الفصل الثالث

المحالفة

وبعد أن طُرد الحمار السكران من الجلسة، وساد النظام انتصب الحصان صاحب الدعوة، وطفق يخطب في ضيوفه قائلًا:

بسرور لا يحد أرحب بجمعيتي البغال والحمير اللتين قاومتانا في الماضي، ومن صميم الفؤاد أشكر لكم جميعًا تلبيتكم الدعوة، وتشريفكم هذا الإسطبل، فقد جعلتموني سعيدًا جدًّا؛ أولًا لأنكم من زمن طويل لم تجتمعوا كلكم تحت سقف واحد. وثانيًا لأن آمالي عظيمة في نتائج اجتماعنا الحسنة، فحضوركم يشير إلى الخير، وملامح وجوهكم المنيرة تنبئنا بالسلام. خذوني بحلمكم قليلًا لأبسط لديكم بعض الكلام بشأن هذا المؤتمر مبينًا بوجيز العبارة الغاية التي من أجلها دعيتم إليه، واعلموا يا أسيادي أن الحاجة وليس النظرايات الفلسفية دعتني إلى عملي هذا الخطير، لما رأيت جمعيتنا في تقهقر، ولما عاينت تقدم أعدائنا السريع هزني عامل الغيرة على صالحنا المشترك، وباشرت بالمشروع الذي جعلنا حجر زاويته مؤتمرنا هذا السلمي، نعم إن الحاجة تدفعنا والضرورة تنذرنا، والصالح العمومي يحركنا إلى إتمام أمرين خطيرين، ولو على الرغم منا، ألا وهما الاتفاق والاتحاد.

قد مضى على شقاقنا مئات من السنين، ونحن لم نزرع في خلالها إلا بذور البغض والشحناء والإحن، فكانت جمعيتنا تعلم أعضاءها كي يبغضوا أقاربنا الحمير، وجمعية هؤلاء تحث أعضاءها على القيام ضد إخواننا البغال، وكلنا أسيادي فروع من أصل واحد قد شتمنا بعضنا في الماضي قد اضطهدنا بعضنا، وضيقنا على نفوسنا، وقتلنا الألوف من القردة والثعالب والبقر والجمال، وغيرهم من الحيوانات التي خلقها الله كما خلقنا وجعلنا كلنا متساوين. قد فرقنا الابن عن والده، والأخ عن أخيه، والابنة عن أمها، والمرأة عن زوجها، وأضرمنا نيران الفتن في الهيئة الاجتماعية، ولماذا هذا كله ألتأييد سلطتنا التي هي واحدة؟ ألينتصر بعضنا على بعض بقتل أنفسنا؟ فما هو يا ترى سبب شقاقنا؟ ما الذي فرَّق بيننا، وجعلنا أعداء الداء؟ إني أخجل حينما أتأمل بهذا السبب الطفيف الذي نجمت عنه هذه الانشقاقات القتالة، أليس سبب انشقاقنا نحن الخيل عن الجمعية الأصلية قضية أحد الحمير الكبار الذي أراد أن يقترن بدابة في الدير، ومنعه عن ذلك نائب الأسد، فقامت قيامة الحمار الفصيح على النائب العظيم.
figure
فرماه البغال خارجًا وأغلقوا الباب.

