الفصل الثاني

تاريخ نظرية الانتخاب الثقافي

(١) النزعة التطورية Evolutionism

لامارك وداروين

ظهرت فكرة الانتخاب الثقافي، أولَ ما ظهرت، في إنجلترا أيام العصر الفيكتوري. ثقافة حققت نجاحًا خلال عملية الانتخاب الثقافي أكبر مما تحقق في أي مجتمع آخر. ولكن قبل الحديث عن هذه النظرية يتعين علينا أن نلقي نظرة على نظرية التطور البيولوجي التي وضع أساسَها كلٌّ من لامارك وداروين.

كان عالم البيولوجيا الفرنسي جان بابتست لامارك أول من تحدث عن تطور الأنواع؛ إذ اعتقد أن الحيوان الذي اكتسب سمة نافعة له أو قدرةً على التعلم يصبح قادرًا على نقل هذه السمة إلى ذريته (لامارك، ١٨٠٩). وسُميت باسمه، اللاماركية lamarckism، الفكرة القائلة بإمكانية توارث السمات المكتسبة. وبعد ذلك بنصف قرن نشر عالم البيولوجيا الإنجليزي شارلس داروين كتابه الشهير «أصل الأنواع»، والذي رفض فيه هذا الفرض الذي قال به لامارك، وقدَّم داروين نظريته القائلة بأن تطور الأنواع يحدث نتيجةَ الجمع بين التباين والانتخاب والتكاثر.

وواجه المفكرون التطوريون في ذلك العصر مشكلة كبيرة نظرًا لجهلهم آنذاك بقوانين الوراثة. والحقيقة أن الراهب النمساوي جريجور مندل كان خلال هذه الفترة تقريبًا عاكفًا على إجراء سلسلة من التجارب قادته إلى قوانين الوراثة التي تحمل اسمه اليوم، وتشكل أساس علم الوراثة الحديث. ولكن أعمال مندل المهمة ظلت غير معروفة على نطاق عام إلا مع بداية القرن العشرين، وهو ما يعني أنها كانت مجهولة لدى الفلاسفة البريطانيين في القرن التاسع عشر؛ إذ لم يكونوا على علم بشأن الجينات أو الطفرات. ولهذا عجز داروين عن تفسير مصدر التباينات العشوائية، واضطر داروين إزاء الانتقادات التي جوبِهت بها نظريتُه إلى مراجعة كتابه «أصل الأنواع» وإلى افتراض إمكانية وراثة السمات المكتسبة. وقال إن هذه الإمكانية هي أساس التباين الذي يمثل شرطًا لحدوث الانتخاب الطبيعي (داروين ١٨٦٩م و١٨٧١م). ونشر العالم البيولوجي الألماني أوجست وايزمان في عام ١٨٧٥م سلسلة من التجارب تدحض النظرية القائلة بإمكانية وراثة السمات المكتسبة. وكان كتابه الذي تُرجم إلى الإنجليزية في ١٨٨٠–١٨٨٢م سببًا في أن تفقد اللاماركية الكثير من أنصارها.

باجهوت Bagehot

على الرغم من أن داروين في كتابه الأول تجنَّب مسألة أصل الإنسان، إلا أنه كان واضحًا تمامًا أن مبدأ الانتخاب الطبيعي يمكن أن ينطبق على التطور البشري. ولم يكن هناك آنذاك أيُّ تمييز بين السلالة race والثقافة، ومن ثَم بدأ وصف التطور من الحالة الهمجية البدائية إلى المجتمع المتحضر الحديث على أساس النظرية الداروينية. ونجد أول مثال لهذا الوصف في مقال لعالم الاقتصاد البريطاني والتر باجهوت في مجلة فورت نايتلي The Fortnightly في عام ١٨٦٧م. وتصور باجهوت أن البشر الأوائل كانوا لا يعرفون أي شكل من أشكال التنظيم، ثم وصف كيف نشأت بداية التنظيم الاجتماعي حين قال:

«ولكن عندما بدأ ذات يوم تكوينُ الدولة لم يكن ثَمة صعوبةٌ في تفسير سبب استمرارها. وأيًّا كان ما يمكن أن يقال ضد مبدأ «الانتخاب الطبيعي» في المجالات الأخرى، إلا أنه لا يخالِجُنا أيُّ شك في أنه كانت له الهيمنة هنا في مطلع التاريخ البشري. اعتاد الأقوى قتْل الأضعف قدر المستطاع. ولست بحاجة إلى التوقف هنا لأبرهن على أن أي شكل من أشكال الدولة أفضل من لاشيء؛ وأن تجمعًا من الأسر التي ربما لا تشعر سوى بقدر من الولاء والقلق تجاه رئيس فرد سيكون وضعها يقينًا أفضلَ من مجموعة من الأسر التي لا تَدين بالطاعة لأي أحد، وقنعت بالبقاء متناثرةً في أنحاء العالم لتحارب حيثما حطَّت الرحال … إن ما يلزمهم ضرورةً هو قيام حكومة واحدة … وسمِّها ما شئت — من أسماء؛ كنيسة أو دولة — لتنظيم مجمل الحياة البشرية … وهدف مثل هذا التنظيم هو خلق إطار من الأعراف.»

إذا ما نظرنا إلى هذه الرواية بعيون عصرنا الراهن، بدت لنا أشبهَ بمثال واضح للانتخاب الثقافي: الجماعات الأفضل تنظيمًا قهرت الجماعات الأضعف. ولكن مفهوم الانتخاب الثقافي لم يكن له معنًى تقريبًا داخل الإطار المرجعي الذي ينطلق منه باجهوت. ولم يكن ثمة خطٌّ فاصل واضح يمايز بين الوراثة الاجتماعية والعضوية؛ وذلك نتيجةً لسيادة النظرة اللاماركية. واعتقد مفكرو القرن التاسع عشر أن الأعراف والعادات والعقائد تترسب وتترسخ في النسيج العصبي على مدى بضعة أجيال قليلة لتصبح بعد ذلك جزءًا من استعداداتنا الفطرية. ونظرًا لعدم وجود أي تمييز بين العرق أو السلالة وبين الثقافة، فقد كانوا يعتبرون التطور الاجتماعي تطورًا عرقيًّا. واعتاد باجهوت في أول الأمر النظرَ إلى نموذجه عن التطور البشري باعتباره مماثلًا، وإن لم يكن مطابقًا، لنظرية داروين، ليس بسبب الفارق بين الوراثة الاجتماعية والوراثة العضوية، ولكن بسبب الفارق بين البشر والحيوانات. ولم يذهب باجهوت في تقديره إلى أن البشر والحيوانات من أصل مشترك. وأكثر من هذا أنه ناقش مسألةَ ما إذا كان لكل سلالة من السلالات البشرية المختلفة آدم وحواء خاصين بها (باجهوت، ١٨٦٩م). ولكنه بطبيعة الحال راجع آراءه في عام ١٨٧١م عندما نشر داروين كتابه «أصل الإنسان».

بيد أنني، وعلى الرغم من هذه التعقيدات، أرى حقًّا أن باجهوت عنصر مهم بالنسبة لنظرية الانتخاب الثقافي؛ ذلك لأنه يركز على الأعراف والعادات والعقائد والنظم السياسية وغير ذلك من قسمات نراها اليوم عناصر جوهرية للثقافة؛ على عكس السمات الفيزيقية التي نعزوها اليوم إلى الوراثة العضوية في الأساس. ومن الأهمية بمكان بالنسبة لنظريته أن الأعراف … إلخ، يمكن أن تنتقل، ليس فقط من الآباء إلى الأبناء، بل وأيضًا من أسرة إلى أخرى. معنى هذا أنه حين يهزم شعبٌ ما شعبًا آخر في حرب دائرة بينهما، ويحتل أرضه، فإن فنون الحرب التي تميَّز بها الشعب المنتصر سوف تنتقل إلى الشعب المهزوم، أو لنقل إنه سوف يحاكيها. وهكذا فإن أي فن حربي يثبت أنه الأقوى سوف ينتشر ويكون له الرواج دائمًا. ولعل من المهم أن نشير هنا إلى أن باجهوت، على عكس الفلاسفة من بعده، لم يعتبر هذا الانتخاب الطبيعي مفيدًا ونافعًا بالضرورة: إنه يدعم القوة في الحرب، لا يدعم بالضرورة مهارات أخرى (باجهوت ١٨٦٨م).

تايلور

ترك عالم الأنثروبولوجيا إدوارد بي. تايلور أثرًا واضحًا على الفكر التطوري وعلى مفهوم الثقافة. ونحن نعزو أساسًا إلى تايلور فكرة أن المجتمع المتمدن الحديث ظهر نتيجة تطور تدريجي لمجتمعات أكثر بدائية. وتقضي النظرية السائدة في عهده بأن شعوب الهمج والبرابرة ظهرت نتيجة تحلل مجتمعات متمدنة. وتشتمل كتب تايلور على وصف شامل للأعراب والتقنيات والعقائد السائدة في ثقافات مختلفة، وكيف تغيرت. ويناقش كيف أن أوجُهَ التماثل بين الثقافات يمكن أن ترجع إما إلى الانتشار أو إلى تطور مستقل موازٍ. ولا نجد في كتاباته إشارة صريحة إلى نظرية داروين عن الانتخاب الطبيعي، ولكن لا شك في أنه استلهم نظرية داروين كما هو واضح من الرواية التالية:

«إن التاريخ في مجاله الدقيق بامتياز، وكذا الإثنوجرافيا، يتَّحدان لبيان أن المؤسسات التي تثبت أنها الأفضل والأكفأ في العالم تجبُّ تدريجيًّا الأقلَّ ملاءمةً وتحل محلها. ويحدد هذا الصراع الأبدي المسار العام للثقافة الناجم عن ذلك.»

(تايلور، ١٨٧١م، مجلد م١، ص٦٨-٦٩)

وأوشك تايلور منذ مطلع عام ١٨٦٥م أن يقدم وصفًا لمبدأ الانتخاب الثقافي؛ أي قبل منشورات باجهوت سالفة الذكر:

«كم هو عسير أن توجد معًا في وقت واحد الفنونُ التي تزدهر في العصور التي يبلغ فيها التهذيب أو الترف شأوًا كبيرًا، والعمليات المعقدة التي تستلزم تآلفًا من المهارة أو العمل، وتكون عُرضة للتشوش بسهولة، وغالبًا ما يصيبها التحلل. ولكن على الرغم من هذا فإنه كلما كان الفن أكثر أُلفةً ونفعًا، وكلما كانت ظروف ممارسته أقل صعوبة، كلما قلَّ احتمال اندثاره من العالم، ما لم يتغلب عليه ويتجاوزه فنٌّ آخر أفضل.»

(تايلور، ١٨٦٥م، ص٣٧٣)

وبينما كان داروين عاكفًا على دراسة «البقاء للأصلح» كان تايلور معنيًّا أكثر بموضوع «بقاء غير الصالح». ورأى تايلور في وجود المؤسسات والأعراف البالية والمهجورة، والتي لم يعد لها أي نفع، أفضلَ برهان على أن المجتمع الحديث تطور عن وضع أكثر بدائية. ويبدو أن اتجاه تايلور إزاء الداروينية يحمل في طياته ثنائية نقيضيةً؛ نظرًا لأن إشارته الوحيدة إلى داروين تمثلت في الرواية الملغِزة التالية التي وردت في تصديره للطبعة الثانية من كتابه الرئيسي «الثقافة البدائية»:

«ربما استرعى انتباه بعض القرَّاء ما ظنوه سهوًا منَّا؛ حيث إن دراسة عن الحضارة تؤكد بقوة على نظرية التنامي والتطور، لا تكاد تذكر اسم السيد داروين أو السيد هربرت سبنسر، ولهما ما لهما من نفوذ على مجمل مسار الفكر الحديث المعنيِّ بهذه المواضيع؛ ومن ثم ما كان ينبغي عدم الاعتراف بهما. ولكن يفسر إغفالنا أي إشارة عنهما أن هذه الدراسة التي بين يدي القارئ والتي جرى تنظيمها وَفقًا لأُطُرها الفكرية الخاصة، نادرًا ما استعانت من حيث التفاصيل بالأعمال السابقة لهذين الفيلسوفَين المبرزَين.»

(تايلور، ١٨٧٣م)
وأفضى الغموض إلى شقاق بين مؤرخي الأفكار بشأن علاقة تايلور بالداروينية؛ مثال ذلك أن جريتا جونس (٢٠–١٩٨٠م) يقول: إن تايلور استقل عن الداروينية. هذا بينما يمضي أوبلر Opler ١٩٦٥م شوطًا بعيدًا جدًّا ليبرهن على وجود اتجاهات داروينية في كتاب تايلور «الثقافة البدائية». ووصل به الأمر إلى حد أنه يصنف تايلور باعتباره «داروينيًّا ثقافيًّا». وهذا تصنيف فيه مبالغة كبيرة؛ نظرًا لأن تايلور لم تكن لديه نظرية متماسكة عن التسبيب (هاريس، ١٩٦٩م، ص٢١٢). وظلت إحدى القضايا الرئيسية هي ما إذا كان المفكرون التطوريون في القرن التاسع عشر مفكرين عرقيين أم لا؛ بمعنى هل عزَوْا تفوق الشعوب المتحضرة إلى وراثة عضوية أم إلى ثقافة؟ بيد أن هذا خلاف في الرأي لا معنَى له؛ نظرًا لأنه لم يكن هناك خط فاصل واضح يمايز آنذاك بين الوراثة العضوية والوراثة الاجتماعية. واستخدم تايلور كلمة عرق أو سلالة بوصفها مرادفًا لكلمة ثقافة أو قبيلة؛ أسوةً بالغالبية العظمى من معاصريه.

