النسوية وفلسفة العلم

(١) ما النسوية؟

النسوية في أصولها حركة سياسية تهدف إلى غايات اجتماعية، تتمثل في حقوق المرأة وإثبات ذاتها ودورها، والفكر النسوي بشكل عام أنساق نظرية من المفاهيم والقضايا والتحليلات تصف وتفسر أوضاع النساء وخبراتهن، وسُبُل تحسينها وتفعيلها، وكيفية الاستفادة المُثلى منها، النسوية إذن ممارسات تطبيقية واقعية ذات أهداف عينية، ولما تنامت مؤخَّرًا، وباتت قادرة على التأطير النَّظري حتى تبلورت النَّظرية ونضجت، ظلَّت الرابطة قوية بين الفكر والواقع. الحركة أو الممارسات تعمل على الساحة لتبديل أوضاع ملموسة وظروف اجتماعية، تتدعم بالنظرية وتستلهم خُطاها وتوجهاتها، والنظرية بدورها تتشكَّل وتتفرع وتتطور بما يبدو عمليًّا وفعَّالًا أو مطلوبًا في الممارسة.

هكذا بدأت النسوية مع القرن التاسع عشر حركة اجتماعية، توالد عنها فكر نسوي، وفي مرحلة لاحقة نشأت عنها منذ سبعينيات القرن العشرين فلسفة نسوية، ظلت بدورها أكثر من أية فلسفة أخرى ارتباطًا بالواقعي والعيني والجزئي والعرضي واليومي والمعاش والعادي والشائع، حيث لا نظرية منفصلة عن الممارسة العينية، ولا فعل في الواقع منبت الصلة بالفكر، الخلاصة أنَّ النسوية فكر وواقع متجاوران، حتى يصح القول إنَّ الفلسفة النسوية أتت أخيرًا كتركيب جدلي من هذين الجانبين للحركة، اللذين تطوَّرا معًا.

في هذا الإطار العريض الشامل تضم النسوية كل جهد عملي أو نظري لاستجواب أو تحدي أو مراجعة أو نقد أو تعديل النظام البطريركي (الأبوي) patriarchal السائد طوال تاريخ الحضارة الغربية … الاستثناءات القليلة للنظام البطريركي إما قبل التاريخ المدون للحضارة الغربية، وإما خارج نطاقها، وفي كل حال نجد الاستثناءات نادرة — أو ببساطة استثناءات — بطول الحضارة الإنسانية وعرضها.

البطريركية هي بنية الحضارة الإنسانية — على اختلاف مراحلها وتطوراتها وشعابها — القائمة على مؤسسات وعلاقات اجتماعية تكون المرأة فيها ذات وضعية أدنى خاضعة لصالح الرجل، ويتبوأ الرجال السيادة والمنزلة الأعلى، حتى يمتلكوا سلطة تشكيل حيوات النساء أنفسهن؛ مما يخضعهن لأشكال من القهر والكبت، تُفرض على المرأة حدود وقيود، وتُمنع عنها إمكانيات للنماء والعطاء؛ فقط لأنَّها امرأة، حتى بدت الحياة وكأنها حق للرجل وواجب على المرأة.

لقد اقتضت مصالح السلطة الذكورية حصر المرأة في قيمتها بالنسبة للرجل؛ أي في دورها كأنثى … كزوجة وكأم، فتبدو الأنوثة حتمية بيولوجيَّة مفروضة على المرأة، تحصرها داخل الأسرة التي يرأسها الرجل، ووفقًا لشروط ومتطلبات الرجل، ولأن الأسرة تبدو مؤسسة ضرورية لاستمرارية الحياة، كانت الحتمية البيولوجية وضرورية الأسرة هما الذريعتان اللتان جعلتا وضعية المرأة الأدنى الخاضعة للرجل والمُسخَّرة له هي الأمر الواقع الذي لا واقع سواه، والطبائع الضرورية للأشياء، بدا هذا طبيعيًّا وأيضًا عادلًا؛ لأنَّه مصلحة السُّلطة الذكورية الأقوى، وقديمًا ناقش أفلاطون في جمهوريته المقولة التي تفرض نفسها أحيانًا، وتنص على أنَّ العدالة هي مصلحة الأقوى.

تؤكد النسوية أنَّ هذا جزئيًّا في صالح الرجل، لكنَّه كليًّا ليس عدلًا وليس في صالح المسار الحضاري والإنسانية جمعاء التي هي الرجل والمرأة معًا، وليست الرجل فقط أو أساسًا كما تزعم القيم الذكورية للبطريركية التي سادت. لقد خسرت البشرية طويلًا من هذا الإهدار الجائر لحقوق المرأة ولدورها الحضاري، خصوصًا وأنَّه ارتدَّ في صورة بخس وإهدار والحط من شأن قدرات وملَكات وخبرات نفسية وشعورية، فقط لأنها أنثوية أو خاصة بالمرأة، ولئن عملت النسوية في موجتها الأولى في القرن التاسع عشر على نيل حقوق المرأة، فإنَّ النسوية الجديدة تعمل الآن على إبراز وتفعيل مثل هذه الخبرات الأنثوية زاعمةً أنَّ هذا قادر على الإسهام في علاج أدواء مزمنة تعاني منها الحضارة المعاصرة وممارساتها العلمية، بسبب من المركزية الذكورية التي سادت وانفرادها بالفعل الحضاري.

هكذا يتضح أنَّ النسوية اتجاه ذو مراحل وطيف عريض ومتغيرات وبدائل شتى، وهي ككل الاتجاهات الفكرية الكبرى، إطار عام يضم فروعًا عديدةً وروافد شتى، أوجه الاختلاف بينها كثيرة، لكنها تتفق جميعها على مساءلة البطريركية وقيمها بحثًا عن حقوق ووجود المرأة، فظهر مصطلح النسوية Feminism لأول مرة في الفكر الغربي في نهايات القرن التاسع عشر، بالتحديد العام ١٨٩٥م، ليبلور مدًّا في هذا الاتجاه شهده ذلك القرن، بعبارة أخرى: كان الفكر النسوي في الحضارة الغربية وليد القرن التاسع عشر.

(٢) هل من جذور؟

لئن كان دأب البحث الفلسفي هو تقصي الأصول والإرهاصات للقضية المطروحة، فإننا نجد الأصول بشكلٍ عام تسير في اتجاه ضد النسوية!

أجل، شهدت مراحل سحيقة من التاريخ الأنثروبولوجي العصر الأمومي، حيث كانت المرأة هي مركز المؤسسة الاجتماعية، وتميزت الحضارة الفرعونية بتوازن مُعجز بين الذكورة والأنوثة، كانت المرأة في مصر القديمة تشارك في النشاط الاقتصادي والمشاغل العامة، وفي الطقوس والشعائر الدينية، بل وفي الحُكم. اقتصرت وراثة العرش في عصر ما قبل الأسرات على فرع الأمهات حتى تم الاعتراف بحق النساء في تولي الحكم؛ مما جعل الملكة «مريت نيت» ابنة الملك وادجي رابع ملوك الأسرة الأولى تعتلي العرش كأوَّل امرأة في التَّاريخ تتولى الحكم، حكمت مصر عشرين عامًا (٣٢٥٠–٣٢٣٠ق.م)، ووصل التوازن بين الذكورة والأنوثة في مصر القديمة إلى المستوى الثيولوجي، فكان عدد الأرباب المعبودة مساويًا لعدد الرَّبَّات المعبودات، احتلت ماعت ربة العدالة المنزلة العليا، فضلًا عما تجسده الربة إيزيس من قيم الإخلاص والوفاء ولملمة الأشلاء ومحاربة الشر. وصل هذا التوازن إلى مرتبة الخلق والتكوين١ … وبالمثل حملت الطاوية في الصين القديمة توازُنًا بين اليانج والين اللذين يُمثلان الذكورة والأنوثة …
ولكن إذا كنا نبحث عن أصول النسوية كتيار من تيارات الفكر الغربي، وجدنا ميراث الفلسفة الغربية الطويل البادئ من الإغريق، شأنه شأن سائر مكونات الحضارة الغربية، كالشعر والأساطير والأدب والشرائع القانونية والوعظ والخطاب الديني والتربوي … إلخ؛ يقر بدونية المرأة، وبهذا الوضع المحدد لها على أنَّه الوضع الطبيعي. حتى العلم التجريبي ذاته حين اشتدَّ ساعده في الحضارة الغربية إبان العصر الحديث، انضمَّ هو الآخر إلى هذه المسيرة الجائرة ليقر بدونية المرأة، خصوصًا عن طريق البيولوجيا وعلم النفس،٢ فضلًا عن ظهور ما تكرس خصِّيصًا لهذا الغرض، مثل الكرانيولوجي craniology؛ أي علم الجمجمة وقياس أحجامها، الذي ساد في أواسط القرن التاسع عشر، حيث أُجريت أبحاث على الذكاء والقدرات الذهنية على أساس أنَّ هذا يرتبط ارتباطًا مباشرًا بحجم المخ! راحوا يقيسون أحجام الأدمغة أو الجماجم. ولما كانت في المعدل العام أصغر حجمًا لدى النساء، استنتج علماء الكرانيولوجي أنَّ معدل الذكاء أدنى لدى النساء، وأنَّهن بالتالي أقل قدرة على النظر المجرد. زاد العلماء على هذا أنَّ المبايض تتيبَّس بفعل التفكير، والمناشط العقلية عبء ثقيل على أجهزة المرأة العصبية الحساسة تُقلِّل مُعدَّل خصوبتها وقدرتها على الإنجاب،٣ وهكذا، بفعل العلم الحديث الذي تَصدَّر المسيرة المعرفية بغير منازع انتقل التسليم الضمني بالحتمية البيولوجية إلى تسليم صريح عصري مؤزر.
الخلاصة أنَّنا لن نجد للنسوية إرهاصات متنامية في مراحل الفلسفة الغربية الأسبق، ربما وجدت بعض الأفكار العتيقة المبهمة التي يمكن أن تستفيد منها النسوية، من قبيل نظريات الدورة الكبرى والعود الأبدي التي ظهرت مع الإغريق، وتردد رجْع خافت لصداها هنا أو هناك في مسار الفكر الغربي، وهي أفكار يمكن أن ينشأ عنها تصور مغاير للمرأة وعلاقة الذكورة بالأنوثة،٤ وأيضًا ربما تساءل فيلسوف أو آخر — خصوصًا في عصر الفلسفة الحديثة — عن سبب هذا الوضع المتدني للمرأة، أو أعرب عن تصوره أنَّها يمكن أن تكون إنسانًا كاملًا مثل الرجل، هكذا فعل الموسوعيون الفرنسيون دينس ديدرو D. Diderot (١٧١٣–١٧٨٤)، وأدريان هيلفسيوس A. C. Helvetius (١٧٢٢–١٧٧١) الذي شكك كتابه «في الإنسان: ملكاته وتربيته» في الحتمية البيولوجية، حين أشار إلى أن سبب خفة النساء وطيشهن هو سوء التربية وليس دونية فطرية فيهن، وهولباخ (١٧٣٣–١٧٨٩) الذي رأى وضع النساء لا يعدو أن يكون شكلًا آخر من أشكال العبودية التي يجب القضاء عليها في كلِّ صورها. هذا بخلاف وجود كاتبات في مراحل أسبق من التاريخ الغربي، هنَّ شاعرات أو راهبات وواعظات، أشرن إلى تحفظات على وضع المرأة ومشاكل المرأة وخصوصياتها. ومن أهم ما ورد في هذا الصدد كتاب «اقتراح جاد للنساء» (١٦٩٤م)، تأليف آن ماري ستيل، ومن قبلها قالت نسوية قديمة هي بولين دي لابار Poulain de la Barre إنَّ كلَّ ما كتبه الرَّجل عن المرأة مشكوك فيه؛ لأنَّ الرَّجُل هو الخصم والحكم.٥
كل هذه الإشارات العابرة قبل القرن التاسع عشر خافتة وباهتة، ابتلعها تيار الحضارة الغربية السائر بمَجامعه نحو تكريس وضع معين للمرأة الاستثناء الوحيد الذي ينبغي أن يستوقفنا هو الفيلسوف الاستثنائي فعلًا أفلاطون شيخ الفلسفة المثالية، وليس جزافًا قول الفيلسوف والرياضياتي العظيم ألفرد نورث وايتهد A. N. Whitehead (١٨٦١–١٩٤٧): إنَّ مجمل تاريخ الفلسفة الغربية هوامش على فلسفة أفلاطون.
نقرأ في الكتاب الخامس من الجمهورية منطلقات للنسوية الحديثة، صريحة لا لبس فيها، حتى أكثرها شططًا كإلغاء الأسرة. في طبقة الحراس أحلَّ أفلاطون محل الأسرة الترتيبات الكفيلة بإنتاج أفضل سلالة، ثُمَّ تتعهد الدولة بتربية الأطفال، دون أن ينتسب ابن إلى أبيه أو زوجة إلى زوجها، وكان أفلاطون أوَّل فيلسوف يرفض الحتمية البيولوجية، متسائلًا باستنكار: هل يختلف الصُّلع عن ذوي الشعر في مهارتهم لصنع الأحذية؟! فلماذا نفترض اختلاف الرجال عن النساء فقط بناءً على خصائص جسمانية؟ ألسنا نعهد بالحراسة إلى الكلاب ذكورًا وإناثًا على السواء، ولا نقصر إناث الكلاب على رعاية الجراء فقط؟! فكانت طبقة الحراس في الجمهورية أوَّل موضع فلسفي تتساوى فيه النساء مع الرِّجال تمامًا، وتنفصل فيه المرأة عن وضعها التقليدي. كل فرد يحتل موقعه وفقًا لقدراته أو قدراتها، الذكورة أو الأنوثة لا تصنع تمايزًا. أكد أفلاطون صراحةً على أن «المرأة بطبيعتها قادرة على كل الوظائف، وكذلك الرجال»،٦ فلا تختلف النساء عن الرجال، بل يختلفن فيما بينهن، يقول: هناك نساء موهوبات في الطب، وغيرهن لم يوهبن منه شيئًا، ونساء وُهبن القدرة على الموسيقى، وغيرهن لم يوهبنها.

– بلا شك.

– أليس هناك أيضًا نساء وُهبن القدرة على الرياضة البدنية والحرب، وغيرهن لا يملن إلى هذه ولا إلى تلك؟

– أعتقد ذلك.

– ونساء محبات للحكمة، وغيرهن يبغضنها؟ ونساء يتَّصِفن بالشجاعة وأُخريات بالجبن؟

– أجل.

– فهناك إذن نساء جديرات بالاشتغال بحراسة الدولة، وأخريات غير جديرات بذلك، إنَّ الصفات السابقة هي التي اخترنا على أساسها حراسنا من الذكور.٧
وعلى هذا سوف يتلقَّى النساء مع الرجال التعليم والتدريبات نفسها، بدنيًّا وذهنيًّا وموسيقيًّا، ما دامت قد فُرضت عليهن المهام نفسها، فيتعودن ركوب الخيل وحمل السلاح.٨ و«على نساء الحراس أن يقفن عاريات ما دمن سيكتسين برداء الفضيلة، وعليهن أن يُشاركن الرِّجال في الحرب، وفي كلِّ الأعمال التي تتعلق بحراسة الدولة، دون أن يقمن بأيِّ عملٍ آخر.»٩ فقد ألغى أفلاطون الأسرة وألغى الملكية أو نادى بشيوعيتها بين الحراس، لكي يتفرغوا رجالًا ونساءً لعملهم ولا تشغلهم عنه الشَّواغل.
ولا تسلم حجة فلسفيَّة من الرَّدِّ ووجهة النظر الأخرى، وعلى الرغم من هذه النصوص الصَّريحة القاطعة لا يوجد إجماع على أن أفلاطون من رُوَّاد النسوية؛ أي هادف إلى نقد ومراجعة البطريركية. ذهبت سوزان موللر أوكين، وهي نسوية متخصصة بنسويتها في الفلسفة السياسية الغربية إلى أنَّ «إلغاء أفلاطون للأسرة هو الذي جعله يُعيد التفكير في موضوع دور المرأة وقدراتها الكامنة، بل قل بدقة أكثر: اضطره أن يفعل ذلك.»١٠ وحجتها أن كلَّ هذا قاصر على طبقة الحراس، وأنَّ النِّساء من الطَّبقة الدنيا ظللن كما هنَّ، وسوف يحتفظ الزُّراع والعُمال بملكية الأرض والمنزل والمرأة، كما أنَّ المرأة لم تشارك بشخصها أو برأيها في محاورات أفلاطون، وهو في النِّهاية جرى على نهج الثقافة الذكورية السائدة في عصره واعتبر النساء جزءًا من الملكية،١١ وأصبحن مشاعًا في اللحظة التي أصبحت فيها الممتلكات الأخرى مشاعًا، فضلًا عن أن الأسرة عادت في محاورة القوانين، فعادت المرأة إلى التراجع والأدوار الثانوية في الحياة.١٢
ويذهب فؤاد زكريا إلى أبعد من ذلك، إلى أنَّ أفلاطون لم يرمِ إلى تحرير المرأة، بل فقط أراد لها أن تكتسب أوصافًا رجوليةً وتختلط بالرِّجال كواحد منهم (الحرب، الرياضة، العري)، كما أنَّه جرَّد العلاقة الجنسيَّة من أية مشاعر أو أبعاد شخصية، وجعلها مسألة تناسلية فحسب في أوقات تُحدِّدها الدولة، وعلى المرأة أن تقبل عن طيب خاطر أن تكون مجرد وسيلة لمكافأة محاربين شجعان بمزيد من الممارسات الجنسية، هذا فضلًا عن أنَّ الجمهورية وغيرها من محاورات أفلاطون تحفل بإشارات تنم عن أنَّ الحب الحقيقي عنده هو حب الجنسية المثلية الذي كان شائعًا في المجتمع الإغريقي، كنتيجة طبيعية لإفراط هذا المجتمع في الذكورية وفي تحقير المرأة، فلم يكن مسموحًا لها بأيِّ عملٍ أو استقلال اقتصادي، أو اقتراع أو أية مشاركة في الحياة السياسية أو العامة، وكان محجوبًا عنها كل فرص التعليم والترقي، ولا تتلقى من التدريبات إلا ما يؤهلها لواجبات خدمة الزوج وتربية الصغار، وينتهي فؤاد زكريا من هذا إلى أنَّ أفلاطون أراد أن يجعل من المرأة رجلًا لأنَّه يكره النساء، ونزوعًا منه إلى الجنسيَّة المثليَّة.١٣
والحق أنَّ الحضارة الإغريقية كانت تدفع فعلًا إلى كراهية المرأة والجنسية المثلية؛ لأنَّها — خلافًا لسابقتها الفرعونية مثلًا — أفرطت في الانحطاط بوضعية المرأة إلى أدنى درجة، وبجذور تعود إلى الأصل الأسطوري. فنجد الربات الإناث في الأساطير الإغريقية وُلدن من ربة الأرض، وهي من نسل الليل، فارتبطت المرأة في اللاوعي الإغريقي بالظلام وما يدخل فيه ويخرج منه، والظلام بدوره مرتبط بعالم العماء والشواش والفوضى والشر والموت والجحيم، على الإجمال بالعالم السفلي. هكذا ارتبطت المرأة بالشر وليس بالانحطاط فقط. قال يوربيديس إنها شر مستطير. وقال هسيودوس إنها شر جميل. لنجدها في كلِّ حال شرًّا. وكان تبرير هذا أن المرأة غير قادرة على التحكم في نفسها واتباع الفضيلة، بل لا بدَّ أن تأتمر في هذا بأمر الرجل١٤ … إلى آخر تلك المعزوفة العتيقة التي تكررت في الحضارة الغربية أكثر مما تكررت في سواها من الحضارات.

لكن مع هذا التصوير الحقير والشيطاني للمرأة الذي ساد الحضارة الغربية يصعب اعتبار المسألة برمتها كراهية من أفلاطون للمرأة ونزوعًا للجنسية المثلية. ولئن كانت مساواة المرأة بالرجل قاصرة على طبقة الحراس، فإنها طبقة جرى العرف على أنها أخصُّ خصائص الرجال. ولا شك أن أفلاطون نموذج فريد لتفكير يرى أن البطريركية ليست حتمًا مقضيًّا لا بديل له، بل هي نظام يمكن تقويضه إذا اقتضت الأمور، والإطاحة تمامًا بحجتيه، وهما الحتمية البيولوجية وضرورة الأسرة النووية، وليس فقط مراجعة أو تعديل هاتين الحجتين. وطرح أفلاطون المساواة التامة بين الجنسين في التنشئة والعمل والحياة على السواء. أجل عادت الأسرة في محاورة القوانين، لكن إلغاء الأسرة يظل حتى يوم الناس هذا في القرن الحادي والعشرين شططًا غير مقبول من الكثيرين، ومن غالبية المتحمسات للنسوية، ولم تكن أبدًا شرطًا ملازمًا لتحرير المرأة. الشرط الملازم هو شيء من العدالة بين طرفيها.

لقد كان أفلاطون فيلسوفًا يبحث عن العدالة داخل الفرد وداخل الدولة على السواء. وتحفل محاورة «القوانين» بالإشارات التي تؤكد إلى أيِّ حدٍّ كان أفلاطون نصير المرأة، يبحث عن حقوق في الزواج المتكافئ والمهر والتعليم، رافضًا الحتمية البيولوجية، قائلًا بصراحة: «جنس الأنثى قد تُرك لأنواع من الفوضى بسبب الإرغام الخاطئ للمشرع، ومن خلال ذلك الإهمال للجنس سمحتم لأشياء كثيرة أن تبطل وتنتهي، وكان يمكن أن تُنظَّم تنظيمًا أفضل بكثير مما هي عليه الآن.»١٥ وبحث أفلاطون في «القوانين» أيضًا عن هذا التنظيم الأمثل بأن تتلقى المرأة التعليم والتدريبات الرياضية والعسكرية، وتضطلع بدورها في وظائف حراسة الدولة، وبحث شروط هذا والسن الملائم له.

كان أفلاطون يبحث دائمًا عمَّا ينبغي أن يكون، بينما يبحث أرسطو أساسًا فيما هو كائن، تقوقعت محاولته في أضابير الفكر الترنسندنتالي. وسادت الحضارة الغربية نظرة أرسطو الدونية للمرأة؛ لأنها تُعبِّر عن الأمر الواقع، وتطرح أصولًا فلسفيةً لسيادة الرجل والمركزية الذكورية في الفلسفة الغربية ومجتمعاتها البطريركية. وبكل قدرات أرسطو المنطقية والمنهجية الهائلة راح يؤكد أن الأنوثة نقص وتشوُّه، وأن المرأة امرأة لأنها ينقصها ما يجعلها رجلًا؛ وبالتالي الرجل هو الأرقى والأكمل، فيجب أن يكون هو الحاكم وهي المحكوم. إنه فارق جوهري في النوع البشري بأسره، كالفارق بين الروح والجسد. هكذا كان المعلم الأوَّل الذي سادت فلسفته ألفين من السنين من أقوى أنصار الحتمية البيولوجية التي تُبرِّر وتفرض الوضعية الدونية للمرأة.

(٣) بشائر ظهور النسوية

على أية حال، اتفقنا على جدلية الواقع والفكر في النسوية، وأن الفكر النسوي لم يتأتَّ من توالد وتحاور الأفكار والنظريات، بل كاستجابةٍ لواقع، ويحاول بدوره أن يجعل الواقع يستجيب له.

هكذا أتت بشائر الحركة النسوية الحديثة في الفكر الغربي من متغيرات الواقع الأوروبي على مشارف القرن التاسع عشر، من الثورة الصناعية واختراع ماكينات الغزل والنسج التي كانت أول زعزعة للوضع التقليدي للمرأة في الحضارة الغربية، لتظهر المرأة في غير المنزل وملحقاته الريفية، ظهرت في المصنع كقوة عمل منافسة للرجل، تقوم بالعمل نفسه وتتقاضى أجرًا أقل. وتفجرت الثورة الفرنسية وشعارها المرفوع «الحرية … الإخاء … المساواة»، فماذا عن حرية ومساواة المرأة، لا سيِّما أن المرأة شاركت بالفعل في هذه الثورة، مثلما شاركت المرأة المصرية في ثورة ١٩١٩ كعلامات بارزة في التاريخ النسوي.