وكان ما كان من الانقلاب الذي ندعوه إصلاحًا، فهل هذه القضية الصغيرة تبقينا متشتتين عن بعضنا مدى الزمان؟ هل يجب أن نضحي حياتنا وحياة الملايين من إخواننا إكرامًا لمخلوقين تخاصما في الأجيال المتوسطة لغايات شخصية؟ أمن أجل هذا نتقاتل؟ أمن أجل هذا نشتغل بالسر ضد بعضنا، ونبتعد عن الوئام الذي فيه حياتنا؟ أمن أجل أفراد لا نعرفهم إلا من التاريخ نكيد لمن نعرفهم المكائد، ونسعى في إسقاط بعضنا البعض. قد مضى ما مضى، قد ارتكب أجدادنا جرائم عديدة، عار علينا أن نكررها نحن في هذا الجيل، نعم إني أشعر بهذه الذنوب التي ناءت عليَّ كلها، فصرت أتأوه من ثقلها، قد اتصلت خطيئة أجدادنا بنا، فيجب أن نطهر أنفسنا بالقيام بهذا المشروع الذي فيه خير الحيوانية عمومًا، ألا تعلمون أن شقاقنا هذا هو سبب سعادة أعدائنا، وتقدمهم، ألا تعلمون أن قوة العدو — وهو عدونا كلنا — مؤلفة من ضعفنا، وتقدمه مستمد من تقهقرنا، وتقهقرنا ناجم عن انقسامنا، وانقسامنا ناشئ عن جهلنا، وجهلنا يثبته فينا غرضنا الأعمى، ومحبتنا الذاتية؟ فلنقتل إذن أغراضنا العمياء، فلنمت ولو إلى حين محبتنا الذاتية! أين الحكمة التي هبطت علينا من السماء، قل لي بربك أيها الحمار المحترم ما هي قوتنا الآن، وأين تلك السلطة الممتدة، والعز الشامخ؟ أين تلك الخيرات الغزيرة التي كانت تطرح على أقدامنا، قد زالت كلها أو أوشكت أن تزول، ونحن نحن الجانون على أنفسنا.

كلكم تعلمون أننا الآن في احتياج كلي إلى التكاتف والاتحاد؛ فالكهربائية عدوتنا اللدودة قد ظهرت في هذه الأيام، والبخار والهواء المضغوط جعلا خدماتنا للهيئة الاجتماعية أمورًا ثانوية، فكم من أعضاء جمعياتنا يخدمون إله البطالة الآن، ولا يستطيعون أن يجدوا شغلًا أنفع يشغلهم، فالعالم قادر على أن يستغني عنا إلا إذا استبدلنا الضعف بالقوة، وجمعنا كلمتنا، واستبدينا في أمورنا عندئذ نعامل العالم كله بالمثل، ونعلن استقلالنا فيعرف الناس إذ ذاك أن خدماتنا للهيئة الاجتماعية، ولو كانت أغلى من الكهربائية والبخار فهي أنفع وأحسن؛ لأنها أقل خطرًا، وأكثر ثباتًا، ويستطيع أن يتمتع بها كل مخلوق غنيًّا كان أم فقيرًا، ضعيفًا أم قويًّا، حقيرًا أم عظيمًا، أما الآن فكم هي الآفات التي تكتنفنا، وتتهدد وجودنا؟ أمعنوا النظر في الترقي الحاضر — الترقي الشيطاني القتال — تجدوا أن باب الارتزاق في المدن قد سُد في وجوهنا، فالأرتال تجرها الكهربائية، والعربات يجرها البخار، والأحمال الثقيلة ترفع وتنقل بالاسم بقوتنا، وبالفعل بقوتي البخار والكهربائية. وفي الشهر الماضي قامت شركة كبيرة ضد الخيل التي كانت تجر التراموي، وأخرجت من خدمتها ألف حصان قوي، وقامت شركة أخرى في إسبانيا مؤخرًا وقتلت الوفا من الحمير التي أفسدها الخمول والكسل، والبغال في روسيا في انحطاط عظيم، ومع أن جمعية الحمير معززة في إسبانيا فهي لا تقوى على أعدائها الجبابرة، والحكومة الإفرنسية قرأت للعالم في هذا الجيل صفحة من تاريخها في أواخر الجيل الثامن عشر، وبضربة واحدة استأصلت الحمير، وأبادت جمعياتهم، أليست هذه المقاومة كلها نتيجة الاختراعات الجديدة، والقوات الكهربائية الحديثة؟ قلت: إن أبواب الارتزاق قد سدت أمامنا في المدن، فهل تظنون أن حالتنا في القرى أحسن؟ أليس الفلاح مستغنيًا عنا؟ ألا يحرث أرضه بالآلات الميكانية والبخارية التي ظهرت في أواخر هذا الجيل؟ الزراعة بالآلات، والحصاد بالآلات، والخيل على خالقها؟ زمان مدلهم، مستقبل مكفهر، وحياة مرة ذليلة، قاتل الله الأوتوموبيل وأحرق في الجحيم مخترعه، فهذه الآلة وحدها رمت في عالم البطالة الغير المتحرك الوفا من الجياد القوية، وقد سقطت أسعارها الآن، وكثر عددها، فصار يقتنيها كل إنسان فقيرًا كان أم غنيًّا. هذه حقائق تؤلم وتحزن، وإذا دام هذا الحال يضمحل لا شك جنسنا، وتتلاشى جمعياتنا، ألسنا نحن الذين سلط الله الإنسان علينا فقلبنا الآية بمهارتنا، وتسلطنا عليه في القرون الغابرة؛ قرون الحصان والحمار والبغل، قرون لم تبرق فيها الكهربائية، ولم يعتم بأفقها البخار.

