عَوْد للصاحبين في الغابة
لما فرغ الشيخ من خطاب البَبْغاء، التفت إلى الفتى فقال: لم يَبْقَ إلا أن ننظر في الخروج يا «هاموس». قال: فليكن ذا يا مولاي. قال: ولكني لا أحب أن نكون لتيحو وبوقو كلبَيْ صَيْد نصبر على فضلاتهما، ولا نخرج عن مدى خطواتهما، بل أُحبُّ أن نبني مثل بنائهما، فإن المجد في الدنيا اجتهاد، وإن الكريم إذا ورث شيئًا أضاف عليه من عنده وزاد. قال: وما وراء هذه المقدمات يا مولاي؟ فتبسم الشيخ ضاحكًا ثم قال: أريد يا بني أننا نحذو حَذْوَ ذينك البطلين، فكما أن الأول أنشأ طريقًا؛ تلك التي جئنا منها، وكما أن الثاني اكتشف لرجوعه طريق الغابات الثلاث نحو الشمال، فخرج منه آيبًا إلى وطنه الصين، كذلك أصبح دَيْنًا علينا نحن المقتفين لآثارهما أن نبحث لنا عن طريق نخرج منه لا يكون هذا ولا ذاك، ليَبْقَى أثرًا طيبًا بعدنا، وبرهانًا ساطعًا على إقدام المصريين. قال: وإني لا أكره يا مولاي أن أكون من العاملين النافعين. قال: إذن فاتَّبِعْني. ثم إنه نظر إلى اتجاه منقار الببغاء، وكان موليه شطر المشرق، فتعيَّن عنده الشمال الشرقي، فسار والفتى يتبعه حتى خرجا من غابة الببغاء الأسود، فإذا هما على أرض ذات شجر ونبات، لا تخرج عن صفات ما مرَّ عليهما من الغابات، إلا أنها عطل من الحيوانات نقية من الحشرات، فمشيا فيها بقية نهارهما حتى جاء الليل، فأبرز الفتى الشريط ليوقده كالعادة، فمنعه الشيخ قائلًا: إن النور كما يهديك يهدي إليك، وإن الخمول خيرُ ما ارتدى الجاهل المجهول، فلا تظهر يا بني الساكن الغاب قبل أن يَظهَر لك، واحتجب فإن تسعة أعشار الهيبة في الحجاب.
وفي الحقيقة ما أتم الشيخ كلامَه حتى أخذتْ سماء الغاب تتنكَّر لناظرها، وتتدجَّى قليلًا قليلًا، فإذا هي كتلة هائلة سوداء قائمة في الهواء، ثم إذا بهذه الكتلة تهبط بمقدار حتى انكفأت على الأرض فتركتْها بغير قرار، فقال الشيخ عندئذٍ للفتى همسًا: لا يلبث هذا الصخر الهابط أن ينام النومة التي ما بعدها قيام. قال: لعلك تريد قتله يا مولاي؟ قال: ولِمَ لا وليس هو — إنْ صَدَقَ زعمي — إلا غوَّاص المحيط الأكبر فبطنه المحيط الأصغر، الحامل لمدهشات الجوهر، وإن لنا لجولة فيه نعلم بها ما يخفيه. وكان الطائر في أثناء ذلك قد نام وعلا له شخير شديد كادت له الغابة أن تَمِيد.
فبادر الشيخ إليه بآنية صغيرة فيها شيء من السوائل، فلم يَزَلْ يصب منها في منقاره المنفغر، حتى مال رأسه وانطبق فمُه وارتخى جناحاه، ثم انقضَّ يخب على الأرض، فالتفت الشيخ إلى «هاموس» وكان خلفه قائمًا ينظر. فقال له: الآن نشرع في العمل، فخذ لك سكينًا وساعدني على فتح هذا البطن الجسام، فجرَّد الفتى سكينه وانكبَّا على العمل، فما زالا يُعالِجان ذاك البطن حتى انفتح، فإذا هو كالشكول أو كبَطْن النعام يحتوي على المعدن وغير المعدن، ويحمل ما يُهضَم من الأشياء وما لا يُهضَم، فأنزلا كل ذلك إلى الأرض ثم ابتدراه بالأيدي يُقلِّبان ويفتِّشان، فعثرا بين تلك المواد على شيءٍ كثير من الحجارة المختلفة المقامات، المتفاوتة الدرجات.
