أرضه، أو صاحب مال لماله؟ سيُشرَّد السادة غدًا أو يقتلون في ديارهم، وستغدو إبانا وأحمس بلا نصير .. وضاق الرجل، ونازعه قلبه طويلًا إلى بيته وآلِه، ولكن قلبه كان في سبيل، وإرادته الحديدية في سبيل سواه .. وتنهَّد آسفًا وهو يقول: «فلأكتب لها كتابًا …» وبسط على عجلته ورقة وكتب إلى السيدة إبانا يُقرئها السلام ويستودعها الرب، ويدعو لابنه بالخلاص والسعادة، ثم قصَّ عليها ما وقع من أحداث، وما صار إليه الجيش ومليكه، وأخبرها بهجرة الأسرة المالكة إلى مكان مجهول — ولم يذكر النوبة لحكمةٍ يريدها — ونصح لها أن تجمع ما تستطيع من ماله، وتفر وابنها ومَن يتبعها من الأهل والجيران إلى خارج طيبة، أو إلى الأحياء الفقيرة، حيث يختلطون بعامة الشعب ويشاركونهم مصائرهم، ثم باركها وبارك ابنه، وختم كتابه بقوله: «سنلتقي حتمًا يا إبانا هنا أو في العالم السفلي» وأعطى الكتاب سائقَه، وكلَّفه أن يذهب به إلى قصره الريفي ويسلمه إلى زوجه، ثم قفز إلى عجلته وألقى نظرة أخيرة على معبد آمون والمدينة الهاجعة في الغارقة في الظلام، وهتف من صميم قلبه: «ربَّاه .. احفظ بلدك .. الوداع يا طيبة!»

ثم أرخى العنان لجوادَيه، فانطلقا به يعدوان في طريق الشمال.

١٤

وبلغ القائد المعسكر بعد منتصف الليل، وكان الجيش الجريح نائمًا، فمضى إلى خيمته وارتمى على سريره في إعياء وهو يقول: «فلنستجم قليلًا لنموت ميتة تليق بقائد قوات سيكننرع»، وأغمض جفنَيه، ولكن بعض أخيلة قامت غشاءً كثيفًا بين رأسه وبين النوم، فتخايلت له أشباح الأهوال التي ابتلي بها في نهاره وليله، فرأى الرماة وهم يلقون العجلات المنصبة عليهم كالسيل، ومولاه سيكننرع يسقط صريعًا والرمح في جانبه، وكاموس يثور غاضبًا، ثم يسلم محزونًا، وتوتيشيري تئنُّ من جرح قلبها العجوز، ووداع إبانا وأحمس الصغير، وتلك السحب المتلبدة التي تتجمع في أفق الجنوب .. ثم اختلطت الأخيلة فيما يشبه الموج، ورقَّت وتهافتت بغير شعور منه، فانساب النوم إلى جفونه.

واستيقظ حين الفجر على صوت النفير، فقام يحس نشاطًا غريبًا لا يتفق وما لاقاه من إرهاق ونصب ونوم خفيف، وبرح خيمته إلى الخارج، فسمع في سكون الفجر حركة تنتفض في أنحاء المعسكر، ورأى أشباح رجال تُقبل نحوه عرف من أصواتهم ضباطه البواسل المخلصين، فاستقبلهم استقبالًا حارًّا، وكانوا قد قاموا في أثناء غيبته بعمل عظيم، فقال رجل منهم: أرسلنا الجرحى في قوارب إلى طيبة، وكذلك المصابين إصابات خفيفة، لكي ينضموا إلى قوات الدفاع عن أسوار طيبة، وما من شك في أنَّ طيبة ستُحسِن الدفاع عن نفسها حتى تنال أحسن الشروط.

وقال له ضابط آخَر شديد الحماسة: إنَّنا — معشر أهل الجنوب — تهون علينا الحياة في أوقات المِحَن، فما من رجل منا إلا نفد صبره في انتظار المعركة الأخيرة.

وقال ثالث: ما أشهى الاستشهاد إلى نفوسنا في هذه البقعة المقدسة، التي ارتوت بدماء مليكنا الزكية!