قد تمتعتم بلذة السلطة، وذقتم حلاوة العز والاستبداد، فكنتم تجرون الشعب في العربات المقدسة العظيمة إلى حيث شئتم، وكان إذ ذاك الله الحوذي، كنتم إذا نقمتم على الجمال تشنون عليهم الغارة، فتزحفون على معاقلهم بألوف من الحمير والبغال، يقودهم حمار قصير أعمى يمتاز عن إخوانه بشهنقته الفصيحة، كان إذ ذاك الله الحوذي، أما الآن فلا عربة ولا حوذي، فقد هجرنا الهناء، وحرقتنا الكهربائية بشرارها. وإذا كان قد بقي بعضنا في خدمتنا القديمة، فلا يعامل قط كما كنا نعامل في الماضي، فإذا وقفنا أمام العربة، وشمسنا أو كبونا أو حرنا هز لنا الحوذي الظالم سوطه، هذه هي نتيجة ضعفنا، فالناس ينظرون إلينا، ويجدوننا متخاصمين، فيزدرون بنا ويذلوننا، وفي النهاية يطردوننا من بيوتهم وإسطبلاتهم، فتأملوا يا أسيادي في هذه الحالة، يوجد في جمعيتنا الآن خمسة آلاف حصان بطالين طردوا من مراكزهم؛ لأن أصحابهم يفضلون خيل الكهربائية على خيل الله، فمن أين يأكل هؤلاء المساكين؟ فلو لم تكن الحروب قائمة أبدًا على قدم وساق بين تابعي الأسد والبرابرة لكانوا يموتون جوعًا، فيفسد الهواء من نتانتهم، فقد بعثنا في الأسبوع الماضي ألفي حصان إلى الصين، وألفي حصان إلى الترانسفال فتستخدمهم هنالك الدول البشرية لغاياتها الدنيئة، وهم لا يعبئون بذلك؛ لأنهم يختالون مضطرين، ويداهنون مكرهين، من منا يموت شهيد مبدئه في هذه الأيام؟ فمن كان بأشد الحاجة إلى المال يخدم من يستأجره بأجرة كبيرة، ونحن لا نلومهم بل يجب أن نلوم أنفسنا؛ لأننا غافلون عن مصلحتنا، لاهون بالانقسام، تائهون في فيافي الأوهام ومهامه التخيلات، وها أنا الآن ألقي عليكم سؤالًا صغيرًا: هل تريدون أن تعيدوا سلطتكم، وتعززوا أنفسكم؟ هل لكم أقل مطمع في هذه الحياة؟ فإذا كان ذلك فعليكم بالاتحاد، عليكم بالتحالف، ولننس اختلافاتنا الصغيرة، ولنذكر أننا كلنا من طائفة واحدة، ومن نوع حيواني واحد، جمعياتنا مشتقة بعضها من البعض، والمرجع كله إلى أصل واحد نتبع معلمًا واحدًا نعبده، ونحبه فوق كل شيء، ولا يهم إن أحب الحمير الأم أكثر من الابن، أو الأب أكثر من الابن، فلا يجب أن نختلف ونتناقش على مسائل وهمية لا دخل لها في شرائعنا، فهل قال لنا الأسد — له المجد — أن نعبده بطريقة مخصوصة؟ هل أمرنا بأن نتخاصم بسبب دمه وجسده؟ هل يهمه إن عبدناه رأسًا أم بواسطة الصور والتماثيل؟ نعم قد حثنا لا بل قد أمرنا بمحبة بعضنا بعضًا، حتى إنه قال: حبوا أعداءكم، فلماذا إذن لا نعمل بقوله هذا، ونهمل ما لم يقل لنا عنه شيئًا. نعم يا أسيادي قد تفكرت كثيرًا في هذه الاختلافات، ووجدت بعد الدرس المتواصل أن الأسد لم يقل لنا عنها في كتابه شيئًا، ولذلك تحققت أنه لا يريدها، وأظن أنه يتألم إذا رآنا نقاتل بعضنا بعضًا، فالاختلافات هذه لم يولدها إلا مطامع من تقدمنا من القواد، إنها والحق يقال بنت تلك المجامع الشريرة التي عقدها أجدادنا في الأجيال الأولى؛ ليقفوا كما كانوا يزعمون على تفسير حقيقي لأقوال الأسد التي لا يوجد في كتب الفلسفة والحكمة أبسط منها، وكلكم لا شك تعلمون ما كان لهذه المجامع من التأثير السيئ على العالم عمومًا وعلى جمعيتنا خصوصًا.

