لقاء في الظلام

في التاسعة والنصف ليلًا كان «تختخ» يَرتدي ملابسه الداكنة اللون، ثم يركب درَّاجته و«زنجر» معه، ثم انطلقا إلى الحديقة الواسعة … وفي العاشرة إلا خمس دقائق كان «تختخ» يتحدَّث إلى «زنجر» خارج السور: ستنتظرني هنا … لا تتحرَّك … وإذا تأخَّرتُ أكثر من اللازم فاذهب لمقابلة «محب» … وربت «تختخ» على ظهر كلبه المحبوب وكان يتساءل … هل فهم الرسالة كلها؟

ونظر «تختخ» في ساعته ذات العقارب المضيئة، ثم قفز على السور المنخفض، ثم السور المرتفع، ثم تعلَّق بأغصان الأشجار، وأخذ يتوغَّل في الغابة، ولكنه فوجئ بإنذارٍ داخلي ألَّا يتقدَّم أكثر من ذلك، فجلس على أحد الأغصان هادئًا وكتم أنفاسه يستمع … ولم يكن هناك صوت سوى حفيف الأغصان وبعض الطيور التي أزعجها وجوده … وغير هذا لم يكن سوى الصمت يلف المكان.

وفجأة أحسَّ «تختخ» بشيء حاد في ظهره … كان شيئًا صلبًا … إنه سكين … أو قطعة مُدبَّبة من الخشب، وسمع صوتًا يقول: لا تتحرَّك!

هل وقع في كمين؟ هذا ما فكَّر فيه «تختخ»، وأحسَّ أنه كان مُغفَّلًا عندما قَبِل هذا اللقاء الليلي وحده … ولكن برغم ذلك لم يفقد ثباته مطلقًا … وظلَّ جالسًا هادئًا في مكانه، وانتظر لحظات، ثم قال: من أنت؟

ردَّ الصوت: أنا زعيم الفهود السبعة.

تختخ: ولماذا هذه لحركة السخيفة؟

الصوت: هل أنت وحدك؟

تختخ: لقد قلتُ إنني سآتي وحدي … وأنا لا أكذب.

الصوت: سنتفاهم إذن.

تختخ: لن يتمَّ بيننا أي تفاهم إلا إذا رفعتَ هذا الشيء الذي يُؤلمني في ظهري!

وأحسَّ «تختخ» بالشيء الحاد يبتعد عنه، ثم سمع الصوت يقول: والآن … أين «عقلة»؟

تختخ: «عقلة»؟! … من هو «عقلة»؟

الصوت: الفهد السابع المختفي!

تختخ: لقد قلتُ لكَ إننا لم نختطفه … ولا أظنني سأُكرِّر ما قلتُه لكَ مرةً أخرى … فإمَّا أن تُصدِّق أو أنصرف!

ساد الصمت لحظات، ثم قال «تختخ»: ثم إنني لا أُحب أن أتعامل مع شبح … دعني أراك وقل لي من أنت وإلا … فلن نتفاهم مطلقًا!

الصوت: هذا مستحيل!

تختخ: إذن لا داعي لأي حديث … فهذه هي شروطي.

ثم بدأ «تختخ» يتحرَّك مُبتعدًا … ولكنه سمع صاحب الصوت يقول: إنني …

تختخ: لقد قلتُ لكَ بوضوح …

الصوت: لا مانع.

ودار «تختخ» على الغصن بهدوء وواجه صاحب الصوت. كان الظلام يُخفيه … وليس هناك إلا الأضواء البعيدة في الشارع وفي القصر، تُلقي بعض خطوط الضوء عليه … ولاحظ «تختخ» أنه طويل القامة … وأنه يضع قناع الفهود على وجهه، قال «تختخ» بصوت آمِر: اخلع قناعك ودَعك من هذه الألاعيب الصبيانية … صمت الآخر لحظات فتقدَّم «تختخ» منه على حذر، ثم مدَّ يده ورفع قناعه … ووجَّه إليه ضوء بطَّاريته الصغيرة … وعندما رأى وجهه أطلق آهة دهشة … لقد كان يعرفه جيدًا … ولكنه لم يتحدَّث إليه من قبل … إنه ولد مشلول … لا يُرى إلا على كرسي متحرِّك في شوارع المعادي … وهو يعرف أن اسمه «وحيد».