فأثنى بيبي عليهم جميل الثناء، وقصَّ عليهم ما وقع في طيبة من هجرة الأسرة الفرعونية، ولكنه لم يذكر لأحد المكان الذي قصدت إليه، وقد بلغ التأثُّر بالضباط مبلغًا عظيمًا، وهتفوا لكاموس الملك، وأحمس ولي عهده، والأم المقدسة توتيشيري.

وولَّت ظلال الظلام، وانعكس الضياء الوضَّاح على سماء الأفق، فانتظمت صفوف الجنود تأهُّبًا لمعركة الموت، وكان ملك الرعاة يدرك ما حلَّ بجيش المصريين بعد مقتل مليكهم، فأراد أن يصعقهم بقوات تشل فيهم كلَّ مقاومة فتأهَّبَ على رأس قواته من العجلات والرماة، ليقضي بضربة واحدة على الجيش الصغير الذي يعترض سبيله .. وحين تراءى الجمعان، بدأ القتال واتصل البحر المتلاطم بالجدول الصافي، وأطبق جيش أبوفيس على الجيش المصري، ودارت عجلة الموت، وبذل المصريون كلَّ ما في طاقته البشرية من بسالة وبطولة، لكنهم تساقطوا سريعًا بطلًا في إثر بطل، وداستهم أرجل الخيل بقساوة، وبدا لعينَي بيبي أن المعركة تنتهي سريعًا، ولا سيما لما شاهده من مصارع كثير من القواد والضباط، ورأى جناحه الأيمن يفنى فناءً عاجلًا، والعدو يوشك أن يحيط بهم، فأراد أن يختم حياته أكرم الختام، وجال بنظره في جيش عدوه، فثبت على قلبه حيث يرفرف علم الهكسوس على أبوفيس وكبار قواده — وبينهم قاتِل سيكننرع بغير شك — فجعله هدفه، وأمر حرسه أن يتبعه ليدافع عن ظهره، ثم أمر سائقه بالاندفاع، وكانت حركة مفاجئة لم يتوقعها العدو الحذر نفسه، وتفادت عجلته مما تعرض لها من عجلات، وأرسلت سهامها إلى قلوب الرماة، ومضت تدنو من أبوفيس حتى فطن الأكثرون إلى غرضها، فتصايحوا غضبًا وخوفًا، وقاتل بيبي ومَن معه قتال من جُنَّ بحب الموت، فتدلَّل عليهم الموت طويلًا حتى شقوا الصفوف إلى جبهة أبوفيس وقواده، وهنالك وجد بيبي نفسه محاطًا بفرسان العدو من كل جانب، ورأى مئات من الرجال يحولون بين عجلته وبين الملك، فقاتل قتالًا عنيفًا والدماء تسيل من وجهه وعنقه وساقَيه، حتى ظنَّ عدوه أنَّه شيء لا يموت، وتكالبت عليه السهام والرماح، والسيوف والخناجر، فسقط كما سقط سيكننرع لاحقًا بحرسه البواسل، وقد ضجَّ الجيش من هجمته الهائلة، وكان القتال — في الميدان — في نهايته، والمصريون يلفظون آخِر أنفاسهم، فأمر أبوفيس بالابتعاد عن جثة الرجل الذي انقضَّ عليه خلال صفوفه المتراصة! ونزل من عجلته وترجَّل دانيًا منه، حتى وقف على رأس الجثة، وجعل يتأمل السهام المنغرسة في كل قطعة منه كشعر القنفذ؛ ثم هزَّ رأسه الكبير ضاحكًا؛ وقال لمَن حوله: لقد مات ميتة جديرة بأشجع رجالنا!