تعلمنا شريعتنا نكران الذات، ونحن لا ننكر إلا قريبنا، تعلمنا محبة العدو ونحن لا نحب إلا أنفسنا، تعلمنا التقشف والابتعاد عن حطام الدنيا ونحن أكثر الحيوانات تمسكًا بها، ثم نفسر آيات الكتاب بصورة تساعدنا على مطامعنا، فنحن نعلم حق العلم أن أجدادنا ومعلمي الجمعية الأولين أخطئوا في مجامهم، وقد ارتكبوا جرائم فظيعة في تفسير شيء واضح، فأي مجمع عقد في الأجيال الأولى، ولم يحدث فيه الضرب والقتل والذبح. إن تلك المجامع لم تكن إلا مجامع مهاترة، وسباب وتعيير، فيها كانت تدور المناقشات المنطقية، والجدالات اللاهوتية المبهمة التي لا يفهمها عاقل، اسمعوا ما قاله أحد الحمير العلماء عن هذه المجامع الباطلة: «وأراني مضطرًّا إلى قول الحق عن هذه المجامع، فأنا أتشاءم من كل مجمع أحبار؛ لأنني لم أر حتى الآن نتيجة حسنة لواحد منها، ولم أحضر مجمعًا واحدًا كانت منافعه أكثر من أضراره، فعاقدو المجامع عوضًا عن أن يقمعوا زعماء الشر كانوا يزيدونهم شرًّا وتمردًا، فالمناقشات المنطقية، والجدالات اللاهوتية الفارغة كانت سائدة في كل اجتماعاتهم». وهذا كلام أحد أعضاء الجمعية الذي لا ريب في صحته؛ إذ لا نقدر أن نتهمه بالتعصب والتحزب لغايات ذاتية، ومما يدلنا على ضعف أولئك الرؤساء وخمولهم ما نقرؤه في الملحق لوقائع المجمع الأول العظيم، جاء فيه أن أعضاء المجلس لما لم يستطيعوا أن يميزوا الكتب الحقيقية من الكتب الكاذبة وضعوها جميعها على طاولة وخلطوها، ثم أخذوا يتوسلون إلى الروح القدس طالبين أن تسقط الكتب الكاذبة على الأرض، وتبقى الصحيحة على الطاولة بأعجوبة، وهكذا صار كما يزعمون، لا تظنوا أن إيماني في الروح القدس فاتر، كلا غير أن الله — عز وجل — أعطانا عقولًا نستنير بها، ونميز بين الحقيقة والوهم.