وكان الفتى يغسل والشيخ ينقد فإما إلى الخزانة وإما إلى الأرض حتى حصلا على كنز من أنفس الكنوز، ولم يكن بقي سوى الفضلات، فنهضا للرَّواح، ولكنهما ما همَّا حتى عادت السماء فتنكرت ثانية، وشوهدت تلك الظواهر بعينها، فصاح الشيخ حينئذٍ بالفتى قائلًا: هذا الذكر يتنزل يا «هاموس» فاستلَّ أكبر خناجرك وأمضاها، وقِف بجانبي، فإذا رأيتَه وقد مَسَّتْ مخالبُه الأرض وجناحاه مبسوطان من قوة الهبوط يخفقان، فاطعَنْه تحت أحدهما، وخلِّ الآخر، فإني مُمَكِّن منه خنجري قبل أن يتمكن من النظر إلى رفيقه، ورؤية ما حل به، فيهيج فنقع معه في حرب وكرب.
وما فاه الشيخ بهذه الكلمات حتى بلغ الطائر الأرض، فما كاد يطمئن بحَيِّزه العظيم منها حتى سأل الشيخ الفتى: كيف طعنتُك يا «هاموس»؟ قال: مِن المُذِيبات الحديد يا مولاي. قال: إذن فتقدَّمْ؛ فقد هلك هذا الآخر أيضًا وآل إلينا كنز جديد، ثم إنهما انبريا يفعلان به كفعلهما بالأول، فبينما الفتى يلتقط وينقِّي ثم يناول الشيخ وهذا يأخذ، أو ينبذ، دفع إليه «هاموس» بلؤلؤة صفراء بلمعان الذهب، ولها شكل البيضة الصغيرة وحجمها، فحين وقع نظرُه عليها لم يتمالك من فرحه أن صرخ قائلًا: أتدري قدر ما ناولتَنِي يا «هاموس»؟ قال: وما عساي ناولتُك مما فات التفاتي قدره يا مولاي. قال: يتيمة الصين المحتجبة منذ آلاف السنين. قال: وأين كانت قبل طول احتجابها؟ قال: في صدور الملوك والسلاطين، يحملونها فتكسو وجوههم أزين اللون وأجمله. كما أنها تكسب الثياب لمعانًا لطيفًا، فإذا رأيتها حسبتها مزرَّة على النجم الساطع، وكذلك هي تداوي من عِشْق الحِسَان، فإذا حَمَلَها إنسان، وكان مصابًا بهذا الداء القتال، انصرف عنه مع الزمن وزال، فكأنما يتسلى بجمال، عن جمال، ويتعوض باشتغال، عن اشتغال، ويزعمون أيضًا أنها كانت حجاب هيبة وجلال، وسعادة وإقبال، لبيت من البيوت المالكة في الصين قديم خالٍ، فلما فقدت أخذ ملك الصين في الاضمحلال، ووقعت البلاد من ذلك الحين في شر حال. فأنا لو حملتُها اليوم إلى ملك الصين لأعطاني بها الجبال الشُّمَّ من المال. فإنِ استزدتُ شاطَرَنِي مُلْكَه الواسعَ مرتاحًا غير قالٍ. فمرحبًا بك يا يَتِيمةَ الصِّين، وأهلًا وسهلًا بهذا الحِباء السماوي الثمين، ثم إنه لفَّ الدُّرَّة بصيانة، ووضعها في جانب خاص من الخزانة، ونهض بعد ذلك فسار، ومشى الفتى يَحمَد مع شيخه الأسفار، وقد ثبت عنده أنها خير الحبائل لصيد محاسن الصدف، واقتناص عجائب الأقدار، إلى أن راح الليل وجاء النهار، وإذا الغابة خالية الجو لهما صِفْر من الوحوش والأطيار. فاستمرَّا في سَيْرِهما آمنَيْن ناشطَيِ الأقدام، فقضيا نهارهما ذاك في طعام ومُدَام، ومَشْيٍ وكلام، حتى وَافَى الظلام، فقابلاه على ذلك الغاب الأمين بطيب المنام.
فلما أصبح الصبح انتبها من رقادهما، وكانت الغابة قد أخذت تتبدَّى لهما في مظاهر غير تلك المظاهر، وتتبدَّل أمامهما مناظر من مناظر؛ فأدرك الشيخ حينئذٍ أنهما يَفِدان على غابة جديدة، فنبَّه الفتى لذلك ثم قال: لم يبقَ ما لم نصادف غير النمر، مع كونه حيوان الناحية، وطامَّة الهند والداهية. قال: لعل هذه غابته يا مولاي؟ قال: لعلها يا «هاموس». وإني أكاد أُحِسُّ سِرَّه في المكان. قال: وهَبْ أنها غابته، وأنه خرج إلينا، فبماذا نحن ملاقوه يا مولاي؟ قال: بالخناجر الماضية يا «هاموس».