سبنسر

منذ عام ١٨٥٢م وقبل أن ينشر داروين كتابه «أصل الأنواع»، قدَّم الفيلسوف الإنجليزي المبرز هربرت سبنسر عرضًا لمبدأ يقضي بأن أكثر الأفراد ملاءمةً وصلاحية يبقون على قيد الحياة، بينما الأقل صلاحية يموتون خلال الصراع من أجل الوجود. ولم تكن لهذا المبدأ أولَ الأمر سوى أهميةٍ أدنى شأنًا في فلسفة سبنسر التطورية، التي ارتكزت على فكرة مؤداها أن جميع أنواع التطور تخضع لمبادئ أساسية واحدة. ذلك أن الكون والأرض والأنواع والأفراد والمجتمع تتطور جميعُها وَفق النمط ذاته وفي الاتجاه نفسه، أي، حسبما رأى سبنسر، في اتجاه المزيد من الاختلاف والتوازن دائمًا وأبدًا. إنها جميعًا تمثل جزءًا من عملية واحدة:

«… ليست هناك أنواع عديدة من التطور تجمع بينها سمات معينة مشتركة، وإنما هناك تطور واحد يمضي في كل الاتجاهات وله الاسم ذاته.»

(سبنسر، ﻫ. ١٨٦٢م)

وفي عام ١٨٥٧م، أي قبل عامين فقط من صدور كتاب داروين عن أصل الأنواع، وصف سبنسر علة هذا التطور بقوله: «ذلك السر الأزلي الذي يتجاوز بالضرورة دائمًا وأبدًا الذكاء البشري.» (سبنسر، ﻫ. ١٨٥٧م).

وذهب سبنسر إلى أن تطور المجتمعات يمضي عبر أربع مراحل؛ إذ ظهرت من بين الحالة الهمجية غير المنظمة المجتمعاتُ البربرية المؤلَّفة من البدو الرحَّل والرعاة. واتحد هؤلاء فيما بعدُ في مدن ودول قومية، تسمى المجتمعات المحاربة. وتسمى المرحلة الأخيرة في التطور باسم المجتمع الصناعي، الذي سوف يواصل تطوره في اتجاه التوازن وانعدام النمو والسِّلم والتناغم.

وحددت التطورَ الاجتماعي أولَ الأمر عواملُ خارجية؛ مثل المناخ وخصوبة التربة والنباتات والحيوانات والسمات الخاصة المميِّزة للبشر أنفسهم. وثمة عوامل ثانوية تشتمل على تعديلات أدخلها البشر على بيئتهم وعلى أنفسهم وعلى مجتمعهم؛ علاوةً على تفاعلهم مع المجتمعات الأخرى. ويمثل النمو السكاني القوةَ الدافعة في هذا التطور؛ ذلك أن الزيادة المطردة في السكان تستلزم دائمًا وأبدًا إنتاج المزيد من وسائل إنتاج الطعام، ومن ثم زيادة درجة التنظيم وتقسيم العمل والتقدم التقاني.

والحرب لها دور مهم في الانتقال من حالة البربرية إلى المجتمع المحارب؛ ذلك أن أي حرب أو أي تهديد بالحرب يستلزم تشكيل حلفاء وتأسيسَ حكومة مركزية قوية. ومن ثم يتميز المجتمع المحارب باحتكار قوي للقوة وللسلطة التي يتعين على الناس الخضوعُ لها. وغالبًا ما تكون المحصلة النهائية لأي حرب هي اندماج مجتمعين في مجتمع أكبر؛ حيث تمتزج الثقافتان ببعضهما، وتبقى على قيد الحياة الجوانب الأفضل من كلٍّ من الثقافتين. والملاحَظ أن إنشاء دول أكبر وأكبر على هذا النحو هو ما يهيئ إمكانية للخطوة الأخيرة في المخطط التطوري عند سبنسر؛ أي التصنيع. ولا تزال الحكومة المركزية الصارمة والشمولية عقبةً دون التصنيع؛ لأنها تَعوق المبادراتِ الاقتصادية الخاصة والتقدم العلمي. لذلك فإن المجتمع المحارب سوف يتحرك في زمن السلم في اتجاه المزيد من الحرية الفردية والديمقراطية، ومن ثم يتحول إلى ما يسميه سبنسر المجتمع الصناعي (سبنسر ﻫ. ١٨٧٢م و١٨٧٦م).

وأثر كتاب شارلس داروين عن أصل الأنواع تأثيرًا مهمًّا على فلسفة سبنسر، هذا على الرغم من أنه لم يرفض أبدًا وبشكل كامل النزعةَ اللاماركية. ورأى أن مبدأ البقاء للأصلح يصدُق فقط على تطور الأنواع والمجتمعات، وليس على تطور الأرض أو الكون ولا على التطور الفردي ontogenetic، ومن ثم فإن مبدأ الانتخاب الطبيعي ليس له أن يحتل ذات الوضع المحوري في فكر سبنسر التطوري كما هو الحال في فكر داروين.

وطبَّق سبنسر مبدأ «البقاء للأصلح» على تشكل المجتمعات البدائية تمامًا مثلما فعل باجهوت:

«… إن تشكل المجتمعات الأكبر حجمًا على هذا النحو نتيجة اتحاد المجتمعات الأصغر بسبب الحروب، وتدمير أو استيعاب المجتمعات الأكبر المتحدة للمجتمعات الأصغر غير المتحدة؛ يمثل عملية حتمية. واستطاعت الأنواع المختلفة من البشر الأكثر تكيفًا مع الحياة الاجتماعية أن يقتلعوا الأنواع المختلفة الأقل تكيفًا.»

(سبنسر، ﻫ. ١٨٩٣م)

ولم يكن سبنسر، شأنه شأن باجهوت وتايلور، يمايز بين الوراثة الاجتماعية والعضوية إلا نادرًا. لذلك يتعذر علينا أن نقرر ما إذا كانت الرواية السابقة تشير إلى انتخاب جيني أم ثقافي. بيد أن سبنسر يطبق بالفعل مبدأ الانتخاب الطبيعي على ظواهر لا يمكن اعتبارها من وجهة النظر المعاصرة إلا وراثةً اجتماعية. ويصف سبنسر نشأة الأديان على النحو التالي:

«قد نرى أن المألوف أن الرئيس أو الحاكم الذي نشأت عن عادة استرضائه عقيدةٌ محلية، إنما اكتسب وضعه بفضل نجاحات من هذا النوع أو ذاك. وإذا كان الأمر كذلك يتحتم علينا أن نستنتج أن طاعة الأوامر الصادرة عنه والالتزام بالأعراف التي استهلها من شأنهما في متوسط الحالات أن يحققا رخاءً اجتماعيًّا طالما ظل الوضع على حاله دون تغيير. ولذلك فإن النزعة المحافِظة القوية لدى المؤسسات الدينية تبدو أمرًا له ما يبرره. ويمكن القول، حتى دون النظر إلى مدى الملاءمة النسبية للعقيدة الموروثة مع الظروف الاجتماعية الموروثة، أن ثمة ميزة، إن لم نقل ثمة ضرورة، للتسليم بالمعتقدات التقليدية، وبالتالي من الامتثال للأعراف والقواعد المترتبة عليها.»

(سبنسر، ﻫ. ١٨٩٦م)
ويمكن لمبدأ البقاء للأصلح أن يُفضي بوضوح إلى فلسفة حق القوي الأعظم؛ أي إلى سياسة حرية العمل laissez-fair policy. وانطبق هذا المبدأ أساسًا عند سبنسر على الفرد؛ إذ كان مناهضًا لأي نوع من السياسة الاجتماعية التي تعمل لصالح الفقير والضعيف. لقد كان سبنسر رائدًا بوصفه مدافعًا عن «الفردية التنافسية» في شئون الاقتصاد والمجتمع (جونس، جن ١٩٨٠م). لم يكن يرى الأنانية والغيرية نقيضين بل وجهَي عملة واحدة. إن أي إنسان يريد الأفضل لنفسه إنما ينشُد الأفضل أيضًا لمجتمعه؛ ذلك لأنه جزء من المجتمع. وهكذا تغدو الأنانية قوةَ دفع مهمةً في تطور المجتمع (سبنسر ﻫ. ١٨٧٦م).

ولكن سبنسر لم يساند سياسة حرية العمل عندما جرت محاولة تطبيقها في الحروب الدولية (شالبرجر ١٩٨٠م). والتزم موقفًا نقديًّا للغاية من تزايد سياسة العسكرة والهيمنة الإمبريالية في بريطانيا؛ إذ رآها بمثابة ظاهرة نكوص في المسيرة التطورية. وحذَّر أيضًا من حقيقة واقعة نلمسها في المجتمع الحديث؛ وهي أن العناصر البشرية الأقوى هي التي تذهب في الغالب الأعم إلى الحرب وتلقى حتفها، هذا بينما الأضعف منهم يبقون حيث هم ويتكاثرون. واعتقد سبنسر، انطلاقًا من نظرته التفاؤلية التي ظل ملتزمًا بها، أن الحروب مرحلة انتقالية في التاريخ التطوري للبشر:

«ولكن مع ظهور مجتمعات أرقى، وهو ما يعني توفر خصائص فردية لعلاقات تعاون أكثرَ متانة، فإن الأنشطة التدميرية التي تمارسها هذه المجتمعات تفرز ردود أفعال لها نتائجها الضارة بالطبائع المعنوية لأبنائها، وهذه نتائج ضارة تفوق في تأثيرها المنافع الناجمة عن استئصال الأعراق الأدنى مرتبة. وبعد بلوغ هذه المرحلة تقوم الحرب الصناعية بإنجاز عملية التطهير، والتي لا تزال تمثل شأنًا مهمًّا، أي تجري هذه العملية من خلال المنافسة بين المجتمعات. وتحقق المجتمعات الأفضل فيزيقيًّا وانفعاليًّا وفكريًّا خلال هذه العملية أوسعَ انتشار ممكن لها، وتخلف وراءها المجتمعاتِ الأقلَّ قدرة لكي تندثر تدريجيًّا؛ نتيجة إخفاقها في إنجاب ذريات كثيرة العدد.»

(سبنسر ﻫ. ١٨٧٣م)

وصادفت نظريات سبنسر، أولًا وقبل كل شيء، نقدًا بسبب ما تنطوي عليه من مفارقة تفيد بأن السيادة المطلقة للقوى العظمى سوف تفضي إلى حالة تناغم. وقال خصومه إنه أنكر مثالب وسلبيات المجتمع الرأسمالي؛ رغبةً منه في الحفاظ على عقيدته الأولى، والتي تقضي بأن التطور هو عين التقدم. وقيل إن سبنسر في أواخر أيامه زايله هذا الوهم، وبدأ يدرك حقيقة هذه المشكلة (شالبرجر، ١٩٨٠م).

برونتيير

استلهم مؤرخ الأدب الفرنسي فرديناند برونتيير نظرية دارون عن التطور، وذهب إلى أن الأدب والفنون الأخرى تطورت بناءً على مجموعة من القوانين التي تماثل، وإن لم تطابق، القوانينَ الحاكمة للتطور البيولوجي:

«والآن إذا عرَفنا أن ظهور أنواع بذاتها، في ظرف محدد زمانًا ومكانًا، يفضي إلى اندثار أنواع أخرى محددة، أو إذا صح أيضًا أن الصراع من أجل الحياة لا يكون أشد شراسةً إلا بين الأنواع المتجاورة، ألَا يدَعُ هذا الأمثلةَ تتزاحم في فكرنا لتذكرنا بأن الوضع لم يكن على غير هذا النحو في تاريخ الآداب والفنون؟»

(برونتيير ١٨٩٠م)

وعلى الرغم من أن مفهوم الوراثة الثقافية لم يذكره برونتيير صراحةً؛ إلا أنه دون ريب يمايز بين العرق والثقافة. إنه يقول إن تطور الأدب والفن رهن العرق؛ مثلما هو رهنُ البيئة والظروف الاجتماعية والتاريخية، وكذا العوامل الفردية؛ علاوة على هذا، فإنه يمايز بين التطور والتقدم.

ستيفين

أول من قدم صياغة دقيقة لنظرية الانتخاب الثقافي هو ليزلي ستيفين. نراه في كتابه «علم الأخلاق» The Science of Ethics (١٨٨٢م) يمايز بوضوح بين التطور الاجتماعي والتطور العضوي، ويفسر لنا الفارق بين هاتين العمليتين في ضوء أمثلة عديدة؛ مثل ما يلي:

«المدفعية المتقدمة مثلها مثل الأسنان الحادة؛ إذ تمكِّن الفريق الحائز لها من أن يستأصل أو يُخضع منافسيه؛ بيد أننا نجد فارقًا واضحًا من ناحية أخرى، ذلك أن الأسنان الحادة تخص فقط أفرادًا ظهرت لديهم هذه الأسنان، وتخص ذرِّياتهم ممن سوف تنتقل إليهم الأسنان بالوراثة. ولكن المدفعية المتقدمة يمكن أن يَحوزها فريقٌ من أفراد يؤلفون مجتمعًا متصلًا بالمبتكر الأصلي. وها هنا نجد ابتكار فرد يمكن اعتباره من نواحٍ معينة ابتكارًا خاصًّا بالجميع. هذا على الرغم من أن قوانين انتشار الاختراع ستكون بطبيعة الحال شديدة التعقد.»