هكذا ظهر بإنجلترا في تلك الآونة، في العام ١٧٨٢ ما يمكن أن نسميه نصًّا نسويًّا صريحًا وفاتحة الحركة النسوية، إنه كتاب ماري ولستونكرفت M. Wollestoncraft (١٧٥٩–١٧٩٧) «دفاع عن حقوق المرأة». كانت ولستونكرفت متزوجة من فيلسوف إصلاحي هو وليم جودوين، وتُوفِّيت عقب ولادتها المتعسرة لطفلتها ماري (١٧٩٧–١٨٦١) التي تزوجت من الشاعر الكبير شيلي، وكتبت مقدمة وهوامش على مجموعة الأعمال الكاملة لزوجها شيلي. كانت نسوية كأمها وأيضًا أديبة، من أهم أعمالها رواية «فرانكشتين» (١٨١٨) الشهيرة التي تجعل النسوية المعاصرة تتمسك برابطة خاصة بينها وبين أدب الخيال العلمي. على أن حياة ماري ولستونكرفت العاطفية كانت مضطربة مثيرة للأقاويل؛ لأن زوجها لا يذكرها بخير. وقد اقتصرت في كتابها المذكور على الدفاع عن حق نساء الطبقة البرجوازية الوسطى في تلقي تعليم أكثر عقلانية، ينمي عقلها كإنسان ولا يقتصر على تأهيلها كزوجة، خصوصًا وأن حوالي ٣٠٪ منهن ذكيات وغير متزوجات. وأكدت أن المرأة إذا تلقت التعليم نفسه الذي يتلقاه الرجل لكانت مساوية له من جميع الوجوه. أمَّا القول إن المرأة بطبيعتها تفتقر إلى العقل والحكمة والتروي، فزعمٌ لا أساسَ له من الصحة. وتلك هي الحجة الأساسية التي تتمسك بها النسوية دائمًا لتقويض الحتمية البيولوجية.
نلاحظ أن كتاب ولستونكرفت كان في الأساس ردًّا على كتاب «إميل» في التربية لجان جاك روسو J. J. Rosseau (١٧١٢–١٧٧٩) حيث جعل التربية الخلقية والنفسية والعقلية والجسدية من نصيب الذكر فقط، بينما تتلقى صوفي (الأنثى) تربية مناقضة لهذا، تهدف إلى تحجيمها وقصر وجودها على متعة وخدمة وراحة الرجل، حتى تذهب سوزان موللر أوكين إلى أن روسو يريد من المرأة أن تكون بغيًّا وراهبةً في آنٍ واحد، بغيًّا لكي تتفنن في إمتاع الرجل، وراهبة لكي يأمن إلى عرضه وانتساب ورثته وأولاده إليه بعد قضاء وطره منها. هكذا أسرف روسو في تقليص وجود المرأة في الجنس والإنجاب، مؤكِّدًا أن خضوعها للرجل ليس نتيجةً لعُرف، بل هو النظام الطبيعي والضروري للأشياء.

اعترض روسو بشدة على نظرية أرسطو القائلة إن العبودية نظام طبيعي، ثُمَّ لم يتردد لحظة واحدة في أن يوافقه في اعتبار عبودية النساء أمرًا طبيعيًّا. انشغل كثيرًا باللامساواة بين البشر في كتابه «أصل التفاوت»، باحثًا عن المساواة في عالم الذكور فقط، ليبخس بالإناث بعد ذلك إلى منزلة تحت أقدامهم أو أدنى. أقام تمييزًا واضحًا بين الدولة والأسرة، فاهتم بالعدالة والمساواة في الدولة، ثُمَّ العبودية والخضوع في الأسرة، مثله مثل أرسطو ولوك وهيجل … فلئن كان روسو على شيءٍ من الوضوح والحدة، فإنه يسير في التيار السائد الذي يبدو طبيعيًّا ويسير فيه رفاق ومعاصرون له وتالون عليه، أمثال مونتسكيو وجمهرة التنويريين، حتى أتى أوجست كونت وأكَّد أن دونية المرأة هي الوضع الطبيعي لها، ورأى بلزاك أن المرأة لا دور لها في الوجود إلَّا تحريك قلب الرجل … إلخ.

(٤) النسوية الليبرالية

إذا أخذنا في الاعتبار أن آراء جون لوك J. Lock (١٦٣٢–١٧١٤) بالذات، وهو الأب الروحي لليبرالية — الذي كان يستثمر الجانب الأكبر من نقوده في شركة لتجارة العبيد! — لا تختلف جوهريًّا عن آراء روسو، حتى أكَّد أن خضوع النساء لأزواجهن شيء أساسي ومُطلق في الطبيعة لا علاقة له بالمتغيرات الاجتماعية، وأن جمهرة من رفاقه شاركوه في هذا، أدركنا أن الليبرالية ليست في حد ذاتها فلسفة نسوية.

ولكن لا مندوحة عن الاعتراف بأن تبلور ونضج وعلو الليبرالية في القرن التاسع عشر عمل على فتح أبواب هذا القرن للحركة النسوية. ومهما ارتفعت راية الانفصال بين الأسرة والدولة، فإن الليبرالية حين قوَّضت السلطة البطريركية في حكم الدولة ألقت بظلال هذا على الطبيعة البطريركية للمجتمع. هذا فضلًا عن دفاع الليبرالية عن الحرية وحق التعليم والتنافس وإطلاق إمكانيات الذات الفردية وتشارك أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات. هكذا باتت الأجواء مواتية أكثر لزعزعة الحتمية البيولوجية المفروضة على المرأة والمناداة بأن وضعها المتدني نتيجة لحرمانها من التعليم والتثقيف وفرص إثبات الذات ونشدان الهوية.

ها هنا أتى فيلسوف الليبرالية بامتياز وفيلسوف العلم والمنهج الاستقرائي الأوَّل في عصره، وهو جون ستيوارت مل J. S. Mill (١٨٠٦–١٨٧٣) ليكون بلا جدال أبرز رائد فلسفي للنسوية في موجتها الأولى المنطلقة آنذاك. أجل كانت ثمة كتابات كثيرة في تلك الآونة تمهد للنسوية وتزكيها، لعل أهمية كتاب وليم طومسون العام ١٨٥٢ «استئناف نصف الجنس البشري (أي النساء) ضد ادِّعات النصف الآخر (أي الرجال)»، وفيه يرد طومسون على دعاوى جيمس مل — والد جون ستيوارت مل — المطروحة في كتابه «مقال عن الحكم»، حيث يُنكر جيمس مل حاجة النساء والطبقة العاملة إلى حقِّ التصويت الانتخابي؛١٦ لأن مصالحهن مدرجة مع مصالح أزواجهن ومصالح الطبقة العاملة مدرجة مع مصالح أصحاب العمل. وكان أسهل ردٍّ على هذا أن مصالح العبيد أيضًا مدرجة مع مصالح سادتهم. والحق أن جيمس مل وصديقة جيرمي بنتام أستاذ جون ستيوارت مل — وثلاثتهم ليبراليون طبعًا ومن أقطاب المذهب النفعي الذي يرى الخير هو تحقيق أكبر قدر من المنفعة لأكبر عدد من الناس — وأقرانهما النفعيين كانوا يميلون إلى إعطاء المرأة حقوقًا، وكانت جريدة «وستمنستر ريفيو» المُتحدِّثة بلسانِ المذهب النفعي منبرًا للدفاع عن الحركة النسوية التي اشتدَّ ساعدُها آنذاك. لكن جيمس مل وجيرمي بنتام رأيا أن الأجواء ليست مواتية بعد لمنح المرأة حق التصويت بالذات، فكان رد وليم طومسون المذكور عليهما.
في هذه الحقبة الموَّارة، في أواسط القرن التاسع عشر، كان أمثال طومسون كثيرين. ولكن منذ أفلاطون لم يتبن أبدًا فيلسوف بحجم جون ستيوارت مل قضية المرأة مؤكِّدًا مثله أن الخير واحد للرجل والمرأة على السواء، وبمثل حماسه المُتقد في كتابه «استعباد النساء» الذي يمكن اعتباره مانفستو١٧ الحركة النسوية والنص النسوي الرائد بكل المعايير وقبل ظهور مصطلح النسوية ذاته. كتب جون ستيوارت مل كتابه «استعباد النساء» العام ١٨٦١، ولم ينشره إلَّا عام ١٨٦٩، بعد ظهور كتابه الأكبر «في الحرية» بعشر سنوات.
بدا مل نصيرًا متحمِّسًا للنسوية منذ مطالع حياته العقلية. كان لا يزال في الثامنة عشر من عمره حين نشر مقالًا في جريدة «وستمنستر ريفيو» يهاجم فيه ازدواجية المعايير الخلقية للرجال والنساء. واستهل كتابه «استعباد النساء» بإعلانه أن أولى قناعاته التي ازدادت رسوخًا مع الأيام هي أن المبدأ الذي ينظم العلاقات الاجتماعية الكائنة بين الجنسين؛ أي تبعية أحدهما القانونية للآخر، إنما هو مبدأ خاطئ في ذاته، وينبغي أن يحل محله مبدأ المساواة الكاملة التي لا تسمح بسلطة أو سيادة أحد الجانبين على الآخر.١٨ ومثلما كانت الفروسية والكرم قيم الحضارة الرومانية القديمة، فإن العدالة والمساواة — فيما يؤكد مل — هي قيم الحضارة الليبرالية الحديثة. وليس من العدالة في شيء حرمان المرأة من العمل والمهن التي تدرُّ ربحًا، حتى لو كانت متاحة لأغبى وأحط فرد من جنس الرجال. وأشار إلى أن هذا يعود إلى رغبة الرجال في إخضاع المرأة للزوج والحياة المنزلية، وكراهية بعضهم أن يعيش الواحد منهم مع نِدٍّ له. كيف نقبل هذا في حين أن الفضيلة الحقيقية لليبرالية هي أن نطلب لأنفسنا ما نطلبه للآخرين، فلماذا لا يفعل الرجال هكذا مع النساء؟!١٩ لم يعد الكائن البشري مع الليبرالية يُولَد مُقيَّدًا بأغلال موقعه الاجتماعي، بل يُولَد حُرًّا، ويستخدم ملكاته والفرص المتاحة لتحقيق المصير الذي يُفضِّله. ومن الممكن منطقيًّا أن يحاول أي شخص الوصول إلى أيِّ مركز في المجتمع. وفي هذا نجد التحريم الذي تخضع له النساء بمجرد واقعة مولدهن إناثًا لا مثيل له في التشريع الحديث.٢٠
هكذا كان مل الفيلسوف الليبرالي الوحيد الذي شرع في تطبيق مبادئ الليبرالية على النساء،٢١ ليطالب بحقوقهن في التعليم والتثقيف الشامل والتصويت والمساواة أمام القانون والتصرف في أموالهن وحق الوصاية على أطفالهن. اعتبر مل سيطرة الرجال وخضوع النساء شكلًا من أشكال كثيرة شهدتها البشرية للاستبداد وسيطرة الأقوى الجائرة وسوء استخدام السلطة، شأنه مثلًا شأن المَلَكية المطلقة وسطوة الإقطاعيين على الفلاحين … إلخ، لكنه يختلف عن الأشكال الأخرى اختلافين، أحدهما من ناحية الخاضع والثاني من ناحية المسيطر. الناحية الأولى في أن الخاضع يقبله طواعية، فالنساء لا يتذمرن منه بل يشتركن فيه برضاهن. أمَّا من ناحية المُسيطر الآمر فهو في أنه لا يريد فقط الخدمة والمنفعة والاستغلال المادي والطاعة، بل كذلك المشاعر والعواطف. وبالتالي استخدم الرجال جميع الوسائل لاستعباد عقول النساء أيضًا. استخدموا قوة التربية والتنشئة والأخلاقيات بأكملها، حتى يجعلوا الغاية الوحيدة للمرأة هي أن تروق للرجل، ولا يكون لها حياة إلا في العواطف التي يُسمح بها لها.٢٢ وتنشأ المرأة على أن الزوج هو مصيرها الذي تتطلع إليه، وأُغلقت في وجهها أية فرصة أخرى للحصول على وضع مشرف في المجتمع عدا الزواج، الذي جعلته أنانية الرجل قانون استبداد. فكانت القوانين القديمة في إنجلترا تُسَمِّي الرجل سيد زوجته، وكان يمتلكها فعلًا جسدًا وروحًا ومالًا وحطامًا، كل ما تملكه ملك لزوجها، ولا تملك شيئًا مما يملكه هو. إنها خادمة للزوج لا فكاك لها، أسوأ حالًا من العبيد في روما القديمة.٢٣ العبد عليه واجبات محددة، أمَّا الزوجة فجارية مرتبطة بسيدها طوال الوقت، حتى لو جعل من تعذيبها متعته اليومية.
لا شكَّ أن الأمر الواقع في عمومه ليس بهذه الجهامة، وثمَّة في العادة عوامل ملطفة وعلاقات حميمة. لكن مل يوضح أنه يصف الوضع القانوني للمرأة الغربية وليس ما تلقاه بالفعل؛ لأن القوانين أحيانًا أسوأ من الذين يطبِّقونها. ولئن كانت النساء في العادة لا يعانين سلطة الطغيان كلها التي يكفلها القانون للرجال، فإن هذا لا يمنع من العمل على استئصال الشر من جذوره. فلم يكن لويس الرابع عشر أسوأ مستبد في التاريخ، ولم يتفرغ للاستمتاع بآلام شعبه أو الحيلولة بينهم وبين أي خير، ومع هذا قامت الثورة الفرنسية.٢٤ لذا يعمل مل على تفنيد حجج هذا الوضع الظالم للمرأة، وأقواها أنه الأمر الواقع الذي تقدمت البشرية في ظله، يقول مل أنه لا توجد بينة على أن الوضع المناقض للمرأة — أي المساواة — ما كان سيؤدي إلى تقدم أكبر.
ولا يمكن فصل إيمان مل العارم بالنسوية عن علاقته بهارييت تيلور مل (١٨٠٧–١٨٥٩) التي تُعَدُّ من أبرز رائدات التنظير للنسوية الليبرالية والنسوية إجمالًا، وقد كتبت في «وستمنستر ريفيو» عن منح النساء حق التصويت. التقت مع مل العام ١٨٣٠، وكانت متزوجة من رجل أعمال ثري يملك شركة للإتجار في المواد الكيميائية، وأُمًّا لحفنة من الأطفال. ومع هذا وقع مل في غرام عجيب لها! وظل ينتظرها عشرين عامًا حتى تُوفي زوجها العام ١٨٤٩، وتزوَّجها بعد هذا بثلاث سنوات وهي في الخامسة والأربعين من عمرها العام ١٨٥٢. في هذا العام نُشر كتيب صغير بعنوان Enfranchisement of Women؛ أي تحرير النساء ومنحهن حق التصويت، يُنادي بتوسيع الخيارات وفرص العمل المتاحة للمرأة، حمل في البداية اسم جون ستيوارت مل، لكن مل فيما بعد أكَّد أنها هي التي كتبت هذا الكتاب وأنه يحمل آراءهما معًا. بعد ست سنوات أسلمت هارييت الروح متأثرة بمرض السل، وكانا في فرنسا، فواراها التراب هناك واشترى منزلًا بجوار قبرها. كان دائم التردد عليه، مثلما كان دائم الإشادة بأياديها البيضاء ومناقبها وأفضالها على إنتاجه الفكري. وتفاني مل في نشرٍ أفكار عن تحرير المرأة نسبها إليها. لكن الثابت أن أفكارها أكثر تطرُّفًا من أفكاره. فقد هاجمت هارييت عيوب مؤسسة الزواج التقليدية بحدة وأشارت إلى أن عمل المرأة غير المدفوع الأجر فيها يجعل الرجل يعيش حياته من أجل ذاته، بينما تعيش المرأة حياتها من أجل الرجل، ورأت أن المساواة القانونية التامة بين الرجل والمرأة تجعل مؤسسة الزواج غير ذات جدوى، وتحدَّثت عن حق المرأة في الطلاق وتحديد النسل، وهذه كلها مسائل تجاوزها مل كي لا تكون أفكاره صادمة وتكون أكثر قبولًا في المجتمع الفيكتوري المحافظ.

يمثل الثنائي مل وهارييت تطبيقًا جليًّا للمبادئ الليبرالية على قضية المرأة، مما جعل النسوية الليبرالية تيَّارًا قويًّا يزعم أنه صلب النسوية وجذعها. ولكن مهما كانت الليبرالية قد هيَّأت أجواء مواتية للنسوية، ومهما أجاد مل ورفيقته وسواهما استثمار هذه الأجواء نسويًّا، فإن الليبرالية في حدِّ ذاتها — كما أشرنا — ليست فلسفة نسوية أو مناصرة لقضية المرأة. من الواضح أن بقاء المرأة على ما هي عليه تأكيد وتوطيد لحق الملكية الذي تُقدِّسه الليبرالية، ومِنْ ثَمَّ لا تبدو مفارقة في أن التيار المقابل في القرن التاسع عشر؛ أي الاشتراكية والشيوعية والماركسية، خصوصًا هذه الأخيرة، يُساهم هو الآخر وربما بنصيب أكبر في صياغة الحركة النسوية والفكر النسوي.

(٥) النسوية الاشتراكية

وكيف لا؟! وقد قامت الاشتراكية من أجل إعادة توزيع الثروة والسلطة في المجتمع، والنضال من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية، ورفع الغبن عن الكادحين والمقهورين، لم يفتها التأكيد على أن قهر المرأة شكل من أشكال البؤس الذي تخلفه الرأسمالية، وأن النسوية الليبرالية لا تعدو أن تكون دعوة طبقية لا تكفل عدالة اجتماعية وأنها صورية جوفاء.

وكانت النسوية الاشتراكية أكثر مرونةً وانطلاقًا وأعلى صوتًا؛ لأن الليبرالية تسلم بأن الأسرة مؤسسة ضرورية، ولا تفكير في قضية المرأة إلَّا داخل الأسرة، إنها مشكلة «المرأة في الأسرة.» أمَّا التيارات الاشتراكية، وخصوصًا الشيوعية، فلا تسلِّم بهذا دائمًا. رأى بعضها أن الأسرة مؤسسة يمكن القضاء عليها، فكانت قضيتهم «المرأة والأسرة». هذا فضلًا عن أن الاشتراكيين لا يعتبرون ما هو طبيعي مثاليًّا أو يفرض نفسه، فمهما بدا وضع المرأة التقليدي طبيعيًّا، فليس من الضروري فرضه ولا بد من تغييره. ومنذ مطالع القرن التاسع عشر دافع روَّاد الاشتراكية الأوائل في إنجلترا وفرنسا وألمانيا عن الحقوق المتساوية للجنسين، وعن أن الاشتراكية تحرير لكليهما. كان الاشتراكي الفرنسي الرائد شارل فورييه C. Fourier (١٧٧٢–١٨٣٧) الذي نادى بتطبيق الاشتراكية في مجتمعات تعاونية صغيرة تستغنى عن النقود، هو أول من استخدم وضع النساء في المجتمع كمقياس لدرجة تقدمه، وهذا بات شبه معتمد في أيامنا هذه، وأول من قدم وضع المرأة كسببٍ أساسيٍّ للتقدم الاجتماعي، وهذا ما طوره ماركس في مخطوطات عام ١٨٨٤، حين أعلن أن تقويم مسألة تطور الإنسان ككل يتأتى من تقويم تطور علاقة المرأة بالرجل.٢٥
ولئن كان ماركس لم يعتبر النسوية في حدِّ ذاتها موضوعًا رئيسيًّا، فإن رفيقه فردريك إنجلز اعتبرها هكذا إلى حدٍّ ما، وأخرج في العام نفسه ١٨٨٤ مؤلفه الثاقب: «أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة»، حيث أوضح أن الوضع الأدنى للمرأة يعود في أصله إلى الملكية التي تبغي الشيوعية القضاء عليها. ويسير في هذا التيار أوجست ببل A. Bebel (١٨٤٠–١٩١٣)، وهو من أبرز قادة الحزب الشيوعي الديمقراطي الألماني. وبشكل عام يؤكد الاشتراكيون أن الاشتراكية هي التي تُعطي المرأة حقوقها وتحمل المساواة الكاملة بين الجنسين، وعمل المفكرون الماركسيون — نذكر منهم على وجه الخصوص الثورية المناضلة روزا لوكسمبورج R. Luxemburg (١٨٧٠–١٩١٩) على إبراز الماركسية كفلسفة للتحرير، وأن البروليتاريا والنساء كليهما يتحرَّر بالتطور الاقتصادي الحتمي نحو الشيوعية، وبالمثل تتحرر البشرية بأسرها من نير الاستعمار والإمبريالية التي ربطت تحليلات روزا وسواها — بينهما وبين الرأسمالية.

(٦) إنها الموجة النسوية الأولى

هكذا كانت النسوية ماثلةً في كلا التيارين المتقابلين المُشكِّلين لقطبي الفكر الاجتماعي والسياسي في القرن التاسع عشر، كانعكاسٍ شاملٍ لحركية الواقع في الفكر.

في منتصف هذا القرن كانت الحركة النسوية على أشُدها. انعقد في أمريكا العام ١٨٤٨ مؤتمر سينيكا فولز للمرأة وحضره أربعون رجلًا ومائتان وخمسون امرأة، ارتبط بحركة تحرير العبيد والمساواة بين البشر في الحقوق والواجبات، ويُعَد المؤتمر الأوَّل لحقوق المرأة في الولايات المتحدة، وظل يُعقد سنويًّا حتى نشوب الحرب الأهلية العام ١٨٦١. كانت معاهدة برلين لإلغاء الرق قد عُقدت العام ١٨٥٥، وفي العام نفسه تأسس الاتحاد النسائي الوطني في أمريكا، وتأسَّست العام ١٨٦٩ جمعية المرأة الأمريكية للحقوق السياسية بولاية أوهايو، ثُمَّ اندمجت مع الجمعية الوطنية لحقوق المرأة ١٨٩٠. وفي إنجلترا تشكَّلت جمعيات كانت لها أحيانًا أشكال من السلوك الحاد العنيف في بحثها عن حق المرأة في التصويت والمشاركة في الحياة العامة وفي التعليم والعمل حين يفوتها قطار الزواج.

