مكَّة المكرَّمة

السُّنَّة لداخل مكَّة الغُسْل إنْ تيَسَّر وإلَّا فالوضوء، وأن يدخل من كَدَاء ويمرَّ من الحُجون؛ وهو اسم لطريق بين جبلين فيه صعود، على يساره مجزرة يهبط منه إلى المعلاة، وهي مقبرة مكَّة، يفصل بينهما جداران، فيمرُّ منهما ويدخل إلى المقبرة التي على اليسار ويتوجه إلى آخرها، فيزور عن يساره ضريح السيدة خديجة، أول زوجات المصطفى وأول من آمن به على الإطلاق رضي الله عنها، ويزور عن يمينه ضريح السيدة آمنة أم الرسول عليه الصلاة والسلام،١ وبعدهما قُبَّتان،٢ إحداهما مبنيَّة على ضريح السيد عبد المطلب وأبيه هاشم جدَّيِّ الرسول ، والثانية مبنيَّة على ضريح عمه أبي طالب،٣ الذي هو الإمام علي رضي الله عنه. وعند خروج الزائر من هذه المقبرة يجد على يساره قبر سيدي عبد الرحمن بن أبي بكر٤ رضي الله عنه، وقبر محمد جان النَّقشبندي.٥ وقد رسمتُ منظر هذه المقبرة بالفطوغرافيا.٦
ثم يخرج منها ويدخل في المقبرة التي أمامها المُسمَّاة بشعبة النور، فيزور قبور جملة من الصحابة، وبعد عشر دقائق يبتدأ٧ في دخول سوق مكَّة المكرمة، وبعد عشر دقائق أخرى يصل إلى بيت الله الحرام.٨

وعند دخول مكَّة يقول: اللهم إن هذا البلد بلدك، والبيت بيتك، جئتُ أطلب رحمتك، مُتَّبعًا لأمرك، راضيًا بقدرك. اللهم إني أسألك مسألة المضطر إليك، المشفق من عذابك، أن تستقبلني بعفوك، وأن تتجاوز عني برحمتك، وأن تدخلني الجنة. ثم يبادر إلى دخول بيت الله الحرام قبل كل شيء.

١  ذكر أهل السير والمغازي أن آمنة بنت وهب توفيت ودفنت بالأبواء، وهي راجعة من المدينة، وعمر الرسول في وقتها ست سنوات، وقد اندرس القبر فلا أحد يعلم مكانه اليوم على وجه التحديد والله أعلم، والآن الأبواء بلدة عامرة، وهي ليست ببعيدة عن مدينة مستورة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: «استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكِّر الموت». رواه مسلم (انظر: صحيح مسلم، ح٩٧٦).
٢  عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ؟ أن لا تدع تمثالًا إلَّا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلَّا سوَّيته. وفي رواية: ولا صورة إلَّا طمستها. رواه مسلم (انظر: صحيح مسلم، ح٩٦٩). ونهى الرسول عن تجصيص القبور والبناء عليها، ونهى عن الجلوس عليها أو أن توطأ، ونهى عن الصلاة إليها (انظر: صحيح مسلم، ح٩٧٠، ح٩٧١، ح٩٧٢).
٣  قال الشيخ حمد الجاسر رحمه الله في محاضرة ألقاها في جامعة أم القرى بمكَّة في ١٣ / ٦ / ١٤٠٢ﻫ الموافق لعام ١٩٨٢م بعنوان «الآثار الإسلامية في مكَّة المشرفة»: نص المتقدمون من مؤرخي مكَّة على عدم معرفة قبر أحد من الصحابة إلَّا قبر ميمونة زوج النبي في سرف خارج مكَّة بقرب التنعيم. قال الفاسي: ولا أعلم في مكَّة، ولا فيما قرب منها قبر أحد ممن صحب النبي سوى قبر ميمونة، لأن الخلف يأثره عن السلف. وقال ابن ظهيرة في الجامع اللطيف: عن مقبرة المعلاة: لما حوته من سادات الصحابة والتابعين، وكبار العلماء والصالحين، وإن لم يعرف قبر أحد من الصحابة تحقيقًا الآن. ا.ﻫ. فقبر أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها كان مجهولًا لدى مؤرخي مكَّة حتى القرن الثامن الهجري، أي طيلة سبعة قرون بل تزيد، ثم أصبح معروفًا محدد المكان، في القرون الخمسة الماضية حتى يومنا هذا، بعد أن رأى أحد العارفين في المنام كأن نورًا ينبعث من شعبة النور، في مقبرة المعلاة، ولما علم أمير مكَّة في ذلك العهد بخبر تلك الرؤيا أمر ببناء قُبَّة فوق المكان الذي رأى ذلك العارف أن النور ينبعث منه، جازمًا ذلك الأمير أن ذلك المكان ما هو سوى قبر خديجة رضي الله عنها. ويورد المرجاني في كتاب «بهجة النفوس والأسرار» الخبرَ باختصار ويعقب عليه: ولا كان ينبغي تعيينه على الأمر المجهول. ا.ﻫ. ويدور الزمان فيصبح المكان وما حوله مقبرة للعظماء من أهل مكَّة؛ فيقبر فيه في القرن الحادي عشر في سنة ١٠١٠ﻫ/١٦٠١م عبد المطلب بن حسن بن أبي نُمي، ثم في سنة ١٠١٢ﻫ/١٦٠٣م يموت أحد أمراء مكَّة ممن عرف بالظلم والجبروت، وهو أبو طالب بن حسن بن أبي نُمي، وتبنى فوقه قبَّة تعرف بقبَّة أبي طالب، بجوار قُبَّة خديجة الخرافية وقُبَّة عبد المطلب، ويدور الزمان فيُجهل أمر صاحبيِّ القبَّة، فتنشأ خرافة قُبَّة عبد المطلب جد الرسول الذي مات في زمن الفترة، وقُبَّة أبي طالب بن عبد المطلب عم النبي عليه الصلاة والسلام، الذي مات مشركًا بنص القرآن الكريم. ويُدوِّن التاريخ تلك الخرافات الثلاث باعتبارها حقائق تاريخية، وتتناقلها الأجيال إلى يومنا هذا. ا.ﻫ.
٤  عبد الرحمن بن أبي بكر الصِّدِّيق، توفي بالقرب من مكَّة بالصفاح، على طريق الحاج العراقي، فحُمل ودفن بمكَّة (انظر: سير أعلام النبلاء، ٢ / ٤٧١).
٥  محمد جان النقشبندي الهندي، قدم إلى مكَّة عام ١٢٣٢ﻫ/١٨١٧م وجاور بها إلى أن توفي عام ١٢٦٧ﻫ/١٨٥١م. رحمة الله. وله ذرية لا زالت بمكَّة (انظر: عوائل مكة عبر العصور، عبد الله الغازي المكي، تحقيق: د. محمد الحبيب الهيلة).
٦  الفطوغرافيا: آلة التصوير (الكاميرا).
٧  يبتدأ: يبتدئ.
٨  بيت الله الحرام: جاء في فضله عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام». قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: «المسجد الأقصى». قلتُ: كم بينهما؟ قال «أربعون سنة، وأينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد». وفي حديث أبي كامل: «ثم حيثما أدركتك الصلاة فصله، فإنه مسجد» رواه مسلم (انظر: صحيح مسلم، ح٥٢٠). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: «لا تُشَّد الرحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول ، ومسجد الأقصى» رواه البخاري (انظر: صحيح البخاري، ح١١٣٢). وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال: «صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلَّا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه». رواه ابن ماجه وصححه الألباني (انظر: سنن ابن ماجه، ح١٤٠٦).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