مقدمة

بدأ هذا الكتاب بسؤال بسيط: ما الذي يتسنى لنا أن نعرفه عن الأخلاقيات من خلال البحث في الثورات الأخلاقية؟ وقد ساقني إلى طرح هذا السؤال أن المؤرخين والفلاسفة اكتشفوا الكثير عن العلم من خلال الدراسة المتأنية للثورات العلمية. فقد خلُص كل من توماس كيون وبول فايرابند، على سبيل المثال، إلى نتائج رائعة من بحثهما في الثورة العلمية التي اندلعت في القرن السابع عشر — التي أهدت لنا جاليليو وكوبرنيكوس ونيوتن — وكذلك في الثورة الأحدث التي تمخَّضت عنها النظريات المذهلة لفيزياء الكم.

من الواضح أن نمو المعرفة العلمية أدى إلى تفجر ثورة هائلة في مجال التكنولوجيا. بيد أن الروح المحركة للعلم لم يكن هدفها تغيير وجه العالم وإنما فهمه. ومن ناحية أخرى، نجد أن الأخلاقيات، كما أكد إيمانويل كانط، هي في الأساس ذات طبيعة عملية؛ فربما كان لما نفكر فيه أو نشعر به أهمية من الناحية الأخلاقية، إلا أن الأخلاقيات، في صميمها، تدور حول ما نفعله. ولأن أي ثورة هي تغيير كبير في وقت قصير، فلا بد أن تنطوي الثورة الأخلاقية على تحول سريع في «السلوك» الأخلاقي، لا أن تقتصر على العاطفة الأخلاقية. ومع ذلك، فإن الأمور مع نهاية الثورة الأخلاقية، كما الحال مع نهاية الثورة العلمية، تبدو مختلفة. وبالنظر إلى الوراء، ولو لجيل واحد فحسب، تجد الناس يتساءلون: «فيمَ كنا نفكر؟ كيف فعلنا «ذلك» طوال هذه السنوات؟»

ومن ثم، بدأتُ أمحِّص عددًا من الثورات الأخلاقية، بحثًا عما يمكن تعلمه منها. وسرعان ما لاحظت أن الحالات المتباينة التي تأملتها، سواءٌ كانت انهيار المبارزة، أو التخلي عن عادة ربط أقدام الفتيات لدى الصينيين، أو نهاية العبودية على جانبي الأطلسي، يجمعها بعض السمات غير المتوقعة. أحدها، أنه أُثيرت حجج واضحة ومعلومة للقاصي والداني لمناهضة كلٍّ من هذه الممارسات قبل أن تزول. ولم يقتصر الأمر على وجود تلك الحجج بالفعل، بل تعدَّى ذلك إلى حد صياغتها صياغة نستطيع — نحن أرباب الثقافات الأخرى أو أبناء الأزمنة المختلفة — أن نتعرف عليها ونستوعبها. ومهما كان ما حدث عندما زالت هذه الممارسات غير الأخلاقية، لم يكن السبب في ذلك — كما بدا لي — أن الناس قد بهرتهم حجج أخلاقية جديدة؛ فدائمًا كانت المبارزة أمرًا فتاكًا وعملًا أخرق منافيًا للعقل؛ ودائمًا كانت عادة ربط أقدام الفتيات أمرًا مؤلمًا يؤدي إلى الشلل؛ ودائمًا كان الاسترقاق عدوانًا على إنسانية المستعبَد.

كانت هذه مفاجأة بشأن ما لم يحدث. أما الملاحظة الثانية — التي كانت في رأيي مفاجأة أكثر إثارة للدهشة — فكانت تتعلق بما «حدث» بالفعل: ففي كلٍّ من هذه التحولات، نجد أن ما جرت العادة على تسميته «الشرف» قد لعب دورًا أساسيًّا. وقد أفضت هذه الملاحظة إلى البحث الذي جمعت نتائجه في هذا الكتاب. لم يكن ارتباط المبارزة بالشرف، ولا ارتباط نهاية المبارزة بأفكار جديدة تتعلق هي الأخرى بالشرف؛ بالأمر الذي يدعو للدهشة. لكن الأمر المدهش، في ظني، هو أن الأفكار المرتبطة بالشرف القومي وبشرف العمال — وهي أفكار بعيدة كل البعد عن مزارع العالم الجديد — لعبت دورًا كبيرًا في القضاء على عادة ربط أقدام الفتيات وعلى ظاهرة الاسترقاق الحديث على التوالي.