وبينما هما كذلك في ذكر النمر يتوقعان ظهوره، تقضَّى الشيخ نظره الحديد، فرأى حيوانَيْن صغيرَيِ الحَجْم أسودَيْن يُقبِلان من جوف الغابة؛ فأشار للفتى أن يستعدَّ قائلًا: هذا هو النمر الرهيب يا «هاموس»، لُقِّب بذلك لأن النُّمورة على اختلاف أنواعها وأجرامها تَرْهَبه على قِلَّة حَجْمه، وتَجفل عن لقائه، ولا تملك لمفاصلها شدًّا أمام نظراته الجاذبة المؤثِّرة، ولا أحسب هذين إلا ذكرًا وأنثى فتكفَّل أنت بأصغرهما. وهي الأنثى، وخلِّ لي الآخر، والآن دعني أطعنهما بالرعب قبل طعن الخناجر.
ثم إنه انبرى هائلًا كالصخرة فجعل يهدر يمنة مرة ويسرة، ويبعث الزائرة، بعد الزائرة، والخنجر بيمينه يتوقد كالجمرة، حتى إذا ظهر الأسودان، وبان كلاهما للعيان، صرخ الشيخ قائلًا: الْقَ كَلْبَتَك يا «هاموس»، فطار الفتى نحو الأنثى، وابتدر هو لقاء الذَّكَر فبلغه في وثبة، وكان كأنه الثعبان النافر، استجماعًا وقيامًا يلحظ الشيخ شررًا بعينيه تتدفقان جمرًا، وبين فكَّيْه جهنم الحمرا، وهو حَنِق ثائر يزأر زأرًا، فما زال الشيخ به يُزائِره ويُشابُّه ويُداوِره، حتى تمكَّن من ظهره، فأنشَبَ فيه خِنْجَرَه، فخرَّ الحيوان على الأرض هدًّا، فتركه كذلك شيئًا، ليس بالحي، ومشى سريعًا نحو «هاموس» لينظر كيف حالُه مع الأنثى، فإذا هو لا يزال معها في عنيف قتال. وقد ظهر على ساعدَيْه الكَلَال، فأومأ إليه أنْ يكفَّ فكفَّ، وأخذ هو محلَّه في الصف، وكانت الخبيثة قد وهنتْ قواها، وأوشكتْ أن يخذلها ساعداها، فلم يقتلها الشيخ، ولكن أسَرَها، فاستغرب «هاموس» فعلَه وسأله قائلًا: ما نفعُها يا مولاي حتى تكلِّفنا عناء سحبها وحبسها؟ قال: إننا سنطلقها يا «هاموس» إذا حققنا أن لها صغارًا ينتظرون أوبتها انتظارًا. قال: ومتى رُئِي أو سُمع أن السباع تُؤْسر ثم تُطلَق؟ قال: ليس الجبن مني بهذا المكان حتى أَرْهَب فريستي أو أَهابَ أسِيري، وليست المروءة بضائعة عندي إلى هذا الحدِّ حتى أظْلِمَ صغار هذا الحيوان (الخفيف):
ثم إنه سار يسوق أسِيرَه بين يديه و«هاموس» خلْفَهما يُكثِر التعجُّب من الأمر حتى إذا قطعا مسافة عظيمة من الطريق شعر الشيخ بالنَّمِرة تُجاذِبه الحَبْل بقوة نحو اليَمين، فَنبَّه «هاموس» لذلك ثم أطلقها، فإذا هي قد أخذتِ اليَسَارَ تَعْدُو عَدْوًا حتى توارتْ عن نظرَيْهِما فتركاها وشأنها واستمرَّا في سيرهما. فسأل «هاموس» عندئذٍ شيخه قائلًا: ما بالُها يا مولاي أخذتِ اليسار وقد كانت تُجاذِبُك الحبل نحو اليمين؟ قال: إنها كانتْ تَصْرِفنا عن مناخ صِغَارِها، وهذا يا بنيَّ من غريب الحنان عند الحيوان؛ فالشفقة عنده مُبْصِرة بقدْر ما هي عمياء عند الإنسان.