ورأى ستيفين أن التمييز بين التطور الثقافي والتطور العضوي مهم؛ لأن التطور العضوي شديد البطء؛ بحيث لا نجد له أي علاقة وثيقة بالعلوم الاجتماعية. ويناقش ستيفين أيضًا مسألة «وحدة الانتخاب»، ويرى أن وحدة الانتخاب قد تكون في الحروب القَبَلية البدائية هي القبيلة كلها التي تقضي عليها، وتحل محلها قبيلة أخرى متميزة بفنون حربية أكثر كفاءةً وفعالية. ولكن الملاحَظ في الحروب الحديثة بين الدول المتحضرة تكون وحدة الانتخاب: نظام سياسي ينتصر على نظام آخر؛ بينما يظل القطاع الأكبر من الشعب المهزوم على قيد الحياة. ورأى أيضًا أن الأفكار يمكن انتخابها خلال عملية ليست وقفًا على ميلاد أو موت الناس. وهكذا كان ستيفين واعيًا بأن ثمة ظواهرَ مختلفة تنتشر بآليات مختلفة. ويتضح لنا هذا من الرواية التالية:

«العقائد التي تمنح معتنِقيها قوةً أكبر لديها فرصة أكبر للانتشار؛ بينما تندثر العقائد الضارة عن طريق اندثار معتنقيها. بيد أن هذا يعبر عما يمكن أن نسميه الشرط الحاكم أو المنظِّم، ولا يمثل القانون المباشر للانتشار. وتنتشر النظرية من مخ إلى آخر طالما كان المرء قادرًا على إقناع غيره. وتمثل هذه عملية مباشرة أيًّا كانت طبيعتها النهائية، ونجد لها قوانينها الخاصة الحاكمة للوضع العام الذي يحدد آخِر ما يبقى على قيد الحياة من منظومات الفكر المختلفة.»

(ستيفين، ١٨٨٢م)

ولكن نظريات ليزلي ستيفين النابهة عن التطور الثقافي لقيت الإهمال، ولم يكن لها أثر، فيما يبدو، على الفلاسفة الذين جاءوا من بعده. وها هو بنيامين كيد على سبيل المثال لم يذكر الانتخاب الثقافي في كتابه «التطور الاجتماعي» الصادر عام ١٨٩٤م.

كيد Benjamin Kidd

استلهم كيد أفكار كلٍّ من ماركس وسبنسر (في المقام الأول) وإن انتقدهما. ويبدو وكأنه حاول أن يلتزم قاعدة الوسط الذهبي. اتفق مع الماركسيين على أن أبناء الطبقة الحاكمة ليسوا أسمى من سواهم. واعتقد أن الأسرة الحاكمة كانت آخذة في التحلل بحيث بات لزامًا ظهورُ حكَّام جدد من بين القاعدة. وعارض لهذا السبب الامتيازات، وأنكر التفوق العقلي الفطري للعرق الأبيض، وعزاه إلى ميراث اجتماعي، والذي يعني به المعارف المتراكمة. واتفق من ناحية أخرى مع العنصريين على أن العرق الإنجليزي كان هو الأرقى عندما بلغ مستوى «الكفاءة الاجتماعية»، والتي يعني بها القدرة على تنظيم وكبح الغرائز الأنانية لصالح المجتمع والمستقبل. وعزا كيد هذه الغيرية إلى الغريزة الدينية. وعمَد، إزاء هذا الرأي المثير للفضول، إلى تفسير تطور الدين في ضوء الانتخاب الطبيعي للعرق الأقوى؛ تأسيسًا على الوراثة العضوية. وعلى الرغم من أن كيد يشير إلى ليزلي ستيفين في سياقات أخرى، إلا أنه لم يذكر أبدًا الانتخاب القائم على الوراثة. وذهب كيد، بناءً على رفض وايزمان للنزعة اللاماركية، إلى أن المنافسة الأبدية ضرورية لاطراد تطور العرق؛ لذلك نراه يرفض الاشتراكية التي اعتقد أنها سوف تُفضي إلى حالة من التحلل.

(٢) الداروينية الاجتماعية Social Darwinism

استمرت مشكلة التمييز بين الوراثة الاجتماعية والوراثة العضوية إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى بفترة غير قصيرة. مثال ذلك أن عالم النفس الاجتماعي وليم ماكدوجال تحدث عن الانتخاب بين السكان على أساس الدين أو القوة العسكرية أو المنافسة الاقتصادية، دون الحديث عن الوراثة الاجتماعية. وذهب ماكدوجال إلى أن هذه الخصائص ترتكز على استعدادات طبيعية نظرية في الأعراق المختلفة (ماكدوجال، ١٩٠٨، ١٩١٢).

وجدير بالذكر أن هذا التركيز على الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح باعتبارهما القوة الدافعةَ في تطور المجتمع؛ مهَّد الطريق لظهور العديد من الفلسفات التي مجَّدت الحرب والمنافسة. وذهبت هذه الفلسفات إلى أن الجنس الآريَّ هو الأسمى دون الأجناس الأخرى، ورأوا أن البراهين على ذلك واضحة أينما ذهبنا: الأستراليون، وشعب نيوزيلانده (الماووري maori) والهنود الحمر والزنوج؛ إذ كل هؤلاء خضعوا واستسلموا في المنافسة مع الإنسان الأبيض.

وأدخل خصوم سبنسر مصطلح الداروينية الاجتماعية عام ١٨٨٥م، وأصبح يطلق منذ ذلك التاريخ على أية فلسفة مبنية على الداروينية (بانيستر ١٩٧٩م). وظل تعريف هذا المصطلح مرنًا ومتباينًا؛ اعتمادًا على ما يريد المرء أن يشمله هذا القدح.

ولقد كان سبنسر — وليس داروين — هو الذي صاغ تعبير «البقاء للأصلح». وتنطوي هذه الصياغة ضمنًا على افتراض أن الأصلح هو الأفضل؛ أي: أن ذلك الذي يبقى على قيد الحياة خلال المنافسة هو الأفضل. ولم يدرك أحد إلا بعد سنوات طويلة أن هذا التعبير ضربٌ من التكرار والحشو؛ ذلك لأن الصلاح يتحدد في الحقيقة بأنه القدرة على البقاء، ومن ثم فإن البقاء لمن يبقى على قيد الحياة (بيترز، ١٩٧٦م).

وتنطوي عبارة داروين «الانتخاب الطبيعي» على نزعة حتمية ضمنية أن ما كان طبيعيًّا هو أيضًا ما كان نافعًا ومرغوبًا. ويذهب الداروينيون الاجتماعيون في نظرتهم إلى العالم إلى أن البشر والمجتمع البشري كانوا جزءًا من الطبيعة، ومن ثم صادف مفهوم الطبيعية؛ أي حالة الفطرة الطبيعية آنذاك، مثلما تصادف الآن هوًى وإعجابًا. ولا ريب في أن النظر إلى الإنسان كجزء من الطبيعة لا بد من أن يعني — كنتيجة منطقية — أن كل ما هو بشري فهو طبيعي، أي ينتمي إلى الطبيعة، ولا شيء غير طبيعي. وهكذا يبدو مفهوم الطبيعة غير ذي معنًى. ولكن يبدو أن أحدًا لم يدرك أن هذا لم يكن مقولة موضوعية بل مفهومًا تعسفيًّا مثقلًا بأحكام القيمة، ونحن إذ نصف التطور بأنه طبيعي إنما نحول دون أنفسنا والاختيار؛ إذ أصبح كل شيء متروكًا للسيادة الحرة للقوى العظمى. ولم يجرؤ أحد على كسر نظام الطبيعة أو أن يتساءل عن مدى استصواب الانتخاب الطبيعي. وهكذا كان التطور والتقدم مترادفَين.

واستخدم المفكرون الداروينية الاجتماعية لتبرير كل أنواع النزعات الليبرالية والإمبريالية والعنصرية والنازية والفاشية وتحسين النسل … إلخ. وإنني أُمسك عن ذكر قوائم الأيديولوجيات العديدة التي تعززت بفضل مفهوم الداروينية الاجتماعية؛ إذ سبق أن تناولت كتبٌ عديدة هذا الموضوع، ولكنني أكتفي هنا بملاحظة أن الداروينية الاجتماعية لم يرفضها أحد إلى أن كشفت الحرب العالمية الثانية عن الأهوال المروعة التي أفضى إليها هذا الفكر.

كيلر

انتقد عالم الاجتماع الأمريكي ألبرت جي كيلر الداروينيين الاجتماعيين السابقين؛ لأنهم أقاموا نظريتهم التطورية على الوراثة العضوية (١٩١٦م). ورفض — في إشارة منه إلى وايزمان — فكرة أن الخصائص المكتسبة مثل التقاليد والأخلاق يمكن وراثتها.

استوحى كيلر القاعدة العامة عن التطور البيولوجي عند داروين؛ التي تقول إن النتيجة المشتركة للتباين والانتخاب والتكاثر تفضي إلى التكيف. وقدم تعريفًا على أساس من التماثل المجرد للتباين الاجتماعي والانتخاب الاجتماعي والتكاثر الاجتماعي. واعتبر كيلر أن هذه فكرته هو، وأشار بطبيعة الحال إلى عديد من المفكرين الاجتماعيين البريطانيين، بمن فيهم سبنسر وباجهوت، غير أنه ذهب إلى أن نظرياتهم ترتكز على الوراثة العضوية، ولم يكن يعرف شيئًا عن ليزلي ستيفين.

ويمثل كتاب كيلر دراسة نسقية فاحصةً للعوامل الثلاثة: التباين والانتخاب والتكاثر، وهو ما يجعلنا نعتبره أول من قدم عرضًا شاملًا لنظرية الانتخاب الثقافي. وكان لا بد أن تمضي سنوات كثيرة قبل نشر مناقشة موازية لذلك؛ من حيث الشمول للانتخاب الثقافي. وعرض كيلر وصفًا للكثير من آليات الانتخاب المختلفة، واستخدم مصطلح الانتخاب العفوي automatic selection لتشخيص ناتج الصراعات. ورأى أن هذه الصراعات يمكن أن تكون دمويةً أو غير دموية، وأطلق على نقيض الانتخاب العفوي اسم الانتخاب العقلاني rational selection؛ أي ناتج قرارات عقلانية مبنية على المعرفة. ومايز كيلر بوضوح بين الانتخاب البيولوجي والثقافي، وبين الملاءمة أو الصلاحية fitness البيولوجية والثقافية. وأكد أن العمليتين كانتا في صراع مع بعضهما؛ مما يفضي إلى مسارات مختلفة الاتجاهات (كيلر، ١٩١٦م). وقال إن التكاثر الاجتماعي يتم عن طريق التراث والتعليم والعقيدة وعبادة السلف. ووصف الدين بأنه قوة توجيه وحفظ مَكينةٍ للغاية:

«كان النظام تحديدًا هو ما يحتاج إليه البشر وقتما كان الجنس البشري في طفولته، وظل بحاجة إلى النظام منذ ذلك التاريخ؛ إذ يتعين على البشر أن يتعلموا كيف يتحكمون في أنفسهم. وعلى الرغم من أن النظام المحدِّد للعلاقات حقق انضباطًا مهمًّا إلا إن القائمين عليه هم مجرد بشر؛ ومن ثم كان الرئيس مضطرًا إلى أن يغفو بين الحين والآخر، وغير قادر على أن يكون هنا وهناك وفي كل مكان في وقت واحد، كما كان بالإمكان خداعُه وتجنُّبه. ولكن الحال ليس كذلك بالنسبة للأشباح والأرواح؛ ذلك أن عين الروح الحارسة للبشر تُبصر كل شيء ولا تأخذها سِنة من النوم، ولا تخفى عليها خافية في الزمان أو المكان. وإن إثبات كل هذا في سجلٍّ أمرٌ لا ريب فيه. هذا علاوة على أن عقوبة الخطيئة مروعة، ومع التسليم بأن الرئيس يمكنه أن يضرب أو يبتر أو يفرض غرامة أو يقتل إلا إن ثمَّة حدودًا لكل ما له أن يفعله. هذا على عكس الحال بالنسبة للأرواح؛ إذ يمكنها أن تصيب الناس بأضرار وأذًى لا عهد لهم بها، وأن تبتليَهم بتشوهات وتحوِّلهم إلى مُسوخ. ويمتد سلطانها إلى ما بعد القبور، وتتجاوز قدراتها على الإيذاء حدود أقصى الخيالات إثارةً (…) وليس ثمة شكٌّ في أن القيمة الانضباطية لهذا فاقت قدرة كل مظاهر القوة والقهر التي عرَفتها البشرية طَوال تاريخها.»

(سمنر وكيلر Sumner & Killer ١٩٣٧م)

وتميز نقد كيلر للداروينية الاجتماعية (١٩١٦م) بأنه نقد علمي محض وليس سياسيًّا. وناصَر كيلر فكرة تحسين النسل التي ساد اعتقاد، على نطاق واسع حتى الحرب العالمية الثانية، بأنها فكرة تقدمية.

(٣) الوظيفية

تصور سبنسر المجتمع في صورة كائن عضوي حي، حيث شبَّه المؤسسات المختلفة بأعضاء الجسم التي تؤدي وظائف مماثلة. مثال ذلك أنه رأى الحكومة تماثل المخ، والطرق تشبه العروق والشرايين. وشاعت هذه الصورة المجازية بين العلماء فيما بعد، وأفضت إلى ظهور تيار فكري عُرف باسم الوظيفية functionalism. وتُعنى هذه المدرسة النظرية بوظيفة المؤسسات المختلفة داخل المجتمع؛ لذلك بدت الوظيفية في الأساس نظرية سكونية (ستاتيكية) static، نادرًا ما تُعنى بدراسة التغير. وعلى الرغم من النقد الشديد الذي انصبَّ خلال هذه الفترة ضد النزعة التطورية، إلا أنه لم يكن ثمةَ تناقض بين النزعة التطورية والوظيفية. وأعرب بعض الوظيفيين المبرزين عن أسفهم لعدم شيوع النزعة التطورية:

«لا تمثل النزعة التطورية الآن الاتجاه السائد، هذا على الرغم من أن فروضها الرئيسية ليست فقط صحيحةً بل إنها أيضًا ضرورية ولا غنَى عنها للباحث الميداني، وكذا لدارسي النظرية.»