تبيَّن أن هذه القضايا اقترنت اقترانًا مباشرًا بمسائل تتعلق بدور الهوية الاجتماعية لكل منا — الرجال والنساء، الطبيعيين والشواذ، الأمريكيين والغانيين، المسيحيين والمسلمين واليهود — في تشكيل عاطفتنا وصياغة خياراتنا. وفي كتاب سابق لي، تتبعت الطرق التي من خلالها يمكن التماهي مع أسرة، أو مع جماعة عرقية أو ديانة أو أمة ما، التي من شأنها أن تربطنا بالآخرين في الفخر والخزي. وربما كنت مُهَيَّأً تمامًا لملاحظة الارتباطات القائمة بين الشرف والهوية التي هي جوهر الثورات الأخلاقية التي سأناقشها.

هذا يبدو في رأيي ارتباطًا يستحق الدراسة. فالهوية تربط هذه الثورات الأخلاقية بجانب من جوانب علم النفس الإنساني لاقى إهمالًا شديدًا من فلاسفة الأخلاق الذين استخدموا الإنجليزية لفترة طالت أكثر مما ينبغي، على الرغم من أن هذا الجانب حَظِيَ باهتمام أكبر في الفلسفة السياسية والأخلاقية الحديثة: وهذا هو انشغالنا البالغ والمُلِح بفكرة المكانة والاحترام، وحاجتنا الإنسانية لما أطلق عليه جورج فيلهلم فريدريك هيجل اسم Anerkennung أو «الإقرار». فنحن البشر بحاجة إلى أن يتجاوب الآخرون معنا كأشخاص ومع ما نفعله تجاوبًا ملائمًا. نحن بحاجة إلى أن يقر بنا الآخرون بوصفنا كائنات واعية، وإلى أن يعترفوا بإقرارنا بهم. فعندما تلتقي عيناك بعيني أحد المارة في الطريق في إقرار متبادل، فإن كليكما يعبر عن حاجة إنسانية أساسية، وكلاكما يتجاوب مع هذه الحاجة التي يتعرف عليها في الآخر على الفور ودون جهد. وترد أشهر مناقشات هيجل حول الصراع من أجل الإقرار في البحث في علاقة السيد والعبد في كتابه «فنومينولوجيا الروح». وأعتقد أنه ما كان ليدهشه أن الحركات التي دعت إلى القضاء على الاسترقاق كانت تستمد شيئًا من زخمها من السعي وراء الإقرار.

هكذا ساقني بحثي إلى حيث لم أكن أتوقع: فأنا الآن أود أن أطالب بمكانة خاصة للشرف في أفكارنا حول ماهية الحياة الإنسانية الناجحة. كان أرسطو يعتقد أن أفضل حياة هي الحياة التي نحقق فيها ما أسماه «يودايمونيا» أو «الازدهار الإنساني»، وقد أطلق على دراسته لهذا الازدهار الإنساني اسم «مبادئ الأخلاق». وأعتقد أن هذا الكتاب مساهمة في علم الأخلاق وفق مفهوم أرسطو، وهو المفهوم الذي آمل — أنا نفسي — أن أستخدم اللفظة في إطاره.