في الربع الأخير من القرن التاسع عشر كانت أمريكا فقدت من الرجال في سنِّ الزواج ثلاثة ملايين في الحرب الأهلية، وغاب عن إنجلترا خمسة ملايين في توسعاتها الاستعمارية. تكاثرت جحافل العوانس على جانبي المحيط، فكان هذا دافعًا آخر لكي يشتد أوار الحركة النسوية. وفيما بين عامَي ١٨٨٠ و١٩١٠ كانت أكثر مراحل الحركة النسوية توهُّجًا، وكان اقتحام النساء لمجال التعليم العالي والبحث العلمي. فقد بات مطلوبًا توسيع مجال عمل المرأة فلا يقتصر على ما هو امتداد لوضعها التقليدي كالتمريض والتدريس للأطفال. أُنشئت أول كلية للبنات في إنجلترا على الطريق المؤدي إلى كمبردج، وإن كانت جامعة كمبردج لم تمنح الطالبات درجة جامعية مساوية تمامًا للطلاب إلَّا في العام ١٩٤٨.٢٦ كانت أمريكا بشكل عام أسبق في منح المرأة حق الانتخاب في بعض ولاياتها، وفتح أبواب التعليم العالي أمامها، وأول طبيبة تعمل في إنجلترا حصلت على شهادتها من أمريكا العام ١٨٥٩.٢٧
توالت المؤتمرات الدولية واللقاءات والمنشورات النسوية، بجهدٍ متراوح بين مختلف التوجهات السياسية، حتى كانت ذروة من ذراها العام ١٩١٠ الذي شهد المؤتمر الدولي لنساء الاشتراكية، عاونت على عقده الاشتراكية المتحمسة والنسوية البارزة كلارا زاتكين C. Zatkin، وفيه جرى اعتماد مصطلح النسوية Feminism، وتم إعلان الثامن من مارس عيدًا عالميًّا للمرأة، واعتمدته عصبة الأمم إحياءً لذكرى الثورة التي قامت بها العاملات في نيويورك عام ١٨٥٩م، واستُشهد فيها بعضهن احتجاجًا على بؤس أوضاع العمل وتَدنِّي الأجور.
فرضت النسوية وجودها، وكانت شديدة الحضور في المشرق العربي، خصوصًا مصر والشام وتونس. في هذا الأوان — النصف الثاني من القرن التاسع عشر — علا وطيس المناقشات الدائرة حول إصلاح حال المرأة. أجل، كانت المرأة العربية تستمتع بحقوق تجاهد من أجلها المرأة الغربية، كالتصرف في أموالها وحقها في أولادها. تفقد المرأة الغربية أية صلة بأولادها إذا أراد الأب هذا، ولا يحدث هذا في الشرق بل تُكنَّى المرأة بابنها. وبينما تَئُول أموال الزوجة الغربية إلى زوجها، فإن الرجل العربي الكريم المحتد يأبى أن يقرب أموال زوجته أصلًا. ولا يمنع هذا أن المرأة العربية تعاني أشكالًا خاصةً من الغبن الاجتماعي كالطلاق الجزافي وتعدد الزوجات بغير داعٍ. كانت المشكلة الأم تقليص نطاق حياتها وأستار الجهل التي تفرض عليها التبلد والخمول. أُثيرت قضية السفور والحجاب التي لم تتفق الأطراف على مفهوم محدد لها. بدأ حق المرأة في التعليم يفرض نفسه على الأوساط الفكرية. منذ العام ١٨٤٩م ألقى بطرس البستاني خطابه عن «تعليم النساء»، وأخرج الرائد رفاعة الطهطاوي (١٨٠١–١٨٧٣م) كتابه «المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين» (١٨٧٣م) حيث أشار إلى أن تعليم الفتاة أهم من تعليم الفتى، وافتتح الخديو إسماعيل الذي حكم مصر بين عامي ١٨٦٣–١٨٧٩م المدرسة السنية لتعليم بنات العامة، وألَّفَ الشيخ حمزة فتح الله كتابه «باكورة الكلام على حقوق النساء في الإسلام» (١٨٨٩م)٢٨ نلاحظ أن النسوية في الغرب دائمًا تُلقي باللوم فيما آل إليه وضع المرأة على الأصول التراثية، خصوصًا في اليهودية والعهد الجديد، بينما حرصت النسوية في المشرق العربي على استنطاق وتفعيل الحقوق التي منحها الإسلام للمرأة، وإن كان بعض الروَّاد دائمي الإشادة بما أسفرت عنه الحركة النسوية في الغرب. توالت في مصر والشام وتونس الجهود والجمعيات والمجلات النسائية. وبلغت النسوية ذروتها في كتابَي قاسم أمين «تحرير المرأة» (١٨٩٩م) و«المرأة الجديدة» (١٩٠٠م) اللذين هما تعبير قوي عن حصائل التطور المتلاحق في التاريخ السيسيولوجي لمصر إبان القرن التاسع عشر ويحملان «صورة ناضجة لمثول عوامل الحداثة في بنية الثقافة المصرية»٢٩ على العموم سارت الدعوة إلى تعليم البنات قُدُمًا، بل وتم افتتاح فرع نسائي في الجامعة المصرية الوليدة ١٩٠٨م حتى عام ١٩١٢م … وفي ٦ مارس ١٩١٣م كان اكتشاف رأس نفرتيتي في تل العمارنة ليساهم في إيقاظ وعي المرأة المصرية بذاتها. وحضرت هدى شعراوي ونبوية موسى وسيزا نبراوي مؤتمر المرأة العالمي العام ١٩٢٢م، وأسَّسن الاتحاد النسائي المصري الباحث عن تحسين أحوال المرأة والمساواة بينها وبين الرجل في الحقوق والواجبات …

لقد كانت النسوية في الشرق والغرب تهدف إلى نيل المرأة حقوقًا مُهدَرة، وغايتها النهائية شيءٌ من المساواة بينها وبين الرجل.

وَمِنْ ثَمَّ دأبت النسوية في موجتها الأولى تلك إلى إلغاء أو تهميش الخصائص المميزة للأنثى، أو الزعم بأنها ثانوية فلا تعوق حصول المرأة على حقوق وواجبات الرجل. الثقافة الذكورية السائدة جعلت الرجل هو المعيار الطبيعي للأشياء والنموذج المطروح للإنسان، ونيل المرأة حقوقًا عامَّةً مقترن بمدى اقترابها من هذا النموذج الذكوري وإثبات أنها قادرة وكفء مثل الرجل. كانت علامة نجاح المرأة أن تتخلص من عائق أنوثتها، وتتماهى مع الرجل فيُقال إنها كالرجل تمامًا، تسليمًا بأن الأنوثة قصور وضعف. أقصى مديح يُكال لماري كوري مثلًا أنها امرأة بعقل رجل. وما زالت صورة نبوية موسى ماثلة وهي ترتدي سترة الرجل ورابطة عنقه، برغم حرصها على الزي الإسلامي للمرأة!

أهم ما نلاحظه أن الموجة النسوية الأولى لم يكن لها أُطُر فكرية تتجاوز حجج المطالبة بحقوق النساء ومساواتهن. على العموم أخذت الحرب العالمية الأولى في خنادقها الرجال من أنحاء أوروبا، واضطرَّت المرأة إلى النزول لمواقع العمل التي خلت منهم وأدته على أكمل وجه، فيما يمكن اعتباره حسمًا للجدل في الفكر الغربي، وظفرت المرأة بحقوق الانتخاب والمواطنة في إنجلترا ونيوزيلندة وأمريكا والاتحاد السوفيتي … إلخ، وبدا الطريق مُمهَّدًا لكي تناله في البقاع الأخرى. وارتفع حق تعليم المرأة كمثال أعلى في أنحاء شتى من العالم بدرجات متفاوتة. ومع عشرينيات القرن العشرين كانت النسوية قد حققت كثيرًا من أهدافها، مثلما شهد العام ١٩٢٦ الإعلان عن انتهاء العبودية في العالم. ودخلت الحركة النسوية في مرحلة كمون وهدوء نسبي، خصوصًا وأن العالم الغربي منشغل آنذاك ببوادر الحرب العالمية الثانية المقبلة، ويواجه الكفاح الباسل ضد الاستعمار الممهد لحركات التحرر القومي في العالم الثالث.

(٧) الموجة النسوية الثانية

ظلَّت الحركة النسوية في هدوئها النسبي حتى انفجرت في الستينيات موجتها الثانية بفعل العوامل الموَّارة آنذاك، فتصف جولييت ميتشيل J. Mitchall هذه الموجة الثانية بأنها وليد أيديولوجي لظروف اقتصادية واجتماعية معينة، ظروف تجسدت في زوال الاستعمار ونجاح حركات مناهضة التمييز العنصري واشتداد عود الليبرالية الأمريكية؛ التي تدعو إلى المساواة في الحقوق المدنية وإتاحة الفرص للجميع، وتعالي الأصوات المناهضة لحرب فيتنام، وثورة الطلاب الشهيرة في فرنسا وأنحاء من أوروبا وأمريكا، التي شهدت مظاهرة لحرق الكعوب العالية ومشدَّات الصدور والثورة ضد مسابقات ملكات الجمال، وسائر ما يقبر المرأة في أنوثتها. وكما هو معروف عُد هربرت ماركوز H. Marcuse (١٨٩٨–١٩٧٩) المهاجر إلى أمريكا فيلسوف هذه الثورة، وهو سليل مدرسة فرانكفورت التي أعملت المنهاج الماركسي في نقد حاد للحضارة الغربية ومجتمعاتها الرأسمالية وإبراز عيوبها، وتُعَدُّ من تمثيلات ما بعد الحداثة.٣٠
لقد أجادت النسوية الجديدة تمثل وتمثيل لحظتها التاريخية أو موقفها الحضاري، موقف ما بعد الحداثة post-modernism٣١ وما بعد الاستعمارية post-colonialism، إنهما يعنيان سقوط مثال الحداثة وهو الرجل الأبيض صانع العلم والحضارة جميعًا وبروز «الآخر» — أي النساء والشعوب والثقافات غير الأوروبية — كأطراف ذات أهلية وحق كامل للمشاركة في صنع الحضارة. وترتب على هذا تغيرات جوهرية في الخريطة العامة للميتافيزيقا الغربية والأخلاقية وفلسفة السياسة، بل حتى فلسفة العلم.٣٢ وليس الأمر — كما تذهب سارة أحمد٣٣ — أن النسوية انشغلت بأسئلة ما بعد الحداثة، بل إن ما بعد الحداثة هي التي أملت منطلقات النسوية الجديدة. ويتطلب هذا، كما تؤكد سارة، قراءة متأنية لنصوص ما بعد الحداثة بوصفها ذات حدود مُتعينة ومهمة محددة، وليست مجرد توصيف عام لمرحلة جامعة من مراحل التاريخ. إنها القراءة التي ترتكز على كتاب جان فرانسوا ليوتارد F. J. Lyotard «الشرط ما بعد الحداثي» (١٩٧٩م)، وهذا ما سيتضح في الصفحات القادمة.
على أية حال رأينا حتى الآن كيف أن النسوية انطلقت وتشكَّلت موجتها الأولى — التي اقتصرت على مقتضيات الواقع الاجتماعي — في إطار منطلقات الحداثة من قبيل تحرير الإنسان ورفع الوصاية عنه والمساواة وحقوق المواطنة، على الإجمال كانت أصول النسوية في الحداثة ومثَّلت موجتها الأولى قيم الحداثة، أمَّا مستقبلها فهو في ما بعد الحداثة، وتُمثل موجتها الثانية قيم ما بعد الحداثة. إن ما بعد الحداثة هي فقط التي أتاحت للنسوية في موجتها الثانية أن ترتفع إلى مستوى النظرية والفلسفة الصريحة والسؤال الإبستمولوجي وفلسفة العلم، هذا من حيث أعادت ما بعد الحداثة طرح السؤال الإبستمولوجي.٣٤ هكذا نستطيع أن نقرأ النسوية بوصفها انفلاقة بين دوافع الحداثة على مستوى الممارسة، ودوافع ما بعد الحداثة على مستوى النظرية،٣٥ حتى يمكن القول إن التمييز بين الحداثة وما بعد الحداثة في النسوية هو تمييز بين الممارسة والنظرية.٣٦ وجدير بالذكر أن النسوية بدورها أضافت مسائلها إلى تنظيرات ما بعد الحداثة، ورفعت النقاب عن زيف ما كان شائعًا من تصور لحياد الخطاب الفلسفي.

أجل ما بعد الحداثة فتحت الباب أمام النسوية لتعلو في مدارج التنظير. لكن ليس يعني هذا أن النسوية في موجتها الثانية تنفصل تمامًا عن جزئيات الواقع الحي والممارسات المعيشة. إن النسوية كما اتفقنا هي دائمًا تحاور دائم بين الفكر والواقع بدرجات متفاوتة. ومثلما أدَّت الثورة الصناعية وماكينات الغزل والنسج إلى الموجة الأولى منها، أتت الموجة الثانية نتيجة للثورة التكنولوجية في القرن العشرين والتطور الاجتماعي الحاصل فيه. ولئن حررت الآلة العبيد، فإن النساء تحرَّرن في القرن العشرين بفعل انتشار الأجهزة المنزلية والصناعات التحضيرية للمأكولات والملبوسات، التي خفَّفت الأعباء المنزلية. وارتفع المستوى الصحي، فلم تعد المرأة تُنجب خمسة عشر طفلًا مثلًا ليعيش منهم ستة أو سبعة. أصبح من الممكن الاكتفاء بعددٍ محدودٍ من الأطفال. ومع اختراع وسائل منع الحمل — أخطر ما في الأمر — وتنظيم الأسرة، لا يعود الحمل والولادة والإرضاع يستغرق سنوات العمر الإنجابي الطويل للمرأة كما كان يحدث من قبل. لقد توافرت إمكانية تنظيم الحياة بصورة إيجابية أكثر. بات كلُّ شيء ينادي بمزيد من الفرص والحقوق والواجبات للمرأة خارج إطار دورها كأنثى.

كانت الموجة الثانية خصوصًا في أمريكا لها أيضًا أهدافها الاجتماعية. ومرة أخرى نلاحظ أن بعض الحقوق التي كانت المرأة الغربية في الستينيات تكافح من أجلها، كانت المرأة آنذاك قد ظفرت بها بالفعل في بعض الأقطار العربية، من قبيل المساواة بين الجنسين في الالتحاق بالجامعات والمساواة في فرص ممارسة العمل المهني والبحث العلمي، والأجر المتساوي للجنسين لقاء العمل نفسه، واضطلاع الحكومة بتوفير حضانات لأطفال العاملات إبان ساعات العمل الرسمية. بحثت أيضًا عن تشديد العقوبة على جرائم الاغتصاب والعنف الجسدي ضد المرأة وتحسين الخدمات الصحية النسوية. أصرَّت هذه الموجة على ضرورة أن يتشارك الرجال والنساء في عبء رعاية الأطفال والأعمال المنزلية، وألا تنفرد المرأة بهذه المسئولية. وبطبيعة حال الحضارة الأمريكية وعلو النزعة الفردية فيها، اقترنت هذه الموجة بارتفاع الدعوى إلى حق المرأة في جسدها وحريتها.

(٨) النسوية الراديكالية

ظل التياران الليبرالي والاشتراكي ماثلين في القرن العشرين، وتواصل النسوية الليبرالية العمل على تطوير وتعميق أطروحاتها.٣٧ وما زالت النسوية الاشتراكية بل والماركسية نابضة حية، وفي الولايات المتحدة! حيث كانت نقطة البدء فيها كتاب نانسي هارتسوك (١٩٤٣م–؟) الشهير «النقود والجنس والقوة: نحو مادة تاريخية نسوية» (١٩٨٣م). عملت هارتسوك على صياغة الموقف النسوي على أساس مادية تاريخية ملائمة له.٣٨ وثمة أيضًا جوان كيلي J. Kelly (١٩٢٨–١٩٨٢) التي عُنيت في نسويتها الماركسية بالتفاعل بين الجنس والطبقة والعرق في خلق التقسيمات الاجتماعية وسيطرة فئة على أخرى. لم تصدر كيلي كتابًا في حياتها، فقط سلسلة من الدراسات العميقة والمقالات اللافتة، جُمعت بعد وفاتها في كتاب، ويَبرز مقالها «هل ثمة نهضة للنساء؟» (١٩٧٧م)، حيث تنقد النهضة الأوروبية وتوضح أنها غبنت حقوق النساء، وجعلت هذا مفطورًا في صلب أصلاب الحضارة الغربية.

على أن هذين التيارين باتا في القرن العشرين خطين في إطار نسوي يموج بتيارات عديدة، ومعلمه اللافت هو الراديكالية. إن نسوية القرن العشرين عمومًا أرادت أن تكون أعمق في نسويتها من قرينتها في القرن التاسع عشر، أعمق وأشمل من أن تكون ليبرالية أو اشتراكية، أرادت أن تكون نسوية راديكالية أي جذرية، لا ترجع وضع الأنثى إلى أي متغيرات معينة كاستبداد الإقطاع أو الملكية والاستغلال، بل أرجعته فقط أو أساسًا إلى أنوثة المرأة. قهر المرأة أكثر قضايا البشرية إلحاحًا وأطولها عمرًا وأوسعها انتشارًا. إنها الأصل الأصيل والنموذج المثالي لكلِّ أشكال القهر التي عرفتها البشرية. تتفق النسوية الراديكالية على هذا، وتختلف في استراتيجيات التخلص منه. أوضح الفروق نجدها في أمريكا بين تياري الراديكالية التحررية والراديكالية الثقافية أو الحضارية.

الراديكالية التحررية تنطلق من دور المرأة في العلاقة الجنسية والإنجاب. تنادي بالقضاء على الأسرة؛ لأنها كانت المؤسسة الكفيلة بقهر المرأة وتقليص دورها. ولا بد من تحطيم قداسة الأسرة بسبب عدم المساواة القائمة فيها. وذهبت جوليت ميشيل إلى أن الأسرة وضعية ثقافية وليست طبيعية، ووظيفة الأيديولوجيا الذكورية السائدة أن تقدمها على أنها طبيعية. ومع هذا ثمة آمال في تعديل هذا الوضع وتطويره، اعتمادًا على ميل الإنسان للثقافة أكثر من الطبيعة، وأن الحضارة المعاصرة بعيدة جدًّا عن الطبيعة، وكلَّما ازدادت تقدُّمًا ازدادت بُعدًا عن الطبيعة.٣٩
إن الراديكالية ترتكز على الظروف البيولوجية، ليس عودًا إلى الحتمية البيولوجية التي فرضت على المرأة وضعًا أدنى، بل إلى أساس بيولوجي يُمثل خصوصية للمرأة ويؤكد تمايزها عن الرجل، وربما يجعلها أرقى من الرجل خصوصًا في تفردها العظيم بالقدرة على إنجاب الأطفال، فليست المرأة الكائن الأجمل فحسب، بل أيضًا الأرقى والأقدر. وإن تطرف فريق من التحرريات في الاتجاه الآخر ورأى الإنجاب لا سواه هو الباب إلى عبودية المرأة، أبرزهنَّ شولاميت فايرستون S. Firestone (١٩٤٤م–؟) في كتابها الشهير «جدلية الجنس» (١٩٧٠م) تطلعت إلى وضع تتحرَّر فيه المرأة من الحمل والإنجاب عن طريق تقنيات الإنجاب الحديثة. واستعن في هذا بأدب الخيال العلمي، مستلهمات روح رائدته ماري شيلي. وفي السبعينيات علا اسم اثنتين فيه، إحداهما نسوية اشتراكية هي مارج بيرسي M. Piercy، والأخرى راديكالية تحررية هي جوانا روس، انطلقتا في خيال تكنولوجي يحرر المرأة من أعباء الحمل والولادة، وكانت أعمال روس تجسد حلمًا بالانتهاء التام للمجتمع الأبوي. وإذ يرد دور الأدب نذكر أيضًا أن التحرريات دافعن عن الأدب الإباحي وإخراجه من دائرة الصراع بين المحافظين والمتحررين والرقابة على المطبوعات، إذ رأوا فيه وسيلة فعَّالة لكشف العنف ضد المرأة في أوسع صوره.٤٠
رأت الراديكاليات التحرريات المتطرفات استبدال المركزية الأنثوية بالمركزية الذكورية. ويشتد شططهن في هذا وفي السير بحق المرأة في جسدها إلى آخر المدى، ليتجاوزن حق الإجهاض والحق خارج حدود مؤسسة الأسرة! وعلى أساس من الفردية السائدة في الحضارة الأمريكية، ذهبن إلى أن فهم البنية الشعورية وإشباع الحاجات النفسية هو جوهر كل رخاء على مستوى الفرد ومستوى المجتمع، وبالتالي دافعن عن الحق في ممارسة السحاق. ثُمَّ لم يقتصرن على هذا، بل ذهب فريق منهن إلى أن السحاقيات فقط هن النسويات حقًّا، القادرات فعلًا على تحدي الذكورية والإعراض عن عالمها. وشكلن النسوية السحاقية التي تدافع عن الجنسية المثلية والأسرة السحاقية، وبالتالي الأسرة اللواطية، كنموذج للأسرة الجديدة!٤١ ولله في خلقه شئون.
أمثال هذه الدعاوى المنفلتة تعبير عن انفلات وجموح الحضارة الأمريكية بأسرها والحضارة الغربية، قبل أن تكون تعبيرًا عن انفلات وجموح التيار النسوي فيها. والراديكاليات التحرريات أصحاب دعاوى سحق الأسرة وحق الإجهاض والسحاق وما إليه، وإن كن الأعلى صوتًا والأكثر جاذبية لوسائل الإعلام وبالتالي الأكثر شهرة حتى كادت النسوية الراديكالية ترتبط في أذهان العامة بهن، فإنهن لسن غالبية ولا هن الأهم، ولا تحظى دعاويهن بقبول واسع بين النسويات، بل «ظهرت منذ منتصف الثمانينيات (ما بعد النسوية) كردٍّ فعلي عكسي أو رجعي على الإفراط في المطالبة بحقوق للمرأة ظهرت أيضًا الموجة الثالثة في التسعينيات»،٤٢ مما أدَّى إلى خلافات فكرية حادة وتضارب بين تيارات النسوية الجديدة جعلها لا تمثل وحدةً أو موقفًا سياسيًّا.
جمهرة الاتجاهات النسوية والراديكالية الثقافية تتبرأ من الراديكالية التحررية المتطرفة، وتحذر من مغبة دعاويها. ويرين أن الهدف من الإطاحة بالمركزية الذكورية إثبات الأنوثة بجوار الذكورة في البنى الحضارية وليس إحلال المركزية الأنثوية محلها، لنداوي التطرف الخاطئ بالتطرف الخاطئ في الاتجاه الآخر، والإبقاء على أحادية الجانب. ومن الضروري الموازنة بين الجانبين بعد طول انفراد الذكورية، وتطوير المؤسسات التقليدية بما يرفع الغبن عن المرأة. ولا يجدن داعيًا البتة لتصعيد عداء وحرب صريحة مع الرجل إلى هذه الدرجة، بل إن هذا ضد المنشود من بنية حضارة أكثر تكامُلًا وأكثر عدلًا. «ما تريده النسوية حقًّا هو نقد للقطيعة بين الذكورية والأنثوية، إذ لا يستقل أحدهما عن الآخر».٤٣ ومثلما كان ثمة برجوازيون — على رأسهم فردريك إنجلز — يناصرون الشيوعية، هناك رجال — على رأسهم جون ستيوارت مل — يُناصرون النسوية، وظهر في ثمانينيات القرن العشرين مصطلح الرجل الجديد New Man الذي يُناصر الأيديولوجيا النسوية ويقبل إعادة توزيع الأدوار والقيام ببعض الأعباء المنزلية. ويُرمز له برجل مقطوع الرأس مفتول العضلات بالغ الوسامة والرجولة، ويحمل طفلًا للدلالة على الاهتمام بتنمية الجانب العاطفي الحنون في شخصية الرجل. عدم المساواة الذي ساد الأسرة في الماضي لا يحول دون العمل على تحقيق أسرة تتسم بالمساواة في المستقبل. مشكلة الأعباء المنزلية لا تُحل بسحق الأسرة والإعراض عن الإنجاب، بل فقط بالتعاون في أدائها وإعادة توزيع الأدوار لتحل مسئولية الوالدين محل الأمومة. وفي كل حال المرأة مختلفة عن الرجل ولا ينبغي أن تتشبه به أو تتماهى معه تأكيدًا للمركزية الذكورية، كما فعلت النسوية في موجتها الأولى.
المهم حقًّا في النسوية الجديدة هو التيار الآخر، النسوية الراديكالية الثقافية أو الحضارية التي هي ذات طابع أكاديمي رصين، وفرضت نفسها على برامج الدراسة في جامعاتٍ شتى. الراديكالية الثقافية تعني أن النسوية اكتسبت نضجًا فكريًّا، فهدفت إلى رؤية ثقافية حضارية جامعة، إلى البحث عن إطار نظري أعمق وأشمل من مجرد المطالبة بالمساواة مع الرجال وطبقًا للنموذج الذكوري السائد للإنسان-الرجل. فلا بدَّ من استجواب تاريخ العقل البشري والسياق الحضاري، لسبر أعماق التهميش الطويل الذي نال المرأة، وإثبات إلى أيِّ حدٍّ كان جائرًا، فحص أسسه ومنطلقاته تمهيدًا لتغيير أطره الأيديولوجية للقضاء عليه واجتثاثه من جذوره. لا بدَّ من إعادة اكتشاف النساء لأنفسهن كنساء، لذاتهن المقموعة، وإثبات جدوى العمل على إظهارها وإيجابياتها وفعالياتها، ثُمَّ صياغة نظرية عن هذه الهوية النسوية؛ أي الأنثوية Feminine or Femininty، وتحولاتها الممكنة، فكانت الأنثوية مرحلة متطورة من الدعوى النسوية، هي مرحلة اكتشاف الذات. وبدلًا من التماهي مع النموذج الذكوري، لا بدَّ من العمل على إبراز الأنثوية كجانب جوهري للموجود البشري، كان قمعه اعتوارًا طال السكوت عليه، ونزفًا حضاريًّا لإمكانيات هائلة يمكن أن تُكسب الإنسانية شيئًا من التوازن.

وقد أمكن تحقيق هذا بفضل التطور المعرفي وتنامي مناهج البحث وجحافل النساء الأكاديميات القادرات على إخراج بحوث معمقة تُعزِّز الأطروحة، فضلًا عن الرجال المنتصرين لها.

هكذا تأتي الراديكالية الحقيقية في نسوية القرن العشرين من هذه التنظيرات الكبرى التي يتسع مداها يومًا بعد يوم، وتتوغل من فرع معرفي إلى آخر، لتثبت الرؤية النسوية التي جرى تهميشها طويلًا، وفعاليتها وجدواها.