قال «وحيد»: الآن وقد عرفتَ سري … ماذا ترى؟

لم يردَّ «تختخ»؛ فقد كانَت هناك عشرات الأفكار والعواطف تتضارب في داخله … كيف استطاع هذا المشلول أن يجمع هؤلاء الفهود؟ … وكيف يقودهم؟ وكيف يستطيع تسلُّق الأشجار؟!

وعاد «وحيد» يقول: لعلَّك عرفتَ الآن لماذا لا أدَع بقية الفهود يرونني في الضوء … إنني أتصل بهم تليفونيًّا لأُلقي إليهم بأوامري … ولا ألتقي بهم إلا في الظلام … ولم أكن لأكشف لكَ حقيقتي إلا لأنني مضطرب جدًّا بعد اختفاء «عقلة» … إنه أصغرنا جميعًا … وسنكون مسئولين إذا اختفى إلى الأبد … ثم إنه الوحيد الذي يعرف سري.

تختخ: ولكن كيف تتسلَّق الأشجار؟

وحيد: إنني أُمرِّن ذراعَي جيدًا لأستعيض بهما عن ساقَي المشلولتَين … فألعب كل يوم تمارين مختلفة حتى أصبحتا قويتَين جدًّا، و«عقلة» يأتي بي قبل أن يصل الفهود … ويُساعدني، ثم لا أنصرف إلا بعد الاجتماع، ويُساعدني «عقلة» على العودة.

تختخ: كيف حضرتَ الليلة؟

وحيد: لقد اتفقُت مع البوَّاب أن يأتي بي إلى هنا ويتركني، وأنا أسكن في هذا المنزل الذي تُحيط به هذه الحديقة الواسعة.

تختخ: والآن ما هي حكاية اللغز الذي تحاولون حلَّه؟ … وكيف اختفى «عقلة»؟

وحيد: إنه لغز جاء بالصدفة … فمند كوَّنا جماعة الفهود السبعة لم نعثر على لغزٍ واحد نحلُّه … وذات ليلة عقد الفهود اجتماعًا لم أحضره … وكان «عقلة» يتسلَّق السور المنخفض ليصل إلى هنا، فسمع صوتًا يُشبه صوت ماكينة تدور في المنزل المجاور … فمشى في اتجاه الصوت حتى وصل إلى المنزل … وهو فيلا قديمة أغلقها أصحابها تمهيدًا لهدمها لقِدَمها واحتمال سقوطها … ولم يكن أحد يدخلها مطلقًا … ولكن «عقلة» شاهد ضوءًا خافتًا يصدر من مكان فيها فاقترب منها، واستطاع أن يرى فعلًا مجموعةً من الرجال يعملون على مطبعة صغيرة …

تختخ: وماذا في هذا؟

وحيد: إنهم كانوا يطبعون نقودًا!

تختخ: نقود؟!

وحيد: نعم … فأخبرَ الفهودَ الذين اتصلوا بي في اليوم التالي … فطلبتُ منهم مراقبة الرجال ومتابعتهم كل ليلة … ولكن في الليلة التالية لم يحضر أحد … وظلِلنا نُراقب المكان نهارًا وليلًا دون أن يعود الرجال إلى الفيلا!

تختخ: وأين اللغز في هذا؟! … مجموعة من الرجال تُزيِّف نقودًا، وكل ما عليكم إبلاغ رجال الشرطة ليُهاجموا الفيلا ويقبضوا عليهم!

وحيد: كان هذا ممكنًا لولا اختفاء «عقلة»!