وكان النهار قد فَنِيَ أو كادَ، ووجوه الغاب قد أخذت تتصوَّر صورًا جديدة، فصارتِ الأرض رمليَّة صفراء، وكانت طينة سوداء، وتحوَّل الشجر من الطُّول للقِصَر، وظهر في الصِّغَر بعدَ مظهَر الكِبَر، وأخذ يقلُّ بعد الكَثْرة، ويتعوَّض عن لون الأخضر بالصُّفْرة، وانكشفتْ لناظرها السماءُ، وسَرَى نسيمُ الدنيا في ذلك الفضاء، فالتفت الشيخ عندئذٍ يقول للفتى: لقد أوشكنا نستقبل سماء الدنيا يا «هاموس». ولو شئت وشاءت لك القوى فوافقتَنِي على متابعة التقدُّم لأصبحنا وليس قُدَّامنا إلا فضاءُ البحر طويله وعريضه. قال: هذا ما أبغي يا مولاي، فسِرْ بنا على اسم السلامة.
ثم إنه أشعل الشريط وسار يتبع مولاه، ولكنهما ما كادا يحوزهما الفضاء حتى سمعا زئيرًا يردد من بعيد، فتفرَّغ الفتى والتفتَ الشيخ فأَجْهَدَ أُذُنَيْه، ورَمَى في فحْمة الظلماء بشَرَرِ حدَقَتَيْه. ثم قال: تلك أسيرتُنا التي مَنَنُّا عليها بالإطلاق، قد زَكَا عندَها المعروف، فأتتْ تُحذِّرنا من محذور، وتنبئنا أن الطريق معمور. قال: وما عسى يا تُرَى أن يكون على هذه الأرض العراء؟ قال: ليكن ما هو كائن يا «هاموس»، فورأس «آشيم» لا تزعزعنا ولا تزحزحنا ولا امتنعنا عن السُّرَى، ولا استرحنا أو نَرَى النَّهَار طالعًا. ثم إنه مدَّ لقَدَمِه الخَطْوَ يَصِل السُّرَى، وتَبِعَه «هاموس» مطيعًا ممتثلًا، فما زال يعتسفان في بوادي الظلام وبين جيوشه والخيام، حتى انتصف الليل فلم يَدْرِيا إلا بشيءٍ هائل كالتَّلِّ قد أقبل من بُعْدٍ يَسعَى. فقال الشيخ عندئذٍ للفتى: عجِّل يا «هاموس» فأنِلْ بطنَك ظهْرَ الأرض واعتَنِقْها ثم لا تتحرَّك، وأنا أيضًا فاعل ذلك، حتى نَرَى لنا مع هذا التلِّ الزاحف أمْرًا.
وما هو إلا أنِ انطرح الرجلان بتلك الصورة على الأرض حتى مرَّ بهما حيوان هائل الجثة في عرض الفيل الكبير وطول أربعة من الفيلة مقطورات، وهو يمرُّ مرَّ الريح، فيسيل بمزاحفه الغاب، وعلى بشرته الحَجَريَّة خلقٌ لا يُحصَى من حشرات البرِّ والبحر، وهو لا يحس منها بشيءٍ ولا يستشعر لحملها ثقلًا، حتى إذا صار بعيدًا عنهما نهضا. فقال الشيخ ﻟ «هاموس»: إن هذا الوحش بحري بري في آنٍ، وهو لا شك قادم من البحر، ولعل له بيضًا على هذا المكان، فهو يغشاه ليتعهَّد بيضَه، ثم يعود إلى عالم الماء.
والآن إذ قد صرنا ولا مقصد لنا إلا البحر، فهذه خير فرصة تغتنم للاختصار من الزمن وتقريب المسافات؛ لأن ما نسيره نحن منها في أيام، يقطعه هذا الفَلَك البرِّيُّ في ساعات. قال: لعلك تَرَى لنا يا مولاي أنْ نمتَطِيَ ذاك الجبل المتحرك؟ قال: ولِمَ لا وقد ساقتْه لنا السعادة مطيَّةً لم يَركبْها قبلنا أحد؟ قال: أنت يا مولاي كالقائد الجريء السعيد يراه الجُنْد أولى بالطاعة، وإنْ ضرت منه بالمخالفة، وإنْ نفعت فاقضِ ما أنت قاضٍ. فإشارتك مطاعة في كل مقترح. قال: إذن فاستعدَّ لما أشرتُ به، فإذا رأيتَ الوحش وقد دنَا منَّا عائدًا من مَبِيته فثِبْ فتعلَّقْ فارْكبْ، ثم يكون لنا نظر في الطريق التي يأخذها نحو البحر، فإن كانتْ شماليَّة غربيَّة بَقِينا على ظهره، وإلا نزلنا نمشي ولم نكن خاسرين.