تبدأ التنظيرات من الأصول العميقة للحضارة الإنسانية وصولًا إلى استشراف مستقبلها. تستفيد من علم الأعراق والأجناس البشرية لإلقاء الضوء على أوضاعٍ شتى للذكورة والأنوثة وعلاقات النسب والقرابة،٤٤ والدراسات الأنثروبولوجية لمجتمعات بدائية كثيرة الأم فيها هي المركز، وصولًا إلى العصر الأمومي السحيق المهدر من تاريخ البشرية؛ وذلك لإثبات أن تفوق الذكر وسيادة الرجل ليست قانونًا شاملًا للبشرية. وتبع هذا الدراسة النسوية للفولكلور التي تصوب الأنظار على الأنماط الفولكلورية الخاصة بالمرأة في الثقافات الشتى. برز الاهتمام بوضعية المرأة في الحضارات القديمة وعند الفراعنة واليهود القدامى والحضارة الكلاسيكية الإغريقية والرومانية … وفي البقاع الأخرى من العالم. وتميزت الحركة بالتحليل العابر للثقافات cross cultural analysis، من أجل استكشاف وتقويم المفاهيم المتعلقة بالمرأة عبر الثقافات المختلفة. قد تستخدم أدوات معرفية مأخوذة من الثقافة الغربية، لكن الثقافات تتحاور بعضها مع بعض، لا ثقافة تفوق الأخرى أو تعتبر نفسها الأرقى، فالنسوية قامت أصلًا من أجل تقويض كل أشكال التراتب الهرمي (الهيراركية).

وبدأ التاريخ النسوي منذ العام ١٩٦٠ ليقابل الصورة الأكاديمية النمطية للتاريخ الذكوري التي هي صورة لتاريخ صنعه الرجل وحده، يتجاهل دور المرأة أو يعمل على تهميشه، أيُّ استثناء لهذا يُعدُّ حديثًا عن شخصية منفردة استثنائية لملكة أو محاربة قامت بدور في السياق الذكوري للتاريخ وليس تأكيدًا لوجود المرأة. ولئن كانت المصادر التاريخية القديمة عبر العصور قد كتبها رجال من منظور ذكوري، فإن مناهج القراءة والتأويل والهيرومنيوطيقا المحدثة تمكن من إعادة قراءة الوثائق التاريخية لاستخراج الدور الحقيقي للمرأة. وليس الأمر مواجهة بين الرجال والنساء، بل بحثٌ عن تصور أصح لتاريخ الوضع الإنساني الذي يضم كلا الطرفين، ولا يقتصر على الذكورية فقط.

تُسرف النسوية الجديدة في استغلال هيرومنيوطيقية التأويل والتفسير التي تهدف إلى اختراق السطح الخادع لتُفصح عن نظرة موحدة قادرة على احتواء الموضوع المُعنى بمجامعه، وكشف المستتر والمسكوت عنه؛ وبالتالي يدن بالفضل لجادامر وكتابه الشهير «الحقيقة والمنهج» (١٩٦٠). التأويل في بعض الأحيان قد يقابله البحث عن أصول الأفكار، عن الجينالوجيا التي دعا إليها نيتشه. النسويات المحدثات يبحثن دائمًا عن الجينالوجيا والتأويل بغية الطرح المتكامل.

كانت الهيرومنيوطيقا في أصلها منهاجًا لتفسير الكتاب المقدس، ثُمَّ اتَّسع مداها في الفكر المعاصر — بفضل جادامر وسواه — للتعامل مع سائر النصوص.٤٥ وبالعود إلى الكتاب المقدس ظهرت دراسات الإنجيل النسوية من منظور مقابل ولأهداف مقابلة للرؤية الذكورية التي احتكرها الرجال طوال التاريخ. يؤكد اللاهوت النسوي أن الخطاب اللاهوتي التقليدي محكوم بالذكورية التي حكمت عليه بالانحياز، وبالتالي يغدو اللاهوت النسوي سبيلًا إلى خطاب لاهوتي أكثر توازنًا واكتمالًا. كان ثمة لاهوت نسوي في السجال الدائر بين الكاثوليك والبروتستانت، ولاهوت نسوي يهودي. وظهرت أيضًا دراسات التصوف النسوي، التي تُبرز الخصائص المميزة للخبرة الصوفية النسوية، وتكشف عن النساء المتصوفات في العصور الوسطى وسيرهن التي لم تلق ما تستحقه من عناية (ولكن أحسب أننا أعطينا رابعة العدوية حقها ويزيد). وأيضًا لفتت النسوية الأنظار إلى أن فن السيرة الذاتية الذي ظهر في القرن التاسع عشر كاد يقتصر على الرجال العظام، ولا بدَّ أن يكون ثمة اهتمام مماثل بسير النساء العظيمات، وأسلوب في فن كتابة السيرة الذاتية للمرأة.
وكانت اللغويات من أبرز المجالات التي شهدت مدًّا نسويًّا لافتًا، ينطلق من مُسلَّمة معاصرة تقول إن اللغة ليست مجرد وسيط شفاف يحمل المعنى، بل هو ككل مؤسسة اجتماعية مُحمَّلة بأهداف ومعايير وقيم المجتمع المعني. وبالتالي قامت اللغة بدورها في تجسيد الذكورية المهيمنة، وهذا ينبغي كشفه توطيدًا للتحرر منه. ونذكر في هذا الصدد كتاب اللغوية الأسترالية ديل سبندر D. Spender (١٩٤٣م–؟) «اللغة صنيعة الرجل» (١٩٨٠م) الذي يوضح أن اللغة تساهم في أسلوب إدراكنا للعالم، واللغة في هذا تعالج العالم كما يراه الرجل لتصبح خبرة المرأة مهمشة. وفي السياق نفسه تواترت الدراسات الدءوبة منذ السبعينيات والثمانينيات التي تدرس الفوارق بين التعبيرات الذكورية والتعبيرات الأنثوية، ومغزاها ودلالاتها. لا شك أن المجاز واللغة يُشكِّلان تفكيرنا ويؤثران على الخطاب ويُمثِّلان أهم معالم الشخصية.
وبديهي أن التعبير عن النسوية جاء في الأشكال الأدبية أكثر وأبلغ مما جاء في أيِّ شكل آخر، وبرزت عشرات الأسماء للأديبات النسويات. ثمة الآن نظرية نسوية في الأدب وفي النقد الأدبي تُلقي اهتمامًا كبيرًا من الأوساط المعنية. وبطبيعة الحال كان لا بدَّ أن يكتسح هذا المد النسوي مجال الفنون، الذي ارتبط أكثر من سواه بالمرأة وعالمها على طول التاريخ وعرضه. عملت الموسيقى خصوصًا على تقديم رؤى جديدة تبرز دور المرأة في تاريخ الموسيقى والرؤية الأنثوية للموسيقى وعلومها. وبرزت أسماء عديدة في نظرية الفيلم النسوية، ورؤية نسوية للإعلام أبسط ما فيها الكف عن استغلال الأنوثة كسلعة متاحة ورخيصة … وغنيٌّ عن الذكر أن دراسات المرأة احتلت مكانًا فسيحًا على مسرح علم النفس وأيضًا العلاج النفسي، نذكر كتاب كارول جيليان (١٩٣٦م–…) التي أوضحت كيف اتخذ علم النفس الارتقائي الذكورية نموذجًا معياريًّا، في حين أن ارتقاء الأنثى نموذج مختلف وأكثر إيجابية من بعض النواحي.٤٦ «اكتشفت جيليان أن النساء مجبولات على فحوى الاتصال. وفي مقابل تأكيد الرجل على الانفصالية والاستقلال الذاتي، تميل المرأة إلى تحديد ذاتها في سياق العلاقات. وبينما يميل الرجال إلى الإقصاء لأنهم يرفعون من قيمة الانفصال والاستقلال الذاتي، تميل النساء إلى الاحتواء؛ لأنهن يرفعن من قيمة الاتصال والألفة. وبينما يعمل الرجال على حلِّ الصراع عن طريق استحضار تراتب منطقي من المبادئ المجردة، تعمل النساء على حلِّ الصراع من خلال محاولة تفهمه في سياق منظور كل شخص واحتياجاته وأهدافه.»٤٧ وحتى الجنون تميز بدراسة نسوية له، تكشف عن ربط جائر مترسب في الوعي بينه وبين المرأة، وتستفيد من جهود ميشيل فوكوه في هذا الصدد، على أن علم الاجتماع اضطلع بدور بالغ الحيوية في مجال دراسات المرأة وتدعيم الرؤى النسوية. وظهر الاقتصاد السياسي النسوي الذي يستكشف وقائع الحياة المادية للنساء وحياتهن اليومية، ومنطلقه أن التفرقة في مجالات العمل بين النساء والرجال فرضها المجتمع الذكوري ولم تفرضها الطبيعة البيولوجية، بعبارة أخرى فرضتها الجَنْوسة gander ولم يفرضها الجنس sex. نما واشتدَّ عود الاقتصاد النسوي منذ الثمانينيات، ويتجاوز علم الاقتصاد التقليدي الذي يقتصر على مفهوم السوق بالمعنى الواسع للسوق، سوق البضائع وسوق الخدمات وسوق العمل وسوق الشهادات … يتجاوزه بالربط الوثيق بين الاقتصاد وبين الحياة الاجتماعية، ويعمل على تقنين اقتصاديات قيام المرأة بالواجبات المنزلية لتكشف عن عمل شاقٍّ ومثمر تقوم به مئات الملايين من النساء كل يوم دون اعتراف علم الاقتصاد به، ولا يفهم هذا حق الفهم بدون نظرية عن العمل المنزلي وعلاقته بآليات السوق، وقسوة التسليع commodification أي تحويل كل شيء وكل قوة في المجتمع إلى بضاعة قابلة للتداول في السوق. إلى سلعة. يدرس الاقتصاد النسوي أيضًا أوضاع العمل المنزلي بعد التطورات التكنولوجية المتلاحقة، ومقارنة هذا بالأوضاع الطبقية للمجتمع، وتأثير الشركات العملاقة العابرة للقوميات غير الآبهة بمصالح أفراد المجتمع … ويلقي الضوء على نسوية الفقر والمرأة المعيلة كقهر وتدنٍّ اجتماعي … وبات للنسوية نظرتها للقانون وأسس صياغة الدستور. وقد رأينا أن النسوية كانت في أصلها حركة سياسية تهدف إلى غايات اجتماعية، فكان من الطبيعي أن يتحدثن عن علم السياسة النسوي الذي يبحث أوضاع النساء في الأنظمة السياسية المختلفة والرؤية المقارنة لهذا. النظرية السياسية النسوية، التي تميل إلى الوصفي أكثر من المعياري، تقوم على نزعة معادية للحروب ولتعظيم القوى العسكرية anti-militariarism Feminism من حيث أن المرأة كامرأة راعية للحياة.٤٨ وفي هذا عنيت النسوية برصد جرائم الحرب ضد النساء وما تشمله من حالات اغتصاب جماعي منهجي منظم وهادف.٤٩ كما يحدث الآن في فلسطين وفي العراق مثلًا. أمَّا المثال المطروح في «دائرة معارف النظريات النسوية»، فهو اعتداء الرجال الصرب على البوسنيات الكروات المسلمات، لكي يَحملن سفاحًا رغمًا عنهن، وكانوا يأخذونهن أسيرات حتى يحولوا بينهن وبين الإجهاض، ويضمنوا أن ينجبن أطفالًا صربيين، كجزء من إرهاب شامل مُورِس ضد المسلمين الكروات، خصوصًا وأنَّ النساء في الإسلام استهداف لأخلاقيات الرجال وتجسيد ماثل للثقافة والمجتمع والأمة، والنيل منهن نيل من هذا جميعًا.٥٠
واخترقت التكنولوجيا سائر مجالات الحياة، ولكي تكون النسوية الجديدة معاصرة حقًّا، عنيت عناية بالغة بالتكنولوجيا التي تبدو للوهلة الأولى إنجازًا ذكوريًّا وتأكيدًا للقيم الذكورية. ولكن من الناحية الأخرى يتضاءل معها أهمية القوى العضلية التي كانت ميزة غير منكورة لتفوق الرجل على المرأة، وفي فضاء الاتصال الإلكتروني وشبكة الإنترنت لا يتمايز الرجال عن النساء. ومن أبرز اللاتي انطلقت نسويتهن من مسألة التكنولوجيا دونا هاراوي D. Haraway (١٩٤٤م–؟). حصلت على الدكتوراه في الفلسفة برسالة عن تاريخ علم البيولوجيا. رأت أن الكومبيوتر أدَّى إلى تمييع الحدود بين الإنسان والآلة، مما يمكن أن يؤدي في النهاية إلى اليوتوبيا التي نحلم بها، «يختفي فيها تصنيف الذكر والأنثى، وتفتح الطريق لعالم من الحرية فيما وراء الفروق بين النوعين».٥١ أعلنت هذا في كتابها «مانفستو السيبُرج» (cyborg = cybernetic + organism) السيبُرج كائن حي سيبرنطيقي، نصفه عضوي ونصفه تكنولوجي، تجسيدًا لتلاشي الحدود فيما بعد الحداثة بين الطبيعة والآلة بصورة منهجية، ولم تعد أية حقيقة ترمز إلى الكل المتكامل. السيبُرج لا يحل الكلية محل الثنائية، لكنه يتعامل بسهولة مع الحدود والمتناقضات مما ينطوي على إمكانية تحرر المرأة من منزلة التابع في الفكر الثنائي البطريركي، وإمكانية تحرر شعوب العالم الثالث من مركزية العقل الغربي وقهر الإمبريالية. إن أروع ما في نظريات النسوية الجديدة أنها لا تفصل بين هذين التحررين، فكانت فلسفة للمرأة من حيث هي فلسفة بعد استعمارية.

لكن ليس الأمر لمسات تذكِّرنا باليوتوبيا أو سواها من فلسفات. فما دام الزخم المعرفي النسوي بكلِّ هذا البذخ كان لا بدَّ أن يواصل مساره ليصل إلى أصول النظرة الشاملة، إلى الفلسفة الصريحة، وأوَّل مرة في التاريخ يُسمع فيها عن شيء اسمه الفلسفة النسوية العام ١٩٧٠، ومنذ السبعينيات وهي تتدفق مبشِّرة واعدة. لقد ظهرت الفلسفة النسوية، كمنهاج لإعادة تأريخ الفلسفة، وللبحث في الفلسفة القديمة والوسيطة من منظورات مستجدة وللإجابة عن تساؤلات لم تُطرَح فيما سبق، ثُمَّ تقديم رؤى أنثوية متكاملة. إنها حرث للأرضية العقلية، واستنبات لبذور لم تُبذَر من قبل.

(٩) الفلسفة الأم للنسوية المعاصرة وظهور الفلسفة النسوية

وإذ نخوض أخيرًا في غمار الفلسفة لا يغيبن عن الأنظار أبدًا أنَّ الموجة النسوية الثَّانية عن بكرة أبيها تأتم أصلًا بالكتاب العمدة للفيلسوفة الوجودية الفرنسية سيمون دي بوفوار (١٩٠٨–١٩٨٦م) «الجنس الثَّاني» (١٩٤٨م) الذي يمكن اعتباره إنجيل الحركة بأسرها، تستهل دي بوفوار هذا الكتاب بعبارة شهيرة صارت شعار الحركة النسوية في شتى توجهاتها، وهي «المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح امرأة»،٥٢ إشارةً إلى الدور الكبير الذي يقوم به المجتمع في صياغة وضع الأنثى والتفرقة بينها وبين الذكر، وتقويضًا للخرافة القائلة: إنَّ الحتميَّة البيولوجيَّة هي التي حددت هذا الوضع، ليست الطبيعة هي التي جعلت المرأة جنسًا ثانيًا، بل المجتمع ومحصلاته الثقافية، وهذا فتح الباب لميلاد مفهوم سوف يتعاظم شأنه ويعلو صيته ويلعب دورًا كبيرًا منذ الثمانينيات، مفهوم النوع أو الجَنْوسة gender (والجَنْوسة أفضل؛ لأنَّ النَّوع كلمة فضفاضة ولها مقابلات عدة) وهو مصطلح يُشير في أصله — كما يخبرنا قاموس أكسفورد الموجز — إلى تصنيف نحوي للأسماء، لكنه بات يستخدم لكي يُشير لا إلى الفوارق البيولوجية (الجنس) فحسب، بل إلى مجمل وخلاصة الأوضاع والخبرات والأدوار المختلفة التي تترتب فقط على كون الرجل رجلًا والمرأة امرأةً، وكما تقول جيزيلا بوك G. Bock، باتت الجَنوسة — كمصطلح معرفي — تحيل إلى البنية الثقافية، و«طريقة لرؤية ودراسة الشعوب، وأداة تحليلية تساعد على اكتشاف المناطق المهملة من التاريخ، إنَّها شكل نظري للاستقصاء الثقافي الاجتماعي عن الجنس الأعمى في التاريخ التقليدي».٥٣
لم تستخدم سيمون دي بوفوار مصطلح الجُنْوسة gender والجَنْوَّسة، لكنها دخلت في تحليلات عميقة تُثبت بها أنَّ البيولوجيا ليست في حدِّ ذاتها قدرًا محتومًا، بل المجتمع البطريركي هو الذي جعلها هكذا، تعمل في الجزء الأوَّل من الكتاب على تحليل الخبرات الفردية المشتركة بين الإناث جميعًا، لا سيِّما في الحضارة الغربية تبدأ ﺑ «سنوات التكوين»، فتفحص خبرات الطفولة، لتنتهي إلى أنه لا توجد فيها فوارق نوعية حادة بين الجنسين، ثُمَّ تشب الفتاة عن الطوق لتجد العالم كله — السياسة والاقتصاد والعلوم والفنون … إلخ — من صنع الرجال، حتى الرب في السماء أب للجميع، والأنبياء رجال تزينهم اللحى، الملائكة لا جنس لهم لكنهم يحملون أسماء الذكور، ويتخذون هيئة فتيان ذوي وسامة،٥٤ وفي النهاية تتعلم الأنثى أنَّ دورها الأهم هو أن تفتن قلب رجل لتصبح زوجة.
ثُمَّ تشرع في الفصل الثاني في تحليل الخبرات المميزة التي تبدأ الطفلة الأنثى في تلقيها لتصبح الفتاة الصغيرة تمهيدًا لأن تصبح امرأة، يعرض الفصل الثالث لطبيعة الخبرة الجنسية لدى المرأة والخلاف بينها وبين خبرة الرجل، وتتوقف في الفصل الرابع عند السِّحاق، الجزء الثاني من الكتاب تحت عنوان «الموقف»، يبحث فصله الأوَّل وضعية المرأة في المجتمع من خلال مؤسسة الزواج، وفي الفصل الثاني الأمومة ثُمَّ الحياة الاجتماعية على أساس أنَّ الأسرة ليست مؤسسة منغلقة معزولة، ثُمَّ العهر والبغاء، يعرض الفصل الخامس انتقال المرأة من النضج إلى الشيخوخة، تستجمع خلاصة كل هذا لتوجز في الفصل السادس موقف المرأة وشخصيتها، إدراكها أنَّ «العالم أساسًا ذكوري، وأنَّها أدنى من الرَّجل وأقل منه، يبدو الرجال كأنصاف آلهة، وتبدو المرأة أمامهم كطفلة أبدية، شأنها في هذا شأن طبقة العمال والعبيد وسكان المستعمرات».٥٥
أمَّا الجزء الثالث من الكتاب فيحمل عنوان «المبررات»، أي مبررات قبول المرأة هذا الوضع، وكان الجزء الرابع والأخير «نحو التحرير» يبحث فصله الأوَّل عن المرأة المستقلة، فتؤكد أن تحرير النساء لا بدَّ أن يكون حركة اجتماعية شاملة، وتنتهي إلى أن المؤشرات الراهنة تُشير إلى أن عصر تحرير المرأة آتٍ، تبحث تجربة الاتحاد السوفيتي البائد في المساواة بين الجنسين في التعليم والتدريب وفرص العمل، وانطلاق الحرية الجنسية في العالم الغربي وتنظيم النسل وحق الإجهاض، ثُمَّ تشير إلى تنامي أعداد المرأة العاملة المستقلة اقتصاديًّا، فلا يكون الزواج وسيلة للتعيش بل تشارُكًا بين طرفين متساويين، لقد بات من الممكن تغيير القوانين والمؤسسات والأعراف والتقاليد والرأي العام، وستظل المرأة هي المرأة، وتظل الاختلافات بين الطرفين، لكن بين ندِّين متساويين يتقاسمان التجربة الحياتية.٥٦
ونظرًا للنجاح الساحق الذي أحرزه كتاب «الجنس الثاني» أردفته سيمون دي بوفوار بآخر أصغر حجمًا بعنوان «طبيعة الجنس الثاني»، يؤكد أكثر على رفض مقولة الحتمية البيولوجية و«ضرورة النظر إلى الوقائع السيكولوجية في ضوء السياق الأنطولوجي والاقتصادي والاجتماعي والسيكولوجي؛ لأنَّ استعباد النوع لأنثاه وقائع بالغة الأهمية، أجل جسد المرأة عنصر جوهري في وجودها في العالم، لكن الجسد وحده لا يكفي … لن تكفي البيولوجيا أبدًا للإجابة على السؤال المطروح: لماذا تكون المرأة هي الآخر؟ ولا بدَّ من اكتشاف كيف تخلق هذا في سياق التاريخ.»٥٧
توقفت دي بوفوار عند التيارات السائدة في عصرها، التحليل النفسي والمادية التاريخية، وأوضحت كيف يتماثل وضع المرأة مع وضع البروليتاريا في أنهما يتعرضان للقهر والوضع الخاص، في حين أنَّهما ليسا أقلية بحال، كل فئة حط بها الظلم كانت أقلية، إلا النساء والبروليتاريا، على أنَّ البروليتاريا لم توجد إلَّا في العصر الحديث، أمَّا النساء فهن موجودات دائمًا خضوعهن للرجال ليس حدوثًا لوضع اجتماعي معين أو حدث تاريخي؛٥٨ لذا لا تُمثل النساء طبقة كي تواجه الطبقة الأخرى المتضايفة معها، إنهن مشتتات في كل الطبقات، عبر أرجاء عالم يحكمه الرجل.

ثُمَّ تناولت انتقال الإنسان من الترحال إلى الزراعة وصياغة الوضع البطريركي في العصور القديمة مرورًا بالعصور الوسطى وعصر النهضة والثورة الفرنسية، وكيف حرَّرت الآلة العبيد والنساء، وأشارت إلى نسويات قدامى، واستعرضت الحركة النسوية في القرن التاسع عشر.

ثُمَّ تناولت أحلام المرأة ومخاوفها والأوثان التي تعوقها، وقامت في الجزء الأخير من الكتاب بتحليل وضعية المرأة في بعض الأعمال الأدبية البارزة.

أجادت فلسفة سيمون دي بوفوار تمثل وتمثيل الإشكالية النسوية، بلورتها ببساطة نافذة حين أشارت إلى أنها تجلس لتكتب كتابًا عن وضع النساء من منظور الفلسفة، في حين أنه لا يمكن أبدًا أن يجلس رجل ليكتب عن وضع الرجل من منظور الفلسفة،٥٩ لأنَّ وضع الرجال هو الوضع الطبيعي ووضع النساء هو الاستثنائي والغريب والمحتاج لأن تفسره الفلسفة، إذا تجاوز الدور الذي فرضه الرجل للأنثى في عالمه ومؤسساته التي تحقق صالحه وهيمنته،٦٠ مما يعني أنَّ الإنسانية هي الذكورية، والمرأة لا تتعين في حدِّ ذاتها بل في علاقتها بالرجل.
على أنَّ سيمون دي بوفوار — كما هو معروف — أوَّلًا وأخيرًا فيلسوفة وجودية، تأثرت بنيتشه وشوبنهاور، وإن كان ليبنتز W. G. Leibnitz (١٦٤٦–١٧١٦) موضوع أطروحتها للتخرج من السوربون، حيث قابلت جان بول سارتر العام ١٩٣٠م، وكوَّن ارتباطهما معًا مَعلَمًا من معالم الوجودية في القرن العشرين، وعلى أساس من وجوديتها كان طرحها لقضية المرأة، فاستفادت من الوجودية في رؤية الرجال والنساء بشرًا في مواقف عينية متجسدة، وبالطبع استفادت من مقولة الحرية المحورية في الفلسفة الوجودية والعلاقات مع الآخرين وخبرة الجسد الحي والقلق والمسئولية … إلى آخر منطلقات الفلسفة الوجودية،٦١ خصوصًا الآخرية أو الغيرية otherness، فكان سؤالها المبدئي: لماذا وكيف تمثل المرأة «آخر» بالنسبة للرجل، يعكس رغبات ومصالح واهتمامات ومخاوف الرجل؟ وبحكم وجوديتها، تنكر المفهوم الأبدي الثابت للأنثى أو المرأة، لكن جنس النساء يوجد دائمًا كمتمايز عن جنس الرجال، كجنس ثانٍ، وقد بات من الضروري أن تحارب النساء هذا الوضع الجائر مستعينات بالتوصيف الفينومينولوجي لخبراتهن الشخصية، ليناضلن من أجل حقوقهن ككيانات بشرية كاملة، وليس كجنس ثانٍ.٦٢

ومثلما استفادت الوجودية من الفينومينولوجيا، استفادت منها الوجودية النسوية، وثمة تيار «النسوية الفينومينولوجية»، والواقع أنَّ الفينومينولوجيا أبدت فعالية في تناول قضية المرأة، إنَّها منهاج فلسفي يعمد إلى تحليل الخبرة الحية المعيشة في الواقع، وتخرج إلى العموميات الغير متغيرة في كل الخبرات المتشابهة، من هنا كان استخدام الفينومينولوجيا لتحليل الخبرة العينية للنساء التي تميزهن، ووعيهن بجنسهن وجنوستهن.