(مالينوفسكي Bronislav Malinowski، ١٩٤٤م)
ودافع الوظيفيون عن عدم اكتراثهم بالنظرية التطورية، زاعمين أن أي تحليل تطوري لا بد وأن يسبقه تحليل بنيوي ووظيفي للمجتمع (بوك، ١٩٦٣م). ونجد واحدًا من أشهر الأنثروبولوجيين، وهو ألفريد آر، رادكليف براون Alfred R. Radcliffe-Brown، يؤمن بنظرة مماثلة تماثل نظرة زميله الشهير برونيسلاف مالينوفسكي عن النزعة التطورية (رادكليف-براون، ١٩٥٢م). ومايَز بين أنواع مختلفة من التغيرات في المجتمع؛ أولًا: التغيرات الأساسية التي تطرأ على مجتمع بوصفها محاولةً للتكيف مع الظروف الخارجية المتغيرة. ثانيًا: تكيف المؤسسات الاجتماعية المختلفة مع بعضها البعض. ثالثًا: تكيف الأفراد مع هذه المؤسسات. وعرض رادكليف-براون هذه التغيرات في عبارات عامة فقط تحت مسمى «التوافق» adjustment و«التكيف» adaptation.
ولكن مالينوفسكي نراه من ناحية أخرى يدخل في المزيد من التفصيلات عن النزعة التطورية. ويذهب مالينوفسكي إلى أن الظاهرة الثقافية يمكن أن تجد مكانها داخل مجتمع ما؛ إما عن طريق الابتكار أو الانتشار وافدةً من مجتمع آخر. ويعتمد اطراد بقاء الظاهرة على تأثيرها على ملاءمة وصلاحية الثقافة، أو على ما تنطوي عليه من «قيمة البقاء». ويولي مالينوفسكي أهمية كبرى للانتشار diffusion في هذا السياق. وحيث إن الظواهر الثقافية يمكنها — على عكس الجينات — أن تنتقل من فرد إلى آخر، أو من مجتمع إلى آخر؛ فإن الحروب — حسبما يرى مالينوفسكي — ليست ضرورية من أجل اطراد عملية التطور الثقافي. كذلك فإن المجتمع الآخذ في التحلل يمكنه إما أن يدخل تحت سلطان مجتمع أكثرَ فعاليةً وكفاءة، أو أن يتبنى مؤسسات الثقافة الأرقى. وسوف تؤدي عملية الانتخاب هذه إلى تولُّد قدر أكبر من الكفاءة وخلق ظروف حياتية حسنة (مالينوفسكي، ١٩٤٤م).

ويمكن يقينًا المؤالفةُ بين النزعة الوظيفية والتطورية في مركب واحد طالما وأن نظرية الانتخاب تمثل رابطة ممكنة بين وظيفة أي مؤسسة ثقافية وأصلِها الذي نشأت عنه. ويبين واضحًا أن المؤسسة الوظيفية سوف تتغلب على المؤسسة الأقل كفاءةً أثناء عملية الانتخاب الثقافي (دور، ١٩٦١م). وإذا وضعنا هيمنة الفكر الوظيفي في الاعتبار، ليس لنا أن ندهَش لعودة ظهور النزعة التطورية في صورة ميلاد جديد حوالي ١٩٥٠م.

(٤) التطورية الجديدة

يفيد اسم التطورية الجديدة ضمنًا معنَى أن ثمة شيئًا جديدًا، وهو ما قد يكون خادعًا إلى حد ما. ورفض بعض التطوريين الجدد هذا المصطلح وأطلقوا على علمهم اسم «التطورية القديمة الواضحة». وهكذا كانت هي! (ساهلين وسيرفيس، ١٩٦٠م، ص٤). والمعروف أن تراث هذا الفكر، ابتداءً من سبنسر وحتى تايلور، استمر دون إضافة الكثير من الفكر الجديد. وركز التطوريون الجدد اهتمامهم على وصف تطور المجتمعات عبر عدد من المراحل. وأوضحوا أوجه التماثل بين العمليات التطورية المتوازية، مع الكشف عن قاعدة مشتركة لاتجاه التطور. ونلحظ أن أحد الفوارق المهمة التي تختلف عن النزعة التطورية للقرن التاسع عشر هو أن قوانين الوراثة البيولوجية باتت معروفة للجميع؛ ومن ثم ليس لأحد أن يستمر في الخلط بين الوراثة الجينية والاجتماعية، كما أصبح هناك خط فاصل يمايز بوضوح بين التطور العرقي والتطور الاجتماعي، ولم تعد ثمة نظرياتٌ عرقية، كما أضحت التطورية الاجتماعية القديمة مرفوضة.

فإذا كانت الوراثة الجينية تنتقل فقط من الأبوين إلى الأبناء، فإن التراث الثقافي ينتقل في كل الاتجاهات حتى بين شعوب لا علاقة بينهم. لذلك رأى التطوريون الجدد أن الانتشار لا أهمية له، ورأوا أن ثقافةً ما يمكن أن تندثر دون أن يندثر الشعب الحامل لهذه الثقافة. معنى هذا بعبارة أخرى أن التطور الثقافي على عكس التطور الجيني ليس رهن ميلاد ووفاة الأفراد (تشايلد، ١٩٥١م).

ويمثل التلاقي convergence أحد النتائج المهمة للانتشار؛ هذا بينما كان التباعد divergence سمة التطور الاجتماعي في المجتمعات البدائية فيما قبل التاريخ؛ إذ حاولت كل قبيلة على حِدَةٍ التكيفَ بطريقتها الخاصة المميزة مع بيئتها. ولكن الاتصالات في المجتمع الحديث لها فعاليتها الشديدة؛ بحيث إن الانتشار له دور مهم ورئيسي. وتتحرك جميع الثقافات في اتجاه واحد؛ لأن الابتكارات النافعة تنتشر من مجتمع إلى آخر، ومن ثم يحدث التلاقي (هاردنج، ١٩٦٠م؛ ميد، ١٩٦٤م).

ورأى التطوريون الجدد أن من المهم الكشف عن قانون عام شامل يصور لنا اتجاه التطور:

«لكي يكون المرء تطوريًّا يتعين عليه أن يحدد اتجاهًا للتطور …»

(بارسونز، ١٩٦٦م، ص١٠٩)

وظهرت اتجاهات كثيرة تحدثنا عن ماهية هذا الاتجاه. وذهب تشايلد إلى أن التطور الثقافي سار في نفس اتجاه التطور البيولوجي، بل وأضحى في الواقع بديلًا عنه. وذكر على سبيل المثال أننا نرتدي معطفًا من الفرو حين يبرُد الجو؛ بدلًا من أن ينبُت فروٌ لنا؛ كما هو الحال بالنسبة للحيوانات. وسبق لسبنسر أن وصف اتجاه التطور بأنه حالة من التعقد والتكامل المطرد. ولا تزال هذه الفكرة تجد أنصارًا كثيرين لها بين التطوريين الجد (كامبل، ١٩٦٥م؛ إيدر، ١٩٧٦م).

ورأى ليزلي هوايت (١٩٤٩م) أن التكامل والدمج يعني سيطرة سياسية قوية ووحداتٍ سياسيةً أكبر، يتزايد حجمها دائمًا وأبدًا. ولم يكن هذا التكامل هدفًا في ذاته بل وسيلة نحو الهدف الحقيقي للتطور؛ ألَا وهو استخدام الطاقة بأكبر قدر ممكن وعلى نحو أكثر كفاءة. ودافع هوايت بلغة الديناميكا الحرارية عن وجهة النظر القائلة بأن استغلال الطاقة هو المقياس الكلي الشامل للتطور الثقافي. وعبَّر عن هذا بالصيغة التالية:

طاقة × تقانة ثقافة
ووصف تالكوت بارسونز (١٩٦٦م) وآخرون خاصية اتجاه التطور بأنها تراكم معرفي مطرد الزيادة دائمًا وأبدًا، وتحسُّن مستمر في قدرة البشر على التكيف (ساهلينز، ١٩٦٠م؛ كابلان دي، ١٩٦٠م؛ وبارسونز، ١٩٦٦م). وأورد ييهودي كوهن Yehudi Cohen (١٩٧٤م) قائمة بالعديد من المعايير التي يلخصها في عبارة محاولات الإنسان لتحرير نفسه من قيود الموئل. وعرَّف عالم الحيوان ألفريد إمرسون التطور الثقافي بأنه الاتزان الحيوي (التنظيم الذاتي)، وانتقده آخرون بسبب استخدامه لهذا المفهوم على نحو كلي شامل وغير محدد ومثقَل بأحكام القيمة (إمرسون، ١٩٦٥م). ونجد التعريف الجامع المانع لاتجاه التطور في كتابات مارجريت ميد (١٩٦٤م، ص١٦١م):

«إن الاتجاهية أو تحديد الاتجاه في أي فترة بذاتها تأتي محصِّلة الوضع التنافسي للابتكارات الثقافية لأنماط مختلفة والوضع التنافسي للمجتمعات الملتزمة بها. وإن ناتج كلٍّ من هذا التنافس بقدر ما ينطوي على تحوُّل لا رجعة عنه (مثال ذلك في حالة تدمير الموارد الطبيعية أو ابتكار يُلغي ابتكارًا قديمًا ويتفوق عليه) يحدد مسار الاتجاه.»

وهذا حشو فارغ تمامًا من المعنى حتى إن المرء لا يسعه إلا أن يتساءل في دهشة كيف تسنى للتطوريين الجدد الالتزامُ بزعمهم أن التطور يتخذ اتجاهًا قابلًا للتحديد!

والشيء اللافت للنظر أن غالبية التطوريين الجدد استنفدوا في دراستهم لمسار واتجاه التطور طاقةً تفوق كثيرًا ما استنفدوا من أجله دراسة الآليات الأساسية للتطور. وقنع أغلبهم بتكرار ثلاثة عناصر تضمنتها القاعدة العامة عند داروين: التباين والانتخاب والتكاثر، دون الدخول في التفاصيل. وإن ما يثير الدهشة بوجه خاص اهتمامُهم الضئيل بعملية الانتخاب. ونحن لا نكاد نجد واحدًا منهم حريصًا على بيان المعايير التي حددت أي القسمات دعمها الانتخاب الثقافي، وأيها تم التخلص منها. واكتفوا بالمعيار العام: قيمة البقاء، وظل الحشو الزائد سائدًا. ونلحظ أنهم بسبب انتفاء معيار الانتخاب فقدوا كل حُجة توضح لماذا يتعين على التطور أن يتخذ المسار المزعوم.

وظهر أيضًا قدر من الخلط والاضطراب بشأن بيان ماهية وحدة الانتخاب؛ هل الأعراف الاجتماعية هي ما يجري انتخابها أم الناس الحاملون لها؟ أم أن المجتمعات على بكرة أبيها هي موضوع عمليات الانتخاب؟ أخفق بعض المفكرين في تحديد أي وحدة من وحدات الانتخاب تمامًا. واستخدم الكثيرون كلمة ابتكار (تشايلد، ١٩٣٦م؛ ١٩٥١م). وكانت لدى إمرسون (١٩٥٦م؛ ١٩٦٥م) فكرة تقضي بأن الرموز تناظر في التطور الثقافي الجيناتِ في التطور البيولوجي. وذكر بارسونز (١٩٦٦م) عديدًا من وحدات الانتخاب المحتملة. وعرضت ميد القائمة الأكثر اكتمالًا بوحدات الانتخاب الممكنة:

«سمة واحدة، مجموعة متكاملة من السمات، بنية كاملة، مرحلة من التعقد في استخدام الطاقة، نمط من التنظيم الاجتماعي.»

(ميد، ١٩٦٤م)

وقدم عدد قليل من العلماء عرضًا تفصيليًّا معقولًا لعمليات الانتخاب المحتملة (موردوك، ١٩٥٦م؛ كابلان دي، ١٩٦٠م؛ بارسونز، ١٩٦٦م). ونجد القائمة الأكثر شمولًا لآليات الانتخاب في مقال يأتي ذكره مرارًا كثيرة لعالم النفس الاجتماعي دونالد كامبل (١٩٦٦م):

«البقاء الانتخابي لتنظيمات اجتماعية كاملة. والانتشار أو الاستعارة على أساس الانتخاب بين الفرق الاجتماعية، والشيوع الانتخابي لتباينات وقتية عابرة، والمحاكاة الانتخابية للتباينات فيما بين الأفراد، والارتقاء الانتخابي إلى مستوى القيادة والأدوار التعليمية، والانتخاب العقلاني الرشيد.»

وذهب فلاسفة عديدون إلى أن المعارف العلمية البشرية تتطور على أساس الانتخاب من بين الفروض العلمية (كون، ١٩٦٢م؛ بوير، ١٩٧٢م؛ وتولمين، ١٩٧٢م؛ هول Hull، ١٩٨٨م).
واستحدث عالم الاجتماع الألماني كلاوس إيدير Klaus Eder نموذجًا نجد فيه عملية انتخاب الهياكل المعرفية دون المعرفة المجردة هي الحاكمة لعملية التطور الثقافي. وتمثل هنا عملية الهيكلة المعنوية للسلوك التفاعلي عند الإنسان، ومنظومات التأويلات الدينية، والهيكلة الرمزية للعالم الاجتماعي؛ عناصرَ مهمةً في النظرة إلى العالم، والتي يرتكز عليها الهيكل الاجتماعي. ويرى إيدير أن ما يحكم التطور الاجتماعي هو الطفرات في هذا الهيكل المعرفي والمكافأة الانتخابية العائدة عن هذه الابتكارات المعنوية التي تحسِّن من قدرة المجتمع على حل المشكلات، ومن ثم تدعم قدرته على صون نفسه واطراد بقائه. وتفيد نظرية إيدير أن أهم العوامل تتمثل في التكيف مع الأوضاع الإيكولوجية والظروف الداخلية الأخرى. ولكنه يولي أهمية ضئيلة للعوامل الخارجية مثل الاتصال بالمجتمعات الأخرى (إيدير، ١٩٧٦م).
ويتمثل النقد الرئيسي ضد النزعة التطورية في القرن التاسع عشر في أنها لم تمايز بين التطور والتقدم، وكانت النظريات في الغالب الأعم نظرياتٍ غائية، وثمة كلمة أخرى استخدمها كثيرًا النقاد في نقدهم للنزعة التطورية؛ وهي الخطية الأحادية unilinearity، وتشير هذه العبارة إلى فكرةٍ مؤداها أن جميع المجتمعات مرت عبر سلسلة خطية واحدة من مراحل التطور. ويعني هذا بعبارة أخرى حتمية كونية ومفهوم المسارات التطورية المتوازية. وكان الشغل الشاغل للتطوريين الجدد في القرن العشرين هو التصدي لهذا النقد عن طريق الزعم بأن نظرياتهم متعددة الخطوط multilinear. وأكدوا وجود فوارق كلية بين المجتمعات المختلفة ناجمة عن اختلاف البيئات وظروف الحياة. بيد أن زعمهم بشأن الخطية المتعددة multilinearity بدا خاطئًا في التعبير إلى حد ما؛ نظرًا لأنهم ظلوا على تصورهم بأن ثمة مقياسًا خطيًّا لقياس مستوى التطور (انظر: ستيوارت ١٩٥٥م في مناقشته لهذه المفاهيم).