فهل تريدون أن يقال عن مجمعنا هذا ما قاله ذاك الحمار عن المجامع القديمة، كان أجدادنا يجتمعون ليقاوم بعضهم بعضًا، وينتقموا من الذين كانوا يظنونهم منشقين، وقد فاتهم — برد الله ثراهم — أن في مقاومة المنشقين مقاومة لأنفسهم، أما نحن فنجتمع الآن لنقاوم قوات الشر الحقيقية؛ القوات التي ظهرت نتائجها، وأثرت كثيرًا في مصالحنا، فصرنا نشعر بالتقهقر، ونحس بالسقوط، نعم إن البرهان على تقدم أعدائنا برهان حسي لا يجهله إلا كل متغفل خامل، ولا حاجة للقول إن اجتماعنا هذا على جانب عظيم من الأهمية، وسيدون التاريخ أعمالنا بماء الذهب إن شاء الله. وإذا كانت حيوانات هذه الجيل لا تقدر مشروعنا حق قدره، فهذا لا يحولنا عن القيام به تاركين الحكم لذريتنا. العالم كله يتقدم وليس من الواجب أن نبقى نحن متشبثين بأغلاط أجدادنا الغير المقصودة؛ فهم أورثونا الشقاق والخصام، ونحن نورث أبناءنا المحبة والوئام، أضاع أولئك المساكين أوقاتهم في المناقشة الفارغة، ونحن نصرف هممنا إلى القيام بالمشاريع المفيدة، فكيف نستطيع أن نرهب أعداءنا ونسود عليهم، إذا كان لا يمكننا أن نجمع كلمتنا، ونرتبط مع بعضنا برابطة الشريعة والجنس. قد أخطأ أجدادنا، فهل من الواجب علينا أن نقتفي أثرهم، ونرتكب الجرائم التي ارتكبوها، فلنبتعد عن المناقشات المنطقية، والجدالات اللاهوتية، ولننظر في أمر واحد فقط، هل يجدينا انقسامنا على أنفسنا نفعًا؟ هل نستطيع الوقوف أمام القوات الكهربائية والبخارية ونحن منقسمون، ألا نسحقها سحقًا إذا جمعنا قوتنا المالية والعلمية، وضممنا قدرتنا، وجعلنا من جمعياتنا كلها جمعية واحدة عمومية؟ اطردوا من عقولكم كل التعصب والأميال الدنيئة، واذكروا أنكم كلكم من تبعة الأسد العظيم، وأبناء الإله الواحد القدير، فلا حمار ولا بغل ولا جواد ولا كدبش بيننا، بل كلنا حيوانات نتحد بالمذهب، ونشترك بالجنسية، ونرفع رءوسنا تحت سماء واحدة، ويجري في عروقنا الدم الذي يجري في عروق إخواننا، وتشرق على مراعينا شمس واحدة، ما بالنا إذن لا ننظر إلى سوء حالتنا، ونعمل على تحسينها، نحن كلنا نعبد إلهًا واحدًا، ونتنفس هواءً واحدًا، فلماذا إذن لا نتخذ الوسائط الفعالة لملافاة أسباب سقوطنا.

كونوا متيقظين، واصرفوا عنكم الضربة قبل أن تنزل عليكم «درهم وقاية أفضل من قنطار دواء»، إن القوات الكهربائية تضر بصالحنا، فيجب علينا أن نحطمها تحطيمًا، يجب أن نبقيها في قلب الأرض، وكيف يتسنى لنا إتمام ذلك، بالاتحاد! إن التمدن الحديث يحفر تحت قصورنا الشائقة، ولا بد أن تصبح رءوسنا يومًا بين الأنقاض إذا لم نوقفه عن متابعة عمله، ولا نستطيع قتل التمدن الحديث إلا بإيجاد تمدن جديد مناقض له، ولا نقدر أن ننشئ هذا التمدن إلا بجمع كلمتنا، إن النجاح المادي الذي امتاز به هذا الجيل الشرير قائم بسلبنا كل خيراتنا، ووضعها بيد الأفراد القليلين، إذن يجب علينا إيقاف هذا النجاح وقتله في طريقه، وذلك لا يتيسر لنا إلا إذا جعلنا جمعياتنا هذه جمعية واحدة يترأسها حيوان واحد، هذه خلاصة كلامي أكررها بعبارة بسيطة حتى لا يحصل سوء تفاهم، نحن ضد القوات الكهربائية، والبخارية، والهواء المضغوط معًا.

نحن ضد التمدن الحديث بكل مظاهره.
figure
الحصان يخطب: نحن ضد التمدن الحديث.

نحن ضد الاختراعات الحديثة، والمبادئ الجديدة الخبيثة.