تختخ: وهل أنت مُتأكِّد أن «عقلة» صادق؟ … أليس من المحتمل أن يكون «عقلة» واهمًا … أو اخترع هذه الحكاية ليكون عندكم لغز للحل؟

وحيد: كان هذا ممكنًا لولا اختفاء «عقلة» المفاجئ منذ ليلتَين!

تختخ: وهل كان عليه الدور في المراقبة تلك الليلة؟

وحيد: نعم.

تختخ: ألم تُحاولوا دخول الفيلا؟

وحيد: لا … في الحقيقة أننا ارتبكنا، ولم نستطِع التصرُّف!

ظلَّ «تختخ» صامتًا فترةً يُفكِّر … لقد تحدَّى هؤلاء الفهود مجموعة المغامرين الخمسة … وضربوا «عاطف» … وأسروا «محب»، وأصابوا «لوزة»، وحاولوا الإيقاع بينهم وبين الشاويش «فرقع» … والآن ها هم في مأزق … لقد اختفى أحد الفهود، وقد يكون الآن أسيرًا بين أيدي عصابة تزييف النقود، بل ربما قضَت عليه العصابة … فماذا يفعل؟! هل يتركهم وشأنهم؟ أو يتدخَّل؟ أو يكتفي بإبلاغ الشرطة؟ … كان في الإمكان اتخاذ أي قرار من هذه القرارات … وبعد فترة من التردُّد قال: متى تنوي أن تعود إلى منزلك؟

وحيد: لا أعرف … ولكن من الأفضل أن يكون قبل منتصف الليل؛ فقد اتفقتُ مع البوَّاب على هذا.

تختخ: إذن أرجو أن تنتظرني هنا … فإذا لم أعُد حتى منتصف الليل؛ فاعرف أن حادثًا وقع لي في الفيلا القديمة المجاورة … وعليك أن تصيح في طلب النجدة، ثم إذا استطعتَ الوصول إلى تليفون فاتصل بزميلي «محب» وسوف يتصرَّف هو.

ثم كتب «تختخ» ﻟ «وحيد» رقم تليفون «محب» وأخذ يتحرَّك، فقال «وحيد»: إنني آسف جدًّا لأنني أُعرِّضك للخطر!

لم يردَّ «تختخ»، بل أخذ يقفز بين الأغصان كالغوريلا، ثم وصل إلى السور المرتفع ومنه إلى السور المنخفض، وأحسَّ «زنجر» بحركةٍ فأقبل يجري تجاهه … ومشيَا معًا في حذر فوق السور، حتى وصلا إلى الفيلا القديمة … كانت الفيلا غارقةً في الظلام … وكأنها قطعةٌ كبيرة من الحجر … أو تل هائل من الرمال … ولم يكن فيها أثر للحياة … وقبع «تختخ» على السور يُفكِّر … هل يُحاول دخولها وحده، أو من الأفضل الاتصال بالأصدقاء والانتظار للغد؟ كان يعرف أن كلَّ دقيقةٍ تمر لها قيمتها، وبرغم أن «عقلة» ليس من المغامرين الخمسة … إلا أنه ولد صغير وقع في يد عصابة تزييف … وعصابات تزييف النقود عصابات قوية لا تتردَّد في عمل أي شيء للمُحافظة على سرية عملها.

قال «تختخ» ﻟ «زنجر» هامسًا: سنُحاول عمل شيء يا «زنجر» … كن على حذر، وإذا وقعتُ أنا في أيديهم فاذهب إلى «محب»!