١٥

واستيقظت طيبة كعادتها لا تدري عمَّا سُطِّر لها في لوح الأقدار شيئًا، وإذا بالقرويين يحملون الجرحى آتين من الميدان، فتجمَّع الناس حولهم، وتكاثروا بالأسئلة عليهم، وروى لهم هؤلاء الأنباء على حقيقتها فقالوا لهم إنَّ الجيش هُزم وفرعون قُتل، وهاجرت أسرته إلى مكان مجهول، وذهل الناس وتبادلوا نظرات الإنكار والانزعاج، وذاع الخبر في المدينة فأشاع فيها الاضطراب والتقلقل، ففارق الناس ديارهم، وهرعوا إلى الطرق والأسواق، وتجمعوا في دور الحكومة ومعبد آمون ليأنسوا بالجماعة ويستمعوا إلى زعمائهم، أما أصحاب الضياع والقصور من النبلاء والأغنياء فقد هجروا ضياعهم وقصورهم مذعورين، وفرُّوا جماعات إلى الجنوب أو اختفوا في ثنايا الأحياء الفقيرة.

وجاءت أخبار أسيفة أخرى عن سقوط قسي وشنهور، وأن جيوش الرعاة تتقدَّم نحو طيبة لضرب الحصار حولها وإجبارها على التسليم، فاجتمع الوزراء والكهنة والقضاة الثلاثون في بهو الأعمدة بمعبد آمون، وتشاوروا في الأمر، وكانوا جميعًا يدركون خطر الحال ويحسون دنوَّ النهاية وعبث المقاومة، ولكنهم لم يميلوا إلى التسليم دون شرط أو قيد، ورأوا أن يقوموا خلف أسوارهم المنيعة، حتى ينالوا وعدًا بحقن دماء الأهالي، إلا أوسر آمون فكان شديد الحماسة فائر الغضب، فقال لهم: لا تسلِّموا طيبة أبدًا، ولنقاوم حتى نموت كمليكنا سيكننرع، إنَّ أسوار طيبة لا تُقتَحم، وإذا هُدِّدت حقًّا فلنخرب المدينة ونشعل فيها النيران، ولا نترك لأبوفيس شيئًا منها ينتفع به.

وكان أوسر آمون يهدر غاضبًا، ويلوح بيدَيه كأنه يخطب، ولكن الرجال لم يتحمسوا لفكرته، وقال نوفر آمون: نحن مسئولون عن حياة أهل طيبة، وتدميرها يعرِّض الآلاف منهم للتشرُّد والجوع والبؤس، فليكن هدفنا وقد خسرنا الموقعة أن نخفِّف الآلام ونحصر الدمار.

وفي أثناء ذلك كان الرعاة يهاجمون السور الشمالي بغير هوادة، والحراس يقاتلون عنه بثبات وبسالة، والقتلى تسقط من الجانبَين، وتفقد الوزراء الأسوار فاطمأنوا إلى المقاومة، ولكن أسطول العدو هجم على الأسطول المصري بعد أن جاءه مدد جديد، ودارت معركة حامية انتهت بتحطيم الأسطول المصري، وحاصر أسطول الرعاة غرب طيبة، وأنزل جنودًا كثيرين في جنوبها، فضرب حصاره الكامل حول المدينة، وهجم عليها من الشمال والجنوب والشرق هجومًا عنيفًا، وجاءت هزيمة الأسطول ضربة قاضية على كل أمل في إطالة المقاومة، وهدَّدت المدينة العظيمة بالمجاعة والظمأ، فلم يرَ الزعماء بدًّا من التسليم تفاديًا من الكارثة العظمى، وأوفدوا ضابطًا يعلن وقف القتال، ويستأذن في قدوم رسول عن المدينة للتحدُّث في شروط التسليم النهائية، وعاد الضابط بالموافقة، فوقف القتال في جميع الأسوار، واختار الزعماء نوفر آمون كاهن آمون ليكون رسولًا.