تُرجمت «يودايمونيا» إلى «السعادة» وهي ترجمة مضللة، فما كان يقصده أرسطو بهذا التعبير هو أقرب لمعنى «الازدهار». وسأذهب أنا إلى أن تفسير لفظة «الازدهار» هو «أن تحيا حياة طيبة»، ما دمت لن تقصر تفسيرك للحياة الطيبة على أنها «أن تحسن للآخرين». فمجموعة القيم التي توجهنا في تحديد واجبنا تجاه الآخرين هي في الحقيقة مجموعة فرعية من القيم العديدة التي توجه حيواتنا، وأعتقد أنه من المنطقي أن نطلق على هذا النوع الخاص من القيم «القيم الأخلاقية». ومن هذا المنطلق، يتضح جليًّا أن المبارزة، وعادة ربط أقدام الفتيات، والعبودية كلها قضايا أخلاقية. (فالعبيد، والنساء اللاتي رُبطت أقدامهن، والمبارزون المقتولون، كلهم سُلِبوا حقوقهم المستحقة.)

من الواضح أن الأخلاقيات — من هذا المنطلق — تعد بعدًا مهمًّا من أبعاد مبادئ الأخلاق: فقيامي بما ينبغي عليَّ القيام به تجاه الآخرين هو جزء من الحياة الطيبة التي نتحدث عنها، ويعد التقدير المتنامي لالتزامات كل منا تجاه الآخر أحد السمات المميزة للقرون القليلة المنصرمة. إلا أن الحياة الطيبة تعني أكثر بكثير من مجرد أن يكون المرء صالحًا أخلاقيًّا؛ فمن المغريات التي تحدق بالفلسفة أنها مقتضبة في حديثها عن الأشياء العديدة التي تطيب بها الحياة. فالحياة الطيبة عادة ما تشمل العلاقات بالأسرة والأصدقاء، وهي علاقات لا يحكمها ما ينبغي علينا تقديمه للآخرين فحسب، بل تمتد لتشمل ما نقدمه من حب عن طيب خاطر. وقد تطيب الحياة أكثر لدى الغالبية العظمى منا بما نمارسه من نشاط اجتماعي. فنحن نذهب للكنيسة أو المعبد؛ ونمارس الرياضة أو نشاهدها معًا؛ أو ننخرط في السياسات المحلية أو القومية. كما أننا نجني الكثير من مجرد الاحتكاك ببعضٍ من الأشياء العديدة التي تثري التجربة الإنسانية، بما في ذلك الموسيقى والأدب والسينما والفنون المرئية، وكذلك من المشاركة في ضروب الأنشطة التي نختارها لأنفسنا مثل تعلم فن الطهي، أو زراعة الحدائق، أو دراسة تاريخ عائلاتنا. فهناك صور شتى للخير الإنساني.

إحدى طرق البدء في فهم أهمية الشرف بالنسبة لمبادئ الأخلاق هي إدراك الصلات التي تربط بين الشرف والاحترام؛ فالاحترام واحترام الذات كلاهما فضائل إنسانية بالغة الأهمية، بل وتضيف إلى «الازدهار الإنساني» مساعدةً إيانا على العيش الطيب.

لقد قضيت جزءًا لا بأس به من حياتي الدراسية في محاولة إقناع نظرائي من الفلاسفة بإدراك الأهمية النظرية والعملية للأشياء التي من الجائز أنهم قد مروا عليها مرور الكرام، مثل الجنس والعرق، والنوع الاجتماعي والنشاط الجنسي، والقومية والدين؛ أي كل ما يشكل الهوية الاجتماعية بكل ثرائها الذي نرسم به معالم حياتنا. وعليه، يعد الشرف قضية مصيرية أخرى أغفلتها الفلسفة الأخلاقية الحديثة. ومن أسباب وصفها بالمصيرية أنها — مثلها مثل هويتنا الاجتماعية — تمثل جسورًا تربط حياتنا معًا. ومن شأن الاهتمام بقضية الشرف — مثله في ذلك مثل الاهتمام بأهمية هويتنا الاجتماعية — أن يساعدنا في التعامل كما ينبغي مع الآخرين، وأن نستغل حياتنا أفضل استغلال. لقد كان الفلاسفة يدركون ذلك في يوم من الأيام؛ فلتقرأ لمونتيسكيو أو آدم سميث، أو ربما أرسطو. وقد تكون لقضيتي «الاحترام» و«احترام الذات» مكانتهما في الفلسفة المعاصرة، إلا أنه يبدو أن مفهوم الشرف — الذي يعد وثيق الصلة بهما ولكنه في الوقت ذاته بعيد كل البعد عنهما — قد طواه النسيان. أرى أنه قد حان الوقت لنعيد للشرف مكانته في الفلسفة.