وفي استيعاب النسوية لما بعد الحداثة، استفادت على وجه الخصوص من الفينومينولوجي الفرنسي إيمانويل ليفيناز E. Levinas (١٩٠٨–١٩٩٥).

ظلت النسوية الفرنسية دائمًا متقدمة معطاءة، تتَّسم بمعالم خاصة تميزها إلى حد ما عن النسوية في العالم المتحدث بالإنجليزية، إنَّها أكثر جنوحًا إلى التنظير وإلى التفلسف، وإلى الحوارات العميقة مع فلسفات أسبق، ومع التحليل النفسي، بشكل عام ناهضت النسوية التحليل النفسي الذي يجعل الذكورة معيارًا والأنوثة حيودًا عنه، وناصبت فرويد العداء على الرغم من أنَّه لم يوصِ بالنظام البطريركي بل فقط قام بتحليله.

على أية حال، لم يهتم العالم المتحدث بالإنجليزية ونسويته بالتحليل النفسي كنظرية للعقل، بل فقط بمدى علميتها وقواها التفسيرية وشواهدها التجريبية،٦٣ أمَّا النسوية الفرنسية فلها علاقة خاصة به، لا سيِّما مع جاك لاكان  J. Lacan (١٩٠١–١٩٨١). إنه صاحب قراءة تجديدية لفرويد، عن طريق تطبيق المنهج البنيوي في دراسة ظاهر اللاشعور كما لو كانت تماثل الظاهرة اللغوية بنيويًّا، أو كانت هي ذاتها لغة، اهتمت النسوية الفرنسية المحدثة بنظريات لاكان حول أصول الفروق بين الجنسين حتى جعلتها من أسس الوعي الأنثوي والهوية الأنثوية، ولعل هذا بفضل الفيلسوفة والمحللة النفسية الاجتماعية لوسي إيرجارَيْ L. Irigaray (١٩٣٢م–؟) التي استفادت من لاكان ومفهوم الخيالية imaginary لديه، جعلته جوهر العقلانية ولم يعد معها مفهومًا سيكولوجيًّا فحسب، بل أيضًا اجتماعيًّا وثقافيًّا شاملًا.

وكان هذا في سياق جهودها لكشف قصور وتحيز مفهوم العقل في الفلسفة الغربية، وتميز العقل النسوي الراجع إلى أنَّ الخياليَّة أكثر حيويَّة وحركية وخصوبة لدى المرأة. أمعنت في تأكيد اختلاف النساء عن الرجال من خلال الإيغال في تحليل الخبرة الجنسية وأساليب إجبار المرأة على كبت ميولها الجنسية، وربطت هذا بالتعبيرات اللغوية، حتى تميزت أعمالها بجرأة شديدة جعلتها أقرب إلى الراديكالية التحررية.

لقد بحثت عن تآخٍ أو توحد بين جنس النساء أنكره التاريخ دائمًا كما أشارت سيمون دي بوفوار، أرادت وضع المرأة من الخضوع إلى تأكيد الذات، والتحرر من هيمنة المنطق الذكوري، واكتشاف المسار الممكن للأنثوية، وهي على أية حال تقدم مجرد تأويلات، ولا تُقدِّم برامج أو حلولًا، وإذا ظل المرء داخل رمزياتها انتهى إلى أن الانحصار داخل اللاوعي وداخل الحدود المفروضة على الأنثى،٦٤ ولن تنشأ الفلسفة النسوية الشاملة والمنشودة.

ليس التحليل النفسي أهم ما في الأمر، فالنسوية الفرنسية ترتبط في عقر دارها بما استفادت منه إيرجارَيْ وسواها، أي بأقوى تيارات ما بعد الحداثة التي رأيناها لحظة ذهبية للنسوية ارتفعت بها إلى مدارج التنظير، شهدت — كما رأينا مثالًا مع هاراوي — اختراق الحدود التقليدية، بين النظرية والممارسة … الفن والحياة … المعياري والواقعي … ثقافة الصفوة وثقافة الجماهير … الذات والموضوع … إلخ، مما فتح الباب إلى ما هدفت إليها النسوية دائمًا؛ أي خلخلة التصنيفات القاطعة للبشر، من أجل زعزعة الوضع التراتبي للذكورة والأنوثة، تجلت ما بعد الحداثة مع فلاسفة فرنسا أمثال ليوتارد وأيضًا بارت وليفيناز ودريدا … رولان بارت (١٩١٥–١٩٨٠م) صاحب مقال «موت المؤلف»، وبالتالي ميلاد القارئ المساهم في معنى النص، أمَّا جان فرانسوا ليوتارد صاحب كتاب «الشرط ما بعد الحداثي» الذي أشرنا إليه آنفًا فهو أقدر من جسَّد روح ما بعد الحداثة، الروح التي تستشعر الظلم والقهر والتفاوت والحروب والمجاعات … إلخ المتفشية في العالم، والتي تعني أنَّ الحداثة لم تستطع تحقيق أهدافها ولم يَعُد من الممكن بعد كل هذا انتظار المستقبل السعيد الذي وعدت به.

لقد وصلت الحداثة إلى طريق مسدود، يعني نهاية أفكارها ومنطلقاتها التي جسَّدها العقل التنويري، نهاية أفكار التقدم الخطي المطرد نحو الحقيقة والمزيد من العدل والحرية، ارتكانًا على العقل والعلم الوضعي، ما بعد الحداثة ليست مرحلة محددة أو اتجاهًا معيَّنًا، إنَّها منطق حضاري للحظة راهنة تنقض التسليم بكل هذا وبكل الأفكار المطلقة، وتبحث عن البديل وما فات الحداثة ليجعل مشروعها فاشلًا في تحقيق ما وعد به.

تركت هذه التوجهات النظرية العميقة لما بعد الحداثة في فرنسا تأثيرها على النسوية، استفادت من «مركزية العقل» logocentrism مع جاك دريدا، وتحوَّلت مع النسوية إلى «مركزية العقل القضيبي» Phallogocentrism كتعبير أشد تجسيدًا وقوقعة لفظاظة المركزية الذكورية androcentrism، بعد أن منح دريدا النسوية مفتاحًا جديدًا لقراءة تفكيكية لنصوص الفلسفة الغربية، تكشف عن رفضها للاختلاف وعن تحجيم الآخر.

لقد تعلمت النسوية من هذه الأطروحات الفرنسية بعد الحداثية، ما بعد البنيوية وتفكيكية جاك دريدا ودولوز وحفريات المعرفة مع ميشيل فوكوه التي تكشف عن أبنية التسلط والإخضاع المستترة في الأيديولوجيات السائدة … تعلمت تقويض النظم المعرفية وإعادة تشكيلها والاهتمام بالقضايا المهملة في الفلسفة التقليدية أو تلك التي تم تبخيسها من قِبَل الفلاسفة، وبات لزامًا أن يتوقَّف الفكر عن التفكير في ذاته أو تمثيل ذاته وتجسيدها عن طريق بحثه عن حقيقة مشابهة أو متطابقة معها، عليه الانتقال إلى الاهتمام بكل ما هو خارجه ومختلف عنه، كي تصبح الفلسفة مُكوِّنًا من مكونات الحياة.

وفي ذلك دعوة لفتح بقية العلوم الإنسانية على ما استثنته وهمَّشته وبخسته،٦٥ وكان هذا أكثر من مؤاتٍ للمرأة وللنسوية؛ لأنَّ القضية هي أنَّها طويلًا ما بُخست وهُمِّشَت من قبل الفكر والفلسفة والتفكير العلمي.

إنَّ العقلية الفرنسية ذات فضل سابغ على النسوية، وقد جدَّت في توظيف مقولات فلسفية كبرى من أجلها، ويكفي أنها الوريثة الشرعية لسيمون دي بوفوار، الأم الكبرى للحركة جميعًا وللفلسفات النسوية المعاصرة بأسرها، وظلت النسوية الجديدة في فرنسا تُعنى بقضايا الموقف العيني امتدادًا للمؤثرات الوجودية العتيقة، أمَّا النسوية الراديكالية في العالم المتحدث بالإنجليزية فتختلف عن الفلسفة الوجودية اختلافًا جذريًّا، يتمثل في أنَّها لا تهتم بالخبرة العينية الفردية، بل بالتنظيرات الكبرى، باللغة والعقل والمعرفة … ومن هذا المنطلق كانت نشأت الفلسفة النسوية في السبعينيات التي أدت إلى فلسفة العلم النسوية، لم يعد الأمر مجرد توظيف عميق لأثقل المقولات الفلسفية في خدمة القضية النسوية والفكر النسوي، بل خلق فلسفة نسوية أصلًا.

ولئن كانت الحركة النسوية في القرن التاسع عشر تبحث عن صورة جديدة متطورة للمرأة، فإن الفلسفة النسوية في الثلث الأخير من القرن العشرين، تبحث عن صورة جديدة متطورة للحضارة وبنياتها العقلية، وفلسفة العلم النسوية بدورها تبحث عن صورة جديدة متطورة للعلم والممارسات العلمية.

في العالم المُتحدِّث بالإنجليزية غلب على الفلسفة أن تكون نشاطًا بعديًّا، يبحث في المفاهيم والمناهج، رافعًا يده تمامًا عن العالم النابض الحي المعيش، وبالتالي لا علاقة للفلسفة البتة بالجنس والجَنْوسة ما لم يكونا محض مقولات نظرية أو منهجية. وكان لقيام الفلسفة النسوية على أساس هذين المفهومين وقرائنهما واقتحام النسوية للفلسفة تأثيره الجذري على الفكر النسوي وعلى الفلسفة كليهما، إنَّها محاولة لإعادة صياغة المفاهيم والإفلات من المنظور المهيمن، ما دامت الفلسفة الغربية قد سارت طوال تاريخها محكومة بالخبرة الذكورية والانحياز الذكوري.٦٦

لا تنطوي الفلسفة النسوية بفروعها المختلفة على مدرسة محددة المعالم، ومنظومة من المسلمات والمعتقدات، بقدر ما هي اتجاه نقدي يتفرع فروعًا عديدة، تتفق على نقض المركزية الذكورية، وتختلف في استراتيجيات تحقيق هذا الهدف، تختلف الفيلسوفات النسويات فيما بينهن مثلما يختلف الفلاسفة الرجال.

إنَّ الفلسفة النسوية منطلق وموقف مبدئي ونظرة نقدية تصل إلى نقد الميتافيزيقا الغربية التي ساهمت بمجامعها في خلق الكون الذكوري وثنائية الروح والجسد … العقل والعاطفة … الفكر والواقع … الإنسان والطبيعة … إلخ هذه الثنائيات، التي طالما شَقَّت وأشقت الفكر الغربي، الهدف منها إعلاء قيمة الطرف الأوَّل (المرتبط بالذكورية) وبخس قيمة الطرف الثاني (المرتبط بالأنثوية)، وآن الأوان للإطاحة بها، المنظور النقدي هو المعلم المميز للفلسفة النسوية، وهي بهذا لا تُعبِّر عن نظرة خاصة بالنساء، بل عن نقدٍ لما هو عام وشامل للبشر أجمعين.

فهي — كما أشرنا — لا تزعم أنَّ النساء يمتلكن الحقيقة، بل فقط أنَّ الرِّجال لا يستأثرون بها. وهكذا بفضل المنظور النقدي تُقدِّم الفلسفة النسوية نظرة أكثر موضوعية وأقل انحيازًا قادرة على تعيين ما هو خطأ في التيار السائد.

ورب قائل: إنَّ الفلسفة بأسرها نقدية، أجل لكن النقد النسوي ينطلق من موقف معين مفطور في الحياة ومحجوب دائمًا، الموقف النسوي ينطوي على تغيير شامل في النظرة يكشف عن أبعاد في الكون أوسع من تلك التي يكشفها المنظور الذكوري فقط، منطلق الفلسفة النسوية أن ثمة خبرة ثمينة تمتلكها خصوصيات المرأة، بدونها لا يظفر الرجال أنفسهم برؤية متكاملة متوازنة، آن الأوان لرفع النقاب عنها، وفي هذا قد نجد ما هو عادي وشائع ويبدو لا علاقة له بالفلسفة قد يدخل في صميم الفلسفة.٦٧
هكذا تخلَّقت الفلسفة النسوية عن محاولات عميقة للإجابة عن التساؤلات الأولية جِدًّا للنسوية بشأن المساواة وهوية المرأة والتراتبية الهرمية للجنُوسة والجنسانية Sexism (الجنسانية أو التحيز الجنسي تعني هيمنة أحد الجنسين والتحيز له في سائر الأبنية والمؤسسات فقط بسبب جنسه، وغالبًا ما يكون هذا التحيز لصالح الذكور طبعًا).

وتبدأ بمرحلة نقدية لأمهات كتب الفلسفية، في إعادة قراءة وفحص وتأويل لتاريخ الفلسفة واستجوابه لفضح انحياز ذكوري يشوهه، ومعرفة العوامل التي أدَّت إلى تهميش المرأة، وسبر أعماقه للكشف عن دور للمرأة في الفلسفة جرى تجاهله أو إنكاره.

تأسست «جمعية المرأة في الفلسفة» في أمريكا التي شكَّلَت مشروعًا ضخمًا للتنقيب عن تاريخ النساء الفيلسوفات لتعيين إسهاماتهن من خلال بحث دقيق أبحر إلى أقدم العصور، كان المسلَّم به أنَّ النساء في العصور القديمة ليس لهن أية اهتمامات تتجاوز تدبير المنزل.

وكشفت البحوث عن نساء في عصر فيثاغورث (القرن السادس قبل الميلاد) اهتممن بتطبيق مفهومه عن التناغم أو الانسجام Harmony في بناء وتسيير الدولة، ثُمَّ الأسرة باعتبارها نموذجًا مُصغَّرًا للدولة، وناقشن الطريقة التي يمكن أن تطبق بها النساء هذا المبدأ على الجوانب الأخرى لحياتهن اليومية، ولم تكن هذه نظرية في تدبير شئون المنزل، بل نظرية أخلاقية تطبيقية.٦٨

وفي حرص الراديكالية على إثبات تميز المرأة عنيت المناهج المطروحة بإبراز الاختلاف في إسهام النساء الفلسفي، ولاحظت أنَّ هذا الإسهام لم يعكس أبدًا القضية النسوية، ووجدت مادة البحث في شذرات متناثرة ورسائل متبادلة وسير حياة الفلاسفة العظام وقصائد وعظات … وبالنسبة للعصر الوسيط وجدوا في مقتنيات الأديرة مددًا وفيرًا، لقد تواصل البحث إلى بقية عصور الفلسفة.

ثُمَّ تنتقل الفلسفة النسوية من المرحلة النقدية والتمحيصية إلى بناء نظريات عن الوعي الأنثوي بالذات، سارت المشروعات الفلسفية النسوية في سبيل تحدي أبرز الافتراضات الفلسفية الجوهرية، وتقديم بدائل شديدة التفصيل، بدأت ما يُسمَّى بفروع الفلسفة اللينة السهلة وهي السياسة والأخلاق والجمال.

ومع الثمانينيات كانت قد وصلت إلى كبد الحقيقة وقلب الأوضاع من جذورها، حين تطرَّقت إلى ما يُسمَّى بفروع الفلسفة العسيرة الشاقة وهي الميتافيزيقا والإبستمولوجيا والميثودولوجيا وفلسفة العلوم.

(١٠) نشأة فلسفة العلم النسوية

في تلك السنوات الطافحة بالمد النسوي، بدأت الإسهامات في هذه المجالات تظهر في الدوريات والمجلات الفلسفية. ثُمَّ قامت الفيلسوفة الأمريكية ساندرا هاردنج (١٩٣٥م–…) بمشاركة ميريل هينتيكا بتجميع الإسهامات في مُجلَّد بعنوان «اكتشاف الواقع: المنظورات النسوية للإبستمولوجيا والميتافيزيقا والميثودولوجيا وفلسفة العلم»، صدر العام ١٩٨٣م، ليعد عام الميلاد الرسمي لفلسفة العلم النسوية، ثُمَّ كانت بداية نضجها اللافت مع كتاب هاردنج الخطير «سؤال العلم في النسوية» (١٩٨٦م). ولا تزال هاردنج أعلى فيلسوفات العلم قامة وأرفعهن شأنًا وأغزرهن إنتاجًا،٦٩ وهي التي جعلت فلسفة العلم النسوية تقف على قدميها وتمضي قُدُمًا. يمكن القول إنها المؤسسة، لولا أن الحركة أوسع من أنْ يؤسسها فرد فريد، فضلًا عن نفورها المبدئي من المركزية والتراتبية الهرمية.

يُعبر العنوان الأصلي للكتاب «اكتشاف الواقع» عن هدف الفلسفة النسوية بأسرها، أي رفع النقاب عن الجوانب الأنثوية التي ظلت دائمًا مطمورة ومهمشة بفعل الهيمنة الذكورية. أمَّا العنوان الفرعي «المنظورات النسوية للإبستمولوجيا والميتافيزيقا والميثودولوجيا وفلسفة العلم» فهو بالغ الدلالة؛ إذ يخبرنا بادئ ذي بدء أن فلسفة العلم النسوية تعني منظورات مستجدة من زوايا مختلفة عما عهدناه في فلسفات العلم التقليدية؛ بل وتيار الفلسفة الغربية بأسره. فلا نتوقع أن تكون فلسفة العلم النسوية منظومة من الفروض أو القضايا تتفق عليها النساء جميعًا أو فيلسوفات العلم بأسرهن، بل هي مداخل ومنطلقات مستجدة.

من ناحية أخرى لها مغزاها يصادر هذا العنوان الفرعي على أن فلسفة العلم النسوية لا تنفصل عن الميتافيزيقا، فيبدأ في فصله الأوَّل بميتافيزيقا المعلم الأوَّل أرسطو الذي جاهر بأن المرأة ليست حيوانًا عاقلًا، ويواصل نقد الميتافيزيقا الغربية التي لم تأخذ المرأة أبدًا في اعتبارها، وساهمت بمجامعها في الكون الذكوري، وصولًا إلى العلم الحديث ليثبت أن الفيزياء ذاتها لم تكن أبدًا بمعزل عن تأثير الجَنْوسة والجنسانية، فالعلم في النهاية صنيعة بشر يعيشون في أزمنة معينة وأمكنة محددة، فعكست أنماط التفكير لديهم أنماط التفكير السائدة في مجتمع واسع يعيشون فيه؛ وبالتالي ثمة مساحة عريضة من التشارك بين التفكير العلمي وبين أيديولوجيا المجتمعات التي أنتجت العلم، والتي هي أيديولوجيا ذكورية. وكان على فصول الكتاب استئناف المسير إلى مجالات البيولوجيا والنظرية التطورية والبيولوجيا الاجتماعية، يحاربن فكرة التنافس والبقاء للأصلح في الداروينية التي أدت إلى اليوجينيا، ثُمَّ أتى المد النسوي تلقائيًّا وطبيعيًّا ومواتيًا أكثر في العلوم الاجتماعية … ولم تكن المسألة في كل هذا مجرد طرح رؤًى نسوية بجانب الرؤى الذكورية لتظفر المرأة بالمساواة، بل استجواب وتحدٍّ وإعادة طرح نموذج إرشادي — براديم paradigm جديد٧٠ — لا يلغي القيم الذكورية الموضوعية والتحليلية والعقلانية التجريبية … بل يعمل على التكامل بينها وبين القيم الأنثوية.

هكذا نشأت فلسفة العلم النسوية على أساس تفسير ظاهرة العلم الغربي في سياق الجَنْوسة وتأثيرها على مفرداته ومشاريعه ولغته ومضامينه، كمعالجة نقدية جذرية. لقد تمَّ هذا في الأدب والفنون والنقد الاجتماعي والأنثروبولوجيا والنظرية السياسية، وتكفَّلت فلسفة العلم النسوية بإنجازه في أخطر المجالات … العلم الحديث.