نحن ضد النجاح المادي الذي مد يده إلى ذخائرنا، وسلبنا كل نفيس عندنا، وأنتم تعلمون ما لعدونا من القوة ومنعة الجانب، ولكن لا بد من إبادته، ولذة النصر تزداد كلما ازدادت قوة العدو، ولكن كيف ننتصر بالاتحاد، بالاتحاد، بالاتحاد، بالاتحاد القوة، وبالانقسام الضعف، بالاتحاد التقدم والنجاح، وبالانقسام التقهقر والانحطاط، بالاتحاد المجد والعلى، والانقسام الذل والخمول، بالاتحاد السؤدد والعز والسلطة، وبالانقسام الحقاة والعبودية والهوان، بالاتحاد العمل المفيد، وبالانقسام العطلة المضرة، بالاتحاد الحياة، وبالانقسام الموت، بالاتحاد نبقى سائدين، ونستظهر على العدو، وبالانقسام تفقد سلطتنا، وتضمحل جمعيتنا، وتخلفها شياطين الشر والرذيلة، فاختاروا إذًا أحد الأمرين؛ إما أن ننقسم ونموت، وإما أن نتحد ونحيا.

فصرخ الجميع بصوت واحد «الاتحاد والحياة»، «الاتحاد والمحبة»، وأخذوا يلبطون بأرجلهم دلالة الاستحسان والإعجاب بما جاء به ذلك البحر الفهامة من بلاغة المعاني، وفصاحة الكلام، وسداد البرهان، وقوة الحجة، ثم قام البغل وشكر أولًا صاحب الدعوة، وأثنى عليه كثيرًا، وأبدى شيئًا كثيرًا من التبجيل والمجاملة، وهما من أهم أدبيات معشر الحيوانات، ثم قال: «ما كنت أحسب أن الحصان المحترم يدعونا إلى إسطبله العامر ليحثنا على الاتحاد، ويندد بالشقاق والعناد، ما كنت أحسب أن هذا الفاضل يبدأ بمشروع شريف كهذا، ويكون أول من ضحى لأجله حقوقه ومصلحته، ما كنت أحسب أن بعد هذا الفراق الطويل (وكانت الدموع تتساقط على وجنتيه، فأخذ منديله، ومسح عينيه، وتابع كلامه بصوت منخفض) الفراق الطويل الذي ولد في قلوبنا الضغينة والبغضاء والقسوة، يقوم حصان فاضل عالم بدعوة جديدة، لربما حسبها البعض شذوذًا، ورماها آخرون بباطل الكلام، ولكن سواء عدت شذوذًا أو لم تعد فهي أشرف وأجل دعوة يقوم بها الحيوانات بعد أن حل فيهم الانشقاق، ومن منا لا يريد أن يتمتع بالعز الذي حصل عليه أجدادنا وأسلافنا، من منا لا يريد أن يسترد ذاك المجد الغابر الذي مرت عليه دواليب الكهربائية في هذا الجيل، فكادت تحطمه تحطيمًا، من منا لا يريد أن يدخل هيكل ذاك السلطان العظيم الذي سود وجهه دخان المراكب البخارية.