إن الوقائع التاريخية التي أعرضها في كتابي هذا تضرب الأمثال للسمات المختلفة للشرف عبر الأزمنة والأمكنة، وتتيح لنا فرصة استكشافها. وتساعدنا كل واحدة من هذه الوقائع على إضافة عنصر جديد للصورة ككل. سيمكننا الذهاب في رحلة من بريطانيا إلى الصين، ثم العودة أدراجنا إلى العالم على جانبي الأطلسي، من تعميق فهمنا للأبعاد المتعددة للشرف. هذه ليست ثلاث حكايات منفصلة ذات طبيعة محلية، بل هي خيوط نسيج حكاية إنسانية واحدة؛ حكاية تهم من هم في سنغافورة أو مومباي أو ريو دي جانيرو كما تهم من هم في لوس أنجلوس أو كيب تاون أو برلين. وقد تضفي كل بقعة من هذه البقع صبغتها الخاصة على موضوع الشرف، إلا أنني على يقين من أننا سنجد في ثنايا كل حكاية حادثة تشير إلى الدروس المستفادة نفسها.

ليس هدفي محاولة فهم أناس آخرين، أو أزمنة أخرى، أو أماكن أخرى فحسب، بل أسعى أيضًا إلى محاولة تسليط الضوء على حياتنا الآن. هدفي تحديدًا هو استغلال الدروس المستفادة من الماضي لمواجهة واحدة من أخطر المشكلات التي تطرحها قضية الشرف في عالمنا المعاصر؛ ألا وهي قتل النساء والفتيات باسم الشرف. عندما يحملنا الفصل الرابع إلى باكستان، سنكون على استعداد لفهم واحد من جوانب الشرف القاتمة ومواجهتها؛ وكما هو الحال دومًا مع القضايا التاريخية، تنطبق الدروس المستفادة من بقعة من بقاع الأرض على غيرها من البقاع. وسأسلط الضوء على باكستان، لكن يجب أن يكون واضحًا منذ البداية أنها ليست المكان الوحيد على سطح الكرة الأرضية الذي ترتكب فيه جرائم قتل باسم الشرف.

وليست جرائم الشرف الطريقة الوحيدة التي يتجلى فيها الشرف اليوم، وهدفي في الفصل الأخير هو اقتراح طرق يمكن من خلالها أن نفهم معنى الشرف، وبالتالي تساعدنا على التعامل مع مشكلاتنا المعاصرة الأخرى. «فيم كانوا يفكرون؟» سؤال نقصد به أجدادنا، ولكننا نعلم علم اليقين أنه بعد قرن من الآن سيطرح أحفادنا السؤال نفسه، وسنكون نحن المقصودين. ترى ما الأمر الذي سيثير دهشتهم أكثر؟ تحتجز الولايات المتحدة ما يقارب الواحد بالمائة من سكانها في زنزانات وتحكم على آلاف من سجنائها بسنوات من السجن الانفرادي. وتحظر المملكة العربية السعودية قيادة النساء للسيارات. وتعاقب دول عدة المثليين جنسيًّا بالسجن مدى الحياة أو بالإعدام. كما أن هناك عزلة مفروضة على مئات الملايين من الثدييات وعلى مليارات الطيور في المزارع الصناعية حيث تعيش فيها حياة بائسة وجيزة. كذلك هناك الفقر المدقع داخل العالم المتقدم وخارجه. في يوم من الأيام، لن يتوقف تفكير المرء عند مجرد الحكم على صحة واحدة من الممارسات القديمة أو فسادها في مقابل صحة ممارسة جديدة، بل سيتطرق إلى فكرة أنه ثمة ما كان يدعو للخجل في هذه الممارسات القديمة. وفي أثناء هذه المرحلة الانتقالية، سيغير العديد من الناس أفعالهم؛ لأن شعورهم بالخزي سيدفعهم إلى الإقلاع عن ممارساتهم القديمة. وربما ليس كثيرًا علينا أن نأمل في أنه إذا ما أعدنا للشرف مكانته التي يستحقها الآن، فمن الجائز أن يصبح عالمنا عالمًا أفضل. هدف هذا الكتاب هو شرح مفهوم الشرف حتى يتسنى لنا إدراك أهميته المستمرة في حياة كل واحد منا.