ومن المثير للسخرية أن العلم الذي يزهو بأنه التفكير العقلاني النقدي، ينفر من مثل هذا النقد له. وتحت شعار يزعم أن العلم هو العلم، لم يرحب فلاسفة العلم في البداية بهذا، لكن الفلسفة النسوية استطاعت في فترة وجيزة من عمرها القصير الكشف عن جَنْوسة العلم، وحاولت فهم الآليات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنفسية التي تستبقي العلم جنسانيًّا، وليس شاملًا لأبعاد التجربة الإنسانية بأسرها أو بجانبيها،٧١ كما ينبغي أن يكون.
وقد توصم النسوية في فلسفة العلم بأنها هامشية وليست في صميم موضوعها كما هو حال النسوية في الميادين الأخرى،٧٢ وليس الأمر هكذا البتة، ذلك أن العلم على رأس المؤسسات التي اعتبرت كل ما هو أنثوي — كالعاطفة والحنو والشعور والانفعال وعمق الارتباط بالآخر … — ضد العلم، ولا علم ونقيض للعلم، حتى بات العلم بقيمه الذكورية الخالصة خشنًا جافًّا يوضع كنقيض للإنسانيات، في حين أنه أكثر إنسانية من أي منشط آخر، وهو المحتاج أكثر من سواه لكشف النقاب عن الأنثوية فيه. ومن الناحية الأخرى نجد أنه مع وضع الصدارة الذي يتبوَّءُه العلم في الحضارة المعاصرة، كان اشتباك النسوية معه طويلًا عريضًا متعدد الأبعاد والمرامي، وفضلًا عن فلسفة العلم اشتبكت به الحركة النسوية في الإطار الأولي لمجرد البحث عن حقوق للمرأة. ويمكن حصر أهداف النسوية فيما يتعلق بالعلم كالآتي:٧٣
  • (١)
    تبيان أن النساء قادرات على ممارسة العلم، عن طريق إعادة قراءة تاريخ العلم، والتنقيب عن دور المرأة فيه، مثلما حدث مع الفلسفة، جريًا على نهج النسوية بإعادة قراءة تاريخ الحضارة وقصة العقل. إن إعادة قراءة تاريخ العلم من العناوين الكبرى في فلسفة العلم النسوية.٧٤ وثمة محاولات دءوبة للكشف عن دور النساء العالمات المجهول، بدءًا من اللائي لاقين الظلم أو الإهمال في العصور القديمة، وصولًا إلى عالمات معاصرات مثَّلَت أنوثتهن عائقًا يحول دون اكتسابهن حقوقهن كاملة، مثل روزاليند فرانكلين، التي كان لها دور حاسم في اكتشاف التركيب المزدوج للشفرة الوراثية، وماتت في منتصف العمر بسرطان في المبايض، ولم يتم الاعتراف بدورها الكبير. وخرجت دوائر معارف وموسوعات مهيبة عن النساء العالمات عبر تاريخ العلم.٧٥ إنه فحص نقدي وإعادة قراءة وتأويل لمجمل قصة الفلسفة وقصة العقل وقصة العلم وقصة الحضارة. وتستشهد النسوية أيضًا بالواقع العلمي الراهن الذي يُبيِّن أن نساءً كثيرات، وليس فقط الاستثنائيات كماري كوري، يساهمن في كلِّ مستويات العلم، من المساعِدات الفنيات إلى الباحثات المستقلات والمُنظرات الرائدات. وثمة غاية أخرى لهذا من أهم أهداف فلسفة العلم النسوية، وهي إبراز تأثير أنوثة العالمات على أبحاثهن وإنجازاتهن، كما سنرى في الإبستمولوجيا النسوية، تحقيقًا للهدف الأولي للموجة الجديدة، وهو اكتشاف الذات الأنثوية.
  • (٢)
    إزاحة العقبات التي تعوق النساء عن الإسهام في العلم، وحتى يوم الناس هذا ما زالت العراقيل تُوضع في أمريكا أمام اقتحام المرأة مجالات البحث العلمي الرفيع، خصوصًا في العلوم الفيزيائية والهندسية.٧٦ تقول ليندا جين شيفرد: «أجل انشغلت كوكبة من النسويات بالسؤال عن سبب قلة عدد النساء في العلم، أمَّا أنا فأندهش من كثرة عددهن، بالنظر إلى القيود التي كانت مفروضة على التعليم، قواعد المجتمع وضغوطه، السقف الزجاجي الذي يعوق التقدم في المسار المهني، الأجر الضعيف (حتى وقت حديث يصل إلى العام ١٩٤٨م، كانت النساء العالمات في الفلك والفيزياء يتقاضين فقط ربع ما يتقاضاه نظرائهن الرجال)، افتقادهن لتقدير الجمعيات العلمية المهنية، الاستقبال البارد من جانب زملائهن الرجال أو رفضهم التام لهم كأنهن «أمساخ شائهة»، استبعادهن من التواصل الرسمي والتضحيات الشخصية المطلوبة.»٧٧
  • (٣)
    تصحيح المعلومات الخاطئة عن بيولوجيا المرأة. وقد عمل العمل في القرن التاسع عشر على ترويجها ليحول دون المرأة وممارسة العلم. والآن تتواتر المكتشفات العلمية التي تنقض كل هذا، وتبيِّن حدود الفروق العقلية بين الجنسين، وأن عقل المرأة مُهيَّأ لممارسة العلم، وأن خصوصياتها البيولوجية كالطمث والحمل وسن اليأس لا تنال من قدرة العقل. فضلًا عن بعض المكتشفات التي تُرجِّح كفة المرأة، أو على الأقل تثبت أنها كائن جوهري وليست البتة مخلوقًا من الدرجة الثانية كما افترضت الذكورية طوال التاريخ. لن نتحدَّث عن النعجة دوللي التي ولدت دون الحاجة إلى ذكر. فقد جرى — مثلًا — اكتشاف نوع آخر من الجينات موجود خارج النواة، داخل بعض أجزاء السيتوبلازم، تُسَمَّى الميتوكوندريا أو الحبيبات الخطية، هذه الجينات لا تُورَث إلَّا من الأم وحدها وليس من الأم والأب معًا كما يحدث في الجينات الموجودة داخل النواة، وبالتالي يمكن بواسطة دراسة جينات الميتوكوندريا الوصول إلى تسلسل نسب الأمهات حتى نصل إلى أول امرأة بدأ بها العرق أو العشيرة،٧٨ لتكون الأنثى هي الأصل. لسنا في حاجة للخوض في شطط الراديكالية التحررية، ويكفي فقط رفع الغبن عن المرأة.
  • (٤)

    نقد قيم العلم وأهدافه ومعاييره ومحركاته ومناهجه وممارساته …

    ويمكن ملاحظة أن الوظيفة الرابعة تشتبك مع فلسفة العلم بمفهومها التقليدي أو الوضعي، أمَّا الوظائف الثلاث الأسبق فهي المتوشجة بفلسفة العلم في مرحلتها البعد وضعية وتطوراتها الراهنة التي سيعرضها الجزء التالي (١١).

وتوضح ساندرا هاردنج أن فلسفة العلم النسوية تشكَّلت من التقاء وتجادل ثلاث مقاربات نسوية — تبدو بناءً على ما سبق واضحة جلية — وهي التجريبية النسوية والموقف النسوي وما بعد الحداثة النسوية.

التجريبية النسوية Feminist Empiricism ترى أن التجريبية التقليدية في فلسفة العلم؛ أي الوضعية وامتداداتها وتطوراتها، عملت على إقصاء العلم عن البنية الاجتماعية والمؤثرات الثقافية، وسارت محكومة بكراهية الفلاسفة الوضعيين لفكرة التشكل الاجتماعي للمعتقدات العلمية. إنها تجريبية رديئة في زعمها تحلل العلم من القيم ومن مقتضيات الواقع العيني. تعلن النسوية الثورة عليها حتى تنادي ساندرا بارتكي S. Barteky في تطرف بعدم التصالح مُطلَقًا معها. ومن أجل الخروج من إسارها، عمدت التجريبية النسوية إلى الفيلسوف المنطقي الكبير فيلارد فان أورمان كواين W. V. Quine (١٩٠٨–٢٠٠٠م) — كان موضوع رسالة ساندرا هاردنج للدكتوراه — وإلى الاستعانة بعمله الشهير «عقيدتان في التجريبية» (١٩٥١م). هاتان العقيدتان الجازمتان Dogma هما:
  • تقسيم القضايا إلى تحليلية منطقية وتركيبية تجريبية.

  • الردية أو الاختزالية Reductionism التي تعني أن كل جملة تجريبية ذات معنى قابلة للرد إلى وقائع وخبرات تجريبية.
القضيتان يتجاهلان أثر العوامل الأخرى في تشكيل التجريبية، ويمثِّلان سياجًا منيعًا يحول دون هذا، مما دعا كواين إلى تجاوزهما واقترح بديلًا عنهما يتمَثَّل في البرجماتية والسلوكية. رأت النسوية أن كواين، حاول هجران الأسس الوضعية تمامًا وفشل في ذلك. قطع نصف الطريق نحو الخروج من إسار التجريبية البائدة، ولم يسر فيه حتى غايته، وهذا ما تفعله التجريبية النسوية للخروج التام من الإسار الوضعي. تأخذ من كواين تقويض العقيدتين اللتين نزعتا المعرفة التجريبية عن سياقها الاجتماعي؛ مما أعان فلسفة العلم التقليدية على فصل الميتافيزيقا والقيم وسوسيولوجيا العلم عن نظرية المنهج العلمي، وبالتالي قمع العلاقات الداخلية بين الظاهرة العلمية والأبنية الاجتماعية الأخرى. تأخذ منه أيضًا البرجماتية، لكن ترفض السلوكية.٧٩ وبهذا يمكن مواصلة المسيرة النسوية ومعالجة العلم بوصفه منخرطًا في البنية الثقافية للكشف عن مؤثرات الأيديولوجيا والمتواضعات الاجتماعية وتصويبها، وبالتالي الحصول على منظور للتجريبية أشمل، أكثر توازنًا ونفعًا.
ويتم ذلك بواسطة المقاربة الثانية، وهي الموقف النسوي Feminist Standpoint النازع إلى فضح الانحياز الذكوري، والقراءة النقدية للنصوص لكشف جوهر الحيود. فتأخذ فلسفتهن بنصية textuality العلم؛ أي النظر إلى المحصلات العلمية كنصوص وإمكانية قراءة النصوص العلمية للكشف عما بها من تحيزات ذكورية. الموقف النسوي — كما ترى هاردنج — ينبثق عن رؤية هيجل للعلاقة بين السيد والعبد التي اتسع نطاقها في أعمال ماركس، وتطوَّرت على يد إنجلز وجورج لوكاتش، ومفاده أن سيادة الرجل للحياة الاجتماعية أدَّت إلى انحياز في الرؤية وقصور في النظرة ساد سائر الأبنية الثقافية، ومنها العلم، فجعلته أحادي الجانب قاصرًا على الذكورية. يعمل الموقف النسوي على تقديم المنظور الأنثوي والقيم الأنثوية لتتكامل معها. أمَّا المقاربة ما بعد الحداثية النسوية فتعني فحص وصياغة مفاهيم العقلانية والموضوعية والصدق والبينة … إلخ. وفي ارتباط ما بعد الحداثة النسوية بما بعد الاستعمارية في فلسفة العلم النسوية، سنجدها فلسفة تناهض المركزية الذكورية وسطوة الرجال من حيث تناهض المركزية الأوروبية والعنصرية والاستعمارية والطبقية والرأسمالية وسائر الأنماط التراتبية الهرمية التي تبخس أطرافًا لمصلحة مركز أو سيد.
هكذا كانت فلسفة العلم النسوية نقدًا للتسليم بالفلسفة السائدة للعلم، التي تشارك في الجريمة التنويرية، جريمة اعتبار الرجل الأبيض العقلاني هو المثال الأعلى والمحك والمعيار لقيم التقدم، وبالتالي تشارك في جريمة الدمار البيئي الراهن وجريمة إخفاق مشاريع التنمية في العالم الثالث. العلم يُستخدم الآن لمناصرة اتجاهات رجعية أو ضارة بالبيئة أو أفعال تعصف بإنسانية الإنسان. ممارساته وتطبيقاته متمركزة حول القيم الذكورية والرمزية الجنوسية والتقسيم الجنوسي للعمل. العلم بهذا ليس جنسانيًّا فقط، بل هو أيضًا عنصري وطبقي وقاهر للثقافات الأخرى. كانت المرأة بوصفها آخر خارج هذه الثقافة القاهرة، مما ساهم في جعلها غشوم. والآن تتحدى فلسفة العلم النسوية هذه البنية في صميم جذورها.٨٠

إن فلسفة العلم النسوية بعد الحداثية بعد التنويرية قد تحرَّرت من النظرة التقديسية للعلم بوصفه الكيان الفائق كامل النعمة شامل الحكمة، وتعالجه من حيث إنه كأية فعالية إنسانية يمكن دائمًا أن تكون أفضل، كأية مؤسسة اجتماعية ناجحة، مثل الزواج أو الصرف الصحي أو نظام التأمينات والمعاشات، تستمر لنجاحها الوظيفي في أداء المهام المنوطة بها، ويمكن جعلها أكفأ. العلم بكل إيجابياته وما أحرزه من نجاح طبق الخافقين، لا يقل ولا يزيد عن أية بنية ثقافية أخرى في الحضارة الغربية البطريركية، هو مؤسسة اجتماعية موسومة بالمركزية الذكورية والجَنْوسة والجنسانية، يكون أفضل لو أنه عولج من غلواء هذا. على أن فلسفة العلم بدورها كانت مشهورة — خصوصًا بفضل الوضعية المنطقية — بقيودها المنطقية الميثودولوجية الصارمة، فكيف اتَّسعت لمثل هذا النقد النسوي؟

(١١) فلسفة العلم تفتح الباب للنسوية

أجل، العلم أقدم عهدًا من التاريخ، بدأت إرهاصاته مع الإنسان البدائي في العصر الحجري، وألقيت أصوله في الحضارات الشرقية القديمة، وقام الإغريق بدورهم في صياغة الأسس النظرية، وشهد مرحلة توهج فردية في العصر السكندري، وجاء الدور العظيم الذي قامت به الحضارة الإسلامية … ثُمَّ انبثق العصر الحديث ليغدو العلم الحديث مرحلة شديدة التميز والتألق من مراحل العلم، فقد أصبح نسقًا نظاميًّا يقطع بخطًى واثقة طريق التقدم بمعدلات متسارعة، ليمثل حالة فريدة من النجاح لا عهد للبشر بها من قبل، ويتصدر باقتدار وامتياز مسيرة المعرفة الإنسانية.

وفي هذا الإطار وفي أواسط القرن التاسع عشر — عين أوان نشأة وتنامي النسوية — نشأت فلسفة العلم كامتداد لسؤال الإبستمولوجيا العريق حول المعرفة وطبيعتها وحدودها … إلخ، فأصبح سؤال الإبستمولوجيا المتمثل في فلسفة العلم هو السؤال حول عوامل هذا النجاح وحيثياته ومبرراته. وكانت الإجابة في المنهج التجريبي الذي هو منطق التفاعل بين العقل والحواس، أو بين النظرية والمعطيات التجريبية. هكذا اقتصرت فلسفة العلم على النظرة إلى العلم من الداخل، لتتمثل فقط في منهجه ومنطقه.

تجسَّد هذا في النزعة الاستقرائية inductivism التي سادت وعلا نجم فيلسوفها الشهير جون ستيوارت مل — نصير النسوية الكبير. إن النزعة الاستقرائية تعني النزعة الوضعية كتفسير مكتمل لظاهرة العلم، إنها تنظر إلى النسق العلمي من الداخل بوصفه نسقًا واحدًا ووحيدًا، هو فاعلية تخصصية مستقلة محكومة فقط بالأدوات والإبستمولوجية كاللغة الرياضية والملاحظة والتجربة ودقة التنبؤ والتفسير … ويغدو تاريخ العلم وأبعاده الاجتماعية والحضارية والقيمية، غير ذات صلة بالموضوع.
في القرن العشرين توطد هذا بفعل هيلمان الوضعية المنطقية Logical Positivism، وليس فينا من يُنكر دورها في توطيد أسس فلسفة العلم، لكنها كانت فلسفة علمية تجريبية متطرفة، قصرت فلسفة العلم والفلسفة بأسرها على محض تحليلات منطقية للقضايا العلمية، مجرِّدين الفلسفة من آفاقها الرحيبة وأبعادها العلمية، وشنُّوا حملةً شعواء على ربيبة الفلسفة المدللة: الميتافيزيقا. فقد نزعت الوضعية إلى تجريبية مطلقة لا ترتبط بسواها، ونسق علمي فوق هامات الأنساق الأخرى، بل وعلى أشلائها، لا سيِّما أشلاء الميتافيزيقا. وأمعنت في تنزيه فلسفة العلم من التفسيرات الاجتماعية والتاريخية والقيمية، ورأت العناية بهذه التفسيرات قد تكون انشغالًا بالعلم، ولكنها تخرج عن إطار فلسفته التي تتحدد فقط بالمعايير المنطقية. وفلسفة العلم في كل هذا تكون أقوى تمثيل لمثل الحداثة والتنوير.
وكان كارل بوبر K. Popper (١٩٠٢–١٩٩٤) أهم فلاسفة العلم في النصف الثاني من القرن العشرين، نقل فلسفة العلم من منطق التبرير إلى منطق الكشف والتقدم، وحمل بوبر لواء العصيان والنقد الحاد للوضعية المنطقية وفتح الطريق للخروج من غلوائها، مؤكِّدًا أن فلسفة العلم ليست محض تحليلات منطقية، بل هي فلسفة الفعالية الحية والهم المعرفي للإنسان، الميتافيزيقا أفقها الرحيب الذي يلهم بالفروض الخصيبة. العلم أكثر حيوية وإنسانية من أيِّ منشط آخر، قضاياه قابلة دومًا للتكذيب والتعديل والتطوير، يلعب الخيال الخلَّاق والعبقرية المبدعة دورًا أساسيًّا في رسم قصة العلم المثيرة التي علمت الإنسان المعنى الحقيقي للتقدم. والتقدم العلمي لا تفسره إلَّا الثورة، بمعنى التغير الجذري لبدء دورة معرفية جديدة. وعلى الرغم من أن بوبر فسر هذا التقدم/الثورة فقط بقابلية العلم للاختبار التجريبي والتكذيب؛ أي ما زال مقتصرًا على النظرة إلى العلم من الداخل وما زال حاملًا لمُثُل التنوير، إلا أنه فتح الطريق لإمكانية الخروج منها.
فقد التقط توماس كون T. Kuhn (١٩٢٢–١٩٩٦) أيقونة الثورة من كارل بوبر، وأقام تفسيره لتاريخ العلم على أساس من مفهوم الثورة التي هي انتقال من براديم أو نموذج قياسي إرشادي Paradigm إلى آخر … وذلك في كتابه الشهير «بنية الثورات العلمية» (١٩٦٢م) الذي يُعَدُّ بمثابة الإعلان الصريح للربط الوثيق بين فلسفة العلم وتاريخه. يعني هذا أن العلم ليس نسقًا واحدًا ووحيدًا، فهو ظاهرة اجتماعية متغيرة عبر التاريخ الإنساني، وتتدخل في هذا العوامل الخارجية الثقافية والحضارية والأيديولوجية؛ لأن العلم ذاته لا ينفصل عن أيديولوجيا خاصة به. وكان هذا خروجًا من أُطُر المثال الحداثي التنويري، مثال نسق العلم الواحد والوحيد وإلغاء التعددية الثقافية في عالمه؛ وبالتالي كان مقدمة ضرورية لفلسفة العلم النسوية التي هي شديدة الامتنان له، حتى عُدَّت فلسفة كونية؛ أي لا تفهم إلا في إطار الطريق الذي شقَّه توماس كون. إنهن يقسمن فلسفة العلم بأسرها إلى ما قبل كُون، وفلسفة العلم بعد كُون، مصطلح ما بعد الكُونية Post-Kuhnian أساسي في فلسفة العلم النسوية، من حيث كانت مصطلحات ما بعد التنويرية وما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية أساسية في الفلسفة النسوية بعامة.
تكفل بتوطيد الربط بين تاريخ العلم وفلسفته أخلص تلاميذ بوبر، الفيلسوف المجري إيمري لاكاتوش I. Lakatos (١٩٢٢–١٩٧٤) وصاغ المبدأ النافذ: فلسفة العلم بدون تاريخه خواء، وتاريخ العلم بدون فلسفته عماء. ثُمَّ يأتي رفيقه بول فييرآبند P. Feyerabend (١٩٢٤–١٩٩٤) ليبرز أهمية النظريات القابعة في تاريخ العلم وقدرتها على إخصاب الواقع العلمي الراهن، ويتكرس لتأكيد التعددية المنهجية، وتأكيد النسبوية Relativism، واللامقايسة  incommensurability بمعنى عدم قابلية النظريات العلمية المتتالية للمقارنة والخضوع للمعايير نفسها والحكم عليها بالمقاييس نفسها، كل نظرية لها دورها ومكانها في تاريخ العلم، والحكم عليها ليس البتة في إطار قيمتي الصدق والكذب، بل يجب أن يكون بالنسبة لسياقها، لظروفها وتحدياتها؛ لأن النظرية العلمية في جوهرها محض طريقة للنظر إلى العالم، توضع بجوار طرق أخرى. وبالتالي نادى فييرآبند — أجرأ نقاد العلم الغربي — بأن يكون العلم شكلًا من أشكال عديدة للمعرفة يتَّسع لها جميعًا المجتمع الديمقراطي الحر. يؤكد أن العلم ليس نظامًا مُقدَّسًا يستلزم الكفر بما خالفه. وحارب بضراوة شوفونية الروح العلمية والمعرفة العلمية، حين تنفي ما عداها من صنوف المعرفة. ورأى مثل هذا محض ذريعة استعمارية لأسطورة الغرب المتفوق، الغرب المعيار، وقهر الحضارات الأخرى باسم العلم. وسنجد فلسفة العلم النسوية أكثر تأكيدًا وتوظيفًا لهذه التعددية المنهجية واللامقايسة والنسبوية، وأشد ضراوة في حربها لاستبدادية العلم.
بفضل هذا الرباعي الإبستمولوجي، أبرز ممثلي عصر ما بعد الوضعية المنطقية، وآخرين من تلاميذهم وأشياعهم، تم التلاحم أخيرًا بين فلسفة العلم وتاريخه، وأصبحت فلسفة إنسانية حية خفَّاقة، وليست مجرد تحليلات منطقية، لا تستغني طبعًا عن صرامة المنطق، لكن لا تكتفي به، فتستوعبه وتتجاوزه، لتصبح شاملة للموقف الإنساني أكثر من أية فلسفة أخرى. إن التحامها بتاريخ العلم جعلها تنظر للعلم من الداخل وأيضًا من الخارج، من حيث هو ظاهرة إنسانية تنشأ في إطار الحضارة والسياق الثقافي العام. العلم لا يهبط من السماء ولا يحلق في الفراغ، بل يفلح أرضًا مهدتها الحضارة التي أنجبته، ليلبي احتياجاتها ويجيب عن الأسئلة التي تثيرها. وهكذا لا تنفصل فلسفة العلم عن الأبعاد الاجتماعية للظاهرة العلمية، وبالتالي سيكولوجية الإبداع العلمي، قيم البحث والإبداع وقيم المجتمع العلمي … الكائنة وما ينبغي أن يكون، علاقة العلم بالأُطُر الأيديولوجية والأنظمة السياسية، اقتصاديات العلم والدراسة المقارنة للمؤسسات العلمية، والأسس التخطيطية لنشأتها وأهدافها٨١

هكذا لم تَعُد فلسفة العلم في مرحلتها بعد الوضعية، كما كانت في مرحلتها الوضعية، أي لم تعد معنية فقط أو أساسًا بتحليل مفاهيم التجربة والفرضية والتفسير والسببية والقانون والبينة والصدق والوصف والتنبؤ والتقدم العلمي وحدود التفسير العلمي … إنه الأفق التاريخي، وبالتالي الحضاري والاجتماعي والإنساني الشامل الذي انفتح أمام فلسفة العلم حتى كادت تتلاحم مع سوسيولوجيا العلم، وهو الذي فتح الباب على مصراعيه أمام الفلسفة النسوية للعلم، للنظر إلى العلم كإحدى بنيات المجتمع البطريركي، وبالتالي نقد الذكورية السائدة فيه. وفي هذا بدا العلم الحديث أكثر من أية بنية أخرى استحقاقًا للمعالجة النسوية.

(١٢) العلم يفصح عن ذكوريته

ولأن العلم الحديث أمضى مؤسسات الحضارة الغربية، كان من أسهل الأمور إثبات أنه — سواء كبنية ثقافية أو كطريقة لاكتساب المعرفة — محكوم بالمركزية الذكورية، وأن القيم الذكورية لم تحدد العلم فحسب، بل حرصت على استبعاد الأنثوية تمامًا منه واعتبارها نقيضة العلم وضد العلم ولا علم. في العام ١٦٢٢م تأسَّست في لندن أول جمعية علمية، تجسد روح العلم الحديث، الجمعية الملكية للعلوم، لتمثل منتدى يجتمع فيه العلماء لمناقشة وفحص النظريات والكشوف. و«كتب هنري أولدنبرج H. Oldenberg، أول سكرتير للجمعية ومحرر أول مجلة علمية، يقول إن مهمة الجمعية هي الرفع من شأن الفلسفة الذكورية، أو فلسفة الرجولة … حيث يمكن أن نرتقي بعقل الرجل عن طريق معرفة الحقائق الثابتة. وبصميم التعريف الذي وضعوه لأنفسهم، لم يكن للنسوية دور في الجمعية. وبالفعل سفَّه العلماء الإنجليز منافسيهم الفرنسيين بأن أطلقوا عليهم لقب «المتأنثين»، وهاجم فرنسيس بيكون الفلسفة الأرسطية بأنها سلبية وضعيفة وأنثوية.»٨٢
إن فرنسيس بيكون F. Bacon (١٥٦١–١٦٢٧) هو داعية المنهج التجريبي حتى يُعَدُّ كتابه الشهير «الأورجانون الجديد Novum Organon» (١٦٢٠م) بمثابة مانفستو حركة العلم الحديث. في الفقرة الأولى منه يعبر بيكون عن هذه الذكورية إذ يقول إن الطبيعة هي المملكة الكبرى للمعرفة البشرية التي يستطيع الإنسان غزوها والسيطرة عليها عن طريق التجريب.٨٣ إنه بمثابة الأب الروحي للعلم الحديث، تنقش مكتبة الكونجرس الأمريكي — أكبر مكتبة في العالم — اسمه أعلى إحدى بواباتها المذهبة، بوصفه واحدًا من الذين قادوا البشرية إلى العصر الحديث بعبارته الشهيرة التي تصوغ روح العلم التجريبي الحديث: «العلم قوة» ليس تفهُّمًا أو انفتاحًا أو أي شيء آخر سوى القوة كأبرز تجسيد للروح الذكورية. ودافع بحماس مشبوب عن «الفلسفة التجريبية الجديدة تدشينًا للميلاد الحقيقي للعصر الذكوري، لكي يقود الرجال إلى الطبيعة بسائر بنيها وقد أصبحت ملزمة بخدمتكم وبأن تكون جارية لكم … قهرها وإخضاعها، من أجل زلزلة أركانها. وبينما كان العلم في العصر الوسيط يكد من أجل محض الاسترشاد بمسار الطبيعة، استحث بيكون الباحثين على استخدام منهجه لاكتشاف الأسرار التي لا تزال مستغلقة في أحضان الطبيعة، لاقتحامها أكثر وأكثر، … لشق الطريق إلى خزائنها المكنونة، … لمهاجمة واحتلال قلاعها وحصونها، وتوسيع حدود إمبراطورية الإنسان.»٨٤
وعلى الرغم من أن بيكون بذل ما لم يبذله مفكر آخر في صياغة وبلورة مقولة «السيطرة على الطبيعة»،٨٥ ودشن عصرها، فإنه ليس مبتدع الفكرة، ولا هي نشأت في عصر النهضة وما تلاه، بل هي متغلغلة في التراث الغربي تغلغل المركزية الذكورية فيه. بُذلت محاولات لتتبع جينالوجيا فكرة السيطرة على الطبيعة منذ تقاليد العهد القديم التي تصور الإنسان سيد الكون. وثمة عناصر منها في السحر والسيمياء والكوزمولوجيا القديمة. ومنذ فجر الفلسفة الإغريقية، آمن فيثاغورث بأن الأرقام مفاتيح لفك أسرار الطبيعة … لكن العلم الحديث هو الذي تكفل بتحقيقها بنجاح خفاق، بلغ أوجه في الميكنة والتصنيع، ناهيك عن الثورة التكنولوجية الراهنة.٨٦

العلم يدرس الطبيعة لا ليفهمها من أجل العيش معها في وئام، بل من أجل غزوها وإخضاعها واستغلالها لسعادة الإنسان، يستجوبها ويأمرها بأن تطيع قوانينها. القوة والقهر والهيمنة والسيطرة على الطبيعة هما التمثيل العيني للقيم الذكورية التي سادت العلم الحديث، فأدَّت إلى الكارثة البيئية والكوارث الاستعمارية. إنها القيم التي قامت فلسفة العلم النسوية لمواجهتها، عن طريق إبستمولوجيا وميثودولوجيا نسوية.