وفي عام ١٩٦٠م شهدت النظرية التطورية انقسامًا ثنائيًّا جديدًا: التطور النوعي أو الخاص المحدد مقابل التطور العام، ويشير التطور النوعي إلى تكيف نوع أو مجتمع ما مع الأوضاع المحلية للحياة أو مع موطن ملائم بذاته. ولكن التطور العام يعني قدرة عامة على التكيف حسنة الإمكانيات. ومن ثم فإن نوعًا أو مجتمعًا ما لديه قدرة تكيفية عالية يمكنه أن يتفوق في المنافسة على مجتمع أو نوع متكيف تكيفًا خاصًّا محددًا خاصة حين تكون المنافسة داخل بيئة متغيرة. ونجد في حالات أخرى أن النوع أو المجتمع ذا القدرة التكيفية الخاصة المحددة يمكنه البقاء في بيئة استيطانية بذاتها (ساهلين وسيرفيس، ١٩٦٠م). وبدا أن هذا الانقسام الثنائي حسم الاضطراب الذي كان سائدًا؛ حيث التطور العادي أحادي الخط؛ بينما التطور الخاص المحدد متعدد الخطوط (هوايت، ١٩٦٠م).

ولجأ الباحثون إلى التطورية الجديدة أساسًا من أجل تفسير الفوارق بين البلدان الصناعية والبلدان النامية، وكذا بين الماضي والحاضر. وانصبَّ الحديث بشكل رئيسي على المبادئ الأساسية، ونادرًا ما تطرَّق إلى التاريخ التطوري لثقافات محددة أو لوقائع تاريخية بذاتها. واقتصرت الطاقة التفسيرية للنظريات عادةً على ما هو جليٌّ واضح: إن ابتكاراتٍ معينةً تنتشر لأنها نافعة، بينما الابتكارات غير النافعة مآلها النسيان.

ونلحظ أن علماء الاجتماع المعاصرين حريصون غالبًا على أن ينأوا بأنفسهم بعيدًا عن التطورية الاجتماعية. ولكن لا يزال الفكر التطوري — على الرغم من كل هذا — هو السائد في كثير من مجالات البحث في العلوم الاجتماعية، ولا تزال النظريات التطورية تجد سبيلها إلى النشر (مثال ذلك جرابر آر بي، ١٩٩٥م).

(٥) النزعة الانتشارية Diffusionism

تمثل النزعة الانتشارية تراثًا بحثيًّا آخر اعتبره الباحثون على مدى سنوات طويلة بديلًا عن النزعة التطورية. ويركز هذا التراث البحثي على الانتشار دون الابتكار، ويرى في الانتشار تفسيرًا للتغير الاجتماعي. وإذا شئنا الدقة نجد أن التصوير الانتشاري يتضمن العناصر الثلاثة ذاتها التي تنبني عليها النزعة التطورية: الابتكار والانتخاب والتكاثر، ولكن منظورًا إليها من زاوية أخرى. والفارق بين إطارَي الفكر في النزعتين أن الانتشار يركز على البعد المكاني للتكاثر؛ بمعنى الانتشار الجغرافي للظاهرة، هذا بينما تركز النزعة التطورية على البعد الزمني للتكاثر؛ بمعنى اطراد وجود الظاهرة وبقائها في حالة جيدة. ويعتبر الانتشاريون الابتكار حدثًا نادرًا وفريدًا، بينما يقر التطوريون بإمكانية حدوث الابتكار نفسه مراتٍ عديدةً في أماكن مختلفة مستقلة عن بعضها. ولم يناقش الانتشاريون إلا نادرًا مفهومَ الانتخاب تحت هذا الاسم، على الرغم من أنهم تناولوا كثيرًا مفاهيم مثل عوائق الانتشار أو قابلية تلقِّي أفكار جديدة (أورمرود، ١٩٩٢م). ويعتبر كثيرون من الانتشاريين أنفسهم معارضين للنزعة التطورية دون أن يدركوا أن الفارق بين النموذجين فارق كمي وليس كيفيًّا.

ويعتبر عالم الاجتماع الفرنسي جابرييل تارد أول العظام بين العلماء الانتشاريين. لم ينكر نظرية الانتخاب الطبيعي، ولكنه رأى أن هذه النظرية تعميم كامل أوليناه أهميةً أكبر مما يمكن أن تبرره طاقته التفسيرية؛ علاوةً على أن الوقائع العشوائية لها دور أهم مما يظنه التطوريون (تارد، ١٨٩٠م؛ ١٩٠٢م). ولم يكن تارد مؤمنًا بالحتمية على الرغم من إقراره لأهمية التقدم؛ إذ يرى أن التقدم ليس حتميًّا. ونلحظ أن التقليد هو الكلمة المفتاح في نظرية تارد. وتنتشر الابتكارات من شعب إلى آخر عبر التقليد. ومايَز بين نوعين من الابتكارات: تراكمية وبديلة. ويعني بالابتكارات البديلة الأفكارَ والأعراف التي لا يمكن أن تنتشر دون أن تحل بديلًا عن فكرة أو عرف آخر. وتسلل الانتخاب عبر هذا المفهوم إلى نظرية تارد تحت اسم التعارض؛ ذلك أن التعارض بين الابتكارات البديلة يمكن أن يأخذ صورة حرب أو منافسة أو حوار (تارد، ١٨٩٠م؛ ١٨٩٨م).

داعية آخر من الدعاة الأوائل للنزعة الانتشارية هو عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي فرانز باوس. والمعروف أن باوس هو أول من بدأ النقاش لبيان ما إذا كانت أوجه التماثل بين الثقافات المتباعدة مرجعها إلى الانتشار أم إلى ابتكارات مستقلة. وانتقد باوس التطوريين؛ لأنهم أوْلَوا التطور المتوازي أهمية كبيرة جدًّا؛ حيث افترضوا أن الظاهرة ذاتها ظهرت مستقلة في أماكن مختلفة. ويعتبِر الباحثون عادةً باوس أعظم مناهضي النزعة التطورية. ولكن الجدير بالذكر أنه رفض الأساس النظري للنزعة التطورية. وعارض باوس التعميمات الكبرى، وأكد على أن بالإمكان تفسير أوجه التماثل بين ثقافتين في ضوء الانتشار أو التطور المتوازي، وأن من المستحيل التمييز بين هذين الاحتمالين دون بحث وتمحيص دقيقين (هاريس Harris، ١٩٦٩م، ص٢٥٩، ٢٩١). وقدم في مناقشاته أمثلة على كلٍّ من الانتشار والابتكار الموازي. ويوضح لنا الاقتباس التالي أنه يقر بالفعل بأن العمليتين تحكمهما عملية الانتخاب ذاتها:

«عندما يستحدث العقل البشري فكرة ما، أو عندما يستعير الفكرة ذاتها، لنا أن نفترض بأنها تطورت أو صادفت قبولًا؛ لأنها تنسجم مع تنظيم العقل البشري، هذا وإلا ما كان بالإمكان تطويرها أو قَبولها. وكلما اتسع نطاق انتشار فكرة ما، سواء أصيلة أم مستعارة، كانت أكثر تطابقًا وانسجامًا مع القوانين الحاكمة لأنشطة العقل البشري. وسوف يزودنا التحليل التاريخي بالبيانات الخاصة بنمو الأفكار بين أناس مختلفين. كذلك فإن مقارنة عمليات نموها سوف تزودنا بالمعارف اللازمة عن القوانين الحاكمة لتطور وانتخاب الأفكار.»

(باوس، ١٨٩٨م، الاقتباس عن ستوكنج Stocking، ١٩٧٤م)

وعمد الانتشاريون اللاحقون إلى وصف الخاصيات المميزة ذات الأهمية لابتكار ما؛ بحيث تجعله ينتشر أو لا ينتشر. ويعرض أفرين روجرز الخاصيات التالية لابتكار ما، والتي يراها مهمة: فائدة كلٍّ من البدائل، والملاءمة مع الهياكل القائمة، والتعقد، وإمكانية التجريب، وإمكانية الملاحظة. ولكن روجرز لا يفتأ يكرر مرارًا أن الخاصيات المدركة، وليست الخاصيات الموضوعية للابتكار، هي المهمة (روجرز، إي. إم. ١٩٨٣م). وإنه بتأكيده هذا يجعل محور التحكم مَنوطًا بالطرف المحتمل له أن يتبنى ابتكارًا جديدًا دون الابتكار ذاته الفاقد للحياة. وها هنا يكمن البرنامج الخفي للنزاع بين الانتشاريين والتطوريين؛ ذلك أن الانتشاريين يريدون تأكيد نظرة إلى العالم محورها الإنسان؛ حيث العالم تحكمه قرارات واعية لأشخاص ذوي إرادة حرة. هذا بينما نموذج النزعة التطورية التي لا تعتمد على محورية الإنسان يعزو قدرًا كبيرًا من التحكم للمصادفة، وغالبًا ما يعزوه إلى آثار غير مدرَكة مسبَّقًا وإلى آليات عفوية.

وإن أوضح فارق بين النزعة الانتشارية والنزعة التطورية هو أن الانتشارية تمثل أولًا وقبل كل شيء تقليدًا يركز على دراسة الحالة الفردية؛ ذلك أنها تركز على دراسات بعينها لظواهر محددة الإطار، وتحاول رسم خارطة للتوزيع الجغرافي لعرف بذاته أو تقانة بعينها، واكتشاف موطن النشأة الأولى وكيفية الانتشار. ويرفض الانتشاريون التعميمات الكبرى، ويؤمنون بالوقائع التي تحدث مصادفةً أكثر من إيمانهم بالقوانين الكلية. ولكن النزعة التطورية على العكس من ذلك؛ فهي علم معنيٌّ بصياغة القوانين ونادرًا ما يعكف على دراسة تفاصيل بذاتها (هاريس، ١٩٦٩م).

ويمكن لنا أيضًا أن نصور الفارق بين تقليد البحث في كلٍّ من المدرستين بأنه فارق بين مجاز كيميائي-فيزيائي ومجاز بيولوجي. ذلك أن الانتشار أشبه بعملية تمتزج خلالها جزيئاتٌ مختلفة نتيجةَ حركاتها العشوائية. واستخدم الانتشاريون الحركة العشوائية للجزيئات بوصفها صورةً مجازية لانتشار الأعراف داخل المجتمع، وأكدوا بذلك على أهمية العشوائية. وطبيعي أن يجذب هذا التعبير المجازي انتباه العلماء تجاه البعد المكاني والسرعة التي تنتشر بها الأعراف جغرافيًّا، وكذلك تجاه العوائق التي تعيق هذا الانتشار. ويشمل المجاز الجانب الحركي فقط دون الابتكار أو الانتخاب أو التكاثر؛ إذ إن هذه الجوانب الثلاثة الأخيرة تخص المجاز البيولوجي الذي ترتكز عليه النزعة التطورية الاجتماعية. وتركز النزعة التطورية على بُعد الزمان، وترى أن من الأهمية بمكانٍ ملاحظةَ أن البعد الزمني غير قابل لأن يعكس اتجاهه. والملاحظ أنه بسبب عدم قابلية عكس الاتجاه تركَّز انتباه التطوريين على اتجاه التطور. وهكذا أصبحت النزعة التطورية فلسفة حتمية عن التقدم.

وجدير بالملاحظة أن الصيغة الأكثر تطرفًا للنزعة الانتشارية مبنية على مفهوم وجود مراكز ثقافية قليلة، تظهر فيها الابتكارات كمعجزات ثم تنتشر من المركز في دوائر متحدة المركز. ونبع هذا الخط الفكري أساسًا من خلال دوائرَ دينية كرد فعل ضد النزعة التطورية الملحدة، وأيضًا كمحاولة لجعل العلم متناغمًا مع القصة المسيحية عن الخلق (هاريس، ١٩٦٩م).

وكم هو عسيرٌ الزعمُ بأن النزعة التطورية الباكرة تمثل مدرسةً نظرية؛ ذلك لأنها ظهرت أولًا وقبل كل شيء ردَّ فعل ضد عمليات التنظير المفرطة من جانب التطوريين. ونجد أكثر من ذلك أن هناك من وصف النزعة الانتشارية بأنها لا مبدئية (هاريس، ١٩٦٩م).

والملاحظ أن دراسات كثيرة عن الانتشار ظهرت مستقلة عن بعضها في كثير من دوائر البحث المختلفة، وظهرت جميعها خلال القرن العشرين، وكانت في الأساس دراسات تنصب على حالات فردية، وهي كثيرة جدًّا بحيث يتعذر ذكرها هنا (انظر: كانز وآخرين، ١٩٦٣م؛ روجرز إي. إم. ١٩٨٣م). ويدرس غالبية الانتشاريين الابتكارات فقط، والتي يقال إنها نافعة؛ مما قد يجعلهم يُغفلون معايير الانتخاب (روجرز إي. إم. ١٩٨٣م).