•••

عندما كنت صبيًّا، كان للمغني الأيرلندي فال دونيكان أغنية حققت نجاحًا ساحقًا اسمها «سر منتصب القامة»، يحكي فيها ما قالته له والدته عندما كان صغيرًا. قالت له: «سر منتصب القامة»، وحثته كذلك قائلة: «لا يشخص بصرك في مواجهة العالم.» وعلى الرغم من أنني كنت لا أَكبُره كثيرًا وقتها عند سماعي الأغنية، فإنني أتذكر كيف أن هذا التوبيخ من أمه كان له بالغ الأثر في نفسي (مع أن بطل الأغنية كان يتحدث من زنزانة في السجن ساقه إليها عدم مبالاته بنصيحة أمه). كان فال دونيكان يتمتع بصوت عذب، وكان يصحب أغنيته لحن رائع، ولكنها ظلت عالقة بذاكرتي لأكثر من أربعين سنة لسبب غير اللحن، وهو أنها تعبر بكل بساطة عن مثال من المثل العليا هو الشرف. ترتبط العوامل النفسية للشرف ارتباطًا وثيقًا بفكرة أن يسير المرء رافعًا رأسه، مواجهًا العالم بشجاعة. كذلك قالت والدة فال: «ارفع رأسك عاليًا.» وعندما يتذكر الأصحاء الذين يتمتعون بروح الشرف أنهم جديرون بالاحترام، فإنهم بالفعل يسيرون وهم مرفوعو الرأس، منتصبو القامة. وبإمكاننا أن نلمس احترامهم لأنفسهم، وبإمكانهم أن يلمسوه في نفخة صدورهم وانتصاب قاماتهم.

وعلى الجانب الآخر، تجد أن الذلَّ يحني الظهور وتشخص معه الأبصار. فإذا أردت أن تعبِّر عن ارتكاب شخص ما لفعل منافٍ للشرف بلغة الأشانتي-توي، وهي لغة أبي، فإنك تقول: «فقد ماء وجهه.» وفي الواقع، دائمًا ما يكون وجه من يشعر بالخزي منكسًا ناظرًا بعينيه إلى أسفل. وتعبِّر عن الشرف بلغة الأشانتي-توي كلمة «أنيمونيام»، وهي مكونة من الجذر «نيم» بمعنى «الوجه». والكل يعلم أن الصينيين يتكلَّمون دومًا عن «فقدان ماء الوجه»؛ وأن اللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية كلها تعبر عن فقدان ماء الوجه وحفظه. وكذلك في شرق آسيا، وأوروبا الغربية، وغرب أفريقيا: ثلاث مناطق مختلفة تجد فيها الشيء نفسه. وكل هذا يشير إلى أن البشر في كل مكان تجمعهم النزعة ذاتها.