تعلمون — رعاكم الله — أن البغال في البلاد الشمالية التي أنا منها لا يزالون على شيء قليل من السؤدد والعز، غير أن هذا القليل سيزول قريبًا، وتمسي البغال والخيل في حالة واحدة تشملها التعاسة والذل والهوان، إن جمعيتنا البغلية يتناقص عدد أعضائها يومًا فيومًا؛ وذلك لأن الحالة السائدة على الخيل في هذه البلاد تحكم الآن بنوع ما على البغال في بلادنا، فالتجارة المتبادلة بين الأمتين تمهد طرق الترقي الحديث، والاختراعات العلمية، والقوات الكهربائية أخذت تظهر الآن أمامنا، وصرنا نشعر بشيء من سوء تأثيرها علينا، ولو لم يكن لنا مستعمرات عديدة يلزمها للقيام بشئونها وتدبيرها بغال كثيرة لكانت جمعيتنا الآن في ظلمة الموت والنسيان، ولكن لا يزال الملك شاملنا بأنظاره، وحامينا بتاجه وسلطانه، ومع ذلك فنحن في رأيي لم نحسن قط تدبير الجمعية؛ إذ إننا لم نجتهد في أن نوسع نطاقها، ونزيد أعضاءها، بليتنا الكبرى هي من مجلسنا الذي أقمناه لتدبير شئون الجمعية، فهو — والحق يقال — مجلس جمع دببة الغباوة والطيش، والتعصب والظلم، وكل حكم يصدره هذا المجلس يضعف من قوتنا، ويجعلنا ممقوتين بين الناس والحيوانات، وقد سمعتم ولا شك بالحكم الأخير الذي أصدره حكم لا يدل على شيء من الحكمة والرزانة والسياسة، أريد به الحرم الذي ألقته جمعيتنا بواسطة مجلسها الموقر على أحد الثعالب الكبار الذين يبشرون في آخر هذا الزمان بمذهب كهربائي تصدع الرءوس صدمته، وهو ينتشر بسرعة البرق، ولكنه لا يختفي كالبرق عند ظهوره، وكلما شددنا على أصحاب هذا المبدأ الكهربائي اللعين كلما ازداد نوره، وكلما ضغطنا عليه ازداد ارتعاشنا، فالحرم الذي وضعه مجلسنا المستبد على هذا الثعلب الكبير بين قومه قد أضر بجامعتنا ضررًا جسيمًا؛ لأنه جاء على عكس ما كنا نظن، وعوضًا عن أن يبعد بقية الثعالب والحيوانات عن صاحب هذا المبدأ الخبيث زادهم تقربًا إليه، نحن نسلحهم بطيشنا وهم يقاتلونا باتحادهم، ولا تظنوا أنني أهاب هذا الثعلب السفيه المجدف، وإني أنتقد مجلس التدبير خوفًا من هذا الكافر، وتزلفًا إليه، كلا فهو الحق أقوله صادعًا، تكفينا المخاطر الخارجية، فما الحرم إلا ألعوبة يلهو بها المحارم، ويرفسها المحروم، لا أنكر أنه كان لهذه الألعوبة أيام هائلة في الأحقاب الغابرة، فكانت إذا وقعت على رأس أحد قتلته اجتماعيًّا وأدبيًّا، وقتلت معه كل من ينتمي إليه، أما الآن فالطابة كبيرة، غير أنها مملوءة هواء، والذي يراها في الجو ساقطة ينخدع ويهرب من تحتها، ولكن بعد أن تقع على الأرض يسكن روعه، ويضحك كثيرًا، إن هذه الخزعبلات لمن الآثار القديمة التي يجب علينا تركها، فالأولى بنا أن نباشر أعمالًا تضمن لنا الفوز، وتبقي سلطتنا محصنة بمعاقل الاتحاد والذوق السليم، إن العدو شديد البأس عظيم القوة، وإذا لم نقابله بقوة أعظم وأشد فعلى جمعياتنا البغلية والحمارية، ومجالسنا التدبيرية السلام، لا حاجة للقول إنني من رأي الحصان الفاضل في كل الأفكار التي أبداها، وبرهن عنها بفصاحة وبلاغة يعجز مثلي عن الإتيان بمثلها، غير أني أريد أن أسأله علنًا سؤالًا واحدًا صغيرًا وهو: أية طريقة يجب علينا اتخاذها لننتصر على القوات الكهربائية والبخارية، ولنسحق التمدن الحديث، ولنقتل النجاح المادي الذي أفقرنا وأغنى أعداءنا؟ لا شك في كون الاتحاد مقبولًا ومعقولًا، فأنا أضحي الحقوق التي تطلبونها إن اقتضى الأمر، وأعرِّي نفسي من السلطة المعطاة لي إذا كانت هذه المحالفة تتم، ولكن كيف يجب أن نباشر العمل.

أنا أثني على قول الحصان الفاضل في أن المناقشات المنطقية والسفسطية، والجدالات اللاهوتية لا تفيدنا، ولا مجال لها في هذا المؤتمر، وأننا كلنا من تبعة الأسد له المجد، وتلك الاختلافات الصغيرة لم تولدها إلا مطامعنا، وبالحري مطامع أسلافنا، فهل يجب أن نخضع لأغلاط أسلافنا؟ هل يحكم الماضي المحدود على المستقبل الغير المحدود؟ هل يسود الجهل على العلم الحقيقي والظلام الكالح على النور الإلهي الساطع. نعم، إننا نعيش في جبل النور، وإذا كنا ذوي عزم وحزم ونشاط ودهاء، فلنستخدم نور الكهربائية لسحقها، أي لنقتل عدونا بسلاحه، إني أشعر من ذاتي بضعف وانحلال أظنهما ناجمين عن دخول التحسينات العصرية إلى بلادنا الشمالية، وكلما قربت منا هذه القوات سلبتنا شيئًا من قوتنا بجاذبيتها، فلا يمضي ردح من الزمن، ونحن على هذه الحال حتى نرى أنفسنا في قبضتها وتحت دواليب العربات والأرتال، هذا إذا لم نتحد ونبذل الجهد في إبعادها عنا، وملاشاتها من العالم كله.