وحدث، بين الحين والآخر، أنِ اقترنت الدراسات عن الانتشار بالتفكير الدارويني، وهو ما يتمثل في علم اللغة (جرينبرج، ١٩٥٩م). وقد يبدو من غير المنطقي تطبيق نظرية الانتخاب على علم اللغة؛ نظرًا لأنه من الصعوبة بمكان يقينًا على علماء اللغة تفسيرُ لماذا كلمة مرادفة أو طريقة نطق كلمة تنتشر على حساب أخرى؛ إذا كانتا متكافئتين مبدئيًّا من حيث إمكانية الاستعمال. ويفترض جيرارد وآخرون (١٩٥٦م) أن معايير الانتخاب تقضي بأن تكون الكلمة بالضرورة سهلة النطق ويسيرة الفهم.

ودافَع عالم الجغرافيا ريتشارد أورمرود Richard Ormrod عن تبنِّي مفهومَي التكيف والانتخاب في الدراسات عن الانتشار. ويرى أن الابتكار الذي ينتشر ينتخبه أفراد تقديريون، وهم الذين يقررون ما إذا كانوا يتبنَّون الابتكار أم لا. ويذهب أورمرود إلى ملاءمة وصلاحية ابتكار ما رهنَ ظروف وأوضاع كلية، وأن ما هو صالح في مكان ما قد لا يكون كذلك في موقع آخر. ومن ثم غالبًا ما تطرأ تعديلات على الابتكارات بهدف ملاءمتها مع الظروف المحلية (أورمرود، ١٩٩٢م).

وجدير بالذكر أن النظريات الانتشارية الأحدث عهدًا خرجت بصورة أو بأخرى عن التقليد المعنيِّ فقط بدراسة الحالة الفردية، واستحدثت نزعة شكلية رياضية تفصيلية تمكِّن الباحث من وصف سرعة انتشار الابتكارات في المجتمع (هامبلين وآخرون، ١٩٧٣م؛ فالنت، ١٩٩٣م). ونذكر بهذه المناسبة أن علماء البيولوجيا الاجتماعية أنتجوا نماذج رياضية مشابِهة تمامًا عن الانتشار الثقافي (أيوكي وآخرون، ١٩٩٦م). ولكن لا تزال المدرستان تتطوران في خطين متوازيين دون أن ترجع إحداهما إلى الأخرى.

(٦) البيولوجيا الاجتماعية Sociobiology

في مطلع العَقد السابع من القرن العشرين شهدت ساحة البيولوجيا منظورًا جديدًا فيما يتعلق بتفسير السلوك الاجتماعي للحيوانات والبشر على أساس العوامل التطورية والجينية والإيكولوجية. ونجد المؤلف الرئيسي المعبر عن هذا المنظور الجديد هو كتاب شهير ومثير للجدل، ألَّفه إي أو ويلسون بعنوان «البيولوجيا الاجتماعية» (١٩٧٥م)، والذي اتخذ لهذا المبحث العلمي اسمه، وحدد معناه ومجاله. أثار كتاب ويلسون نقدًا شرسًا من جانب علماء الاجتماعي (انظر على سبيل المثال: ساهلينز Sahlins، ١٩٧٦م). ويبدو أن النزاع بين النظرة البيولوجية والنظرة الإنسانية إلى الطبيعة البشرية أمر لا سبيل إلى حسمه؛ ومن ثم لا يزال الجدل الساخن دائرًا حتى اليوم وبعد مرور عشرين عامًا. وكان طبيعيًّا، كما هو واضح، أن يفكر علماء السلوك المقارن ethologist وعلماء البيولوجيا الاجتماعية في العلاقة بين الوراثة الجينية والثقافية، وقد أضاف باحثون عديدون — كل منهم مستقلًّا عن الآخر — النقاشَ إلى المنظور البيولوجي الاجتماعي والتطوري، دون علم أحدهم في الغالب الأعم بالدراسات السابقة عن هذا الموضوع.
وورد بإيجاز ذكر إمكانية الانتخاب على أساس الوراثة الثقافية في كتاب واحد من مؤسسي علم السلوك المقارن ethology، وهو كونراد لورنز Konrad Lorenz، (١٩٦٣م)، كما ورد أيضًا في كتاب ويلسون «البيولوجيا الاجتماعية» (١٩٧٥م). ويذكر ويلسون في كتاب تالٍ (١٩٧٨م) الفارق المهم بين التطور الوراثي (الجيني) والتطور الثقافي، وأن الثاني يتسق مع نظرة لامارك؛ ومن ثم فهو أسرع كثيرًا من الأول.
وحدد الآثاريُّ فريدريك دن Frederick Dunn في عام ١٩٧٠م معنى الابتكار والنقل والتكيف في حدود الرجوع صراحةً إلى التماثل مع النظرية التطورية الداروينية، وإنْ تجنَّب أي حديث عن الانتخاب الثقافي. ويبدو واضحًا أنه أراد بذلك تحاشيَ أية علاقة قد تربطه بالداروينية الاجتماعية والنزعة التطورية social darwinism وevolutionism؛ إذ رأى من الضروري أن ينأى بنفسه عنهما:

«على الرغم من أوجه التماثل العديدة التي حددها باحثون بين المفاهيم التطورية البيولوجية والتطور الثقافي، إلا أن القارئ سوف يرى حسب تقديره أنها من نوع مغاير عن تلك التماثلات التي سبق لها أن ألحقت «بالتطور الثقافي» سمعةً سيئة (…) وإنني أتجنب بوجه خاص أي شيء يوحي بأن ثمة ميولًا حتمية وضرورية تجاه زيادة التعقد و«تحسن» السمات والتراكمات الثقافية مع مرور الزمن.»

(دن، ١٩٧٠م)
وفي عام ١٩٦٨م نشر عالم الأنثروبولوجيا والسلوك المقارن إف تي كلوك F. T. Cloak مسوَّدة مبدئية عن نظرية تطورية ثقافية وثيقة الارتباط بالنظرية الوراثية (الجينية). ويتصور هنا أن الثقافة تنتقل في صورة وحدات معلومات صغيرة ومستقلة وتخضع للانتخاب. وقدم في مقالٍ تالٍ لذلك (١٩٧٥م) تفسيرًا للتمايز بين التعليمات الثقافية cultural instructions، والثقافة المادية التي تظهر بناءً على هذه التعليمات على نحو يماثل بين النمط الوراثي genotype والنمط الظاهري phenotype في البيولوجيا. وأوضح أيضًا إمكانية الصراع بين التعليمات الثقافية وحامليها؛ إذ قارن الظاهرة هنا بالطفيلي أو الفيروس.
ونشر عالم النفس رايموند كاتل Reymond Cattell كتابًا في عام ١٩٧٢م، حاول فيه بناء أخلاق على أساس علمي تطوري، وأكد على الانتخاب الثقافي للجماعة باعتباره آليةً يطور الإنسان من خلالها التعاونَ والغيرية والسلوك الأخلاقي. واعتقد أن هذه الآلية جديرة بأن تحظى بالتطوير والارتقاء، وتخيل أن بالإمكان عمل تجارب ثقافية اجتماعية عملاقة تحقيقًا لهذا الغرض. وحاول من خلال دراسته هذه أن يصوغ تطورًا ثقافيًّا على مثال فلسفة تحسين النسل.
وانعقدت عام ١٩٧١م ندوة عن التطور البشري، واقترح في هذه الندوة عالم البيولوجيا سي جي باجيما C. J. Bajema نموذجًا بسيطًا للتفاعل بين الوراثة الجينية والثقافية. وتصور هذه العملية على أنها تفاعُل تعاضدي synergistic interaction؛ حيث يجري وفقًا لهذا التصور تحديدُ الجانب الثقافي من العملية.
«يحدث التكيف الثقافي مع البيئة عن طريق النقل الفارق Differential transmission للأفكار، والذي يؤثر على الكيفية التي يدرك بها البشر بيئتهم وكيفية التفاعل معها؛ مما يؤثر في أنماط البقاء والتفاعل داخل التجمعات البشرية وفيما بينها.»
(باجيما، ١٩٧٢م)
ويعرض عالم الأنثروبولوجيا أيوجين رويل Eugene Ruhle في اجتماع آخر عام ١٩٧١م وصفًا أكثر تفصيلًا إلى حد ما لآليات الانتخاب الثقافي. أكد رويل الانتخاب النفسي خلال «صراع الفرد من أجل الإشباع». ويبدو أنه استوحى إلى حد كبير وصْفه لآليات الانتخاب من مقال كتبه دونالد كامبل عام ١٩٦٥م، على الرغم من أنه ينكر إمكانية الانتخاب الثقافي الجماعي (رويل، ١٩٧٣م).
ويعتبر لويجي كافالي سفورزا Luigi Cavalli-Sforza من أوائل علماء البيولوجيا الذين تبنَّوا فكرة الانتخاب الثقافي. وقدم خلال مؤتمر انعقد عام ١٩٧٠م نظرية عن الانتخاب الثقافي ترتكز على حقيقة أن بعض الأفكار تكون بالفعل أكثر قَبولًا من غيرها (كافالي-سفورزا، ١٩٧١م). ويبدو واضحًا من هذا النشر أن كافالي سفورزا كان يجهل تمامًا الدراساتِ السابقة عن هذا الموضوع، على الرغم من توفر قدر من المعارف لديه عن الأنثروبولوجيا. وتتمثل إشارته الوحيدة إلى الانتخاب الثقافي في حديثه عن زميله كينيث ماذير Kenneth Mather الذي ذكر الانتخاب الجماعي القائم على الوراثة الاجتماعية في كتاب له عن علم الوراثة البشرية. ولم يذكر ماذير من أين أتى بفكرته هذه. وحيث إن كلًّا من كافالي-سفورزا وماذير لم يكشفا في ذلك الوقت عن أية دراية بنظرية التطور الثقافي في العلوم الاجتماعية، يصبح لزامًا أن نفترض أنهما ابتكرا بنفسَيهما القسط الأكبر من هذه النظرية. ولعل الشيء المثير للانتباه أن المقال سالف الذكر الذي كتبه كافالي-سفورزا يشتمل على مناقشة للصعوبة في حسمِ ما إذا كانت فكرة ما تظهر في أماكن كثيرة مختلفة قد ذاعت عن طريق الانتشار أم أنها وليدة ابتكار متعدد ومستقل في آنٍ واحد.
وأصدر كافالي-سفورزا بعد ذلك، وبالاشتراك مع زميله ماركوس فيلدمان Marcus Feldman، عديدًا من المقالات القيِّمة عن الانتخاب الثقافي، والتي كان لها أثرها. وأشارا في عام ١٩٧٣م إلى تطبيق نظرية الانتخاب في مجال علم اللسانيات (جيرارد وآخرون ١٩٥٦م). مع حديث موجز عن النظرية في معرض مناقشة لعلم تحسين النسل (موتولسكي Motulsky، ١٩٦٨م). ولم يحدث إلا عام ١٩٨١م أن أشارا إلى إصدارات أكثر أهميةً مثل إصدارات وايت White (١٩٥٩م) وكامبل (١٩٦٥م).

وكانت إصدارات كافالي-سفورزا وفيلدمان متأثرة بقوة بخلفيتهما العلمية عن علم تحسين النسل الذي هو أحد العلوم المضبوطة. ويتمثل عرضهما لنظرية الانتخاب أساسًا في صورة تقديم نماذج رياضية (كافالي-سفورزا وفيلدمان، ١٩٨١م).

ولا ريب في أن وصف النماذج في صورة صيغ رياضية موجزة أمر له مزاياه، وإن كان بمثابة عوائق جدية؛ ذلك أن ظواهر اجتماعية كثيرة هي أكثر تعقدًا وعدم انتظام مما يمكن أن تعبر عنه الصيغ الرياضية. هذا وتكشف عمليات العرض عن أن الأمثلة التي استشهد بها الباحثان إنما جرى اختيارها لتلائم النماذج الرياضية وليس العكس. وهكذا تصف غالبية النماذج عملية انتقال رأسية، أي من الآباء إلى الأبناء، دون أنواع انتقال أخرى. ونجد أيضًا تركيزًا معينًا على نماذج يعتمد فيها الانتخاب على من صدرت عنهم الفكرة، وليس على نوعية الفكرة ذاتها. وإن من المسلَّم به أن مثل هذه النماذج تلائم إلى حد ما وصْفَ التقسيم الطبقي الاجتماعي والحراك الاجتماعي.