وليس الأهم ما تفعله بوجهك عمدًا — سواءٌ كان ذلك بإطلاقه بجرأة أو انكفائه في مذلة — فالوجه تعلوه حمرة الخجل بطريقة لا إرادية؛ والعين تغرورق بالدموع عندما تجيش المشاعر، خاصة المشاعر الأخلاقية مثل السخط أو العزة. إن الوجه يفضح مشاعر صاحبه أكثر من سواه، وربما بدا وكأنَّ التركيز على ارتباط الشرف بالوجه يعني أن الشرف لا علاقة له بالمشاعر إلا عندما نكون على مرأى من الناس. إلا أن هذه مغالطة بالطبع. فيمكننا أن نشعر بالخزي بعيدًا عن أعين الناس.

في القرن السابع عشر، كتب رينيه ديكارت يقول: «إنني مجبر على الاعتراف بأنني أخجل من نفسي كلما تذكرت أنني في الماضي أثنيت على هذا الكاتب …»1 يمكننا أن نراه في غرفة مكتبه يتدبر مديحه في الماضي، ويدرك أنه ارتكب خطأً فادحًا في حكمه على أمر من الأمور؛ حكمٌ جانبه الصواب يجعل صاحبه غير أهلٍ لكامل الاحترام الفكري، فيتدفق الدم في وجهه. اهتمامك بشرفك معناه أن ترغب في أن تكون أهلًا للاحترام. فإذا أدركت أنك ارتكبت خطأً يقلل من شأنك، فإنك تشعر بالخزي، سواءٌ كان ذلك على مرأى من الناس أو لا.

وبنهاية الكتاب، سأكون قد عرضت للقارئ ما قد نطلق عليه اسم «نظرية الشرف». إلا أنني أعتقد أن الطريقة المثلى للوصول إلى هذه النظرية تكون من خلال التعرف على العناصر الضرورية التي تمثل الشرف، وذلك عندما نرقب الطريقة التي يلعب بها الشرف دورًا في حياة الأفراد والمجتمعات. سأجمع في مستهل الفصل الأخير كافة عناصر النظرية التي اكتشفناها معًا. وسيكون هذا على ما أعتقد المكان الأمثل لتقديم بيان مستفيض. ولأنه لا جدوى من النظريات دون حجج تؤيدها؛ فلن يستطيع القارئ أن يفهم حججي أو أن يحكم على مدى صحتها إلا عندما يصل إلى المرحلة التي يدرك فيها السبب وراء تقديم مثل هذه الفرضيات.

أعلم أن العديد من المعاصرين ينفرون من مجرد الكلام عن «الشرف»، ويعتقدون أننا سنكون أفضل حالًا ولا شك بدون هذه المهاترات. (يدرك المرء هذا الأمر حق الإدراك عندما يقضي عدة سنوات في مواجهة سؤال: «ماذا تفعل هذه الأيام؟» والإجابة بأنني «أؤلف كتابًا موضوعه الشرف».) ولكن، سواءٌ أكنت مع الشرف أم ضده، فإنني على يقين من أن القارئ يدرك تمامًا مشاعر الخزي التي شعر بها ديكارت أو مشاعر الفخر التي عبَّر عنها فال دونيكان. إنه لأمر واقع أن مجتمعاتنا تخلق مواثيق تحافظ على بقائها مثل هذه الأنماط من السلوك والمشاعر؛ إن لُب العوامل النفسانية للشرف — الذي يكمن في منح الاحترام وتلقيه — جزءٌ لا يتجزأ منك حيث إنه موجود داخل كل إنسان طبيعي، مهما كانت درجة تنوُّره وتقدمه. هذا سبب من الأسباب التي دعتني إلى التفكير في حاجتنا إلى أن نحسب للشرف كل حساب؛ فهو قائم على ميول أساسية في علم النفس الاجتماعي الإنساني. ولا شك في أنه من الأفضل أن نفهم طبيعتنا ونتعامل معها بدلًا من أن نعلن عدم رضانا عما نحن عليه، أو — الأسوأ — أن ندَّعي أنه لا طبيعة لنا على الإطلاق. ربما نعتقد أننا فرغنا من التعامل مع الشرف، ولكن من المؤكد أن الشرف لم يفرغ منا بعد.

كوامي أنطوني أبياه برينستون
نيو جيرسي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