وفي الواقع لم يكن الفجر حتى ظهر الوحش آيبًا من مبيته، وكأنما يقصد إلى البحر، فابتدر الرجلان لقاءه، فنالا ظَهْرَه في وَثْبة، فاستمرَّ يجري بهما في رمال حالية بلأْلاء الفجر وضاءَة الخلال منحدرًا في جَرْيِه نحو الشمال، حتى إذا كان الصبح فالضحى فالظهر، لم يشعر إلا بموج المحيط يتعالى من بُعْد كالجبال، فترجَّل عندئذٍ الشيخ، ونزل «هاموس» على أثره. وهنالك افترقا فأخذ أحدهما بين الساحل وذهب الآخر يسرة، وكلاهما غادٍ يَجِدُّ في طلب المركب والصيادين، ولكنهما ما اندفعا يسيران حتى أبصرا معًا شبحًا يتقدَّم تحت سماء البحر، فوقفا كلاهما يُجهِدان النظرَ، حتى إذا حقَّقا أنها ذات شراع تنشطتِ الماء ووافتْ تحتال على الإرساء، انثنيا عائدَيْن أحدُهما للآخر، فأقاما ينتظران ما يكون من أمرها إلى أن نالتِ الشاطئ، فنزل منها رجل أسمر اللون أجرودي، ضيِّق العينين بحياة فيهما، عظيم الرأْس قصير القامة، عَبْل الساعد، ممتلِئ الأكتاف، وعليه ثوب من الكَتَّان يبتدئُ من مرفقيه وينتهي إلى ركبتيه.
فلما رآه الشيخ يتقدَّم تبسَّم ضاحكًا، ثم قال ﻟ «هاموس»: هذا صاحبنا بلباص يسعى إلينا، فدعنا نلقاه بشيءٍ من المزح، وكان الرجل قد دنا فخاطبه الشيخ قائلًا: ما هذا الإبطاء يا بلباص؟ قال: لم أُبْطئْ، ولكن تعجَّل حضوركما يا مولاي. قال: وكيف حالك وما يصنع رجالك؟ قال: لا أُكاتِمك الحقيقة يا مولاي، لقد لقيتُ من سفري نَصَبًا، وأُقْسِم لولا أنني أخافك حتى في أعماق هذا البحر، لفضَّلتُ الهلاكَ بتيَّارِه، والثواءَ بقَرارِه، على البقاء ساعة واحدة في هذا الفَلَك، وبين هؤُلاء الهنود. قال: وما صنعوا بك مما أغضبك إلى هذا الحدِّ؟ قال: بل أنا أشكو من قذارتهم لا غير يا مولاي، فإنهم كالسمك المنتن البائت الذي يصبح فوق ما يمسي، فراح الشيخ مغربًا في الضحك. ثم قال: أنزِلْ أولئك المقاذِر إلى البَرِّ، فإني مداويهم لك يا بلباص. قال: سمعًا وطاعة يا مولاي. ثم نفخ في بوقه فأقبل أربعة من المصريين أعوانه الخصوصيين، واثنا عشر آخرون من هنود الشمال لهم جسوم الأطفال، وعليهم ثياب واسعة بأكمام طوال، وهم يَثِبون كالعَفَارِيت ويضطربون كالظلال، فمشى الشيخ حينئذٍ نحو الماء والجميع يتبعونه، ثم تجرَّد عن ثيابه ونزل فنزل «هاموس» وبلباص والهنود على أثره لبثوا برهة يغتسلون، ثم خرجوا من الماء فتردَّوْا ثِيابَهم.
وسار الشيخ بعد ذلك بهم إلى السفينة، فاندفع يأخذ من الماء ويغسل، وأيدي القوم إلى يده بالمساعدة، حتى نظفت تمامَ النظافة، فالتفتَ الشيخ عندئذٍ إلى بلباص قائلًا: ها قد أرحتُك من تلك الروائح يا بلباص، فهل أنت مُجازيني بشيءٍ تطبخه لنا يلذُّ طعمُه ويسهُل هضمُه؟ فإن عهدي بالطيبات من طبخ يدك عهد طويل. قال: قريبًا وسهلًا يا مولاي. ثم أسرع إلى مخزن السفينة، فأخرج منه سلَّةَ سمك من صيده، فشوَى منه شيئًا، وسلق شيئًا، وأخرج كذلك شيئًا من النبيذ، ثم قدَّم ذلك كله للشيخ، فدعا هذا أصحابه وجلس الجميع يتعشَّوْن حتى إذا فرغوا من أكلِهم وشربِهم وتوسَّدوا الرمال، فباتوا ليلتَهم تلك ناعمي البال، وقد ضربوا الفجر موعدًا للإقلاع على كل حال.