(٧) التفاعل بين الانتخاب الجيني والانتخاب الثقافي

أكد وليام دورهام William Durham في عام ١٩٧٦م أن التطور الجيني والتطور الثقافي بينهما تفاعل متبادل؛ ومن ثم ليس بالإمكان من حيث المبدأ تحليل كل منهما على حِدَة باعتبارهما عمليتين مستقلتين. واتخذ اسمًا ملائمًا لعملية التفاعل بين هاتين العمليتين؛ وهو التطور الجيني/الثقافي المشترك genetic/cultural coevolution ولم يَرَ دورهام آنذاك أي صراع بين هذين النوعين من التطور، هذا على عكس مفكرين عديدين آخرين. ويرى حسب فهمه أن عمليتَي الانتخاب تتجهان معًا بشكل مباشر نحو الهدف ذاته: أقصى قدر ممكن من التكاثر للفرد ولأقرب الأقربين إليه. ويسمي علماء البيولوجيا هذا المعيار الصلاح الشامل. وواجه دورهام انتقادًا من جانب علماء الأنثروبولوجيا والبيولوجيا على حدٍّ سواء (رويل وآخرون، ١٩٧٧م). بيد أنه، وعلى الرغم من ذلك، تشبث بموقفه عامين كاملين (دورهام، ١٩٧٩م). ووافق أخيرًا على أن الصلاح الجيني والصلاح الثقافي مختلفان من حيث المبدأ، وإن احتفظ برأيه بأن هذين النوعين من الانتخاب يدعم أحدهما الآخر في أغلب الحالات، ونادرًا ما يتعارضان (دورهام، ١٩٨٢م؛ ١٩٩١م). وأهم آلية انتخاب في نظرية دورهام هي الخيارات الواعية المرتكزة على معايير، والتي يمكن بحد ذاتها أن تخضع للانتخاب الثقافي. وأكد التمايز بين وحدات المعلومات الثقافية المسماة الميمات. وبين السلوكيات الخاضعة لسيطرتها. وتشكل الجينات الميمات memes قناتين متوازيتين للمعلومات، كما وأن تفاعلهما المتبادل في نموذج دورهام تفاعل متماثل. ولكنه لسوء الحظ لم يمايز بوضوح بين النقل الانتخابي للميمات selective transmission والاستخدام الانتخابي لها (دورهام، ١٩٩١م). وسوف نناقش هذه المشكلة فيما بعد.
وإذا كان دورهام اعتبر الانتخاب الجيني والانتخاب الثقافي متعاضدين، فإن عالمَين آخرَين هما روبرت بويد Robert Boyd وبيتر ريتشرسون Peter Richerson؛ (١٩٧٦م، ١٩٧٨م) أكَّدا على أن الصلاح الجيني والثقافي مفهومان مختلفان من حيث الأساس، وإذا كانا يشيران إلى اتجاه واحد فليس ذلك إلا توافقًا عرضيًّا. واستحدث بويد وريتشرسون نموذجًا نظريًّا للصراع بين هاتين العمليتين الانتخابيتين والنتائج المترتبة على هذا الصراع (١٩٧٨م).
وذهب كل من بويد وريتشرسون في مقال تالٍ (١٩٨٢م) إلى أن البشر لديهم استعداد جيني مسبَّق للتماثل الثقافي وللمحورية الإثنية، وأن هذه الخاصية تدعم الانتخاب الثقافي الجماعي. ومِن ثم يمكن لهذه الآلية أن تُفضي إلى التعاون والغيرية والولاء للجماعة. وهذه خصائص استُعصي تفسيرها عادةً من جانب علماء البيولوجيا الاجتماعية؛ لأن مبدأ داروين عن الانتخاب الطبيعي من المفترض أن يؤدي إلى نزعة أنانية. واقترح باحثون آخرون كثيرون منذ ذلك الوقت نظريات مماثلة تفسر الغيرية على أساس آليات الانتخاب الثقافي (فيلدمان وكافالي-سفورزا وبيك Peck، ١٩٨٥م؛ وسيمون إتش Simon، ١٩٩٠م؛ وكامبل، ١٩٩١م؛ وأليسون، ١٩٩٢م).

وأخيرًا قدم بويد وريتشرسون في عام ١٩٨٥م مجموعة شاملة وكاملة من نماذج الانتخاب الثقافي والقائمة على أساس متين. ويعرض كتابهما أيضًا كيف أن الجينات التي تجعل الانتخاب الثقافي والنقل الثقافي أمرًا ممكنًا؛ يمكن أن تكون قد نشأت بدايةً مع تحليل للظروف التي تحدد ما إذا كان الانتخاب الثقافي سوف يزيد أو ينقص الصلاحَ الجيني (بويد وريتشرسون، ١٩٨٥م؛ انظر أيضًا: ريتشرسون وبويد، ١٩٨٩م).

وبينما يؤكد بويد وريتشرسون أن التطور الثقافي بإمكانه تجاوز التطور الجيني، فإن عالم البيولوجيا الاجتماعية إدوارد ويلسون وعالم الفيزياء شارلس لامسدين Charles Lumsden اتخذا نظرة مناقضة بشأن التطور المشترك للجين/الثقافة؛ إذ اعتقدا أن التطور الجيني يتحكم في التطور الثقافي. وتتمثل حجتهما الأساسية في أن الانتخاب الثقافي تحكمه خيارات الناس المحددة وراثيًّا (جينيًّا)، والمسماة «قوانين التخلق المتعاقب» epigenic rules، وذهبا في تصورهما إلى أن الجينات تتحكم في الثقافة مثل الكلب في مِقْوده (لامسدين وويلسون، ١٩٨١م). وليسمح لي القارئ أن أوضح هذا المبدأ المسمى مبدأ المقود leash principle بالمثال التالي: لنفترض أن مادة غذائية ما يمكن إعدادها بطريقتين مختلفتين أ، ب، وأن الطريقة أ هي الأكثر شيوعًا؛ لأنها الأفضل مذاقًا، ولكن الطريقة ب هي الأكثر فائدة من الناحية الصحية، نجد هنا أن التطور الجيني سوف يغير مذاق الناس بحيث يفضلون الطريقة ب، ومن ثم فإن الانتخاب الثقافي بناءً على ذلك سوف يسرع ويجعل من الطريقة ب الوصفة الأوسع انتشارًا.
ويعبر كتاب لامسدين وويلسون عن نزعة اختزالية بيولوجية مفرطة؛ ذلك لأنهما تصورا أن الجينات قادرة على التحكم في كل شيء تقريبًا عن طريق تعديل الخيارات البشرية. وتغدو الثقافة في مثل هذا النموذج غير ذات ضرورة. وثارت خلافات حادة بشأن كتابهما هذا. ونذكر من بين نقاط النقد الهامة أن نظريتهما تفتقد الدعم التجريبي، وعلى الرغم من أن لامسدين وويلسون أكدا أن البشر لديهم خيارات ولادية معينة، إلا أنهم لم يبرهنا على الإطلاق على وجود أي فوارق بين البشرية في الثقافات المختلفة بشأن هذه الخيارات (كلوننجر ويوكوياما Cloninger & Yokoyama، ١٩٨١م؛ لوين Lewin، ١٩٨١م؛ سميث ووارين Warren، ١٩٨٢م؛ لامسدين، ويلسون وآخرين، ١٩٨٢م؛ ألميدا وآخرون Almeida، ١٩٨٤م؛ روجز إيه آر، ١٩٨٨م). ويواجه مبدأ المقود مشكلة تفسير السمات الثقافية التي تحدُّ من الصلاح الجيني genetic fitness. وقوبلت هذه الحجة ببناء نموذج للانتقال الثقافي مماثل للانتخاب الجنسي sexual selection، وهو آلية انتخاب جيني مشهورة بقدرتها الكامنة على خفض درجة الصلاح الجيني (تاكاهاسي Takahasi، ١٩٩٨م).

وتوقف لامسدين وويلسون في إصدارات تالية عن الإصرار على أن الخيارات الثقافية لها تفسير جيني، وإن لم يعدلا عن هذا الزعم؛ إذ ظلا يؤكِّدان على أن التغيرات في المركَّب الجيني لتجمع بشري يمكنها — مهما كانت ضئيلة — أن تفضي إلى تغيرات مهمة في الثقافة. (لامسدين وويلسون، ١٩٨٥م؛ لامسدين، ١٩٨٨م و١٩٨٩م).

وشهدت ورشة عمل في عام ١٩٨٦م تحت عنوان «الضغوط الناشئة على التطور الثقافي»١ اتفاقًا عامًّا على أن الإنسان لا يولد صفحةً بيضاء، وإنما يولد بالفعل مزودًا باستعدادات محددة جينيًّا لتعلم أنماط سلوكية معينة على نحو أيسر من غيرها. ولكن لم يتفق المشاركون على الزعم بأن التطور الجيني يحدث بالسرعة التي تمكنه من التحكم في التطور الثقافي، ولكن على العكس من ذلك صدرت نماذج معينة توضح أن بإمكان التطور الثقافي في بعض الحالات أن تتولد عنه سلوكيات سيئة التكيف وراثيًّا (جينيًّا). وتوضح أيضًا أن مبدأ المقود leash principle يمكن في الواقع أن ينقلب رأسًا على عقب؛ بحيث تكون الثقافة هي المتحكمة في الجينات (ريتشرسون وبويد ١٩٨٩م؛ وباركو ١٩٨٩م).
وثمة مساهمة مهمة في هذا الجدل جاءت على لسان عالمَا النفس جون توبي John Tooby وليدا كوسمايديس Leda Cosmides اللذين اقترحا نوعًا جديدًا من الدراسة السلوكية البشرية المقارنة أطلقا عليها اسم علم النفس التطوري٢    evolutionary psychology، وتقضي هذه النظرية بأن نفس الإنسان مؤلفة من عدد كبير من الآليات المتخصصة، وأن كلًّا منها يتطور لأداء وظيفة تكيفية محددة. وتفيد كذلك أن ليس من الضروري أن تعمل هذه الآليات كآليات تعلم شاملة أو آليات تحقق أقصى قدر من الصلاح والملاءمة. وأن هذه الآليات النفسية شديدة التعقد، كما أن التطور الجيني شديد البطء، ومن ثم افتراض أن النفس البشرية تكيفت مع أسلوب حياة أسلافنا في عصر البليستوسين أي العصر الحديث الأقرب.
«تضمن انتقال الإنسان الأول hominid إلى البيئة المعرفية الملائمة coquitive niche تطور بعض الآليات النفسية التي تحولت إلى حلول عامة نسبية لمشكلات فرضتها الظروف «المحلية» (…)، وأصبح تطور الآليات السيكولوجية التي تشكل أساس الثقافة تطورًا فعالًا للغاية؛ بحيث خلقت هذه الآليات عملية تاريخية تتمثل في التغير الثقافي. وبدأت عملية التغير هذه على الأقل مع مطلع العصر الحجري الحديث، وأدت إلى تغيير الأوضاع بسرعة أكبر كثيرًا تفوق قدرة التطور العضوي على الملاحقة نظرًا للقيود الموروثة المؤثرة في معدل الإبدال المتعاقب. وهكذا لا نجد سببًا قبليًّا يدعونا إلى افتراض أن أية ممارسة ثقافية أو سلوكية حديثة هي بعينها ممارسة «تكيفية» (…) أو أن الديناميات الثقافية الحديثة سوف تعيد بالضرورة الثقافات إلى مسارات تكيفية إذا ما أصابها تشوش. وطبعي أن هذه الملاحقة التكيفية حددت خصائص الآليات السيكولوجية الحاكمة للثقافة خلال عصر «البليستوسين» العصر الحديث الأقرب، وإلا ما كانت لهذه الآليات أن تتطور أبدًا. ولكن ما إن تجاوزت الثقافات البشرية حدود أوضاع العصر الحديث الأقرب التي تكيفت معها بمعدلات عالية إلى حد كبير، حتى تقطعت الرابطة التي كانت تمثل في السابق ضرورة للربط بين الملاحقة التكيفية والديناميات الثقافية.»
(توبي وكوسمايديس، ١٩٨٩م)
وتكرر مراتٍ عديدة عرضُ النظرية القائلة بأن الخيارات المحددة وراثيًّا (جينيًّا) تتحكم في اتجاه التطور الثقافي، وكذلك بدون مبالغة لومسدين وويلسون بشأن القوة الفاعلة للجينات. ويسمي عالم النفس كولين مارتيندال Colin Martindale هذا المبدأ «الانتخاب على أساس اللذة» hedonic selection:

«من الممكن يقينًا أن بعض الجينات التي تحررت بفضل القدرة المهيأة للثقافة أن تفيد في «ضبط» دقة تناغم الاستجابات البشرية الساعية إلى اللذة؛ بحيث تزيد من احتمالات جعل ما مِن شأنه أن يجلب لذة، يوجه السلوك على نحو يفضي إلى زيادة الملاءمة الجينية (…) وثمة افتراض عام بأن الانتخاب القائم على اللذة سوف يجري في اتجاه معين، إلى أن يعيقه تولُّد خصائص تجعل من سوابقه شيئًا غير ملائم ….»

(مارتيندال، ١٩٨٦م)
وبينما يؤكد بعض العلماء على أهمية الآليات النفسية (مثل موندنجر Mundinger، ١٩٨٠م)؛ يرى آخرون أن بقاء الفرد أو الجماعة هو المعيار الأهم للانتخاب الثقافي.

«ثمة معايير مختلفة — من بينها كفاءة الاستحواذ على الطاقة وإشباع حاجات ومطالب مقصودة — يمكنها أن تحدد على المدى القصير انتخاب سلوك معين والحفاظ عليه. ولكن إذا أسهم هذا السلوك في بقاء الجماعة من حيث اطراد التكاثر، فإن بالإمكان هنا فقط الاحتفاظ به على المدى الطويل.»

(كيرش Kirch، ١٩٨٠م)

ولا يدع هذا النموذج مجالًا واسعًا للانتخاب النفسي للظواهر الثقافية. ويرى كيرش (١٩٨٠م) أن مثل هذا الانتخاب ليس مسموحًا له أن يتجاوز الانتخاب الأرقى من جانب الفرد أو الجماعة كما تسمح وحدة الانتخاب.

واستطاع في السنوات الأخيرة فريق من علماء البيولوجيا الكنديين بقيادة سي إس فندلاي تهذيب وتشذيب نظرية التطور المشترك للجينات والثقافة. وواصل فندلاي التقليد الرياضي الصارم الذي استنَّه كافالي-سفورزا، وصاغ سلسلة من النماذج الرياضية للتطور الثقافي وللتطور المشترك للجينات-الثقافة. ويكشف التحليل الرياضي عن أن المنظومات الثقافية بما في ذلك البسيطة نسبيًّا يمكنها أن تفضي إلى ظهور ظواهر معقدة شديدة التباين؛ الأمر الذي لا يمكن حدوثه في المنظومات الجينية ذات التكوين المماثل. وتشتمل هذه الظواهر الخاصة على وجود حالات اتزان كثيرة، ومنظومات متذبذبة وتعددية مستقرة للشكل (فندلاي، لومسدين وهانسيل، ١٩٨٩م؛ فندلاي ١٩٩٠م/١٩٩٢م). ولم يَجرِ تقديم أمثلة واقعية من العالم عن مثل هذه الآليات المعقدة، ولكن صدرت دراسات قليلة تطبق نظرية التطور المشترك الجيني/الثقافي على مشاهدات عملية (لالاند، كوم وفيلدمان Laland, Kumm & Feldman، ١٩٩٥م).