وقَبِلَ الكاهن على غضاضة، وركب عربته فسارت به نحو معسكر الرعاة مثقل الرأي كسير الفؤاد، ومرَّ في طريقه بالفِرَق المختلفة متراصة الصفوف في قوة وصلف وزهو، تخفق عليها الأعلام من كلِّ لون، ثم وقفت العربة فترجَّل في سكون، ووجد في استقباله بعض الضباط يتقدَّمهم رجل قصير القامة بدين كثيف اللحية، عرفه من النظرة الأولى، فهو الرسول خيان نذير الشؤم الذي حلَّ بحلوله الدمار بمملكة طيبة، ولم يغِب عنه ما في استقباله من الشماتة المقصودة، وبدا الرجل صلفًا متعجرفًا مزهوًّا، فنظر إلى نوفر آمون بمؤخر عينه، وقال دون تحية: أرأيت أيها الكاهن إلى أيِّ مصير انتهى بكم رأي أميركم؟ .. إنَّكم تتحمسون كثيرًا وتحسنون الكلام، ولكن لا قِبلَ لكم بالقتال .. ولقد قُضي على مملكتكم بالزوال إلى الأبد …

ولم ينتظر الحاجب كلامًا فسار أمامه نحو خيمة الملك، ورأى نوفر آمون الخيمة كالسرادق مسدلة عليها الستائر، يقف أمامها الحراس البيض الغلاظ ذوو اللحى الطويلة .. ثم أذن له فدخل، ورأى في الصدر الملك أبوفيس في زي الفراعين وعلى رأسه تاج مصر المزدوج، وكان مهيب الطلعة حادَّ البصر أبيض مُشربًا بحُمرة، مسترسل اللحية جميلها، وسط هالة من قوَّاده وحجَّابه ومستشاريه، فانحنى له الكاهن في إجلال، ووقف صامتًا ينتظر أمره، فقال الملك بلهجة ساخرة: أهلًا بكاهن آمون الذي لن يُعبَد بعد اليوم بأرض مصر.

فأغضى الكاهن ولم ينبس بكلمة، فضحك الملك ضحكة عالية وسأله بتهكُّم: أجئتَ تُملي علينا شروطًا؟

فقال نوفر آمون: بل جئتُ أيها الملك لأستمع إلى شروطك، كما ينبغي لزعيم قوم خسروا معركتهم وفقدوا مليكهم، وليس لي سوى رجاء واحد أن تحقنوا دماء شعبٍ ما شهرَ سلاحه إلا ذودًا عن كيانه.

فهزَّ الملك رأسه الكبير وقال: يحسن بك أيها الكاهن أن تصغي إليَّ، إنَّ قانون الهكسوس لا يتغير على مدى الأيام والأجيال، وهو سُنَّة الحرب والقوة إلى الأبد، نحن بيض وأنتم سمر، ونحن سادة وأنتم فلاحون، فالعرش والحكومة والإمارة لنا، فقُل لقومك: مَن يعمل في أرضنا عبدًا فله أجره، ومَن تأبَ عليه نفسه فليُولِّ نفسه وجهةً يرضاها في غير هذه الأرض، وقل لهم: إنِّي أهدر دم بلد كامل إذا امتدت يد بسوء إلى أحد من رجالي، وإذا أردتَ أن أحقن دماء الناس — فيما عدا أسرة سيكننرع — فليأتِ إليَّ سادتكم بمفاتيح طيبة سُجَّدًا … أما أنتم أيها الكهنة فعودوا إلى معبدكم وأغلِقوا عليكم أبوابه إلى الأبد!

ولم يُرِد أبوفيس أن تمتد المقابلة إلى أكثر من هذا، فقام واقفًا إيذانًا بانتهائها، فانحنى الكاهن مرة أخرى وفارق المكان.

وشربت طيبة الكأس حتى ثمالتها، فحمل الوزراء والقضاة مفاتيحها وذهبوا إلى أبوفيس وسجدوا له .. وفتحت طيبة أبوابها ودخلها أبوفيس على رأس جيوشه الغازية الظافرة.

وفي ذلك اليوم أهدر الملك دماء أسرة حاكم طيبة، وأمرَ بإغلاق الحدود بين مصر والنوبة، ثم احتفل بالنصر احتفالًا عظيمًا اشتركت فيه الجيوش جميعًا، وقسَّم الأرض والأموال بين رجاله، فصار الجنوب ملك يده أرضًا ورجالًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