ومدَّ «زنجر» فمه الرطب إلى وجه «تختخ» كأنما يُشجِّعه، فتدلَّى «تختخ» من السور، ثم ترك جسده ينزل في هدوء على أرض الحديقة المهملة … لم يكن هناك ضوء يُنير له سبيله … وحتى الفوانيس التي بجوار السور كانت مظلمة … ربما كما فكَّر «تختخ» قد قام شخص بكسر مصابيحها … فأخرج بطَّاريته الصغيرة وأطلق ضوءها الرفيع محاولًا أن يتبيَّن طريقه … ولم يكَد يفعل ذلك حتى رأى سلكًا ممتدًّا بين الأعشاب لا يمكن رؤيته؛ فقد أُخفي بمهارة … وأدركَ أنه سلك إنذار يتصل بجرس يدق داخل الفيلا لتنبيه من بها … وتأكَّد نتيجة لذلك أن الفيلا ما زالت تُستعمل كمقر للعصابة، وأحسَّ بجسده يتحفَّز للمخاطر القادمة.

رفع «تختخ» قدمَه عاليًا حتى لا يخبط في السلك، ثم رفع «زنجر» بين يدَيه حتى لا يصطدم بالسلك هو الآخر، ومضى على ضوء بطاريته يتقدَّم من الفيلا المظلمة الساكنة وقلبه يدق بشدة.

وصل إلى الفيلا ودار حولها ليجد منفذًا إليها … كانت مُغلقةً تمامًا، وقد تراكمَت الأتربة على نوافذها وأبوابها … كأنها لم تُفتح منذ أعوام، ولم يخدع ذلك «تختخ»؛ فقد ظلَّ يدور حول الفيلا، ولكن كل شيء كان يُؤكِّد أن لا أحد يدخل الفيلا مطلقًا؛ فقد كانت الأبواب مُغلقةً تمامًا، وليس على الأرض أية آثارٍ للأقدام … إذن … هل ضحك عليه «وحيد» وسخر منه، وكانت قصة اختفاء «عقلة» من اختراعه، أم أن القصة حقيقية؟! ولكن كيف يدخل رجال العصابة إلى الفيلا؟

وفجأةً تذكَّر لغزًا قديمًا اشترك في حلِّه … لغز «الشبح الأسود» … لقد كان للفيلا التي تسكنها العصابة في ذلك اللغز باب للمخزن مختفٍ تحت الأعشاب، ويُؤدِّي إلى دور تحت الأرض! لقد كانَت الفيلا قديمةً مثل هذه … وكان ذلك هو أسلوب البناء قديمًا … وهكذا أخذ يدور حول الفيلا بين الأعشاب المتكاثفة، وهو يُطلق أشعة بطاريته … وفجأةً وجد آثار أقدام خفيفة جدًّا على الأرض المتربة، وكان اتجاه الأحذية إلى كوم من القش بجوار الحائط … واقترب منه … وسمع «زنجر» يُزمجر في هدوء … وأدرك أن «زنجر» قد عرف هو الآخر الحكاية.

تقدَّم «تختخ» من كوم القش، ثم قرَّر قبل أن يبحث عن باب الفيلا السري أن يبحث عن باب الحديقة الذي تدخل منه العصابة إلى الفيلا، وهكذا عاد وأطلق ضوء بطاريته حتى وصل إلى قرب السور، وفي السور بدا واضحًا باب من الخشب مُغلق من الداخل، ونزل «تختخ» على ضوء البطارية إلى الأرض، ووجد آثار أقدامٍ حديثة حول الباب! ودار ذهنه بسرعة … باب مُغلق من الداخل معناه أن العصابة في الفيلا الآن … هل يتراجع عن المغامرة ويُسرع بإبلاغ الشرطة؟! ولكن هل تبقى العصابة حتى يحضر رجال الشرطة؟! وهل يترك «عقلة» لمصيره خلال هذه الساعات؟ … أليس هناك تحدٍّ بينهم وبين الفهود السبعة؟ … أليسَت هذه فرصةً ليُثبت لهؤلاء الفهود الفارق بينهم وبين المغامرين الخمسة؟! وهكذا تقدَّم من الفيلا مرةً أخرى، وتقدَّم إلى كوم القش، وأخذ بكل حذر يُزيحه جانبًا بحثًا عن الباب السري … ووجد الباب مختفيًا تقريبًا تحت القش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