(١٣) الإبستمولوجيا النسوية

بدايةً نلاحظ أن الإبستمولوجيا (نظرية المعرفة) قبل أن تكون معقل فلسفة العلوم (نظرية المعرفة العلمية) هي أحد الفروع الثلاثة الأساسية للفلسفة (المعرفة، الوجود، القيمة). والإبستمولوجيا النسوية تبحث هي الأخرى أسئلة الإبستمولوجيا الأساسية؛ أي شروط المعرفة ومصادرها ومعاييرها ومناهجها، وموقف العارف في العملية المعرفية، وتضيف إليها تأثير أو دور الجَنْوسة في عملية المعرفة.

كان من الضروري أن تُعنَى النسوية بتحليل الخبرات المعرفية الخاصة بالنساء، وبتفسير أعمق لدورهن المتقلص في ماضي المعرفة الإنسانية والإمكانيات التي يحملنها، فأصبحت الإبستمولوجيا محورًا من محاور النسوية الجديدة. لم تَعُد محض موضوع منطقي تخصصي، بل أصبحت استراتيجية شاملة لتحقيق الأهداف العينية، التأسيس النظري للمعرفة أداة فعَّالة في يد النسوية تتكامل مع ممارساتها في تحليل أسباب وبنيات وآليات القهر الاجتماعي للمرأة وتهميش دورها، وتوحد من دعاوى مشروع التحرير. لقد اكتسبت الإبستمولوجيا النسوية أهمية متزايدة في أطروحاتهن.

وتتميز الإبستمولوجيا النسوية بدور محوري لمقولة الذاتية التي تلعب دائمًا دورًا في النسوية، منذ كتاب ماري ولستونكرفت التي أشارت إلى أن الذاتية ذريعة الرجل لحجب المرأة عن الحياة العامة والحياة السياسية.

وتستفيد الفلسفة النسوية الجديدة من تحولات ما بعد الحداثة في النظر إلى الذات العارفة، من حيث إن لها الدور المحوري في عملية المعرفة، لكن أساسًا بوصفها موقعًا لاستقبال المعنى وليس مصدرًا له.٨٧ واستفادت من إعادة طرح وتقنين هذا المفهوم في الفلسفات المعاصرة مع هيدجر والفينومينولوجيا والبنيوية والتفكيكية … عن طريق المناهج التفكيكية عملت النسوية على تفكيك الدور الحقيقي للذاتية في الفلسفة الغربية التقليدية، الدور اللاشرعي والمسكوت عنه، وأوضحت جوانا هودج أن الذاتية — الذكورية بالطبع — كامنة في فصل ديكارت للوعي العقلاني عن الجسد، ليرتبط الأوَّل بالذكر والثاني بالأنثى. يمكن أن نجد مثل هذا أيضًا في ميتافيزيقا أرسطو. هكذا تحاول النسوية الكشف عن أن الموضوعية الغربية كانت مزيفة إلى حد ما. وإذا نظرنا إلى الذاتية في توظيفها السياسي، في عقر دارها، أي في النزعة الفردية، نجد مفهوم الجَنْوسة قادرًا على أن يُلقي ضوءًا على هذا الزيف الذي يجعل الطرح التقليدي للذاتية قد جرى توظيفه من أجل دمقرطة حقوق الرجل.٨٨

ميزت النسوية بين الذاتية كمفهوم أنطولوجي وبينها كمفهوم إبستمولوجي، خصوصًا في الإبستمولوجيا التجريبية حيث قام البعض أمثال هيوم بتطويرها في دورها الإبستمولوجي وتجاهل تمامًا دلالتها الأنطولوجية؛ التي تُعنَى بها النسوية الجديدة كثيرًا، في سياق التأكيد على التمايز بين الذات المذكرة والذات المؤنثة. وبهذا تنتهي إلى أن الموقف المعرفي لذات الأنثى ليس تمامًا الموقف المعرفي لذات الذكر.

من هنا كان أحد المعالم البارزة للفلسفة النسوية ميلاد الإبستمولوجيا النسوية الصريحة مع مقال نشرته لورين كود L. Code في مجلة ما وراء الفلسفة (العدد ١٢ يوليو–أكتوبر ١٩٨١م) تطرح فيه السؤال: هل جنس العارف مهم من الناحية الإبستمولوجية؟ الإجابة التقليدية هي النفي القاطع، لكن كود تتقدم بإجابة نسوية مختلفة تمامًا تملك حيثياتها ومبرراتها. ثُمَّ أكَّدت كود أن العارف مسئول عما يعرفه، وأهم ما تختلف فيه الخبرة المعرفية للمرأة هو ربط المعرفة بالأخلاق. المعرفة طريق لاتخاذ القرار: ماذا سنفعل؟ وبالتالي بحثت الأبعاد الأخلاقية للموقف الإبستمولوجي والمسئولية الإبستمولوجية. تستفيد من الكانطية في رؤية المعرفة كعملية فعَّالة تقوم على اكتساب الخبرة وتشييدها. على أن العملية المعرفية من المنظور النسوي تؤدي إلى الحرية والمسئولية والفضائل المتصلة بالإخلاص والتواضع والشجاعة. الأفكار النمطية عن الرجل والمرأة تعوق هذه العملية الإيجابية؛ لأنها تصب المرأة في قالب ينكر عليها المسئولية الفعَّالة.٨٩ وحين الانتقال إلى الإبستمولوجيا العلمية، سوف يتمثَّل هذا في عناية الميثودولوجيا النسوية بالقيم وأخلاقيات العلم.
فجَّرت كود ثورة تأجَّجت بكتاب الفيلسوفة الأسترالية جنفييف للويد G. Lloyd (١٩٤١م–…) «رجل العقل: الذكر والأنثى في الفلسفة الغربية» (١٩٨٤م)، حيث تتبعت تطور مفهوم العقل، منذ أرسطو حتى سيمون دي بوفوار، لتبيِّن أنه برغم كل التغيرات التي لحقت بالمفهوم ظل محكومًا بالانحياز الذكوري. وهذه محصلة طبيعية؛ لأن الرجال استأثروا بالفلسفة طوال تاريخها، والفلسفة بدورها تنشأ عن الخبرة الحية؛ لذلك عكست خبرة ذكورية خالصة.٩٠ أبانت جنفييف للويد كيف قام مفهوم العقل على أساس مناقضة كل ما هو نسوي والقيم والتوجهات الأنثوية. بدأ هذا من جدول المتقابلات الفيثاغورية المطروح في كتاب الميتافيزيقا لأرسطو، فكانت الذكورة والأنوثة واحدة من عشر متقابلات لكنها تضوي تحت لوائها كل المتقابلات الأخرى. لقد عملت الفلسفة منذ عصرها الإغريقي على البحث عن مبدأ ميتافيزيقي يفصل الذكورة الإيجابية عن الأنوثة السلبية. تصب الفلسفة النسوية جام نقدها على مفهوم الفلسفة الغربية التقليدي الذي يجعل العاطفة سلبًا. النسويات يسلمن ويؤكدن أن المرأة أكثر عاطفية من الرجل، لكن هذا هو مكمن قوتها وخصوبة أطروحاتها. يقدمن تصوُّرًا جديدًا للعقل ينقد التصور الديكارتي، يقدِّمن عقلًا يلعب فيه الشعور دورًا أكبر. إن الشعور مصدر من مصادر الفهم، وبالمثل نتيجة من نواتج الفهم، إنه يتوشج في العملية المعرفية من رأسها إلى أخمص قدميها.
ينطبق هذا على الإبستمولوجيا العلمية، فاهتمت النسوية — كما ذكرنا — بتأثير أنوثة العالمات على إنجازاتهن العلمية. أبرز مثال هو بربارة ماك كلينتوك الحاصلة على جائزة نوبل لأبحاثها في جينات نبات الذرة وخرج كتاب إيفلين فوكس كيلر عنها ليبرز هذا، وكيف أنها كانت تشعر بأن الكروموسومات أصدقاء لها. قامت كيلر بتحليل مفهوم الموضوعية السائد، وكيف يُشكِّل لغة العلم وأسلوب التعبيرات العلمية. لكنها لم تكن تبحث عن إبستمولوجيا علمية نسوية، بل عن إبستمولوجيا علمية متحررة من الجَنْوسة ومن انفراد الذكورية بالميدان. توقفت عند تأكيد ماك كلينتوك على «الإنصات» لما تقوله الطبيعة، ورأت فيه منهجية حوارية تقوم على ارتباط شعوري عميق بموضوع البحث، لا يرتبط الجنس الملاحظ. بَيْدَ أنَّ التحيز الذكوري السائد في العلم هو الذي اصطنع قسمة جائرة بين العمل العاطفي والعمل العقلي، سُمَّيَت جورًا وبهتانًا بالموضوعية العلمية. هكذا تكشف كيلر عن التحيزات الذكورية للعلم التي تفسده وتشوه طبيعته وتعرقل خطاه التي ينبغي أن تتسارع أكثر وأكثر.٩١ نذكر أيضًا هيلاري روز H. Rose (١٩٣٥م–؟) وهي عالمة اجتماع نسوية عُنِيت بخصائص دور المرأة في إنتاج المعرفة العلمية، وعلى هذا الأساس بحثت مفهوم الموضوعية والعقلانية في النظرية والممارسة العلميتين، ودانت بين العالمات والأديبات، حرصًا من النسوية العلمية على استلهام بعض خصائص الأدب تخليصًا للعلم من جفافه، وتخلُّصًا من الفوارق القاطعة بين المناشط العقلية وسائر التصنيفات القاطعة، وذلك في كتابها «الحب والقوة والمعرفة: نحو انقلابة نسوية في العلم» (١٩٩٤م).
ولا يغيبن عن البال أن العلم الطبيعي قد انهار فيه المطلق النيوتوني، وتخلَّت فلسفة العلم تمامًا عن الموضوعية المُطلقة المستقلة عن أية ذات عارفة، والتي اقترنت بالعلم في مرحلة الكلاسيكية واستمرَّت حتى العام ١٩٠٠م. مع القرن العشرين، الذي شهدت مطالعه ثورة النسبية والكوانتم، ظهرت الإبستمولوجيا العلمية المحدثة وقد اتخذت الموضوعية فيها صورة البين-ذاتية Intedrsubjectivity، الموضوعي هو المشترك بين الذوات العارفة، ولا انفصال عنها أو استبعاد تام لها، وكأنها محض مراقب سلبي يراقب العالم من وراء ستار. ومع مبدأ اللا تعين لهيزنبرج عاد موقع الذات العارفة كمتغير أساسي في معادلة الطبيعة. لقد تبخَّرت تمامًا الموضوعية المطلقة وعادت الذات العارفة بسرعتها وأدواتها وموقعها للرصد، لتحتل وضعها في منظومة المعرفة العلمية.٩٢

استمسكت النسوية بهذا الخيط، وأوْلَت مقولة الذاتية دورها في الإبستمولوجيا العلمية النسوية، مستفيدةً أيضًا من كواين الذي رأى أن يُترَك «الموضوع» للعلم، وتُعنى الإبستمولوجيا أساسًا بالموقع الفريد «للذات» في عملية المعرفة. وتخطو خطوة أبعد بحكم منزعها الواقعي السوسيولوجي، فتؤكد ساندرا هاردنج — ببحثها الدائم عن تطوير مفهوم الموضوعية العلمية وليس البتة الإطاحة به — أنه مثلما تتوشج المعرفة التجريبية بكافة مقاييسها ومستوياتها بمفهوم الذات، فإن جنس الذات يقوم بدور محوري في المستويات التطبيقية للمعرفة العلمية، فهو هكذا في شركات السجائر أو في المعهد القومي للصحة أو في مراكز أبحاث التكنولوجيا الحيوية. بعبارة أخرى، الذات توجد في العالم على المستوى المعرفي النظري وعلى المستوى التطبيقي الواقعي، وعلى المستوى الاجتماعي السوسيولوجي، تمامًا كما أن الموضوع في العلم يوجد على هذه المستويات الثلاثة جميعًا.

ولما كانت الإبستمولوجيا تُعنَى أساسًا بالمستوى المعرفي النظري، فإن المرمى الأساسي للإبستمولوجيا العلمية النسوية هو اجتثاث فلول تصور نيوتن الحتمي الميكانيكي للكون الذي ساد العلم الكلاسيكي حتى مطالع القرن العشرين، وتسرف فينقد أساسه الوضعي البائد للواقع الموضوعي المستقل المنفصل عن الملاحظ الذي يتم اكتشافه وتكميمه، تأكيدًا لقطع دابر أية عناصر قيمية أو ذاتية. النسوية أكثر من سواها حماسًا لاستيعاب الإبستمولوجيا التي تخلَّقت في القرن العشرين، إبستمولوجيا الكوانتم والنسبية اللاحتمية، ودلالات مبدأ اللاتعين ونظرية الشواش Chaos والجبر اللاخطي والمنطق الغائم Fuzzy Logic … بهذا التمثل لمستجدات الساحة العلمية تعمل الإبستمولوجيا العلمية النسوية على الخروج من الفيزياء كبراديم (نموذج قياسي إرشادي) للعلم بأسره. وبصرف النظر عن النسوية، نلاحظ أن هذا بدأ يفرض نفسه في القرن الحادي والعشرين وتسود بدائل أخرى كبراديم للمعرفة العلمية، تدور حول منظومة ثلاثية متحاورة من البيولوجيا والشفرة الوراثية، ثُمَّ علم اللغة العام وتكنولوجيا المعلومات.

(١٤) الميثودولوجيا النسوية

إذ تؤكد الإبستمولوجيا النسوية على الذاتية، تأتي الميثودولوجيا النسوية للتحدث — كما فعلت ليندا جين شيفرد — عن بحث يدفعه الحب، وبدلًا من تنحية الذات بعيدًا عن العلم يمكن استغلال الذات كأداة للفهم، «ويغدو كل من التفكير والشعور، الموضوع والذات حليفين في عملية تعقب المعرفة.»٩٣ وتتحدَّث ميثودولوجيات نسويات متطرفات أمثال ليز ستانلي L. Stanely  وسو وايز S. Wise عن مناهج للعلم تتيح إبراز الخبرة الشخصية للنساء، وذلك بألَّا يخضعن لأية تحيزات وضعية سابقة. إن العالِم ليس مجرد عقل يلاحظ ويفكر ويدين تباشران التجريب، مثلما تصوره الميثودولوجيا المعهودة التي تقوم على أساس أن عماد المنهج العلمي شقان هما؛ الفرض والملاحظة، أو النظرية والتجربة، أو العقل والحواس … اليد والدماغ. العالِم أكثر ثراءً من الإنسان العادي، وهو يدخل المختبر بمجامع نفسه. الميثودولوجيا التقليدية تركز على العقل والحواس، وقد تضيف الخيال والحدس. لكن ماذا عن الشعور والإحساس والعاطفة والوجد والانفعال والتذوق والاستمتاع والمعايشة والعلاقات مع الزملاء ومع المؤسسة العلمية … النسوية ترى أن يؤخذ كل هذا أيضًا في الاعتبار إذا رُمنا تفسيرًا متكاملًا للمنهج العلمي.
تتفق الميثودولوجيا النسوية على تعددية المناهج العلمية المأخوذة من بول فيير آبند، وفقًا للسياقات وموضوع البحث وأيضًا الباحثين. وبشكلٍ عامٍّ تُحبذ الميثودولوجيا النسوية النظرة المحدثة للمنهج العلمي التي ترى أسبقية الفرض على الملاحظة، وبالتالي خلق الفرض العلمي خلقًا أو إبداعه إبداعًا وليس مجرد تعميم الوقائع المستقرأة من الواقع الموضوعي. لكنها تتحدَّث عن طريقٍ مختلفٍ يقوم على الإنصات إلى الطبيعة كصديق يحكي لك عن نفسه كزهرة تتفتح أمامك، ومع الإنصات والتلقي يغدو العلم حوارًا مع الطبيعة بدلًا من أن يكون محكمة تفتيش.٩٤

وإذا عدنا إلى دأب النسوية المبدئي على تقويض كل تراتب هرمي، وجدنا الميثودولوجيا النسوية أميل لتقدير الملاحظة بدلًا من اعتبارها أدنى من التجربة. وبالتالي يدافعن عن دور سيبقى دائمًا في المنظومة العلمية للعلوم الوصفية، بدلًا من الهجوم عليها بوصفها أدنى قيمةً من العلوم التفسيرية أو البحتة.

وإذا كان سؤال الميثودولوجيا التقليدي عن الإجراءات التي نتبعها لاكتساب المعرفة العلمية، فإن الميثودولوجيا النسوية تغوص في أعماق هذه الإجراءات على مستوى الممارسة العلمية الفعلية الحية التي يركزن عليها تركيزًا شديدًا. يكشفن عن التحيز الذكوري الشائع في الممارسات العلمية بوصفه معايير مطلقة، يبدو في جزئيات وبسائط قد لا تتبدَّى للنظرة العابرة، من قبيل تصميم مشروع البحث ليصل إلى نتائج تؤكد الهيمنة الذكورية، أو قصر عينات البحث في الظواهر الإيجابية على الذكورة وفي الظواهر السلبية يتجه البحث أساسًا إلى الإناث، فضلًا عن الغبن الذي تتعرض له المرأة العالمة. وعلى الرغم من أن دورها أصبح بارزًا في العلوم البيولوجية وأيضًا الحاسب الآلي، إلَّا أن المناصب الرفيعة والتوجه العام ما زال محكومًا بالذكورية. والرجال يملكون المناصب وسلطة تخطيط الأبحاث وإجازة المنح الدراسية … إلخ، وإذ تكشف الميثودولوجيا النسوية عن هذا، فإنها لا تهدف فقط إلى إنصاف المرأة، بل إلى تغيير أعمق في استراتيجيات البحث العلمي تمهيدًا لتغيير الفلسفة الكامنة خلفها. الميثودولوجيا لديهن ليست قواعد منهجية بقدر ما هي واقع حي، واقع الممارسات العلمية التي تحدث داخل جدران المختبرات، التنظيمات الاجتماعية للعلم وأسلوب توزيع السلطة في المجتمع العلمي، المنح والجوائز والمناصب العلمية، والعلاقات بين الباحثين … على اعتبار أن كل هذا في نهاية الأمر يُسهم في تشكيل النظرية العلمية.

وهكذا ينفسح المجال لمعالجة تُبرز قيمة مقولة سبق أن نوَّه بها فيير آبند، وهي السياقية Contextualism الأساسية في فلسفة العلم النسوية، والتي تعني أن «أي تفسير أو تأويل أو معرفة إنما يحدث دائمًا داخل إطار معين أو سياق معين، مما يرتبط بالنسبوية ورفض المطلقية. هذا ما تراه النسوية مع سائر قرائنها من فلسفات ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية»،٩٥ والسياقية ترتبط بمقولة أخرى أيضًا أساسية لديهن وهي المنظورية Perspectivism؛ أي أن المعرفة لا تكون إلَّا في إطار سياق معين ومن منظور معين. وهذا بدوره قد يحمل شيئًا من المغالاة، لكن لا يفترق كثيرًا عن الاتجاه المعاصر في الميثودولوجيا العلمية بشكل عام، التي باتت تنكر أن تكون المعرفة وصفًا دقيقًا للعالم وتنكر إمكانية وجود نظرة عامة شاملة للواقع، تفصل الذات العارفة عن موضوع المعرفة تمامًا، بحيث يمكن دائمًا إعادة المعرفة والتحقق منها بصرف النظر عن موقع الذات العارفة وسرعاتها وأدواتها للرصد … كما كانت تزعم النظرة الميكانيكية الحتمية وأكدتها الاستقرائية قبل ثورة النسبية والكوانتم في القرن العشرين.
إنهنَّ يبحثن عن الكيفيات والخصائص والحالات الفردية والوقائع المتعينة، لإعادة الاعتبار للمناهج الكيفية حتى لا ينفرد المنهج التكميمي والمعدلات الإحصائية بالميدان. يبحثن أيضًا عن العلاقات بين الباحثين التي تقوم على رفض السلطة والتراتب الهرمي، سواء بين العلماء أو بين المؤسسات العلمية أو بين فروع العلم، ينزعن إلى نسائج من التفاعلات وتعاون بين الباحثين يقوم على الاحترام المتبادل والعمل في انسجام، بدلًا من التنافس المحموم. وفي هذا يعلين من قيمة التزامل collaboration واستراتيجيات الأبحاث المُصممة بحيث يشترك فيها أكثر من باحث. إن التزامل يشجع التشارك في اتخاذ القرار، ويخلق مجتمعًا متعاونًا بلا تراتب هرمي، كما يرمن دائمًا.٩٦ والنظرة إلى العلم من أعلى يمكن أن يحل محلها نظرة إلى العلم من أسفل. وفي مقابل العجلة وسرعة الإنجاز وأسبقية الكشف والنشر، يدعو بعضهن إلى قيمة أنثوية حميمة هي التعهد والرعاية والمقاربة طويلة المدى، التي تكشف عما لا يكشف عنه عشرات البحوث العجلى. ومن إيجابياتهن اللافتة أيضًا عنايتهن بأساليب تدريس العلوم وكيفية جعل العلم جذابًا للطلبة والطالبات خصوصًا،٩٧ واجتذاب الهواة، وإدخال العلم في نسيج الثقافة العامة، فلا يكون كهنوتًا مقصورًا على الصفوة.
هكذا تحمل الميثودولوجيا النسوية نظرة تطبيعية Naturalistic تربطها بوقائع الحياة اليومية وخبراتها العامة، على أن ارتباطها الأعظم بالقيمة. يستخدمن حجة كواين القائلة إن الملاحظات محمَّلة بالنظرية، والنظرية محملة بالنموذج الإرشادي، والنموذج الإرشادي محمل بالثقافة السائدة، وبالتالي لا يمكن أن يكون ثمة شيء من قبيل الوقائع الطبيعية المتحررة من القيم.٩٨ ولئن كانت لورين كود هي التي شقَّت طريق الإبستمولوجيا النسوية أصلًا، فقد رأينا كيف عقدت الصلة بينها وبين الأخلاق، ودافعت هيلاري روز باسم النسوية عن فكرة العلم المسئول. وبحثت آن زيلر عن إبستمولوجيا أكثر ديمقراطية، حيث المسئولية تجاه الآخرين والعلاقة مع الآخرين، ليست مجرد فرعًا من فروع الفلسفة، بل أساسًا من أسسها المنهجية.٩٩ وذهبت ساندرا هاردنج إلى ما أبعد من العلم المسئول، إلى أن القيم الاجتماعية لا بدَّ أن تُساهمَ في صياغة المشاكل العلمية والإبستمولوجية؛ لأن العلم يُستغَل لتحقيق أهداف اجتماعية، وأن «التحرر من القيم لا يجعل العلم موضوعيًّا أبدًا، بل كلما كان العلم محمَّلًا بالقيم كلما كان أكثر موضوعية.»١٠٠ وبالتالي صادرت على أن أهم أهداف فلسفة العلم النسوية إثبات أن كل معرفة علمية، وكل ممارسة علمية محملة بالقيم، وإنهاء الصورة الرديئة للعلم المجرد من القيم.