يجب أن تبقى مدفونة في طبقات الأرض كما قال حضرة الحصان المحترم، ولا أظن أن كلامي يزيد الفائدة بعد أن أفاض حضرته في الحديث، وبين لنا أضرار الشقاق ومنافع الاتحاد، فأنا بالنيابة عن نفسي، وبالأصالة عن إخواني وبغالي أقول صريحًا: إننا مستعدون، ولا يحولنا أمر عن الاتحاد، وسنبذل في سبيله النفس والنفيس، ونضحي إن اقتضى الأمر كل عقائدنا وعوائدنا، ونظل متمسكين بما أمرنا به الأسد فقط، وكي لا أضيق صبركم، وأثقل على سمعكم أكثر من هذا أقتصر على ما تقدم، مكتفيًا بالقليل من الكثير، راجيًا من جميع الممثلين الحاضرين أن يعضدونا بنفوذهم، ويشاركونا بآرائهم، ويضعوا نصب أعينهم العبارة التي ختم بها من تقدمني خطابه الأنيق، ألا وهي: في الاتحاد الحياة، وفي الشقاق الممات، فلتكن الحكمة مشكاتنا في طريقنا الوعرة، وعلى الله وابنه — لهما المجد — الاتكال».

وكان لكلام البغل وقع حسن في نفوس سامعيه، وبالأخص البغال، فقد أخذ منهم التحمس كل مأخذ، وطفقوا يلبطون وينهقون، حتى إن أحدهم قام وشرب نخب البغل الذي تكلم، وأضاف إلى ما كان في جوفه من الخمرة كأسًا أخرى، وأخذ يرقص من الطرب ويقول: الاتحاد بلا الخمرة هو كالسهاد الدائم كالحياة بدون رقاد، وكالنهار بدون الليل، فاشربوا ما زلتم صاحين، واستقبلوا الليل بالمدام، وما أحلى السكر تحت الظلام، إني أشرب نخب (وملأ كأسه ثانية، ثم نظر إلى الحاضرين وتبسم وقال): اشرب نخب الخمرة ذاتها، وشرب حتى برز بطنه، فأخذ يغني ويلبط ويرقص حتى اشمأز منه الصاحون من البغال والحمير، وطلبوا إخراجه، فقبض عليه حالًا، وألحق بالحمار الذي طرد قبله، ثم وقف بعد ذلك رئيس الحمير وكبيرهم، وهمَّ بالكلام فقاطعه الحصان قائلًا: «اسمح لي أيها الحمار المحترم أن أجاوب البغل الفاضل على سؤاله، قال حضرته: إن الاتحاد أمر سهل، ولكن كيف يتم به نصرنا على العدو، فباختصار أقول: إن الخطة التي افتكرت بها هي أن نصدر بلاغًا رسميًّا إلى كافة المؤمنين به، نأمرهم بألا يستخدموا القوات الكهربائية والبخارية، ولا يمسوها، ولا يقتربوا منها، ولا يعاملوا، ولا يضيفوا، ولا يصادقوا من كان له علاقة مع أصحابها، وبلاغنا هذا يعمل به متى جمعنا كلمتنا، وجعلنا أنفسنا تحت ظل سلطان واحد يكون له من القوة أعظمها، ومن السؤدد أمكنه، ومن المقام أرفعه، ومن البأس أشده، فيصدر هذا الحرم إذ ذاك، ويخيف المؤمنين ويرعبهم، فيطيعوا صاغرين خاضعين، أما في حالتنا الحاضرة فلا أحد يعتبر حرمنا، وكل الناس يزدرون بنا، ويسخرون بانقسامنا وخصوماتنا، حرم رسمي صادر عن مركز جمعية عمومية عظيمة، يلقي في صدور الحيوانات المؤمنين الرعبة، ويأتي بالمراد. هذه الخطة يجب علينا اتخاذها، وهذا هو الدهاء السياسي الذي يكفل لنا النصر، ويعيدنا إلى مركزنا السامي الذي سقطنا منه».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