من هنا قيل إن الدور العظيم للميثودولوجيا النسوية يتمثل في عقد الصلة بين فلسفة العلم وفلسفة الأخلاق، والقضاء على الانفصال البائن الذي كان بينهما من قبل، خصوصًا في عهود الوضعية.

منذ البداية صادرنا على أن النسوية واقع وفكر، وأنها نظرية وتطبيقية. وتكشف الميثودولوجيا النسوية المعنية بواقع الممارسات وقيمها عن أنها فلسفة تطبيقية. ظهر مصطلح الفلسفة التطبيقية متزامنًا مع الموجة النسوية الثانية في الستينيات، ليتعامل مع الأخلاق الفعلية الممارَسة في واقع الحياة اليومية والمشكلات الاجتماعية العينية التي جرى العرف الفلسفي الأكاديمي على تجاوزها. وامتدت لتشمل أخلاقيات رجال المال والأعمال والعلاقات بين الدول ومتى تكون الحروب مشروعة ومتى تكون جريمة، وارتبطت بقضايا حقوق الإنسان والعنصرية وحقوق الضعفاء والمعاقين وحقوق الحيوان والبيئة. ومع ثورة العلوم البيولوجية والقضايا الشائكة المرتبطة بتطبيقاتها على الأجنة ونقل الأعضاء وما إليه، امتدت الفلسفة التطبيقية إلى الأخلاقيات البيولوجية، ومن قبل ومن بعد «أخلاقيات العلم.»١٠١ وعلى هذا تبدو فلسفة العلم النسوية فلسفة تطبيقية على الأصالة، على أن أهم تطبيقيات فلسفة العلم النسوية إنما هو الاشتباك العميق مع مشكلة البيئة.

(١٥) فلسفة العلم فلسفة للبيئة

نعود إلى العلم بقيمِهِ الذكورية التي مثَّلت أساسه الأيديولوجي، وأفصح عنها فرنسيس بيكون منذ مستهل مسيرة العلم الحديث في الغرب، وتمثَّلت في النظر إلى الطبيعة كآخَر وغزوها والسيطرة عليها، واستنزاف مواردها، مما أدَّى في النهاية إلى كارثة البيئة. معنى ذلك باختصار أن قهر المركزية الذكورية وتوازن المشروع العلمي بالقيم الأنثوية التي تقوم على عمق الارتباط بالآخر، وانبثاقة الحياة من المرأة والتعهد بها ورعايتها وتنميتها، يؤذن بطرح في صالح مشكلة البيئة. وهذا ما يؤكده التاريخ العتيق المهدر لصالح الرجل. فقد اكتشف الرجل القنص والحرب، واكتشفت المرأة الزراعة والرعي. اخترع الرجل الفأس والبلطة والسكين والخنجر والقوس والسهم والرمح، واخترعت المرأة القدور والأواني والأطباق والأقداح والموقد. صنع الرجل العجلة وصنعت المرأة الردهة والفراش والستائر …

لقد بدأ عصر البيئة بكتاب بالغ الخطورة، وهو «الربيع الصامت» (١٩٦٢م) الذي لفت الانتباه إلى الكوارث الناجمة عن الإفراط في استخدام المبيدات الحشرية وعن اتجاه المجتمع الصناعي عمومًا نحو العالم الطبيعي، وانقراض كائنات حية … إلخ، وهو من تأليف عالمة، وتعكس كتابتها الخصائص الأنثوية: روح الدهشة والإحساس بالجمال في عالم العلم الطبيعي، وأن الشعر قد يكون أحيانًا أصدق تعبيرًا عن محتوًى علمي١٠٢ … وعلى مستوى الواقع كان ثمة حادثة كبرى عام ١٩٧٨م ساهمت في لفت الأنظار لعصر البيئة، وهي اكتشاف أن قناة لاف القريبة من شلالات نياجرا باتت مسممة بعد إلقاء عشرين ألف طن من نفايات الكيماويات السامة فيها؛ مما جعل أكثر من مائة أسرة تهجر منازلها، وأيضًا كانت امرأة ربَّة بيت تُدعى لويز جبس Lois Gibbs هي التي اكتشفت هذه الكارثة البيئية.
هكذا تملك النسوية مبررات الزعم بأن مشكلة البيئة من خصوصياتها، وارتبطت بالحركة الخضراء والاتجاهات العديدة التي تهدف إلى الحفاظ على البيئة. ولما تعاظمت خطورة المشكلة البيئية، وباتت تنذر بهلاك أشكال الحياة، ظهر العام ١٩٧٤م «النسوية أو الموت»، وصيغ مُصطلح النسوية البيئية Ecofeminism ليُعبر عن العلاقة الحميمة بين الطرفين، إن الطبيعة أنثى والأنثى طبيعة.١٠٣ وما تعمل عليه فلسفة العلم النسوية من تقويض الذكورية التي جسَّدها بيكون واجتثاث فلول الميكانيكية وقهر الثنائيات ومنها ثنائية الإنسان والطبيعة، والإنصات إلى الطبيعة والانفتاح عليها … هو الكفيل برأب الصدع وإعادة التصالح مع البيئة.
ولما كان «العلم والرأسمالية التقيا في آليات السيطرة على الطبيعة»،١٠٤ وتمخض عن هذا الاستعمارية، فقد دعت بعض النسويات إلى مواصلة المسير برفض الرأسمالية والاستعمارية، فكلاهما استنزاف للموارد وتشويه للبيئة لا يعرف الرحمة، تعاظم بتطور التكنولوجيا.
وهذا ما تبينه عالمة الفيزياء الهندية فاندانا شيفا (١٩٥٢م–…) ساهمت في صياغة النسوية البيئية، وأوضحت التماثلات بين اختزالية العلم الغربي وبين التطور الرأسمالي، من حيث إن كلا الطرفين يشتركان في الاستغلال، العلم يستغل الطبيعة ويحيلها إلى طرف سلبي، والرأسمالية تستغل المرأة وتحيلها إلى طرف سلبي. وتعاظم هذا الاستغلال بطرفيه مع ثورة العلوم البيولوجية الراهنة وتكنولوجيات الإنجاب والتكنولوجيا الحيوية. أوضحت فاندانا كيف تغلغلت الإبستمولوجيا الاختزالية في التطور الرأسمالي الذي لا يُعنى إلا بالربح والفائدة السريعة، ويبخس قيمة المرأة وقيمة الطبيعة وقيمة شعوب العالم الثالث، ووصم الأطراف الثلاثة معًا بالضعف والحاجة إلى التطوير والتقدم. كان المجتمع الأمومي لا يزال يوجد في مواطن شتى من الثقافات البدائية، قضى عليه المد الاستعماري واستُبدل به المجتمع البطريركي؛ لأنه الشكل الذي اتخذته الحضارة الغربية الغازية، مثلما قضى على مساحات شاسعة من الغابات الأفريقية بزعم التحديث بالزراعة المُميكنة، وفرض أشكالًا أخرى من تكنولوجيات غير ملائمة وتنال من التوازن البيئي بغير داعٍ. ومن أجل إنقاذ البيئة، دافعت عن أنطولوجيا نسوية يترابط فيها المجتمع بالطبيعة، كمقابلة للأنطولوجيا الذكورية الغربية القائمة على الانفصال عن الطبيعة كآخَر، فكان ما كان من كوارث استعمارية وبيئية.١٠٥

إذن مربط الفرس حقًّا هو الرابطة بين السيطرة على النساء والسيطرة على الطبيعة الذي أدَّى إلى مشكلة البيئة، بحيث إن اقتلاع هذا الجذر — أي اقتلاع مركزية العقل الذكوري — هو تحرير المرأة من حيث هو الحفاظ على البيئة، وهو أيضًا تحرير شعوب العالم من نير الاستعمار والإمبريالية.

(١٦) فلسفة للعلم ضد الاستعمارية

ها هنا بيت القَصِيد، تتجمع كل الخطوط في البؤرة التي ربما كانت المبتدأ، إلا أننا آثرنا جعلها مسك الختام؛ لأنَّه لا يتسع المجال الآن لنقد وتقويم النسوية وفلسفتها للعلم، تعيين ما لها وما عليها، لكي يمكن توظيف إيجابياتها في خدمة الثقافة العربية وشحذ إمكانياتها المستقبلية، هذه خطوة ضرورية لاحقة بإذن الله.

وعوضًا عنها الآن نبرز أنَّ النسوية فلسفة ضد الاستعمار والإمبريالية؛ ويكفينا هذا ما دام تاريخنا العربي الحديث غلب عليه أن يكون تاريخ الغزو والاستعمار والمقاومة، وما دمنا نؤمن بأنه لا الفقر ولا الجهل ولا المرض، بل الاستعمار هو شد ما مُنيت به البشرية.

ونعود إلى الشغل الشاغل في هذا المبحث، العقل الذكوري، عقل الهيمنة والسيطرة، بخصائصه التنظيرية والتجريبية، لقد تجسد وتبلور نهائيًّا في العقل التنويري الحداثي الذي يرابط في سويدائه الإيمان بالسيطرة على الطبيعة بواسطة العلم وآلياته، مثَّلَت قيم التنوير في الفلسفة الغربية الحديثة منذ القرن الثامن عشر طريق التقدم الواحد والوحيد، والذي قطعه الرجل الأوروبي الأبيض باقتدار، ومن حقه وواجبه أن يفرضه على الشعوب الأخرى المتخلفة طوعًا أو كرهًا، وهذا هو الأساس الأيديولوجي للحركة الاستعمارية البائدة.

إنها مركزية النموذج الذكوري للإنسان التنويري الحداثي العاقل، ولها وجه آخر هو المركزية الأوروبية Eurocentrism التي امتدت إلى الشاطئ الآخر من المحيط، وتعني أنَّ الحضارة الأوروبية والثقافة الغربية تتمتع بالسيادة والتفوق المطلق، وبالتالي تُمثِّل معايير الحكم على سائر الحضارات والثقافات الأخرى، ليكون تقدمها تبعًا لمدى اقترابها من النموذج الغربي الذي هو المثل الأعلى للجميع.
إنها فردانية الرجل الأبيض، التي تبلغ حد الأنا وحدية solipsism، فهو وحده مركز الوجود، أصبح ناموس كل الأشياء: إما أن تكون الرجل الأبيض وإلا فأنت في منزلة أدنى، الثانية أو الثالثة أو العاشرة … تبعًا لمدى الاقتراب منه في التراتب الهرمي الجامع.

سادت مركزية الحضارة الغربية العالمين بفضل المد الاستعماري، وقهرت ثالوث الأطراف: قهرت المرأة، وقهرت الطبيعة، وقهرت شعوب العالم الثالث، وجاءت الفلسفة النسوية للعلم، ترفض التراتب الهرمي أصلًا في العلم وفي الحضارة على السواء، نازعةً إلى تقويض مركزية العقل الذكوري، تحريرًا للمرأة وقيمها الأنثوية، وبالمثل تحريرًا للبيئة، ثُمَّ تشعر بأنها مسئولة أكثر من سواها عن مواجهة الوجه الآخر المتضخم للمركزية الذكورية، أي مركزية الحضارة الغربية، هذا لأنَّ أمضى أدوات وأقوى حجج المركزية الغربية كانت نسق العلم الوضعي الواحد والوحيد الذي هو المعرفة المشروعة الوحيدة بالعالم التجريبي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه، نسق العلم المحكوم فقط بعلاقاته الداخلية المنطقية والمنهجية، العلم الغربي هو المعيار، تمامًا كما أن الحضارة الغربية/المركز هي المعيار.

ولما كان توماس كون قد فتح الباب للنظرة إلى العلم من الخارج، أي في ضوء المتغيرات التاريخية والعلاقات الاجتماعية، فقد وجدت النسوية طريقها لتكون فلسفة للمرأة بقدر ما هي فلسفة للبيئة بقدر ما هي فلسفة لتحرر الثقافات والقوميات وشعوب العالم الثالث من نير الاستعمارية والمركزية الغربية، وهي في كل هذا فلسفة بعد حداثية رافضة لقيم الحداثة والتنوير — الاستعمارية — من حيث هي فلسفة بعد استعمارية.

لقد نشأت الموجة النسوية الثانية — كما رأينا — في الستينيات والسبعينيات، في أوان انتهاء الاستعمار١٠٦ البائد الذي يُمثِّل أقوى تجسيد للفلسفة الذكورية، ما بعد الاستعمارية لحظة فارقة في تاريخ النسوية لتتسلح بمناهج لمراجعة الأبنية الغربية في المعرفة والإنتاج، ومزيد من الكشف عما فيها من مركزية جائرة وتراتبية هرمية أدَّت أيضًا إلى العنصرية والاستعمارية في سجل الجرائم الغربية الحافل.
بمواجهة العنصرية، انفتح المجال لتظهر النسوية السوداء في أمريكا وإنجلترا مع بداية السبعينيات بريادة أنجيلا ديفيز A. Davis وأندري لورد A. Lord وفيلومينا ستيدي F. Steady، إنَّها النسوية الخاصة بالزنجيات تستجوب النسوية الليبرالية البرجوازية التي شيدتها نساء بيضاوات، وتُشير إلى إبستمولوجيا خاصة تمثل المعرفة الناجمة عن الخبرة الحية المتميزة للمرأة السوداء، والتي تنطوي على رفضها الخاص لإنفراد الرجال بمراكز السلطة المعرفية، مثلما ترفض أيضًا انفراد النساء البيضاوات بالسلطة المعرفية في الفلسفة النسوية، اشتدَّ عودها في التسعينيات، وانضم إليها نسويات من أفريقيا وأمريكا اللاتينية.١٠٧
أمَّا فيما يتعلق بالاستعمارية وما بعدها، فقد التقت النسوية الغربية في موجتها الثانية مع المجتمعات التي تحرَّرت من الاستعمار في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، التقت في الخلاص من قهر الرجل الأبيض، كلاهما كان آخر بالنسبة له، تفخر النسوية الغربية بدور النساء المكافحات اللاتي شاركن في النضال للتحرر من الاستعمار، شاركن بأنفسهن، ولم يقتصرن على إنجاب الرجال المناضلين، فكانت المرأة قوة خفية وقوة ظاهرة في النضال من أجل الحرية وتحقيق الذات القومية.١٠٨
وهنا نلاحظ أنَّ الحركة النسوية في العالم الثالث انصهرت في حركات التحرر القومي، ودخلت بمجامعها في مقاومة الاستعمار.١٠٩

وأمثال شفيقة محمد — أولى شهيدات ثورة ١٩١٩ المصرية — وجميلة أبو حريد وسناء المحيدلي والمستشهدات الفلسطينيات: وفاء إدريس وآيات الأخرس وريم الرياشي … إلخ، يُمثلن انتصارًا وتبيانًا وبرهانًا للنسوية أقوى من كل ما عرفه الفكر أو الواقع.

اشتبكت النسوية الجديدة وفلسفتها للعلم بالقضايا الشائكة المتعلقة بالهوية واللغة والقومية، في مرحلة سابقة، قالت الأديبة المجددة فرجينيا ولف: إنَّها ضد القوميات، وبوصفها امرأة، فهذا العالم كله هو بلدها، وبحثت النسويات الاشتراكيات — وسواهن — عن التكتل في مواجهة القوميات، ولكن الآن بات واضحًا أهمية مسألة القومية في بحث قضية الجَنْوسة، التي لا تنفصل عن وضع النساء في مجتمعات العالم الثالث بعد نجاح حركات التحرر القومي.

بحثت النسوية السياقات الثقافية والقوميات المختلفة، بعضهن «يحجمن عن استعمال مصطلح العالم الثالث لأنه يعكس التراتب الهرمي الذي يسعين إلى تقويضه».١١٠
وظهرت الدعوة لاتحاد نساء الشمال ونساء الجنوب لمواجهة الأخطار الثقافية والاقتصادية للعولمة، التي تزايد معها اهتمام النسوية بمسائل الطبقة والعرق والعنصرية والدين، وإلى حد يزعزع حدود النظم الفلسفية المعهودة.١١١

وفي إطار حرص النسوية على تحرر الثقافات والقوميات، تتقدم أن ماك كلينتوك التي عنيت بدراسة حركات المد القومي ومدى نجاحها في قهر الاستعمارية وكيف كانت مدفوعة بالرغبة الصادقة في التقدم والاستنارة، وتلتهب بالرموز القومية كالعروض العسكرية والأعلام والأناشيد وأصناف الطعام والانتصار في مباريات كرة القدم، رأت ماك كلينتوك أن الجَنْوسة ليست سؤالًا عن جنس العامل بل عن القهر والنهب الإمبريالي، وسؤال العرق ليس سؤالًا عن لون البشرة، بل عن قوة العمل المسلوبة بفعل الإمبريالية، ولا تنفصل الإمبريالية عن غزو ثقافي وقهر ثقافة الآخر وتدمير وحشي للثقافات البدائية، وإحلالها بالثقافة الغازية المنتصرة: وبالتالي تنطوي مقاومة الإمبريالية على مقاومة ثقافية، ومحاولة الإبقاء على ثقافة الأنا وحمايتها من الضياع، وعلى نقد للثقافة الإمبريالية.

واستعملت ماك كلينتوك تعبيرين مجازيين، هما: الزمان المنطوي على مفارقة مكانية، والمكان المنطوي على مفارقة زمانية، الأوَّل يكون حيث تمثل تاريخ الكرة الأرضية بأسرها من نقطة واحدة — غربية طبعًا — تشوه معظمه في حين تبدو وكأنها الموضوعية التامة، أمَّا المكان المنطوي على مفارقة زمانية، فتكون حين يتحدث الغربيون عمن يبدون أمامهم رجعيين متخلفين، فيحكموا على النساء وسكان المستعمرات والعمال بأنهم خارج المكان المتحضر والحداثة، إنَّها ألاعيب من الرجل الأبيض وتشويه للأمور كي يمارس الهيمنة والسيطرة.١١٢
من هنا عملت الكاتب ذات الأصول الفيتنامية ترينْه تي مِنْه-ها Trinh T. Minh-Ha (١٩٥٢م–…) على تحليل ثقافات الشرق الأقصى خصوصًا الصينية، مبرزة العناصر النسوية فيها؛ لتؤكد على أنَّ القضية النسوية تتحقق بالقضاء على هيمنة الثقافة الغربية ومركزيتها.
فيما بعد الاستعمارية يجب أن ينتهي عصر المركز والأطراف، قهر الآخر وتوجيهه وفرض الوصاية عليه ليسير وفقًا لرؤى ومصالح الأقوى أو السيد، لا بدَّ من ظهور فلسفة جديدة تنقض تلك المركزية الجائرة وتقر بقيمة وحقوق تلك الأطراف؛ وبالتالي تصون الحقوق التي أهدرت للمرأة وللطبيعة ولشعوب العالم الثالث، وكانت فلسفة العلم النسوية محاولة جادة للسير في هذا الاتجاه وهي ترفض اعتبار كل تقدم علمي امتدادًا للحضارة الغربية، وتلفت الأنظار إلى أن الدعوى المؤمثلة للتنويرية البائدة (ما يُسميه العامة عندنا عقدة الخواجة) تسيطر على أذهان المعنيين بظاهرة العلم، فتجعلهم جاهلين بأنماط المعارف في بيئاتهم المحلية.١١٣

تبحث النسوية عن رؤى العلم والتكنولوجيا في الثقافات غير الغربية، عن ديمقراطية العلم والتعددية الثقافية فيه والاعتراف بالآخر، فيكون العلم إنجازًا إنسانيًّا مشتركًا مفتوحًا أمام أي حضارة غربية كانت أم شرقية، وأمام أي إنسان رجلًا كان أم امرأةً.

وفي نقدها للموضوعية التقليدية ومزاعم تحرَّر العلم من القيمة، كانت تكشف عما يكمن خلف تلك المزاعم من مركزية الرجل الأبيض والحضارة الغربية، وإلغاء الثقافات والأعراق والأجناس الأخرى.

بدأت البشائر مع توماس كون الذي أثبت أن نسق العلم الغربي الراهن ليس كيانًا منغلقًا على ذاته واحديًّا، بل ظاهرة اجتماعية نشأت وتطورت كمراحل داخل المنظومة الثقافية العامة للمجتمع.

وتأتي فلسفة العلم النسوية مقتفيةً خطاه لتوضح أن هذا يعني أن ثمة أنساقًا معرفيةً في أزمنة أخرى وأمكنة أخرى، وبالتالي لا مركزية للعلم الغربي أو الحضارة الغربية كما أكَّدَ فيير آبند.

شنَّت الرائدة الكبرى ساندرا هاردنج حملة شرسة على المركزية الغربية والمعقبات الإبستمولوجية للإمبريالية، رأت الحرب العالمية الثانية بما حملته من كوارث هيروشيما وموت ودمار رهيب قد كشفت عن زيف التسليم الوضعي بالعلم، والفصل بينه وبين التكنولوجيا والعوامل الاجتماعية والقيم، مثلما كانت هذه الحرب هي نهاية مشروع إقامة مستعمرات غربية، إنه عصر ما بعد الاستعمار الذي يدعونا إلى الوصول لنماذج أكثر دقة للأنساق المعرفية ولدور الذات العارفة، نماذج أكثر ديمقراطية تكشف عن علم نتاج لثقافات متعددة، وذلك عن طريق تنضيد المعقبات الإبستمولوجية الناجمة عن التحرر والتطور في العالم الثالث، وإعادة النظر في مفهوم عالمية العلم.١١٤

في العام ١٩٩٨م أخرجت ساندرا كتابها «هل العلم متعدد الثقافات: ما بعد الاستعمارية والنسوية والإبستمولوجيا». وفي العام ٢٠٠٠م خرج كتاب أكثر من رائع ساهمت في تحريره، وهو «نقض مركزية المركز: الفلسفة من أجل عالم متعدد الثقافات بعد استعماري ونسوي»، وشاركت فيه بدراسة عنوانها «الجنوسة والتنمية وفلسفات العلم بعد التنويرية» (راجع هوامش البحث أرقام ٣٢، ١٠٦، ١٠٨)، حيث توضح كيف أنَّ قضايا الجنوسة والبيئة والتنمية المستدامة باتت جوهرية في فلسفات العلم بعد الاستعمارية، ومن منظور الجنوسة — التي هي مثل الطبقة أو العرق أساسًا مسألة علاقات — لأن المرأة في العالم الثالث هي المتلقية لحصائل التنمية أو إخفاق مشاريع التنمية، لا سيِّما وأن العولمة جعلت قضايا حقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية تتجاوز حدود القوميات، وتفرض على النسوية مزيدًا من الانشغال بعواقب التاريخ الاستعماري وبالعلاقات الاقتصادية والسياسية الناشئة عن الاستعمارية الجديدة، وإذ تعمل هاردنج ورفيقاتها من أجل هذا، تقف فلسفتها بامتياز على رأس أنبل دعاوى الفلسفة الغربية.

منذ البداية، صادرت هاردنج في كتابها الرائد «سؤال العلم في النسوية» على أن استبعاد المركزية الذكورية من العلم هو استبعاد للعنصرية والاستعمارية والرأسمالية، وإذا كان الكفاح ضد هذا بدا للكثيرين والكثيرات أهم من الكفاح النسوي ضد السيطرة الذكورية،١١٥ فإن قضية المرأة لا تنفصل عن كلِّ هذا.١١٦
وحقَّ لها القول: إنَّ فلسفة العلم النسوية منزع نقدي «مثلها في هذا مثل كل حركة نقد لوضع قائم ينطوي على أشكال للظلم والغبن، مثل كل أشكال الكفاح ضد العنصرية والاستعمارية والرأسمالية، ومثل الحركات الثقافية المضادة وثورة الشباب في الستينيات، وحركات الدفاع عن البيئة ومناهضة الجهود العسكرية … كل هذه الاتجاهات النقدية توقَّفت عند مثالب استغلال العلم، لكن النقد النسوي يلامس عصبًا عاريًا».١١٧

وأخيرًا، لقد قامت النسوية أصلًا كي لا تظل المرأة «آخر» بالنسبة للرجل، وسارت قُدُمًا في هذا الطريق حتى وصلت لفلسفة العلم الشاملة لأبعاد حضارية عميقة مترامية الآفاق، باقٍ ألا تظل فلسفة العلم النسوية اتِّجاهًا «آخر»، فتنساب بقيمها الدافئة الحميمة النبيلة في قلب العلم وفلسفته وممارساته وتوظيفاته وعلاقاته على السواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