(٨) مبحث الميمات memetics

كتاب ريتشارد دوكنز ذائع الصيت والمثير للجدل «الجينة الأنانية» The Selfish Gene (١٩٧٦م) يصف الجينات بأنها كائنات أنانية تكابد فقط من أجل إنتاج أكبر عدد ممكن من النسخ المطابقة لها. وهكذا يمكن النظر إلى جسم الحيوان باعتباره مجرد أداة للجينات لإنتاج مزيد من الجينات. ويشعر كثيرون أن دوكنز يقلب أوضاع الأمور رأسًا على عقب؛ بيد أن أسلوبه في النظر إلى الأمور أثبت أن له جدوَى كبيرة. ونراه في فصل قصير من هذا الكتاب نفسه يطبق وجهة نظر مماثلة على سمات ثقافية منقولة. وأدخل دوكنز الاسم الجديد الميمة meme (ذات الإيقاع المماثل لكلمة شعاع beam) للدلالة على النواسخ replicators. ومن ثم فإن الميمة هي وحدة معلومات ثقافية منقولة تماثل الجينة (دوكنز، ١٩٧٦م؛ ١٩٩٣م).

وجدير بالملاحظة أن الفكرة القائلة أن بالإمكان النظر إلى الميمة كناسخ أناني يحثُّ الناس على اصطناع نسخ منه استلهمها باحثون كثيرون خلال السنوات الأخيرة. ونجد مثالًا واضحًا على هذا في العقيدة الدينية التي تستنفد أكبر قدر من طاقتها؛ من أجل جذب أعضاء جدد. وتدعم الطائفة مجموعة من المعتقدات التي تخص أعضاءها على هذا العمل تحديدًا: جاهِد من أجل جذب أعضاء جدد.

وليست الميمة شكلًا من أشكال الحياة؛ ذلك أن الميمة — إذا شئنا الدقة — لا يمكنها أن تعيد إنتاج ذاتها، وإنما تستطيع فقط أن تؤثر في الناس لاستنساخها. إنها هنا تشبه الفيروس؛ فالفيروس لا يشتمل الجهاز اللازم لإعادة إنتاج نفسه، وإنما تراه بدلًا من ذلك يتطفل على عائله، ويستخدم جهاز التكاثر في خلية العائل لإنتاج فيروسات جديدة. ويصدق الشيء نفسه على فيروس الكمبيوتر؛ إذ تكون له السيطرة لفترة على الكمبيوتر المصاب، ويستخدمه لإنتاج نسخ من نفسه (دوكنز، ١٩٩٣م). وتمثل الفيروسات الحية وفيروسات الكمبيوتر التعبير المجازي الأثير والمستخدم في نظرية الميمات meme theory، وهي مفردات مستعارة من علم الفيروسات: عائل وعدوى وإرجاع مناعي immune reaction، إلى آخره.

وتطورت فكرة الميمات الأنانية إلى تقليد نظري جديد يسمى عادةً نظرية أو مبحث الميمات. وإذا كان أصحاب نظرية الميمات يتفقون في رأيهم على أن غالبية الميمات مفيدة لعوائلها، إلا أنهم يركزون أكثر الأحيان على الميمات غير الملائمة أو الطفيلية؛ لأن هذا هو المجال الذي تتمتع فيه نظرية الميمات بقدرة تفسيرية أكبر من الأُطر الفكرية البديلة. ولا يجد أصحاب نظرية الميمات أية مشكلة في العثور على أمثلة مقنعة من الحياة الواقعية تدعم نظرياتهم؛ على عكس الحال بالنسبة لعلماء البيولوجيا الاجتماعية من أصحاب التوجه الرياضي. واعتمد هذا التقليد في بداية الأمر — كما يشهد الواقع — على حالات وأمثلة أكثر مما اعتمد على مبادئ نظرية.

ودرس عديدون من أصحاب نظرية الميمات تطور الأديان والمعتقدات. وتتألف العقيدة الدينية أو الطائفة من مجموعة من الميمات تنتقل جملة ويدعم بعضُها بعضًا. ويشتمل هذا المركب الميمي على ميمات تكون في ذاتها أشبه بالكلابات التي تُيسر انتشار مجموعة المعتقدات مجملة عن طريق ما توفره للمؤمن من حافز مقابل الهداية. ويشتمل المركَّب الميمي أيضًا على ميمات أخرى توفر للعائل مناعةً تحول دون العدوى بتأثير معتقدات منافسة. وهذه الوظيفة تحديدًا يكفلها الاعتقاد بأن الإيمان الأعمى فضيلة. وتمثل أجزاء أخرى ذات قوة وسلطان في المركب الميمي وعودًا بالثواب أو العقاب فيما بعد الحياة الدنيا (الفردوس أو الجحيم). وهذا من شأنه أن يجعل العائل ينصاع لأوامر كل الميمات في المركب الميمي (لينش Lynch، ١٩٩٦م؛ برودي Brodie، ١٩٩٦م).

وتزخر نصوص النظرية الميمية بالعديد من الأمثلة عن النتائج غير المقصودة للانتخاب الثقافي؛ مثال ذلك المنظمات الخيرية التي تنفق القسط الأكبر من أموالها على النهوض بالمنظمة:

«إن فعاليتها في جذب التمويل والمتطوعين هي التي تحدد ما إذا كان بإمكانها البقاءُ وأداء وظائفها (…) وإذا سلمنا بمحدودية الموارد في العالم وبأن منظمات جديدةً تظهر وتتأسس طَوال الوقت، فإن المنظمات التي تحظى بالبقاء لا بد من أن تصبح أفضل وأفضلَ حالَ بقائها؛ وأن استخدامها لأموالها أو طاقتها لأي غرض آخر غير ضمان البقاء — حتى وإن استخدمتها للأغراض الخيرية التي تأسست من أجلها — سوف يفتح ثغرة لجماعة منافسة تزاحمها من أجل الحصول على الموارد.»

(برودي، ١٩٩٦م، ص١٥٨)
مثال آخر للميمات الطفيلية يتمثل في سلسلة الرسائل التي تشتمل على وعد بالثواب عند إرسال نسخ من الرسالة، أو بالعقاب عند التوقف عن متابعة السلسلة (جودإناف ودوكنز Goodenough & Daukins، ١٩٩٤م).
وإن أحد أسباب إمكانية انتشار الميمات الاعتباطية هو قابلية الناس للانخداع. ويؤكد بول Ball (١٩٨٤م) أن قابلية الانخداع يمكن عمليًّا أن تكون ميزة ملائمة (جينية): الاعتقاد فيما يعتقد فيه الآخرون له ميزة ضمان تعاون أفضل والانتماء إلى جماعة. ويسمي بول (١٩٨٤م) نزوع الناس إلى اتباع أية بدعة جديدة باسم ظاهرة ركوب الموجة أو «مسايرة الزفة» bandwagon effect.
ويعتمد استقرار أي مركَّب ميمي على قدرته على أن يوفر للعائل إمكانية مقاومة المعتقدات المنافسة. وجدير بالذكر هنا أن المعتقدات التي تؤمن بظواهر خارقة للطبيعة وغيبية هي معتقدات يصعب دحْضُها، ومن ثم تكون مستقرة وثابتة. ولكن المركبات العقيدية العلمانية لا تحظى بالاستقرار إلا إذا توفر لها دفاع مماثل يحول دون دحضها، ويمكن أن يكون مثل هذا الدفاع اعتقادًا بأن مؤامرةً كبرى أخفت كل البراهين بالتسلل إلى أقوى المؤسسات الاجتماعية (دينيت Dennett، ١٩٩٥م).
وبينما يرسُم غالبية أصحاب النظريات الميمية صورة متشائمة إلى حد كبير عن الميمات بوصفها أوبئةً طفيلية؛ يعرض دوجلاس رشكوف Douglas Rushkoff نظرة متفائلة جدًّا عن الميمات التي تغزو وسائل الإعلام العامة. درس رشكوف كيف أن الميمات المشتملة على رسائل خلافية أو مناهضة للثقافة يمكنها أن تخترق وسائل الإعلام الرئيسية متسترةً كأحصنة طروادة. ويهيئ هذا للناشطين من العامة وغيرهم من المعدِمين أو العاطلين من أي مواقع سياسية قوةً للتأثير على الرأي العام، والحض على إحداث تغيير اجتماعي (رشكوف، ١٩٩٤م). ويبدو أن رشكوف لا يبالي بأن جدول أعمال العامة إنما يحدده بهذه الطريقة صاحب الحظ بأن يطلق أكثر الفيروسات الإعلامية تأثيرًا؛ بدلًا من ذلك الذي لديه أهم الرسائل لإبلاغها.
وجدير بالذكر أن منظور نظرية الميمات آخِذٌ تدريجيًّا في التبلُّر والتحول إلى عالم شديد الدقة. وأن غالبية المنشورات تدخل ضمن ما يسمى العلم الشعبي، وخاليةٌ من التعريفات المضبوطة أو الشكلانية الصارمة. ولكن دينيت يرفض مجرد اعتباره علمًا؛ نظرًا لافتقاره إلى صياغات يمكن الاعتماد عليها، وإلى نتائجَ كمية وفروض قابلة للاختيار، غير أنه ينظر نظرة تقدير إلى ما يقدمه هذا المنظور من استبصارات (١٩٩٥م). وليس ثمة اتفاق مشترك بشأن تعريف محدد للميمة؛ إذ بينما يرى غالبية أصحاب النظريات الميمية أن الميمة تماثل النمط الوراثي (الجيني) البيولوجي، وأن النمط الظاهري يوازيه السلوك الاجتماعي أو الهيكل الاجتماعي، فإن ويليام بنزون William Benzon يأخذ بالنقيض تمامًا (بنزون، ١٩٩٦م؛ وسبيل وبنزون، ١٩٩٧م).
وغالبًا ما يمضي العلماء شوطًا بعيدًا ويبالغون في التشبيه بالبيولوجيا (مثال دينيت، ١٩٩٠م؛ ١٩٩٥م)؛ مما يعرِّض النظرية بسهولة للنقد. وأكد النقاد أن البشر كائنات ذكية باحثة عن هدف، وأنهم يتأثرون في هذا بالأفكار المنطقية الصادقة المفيدة معلوماتيًّا والقادرة على حل المشكلات والمنظَّمة جيدًا والمفيدة اقتصاديًّا، وأنهم في هذا أقلُّ تأثرًا بالمعتقدات المنافية للمنطق والزائفة وغير ذات جدوَى أو ضارة (بيرسيفال Percival، ١٩٩٤م).
ومن المحتمل أن يظل مبحث الميمات علمًا رخوًا soft science. واستخدم هاييس وبلوتكين Heyes & Plotkin علم النفس المعرفي وعلم أعصاب المخ لتأكيد أن المعرفة تتحول أثناء اختزانها في الذاكرة البشرية، ويمكن أن تتبدل تحت تأثير أحداث تالية. وقادهما هذا إلى الدفع بأن الميمات لا يمكن أن تكون نُسخًا متمايزة وأمينة لوحدات معلومات محددة infarction-bits، وإنما هي مزيج ومجموعة متكاملة من معلومات دائمة التغير (هاييس وبلوتكين ١٩٨٩م). وليس بالإمكان تنظيم منتجات التطور الثقافي أو التطور المفاهيمي في فئات متمايزة، كما وأن من المستحيل عمل تصنيف تطوري صارم للثقافات (هال Hull، ١٩٨٢م؛ وبنزون، ١٩٩٦م).
وقسم ريتشارد برودي Richard Brodie، وهو مهندس كمبيوتر، الميمات إلى ثلاث فئات أساسية: ميمات التمايز distinction memes، وهي التي تحدد الأسماء والفئات. وميمات الاستراتيجية strategy memes، والتي تحدد استراتيجيات السلوك والنظريات عن العلة والمعلول. وميمات الترابط association memes، والتي تجعل من وجود شيء ما مثيرًا للفكر أو للشعور عن شيء آخر (برودي، ١٩٩٦م).

وأبدى برودي اهتمامًا خاصًّا بمعايير الانتخاب التي تجعل بعض الميمات تنتشر على نحو أسرعَ من غيرها. وحيث إن نظريته قائمة على أساس علم النفس التطوري، فإنه يقول إن الميمات تحقق أعلى قدر من الصلاحية حين تستهوي غرائز أساسية:

«الميمات التي تنطوي على خطر وطعام وجنس تنتشر أسرع من غيرها؛ لأنها تستثير أكبر قدر من الاهتمام. إن لنا أزرار استثارة خاصة بهذه الموضوعات.»

(برودي، ١٩٩٦م: ٨٨)

نقول بعبارة أخرى إن الميمات التي تضغط على الأزرار الصحيحة في النفس الإنسانية هي الأكثر احتمالًا للانتشار. وسبق أن أشار إلى أهم الأزرار الأساسية: الخطر والطعام والجنس. وحدد برودي أزرارًا أخرى؛ من بينها: الانتماء إلى جماعة؛ تمييز النفس عن الآخرين؛ الطاعة للسلطة؛ القوة؛ التأمين الزهيد؛ الفرصة؛ الاستثمار بأقل قدر من المخاطرة مع أكبر قدر من العائد؛ حماية الأطفال.

مثال ذلك أن زرار الخطر هو السبب في شيوع أفلام الرعب، وأن زرار الكسب دون كُلفة أو عناء هو ما يجعل الناس تطرُق الخشب حتى مع زعمهم بأنهم لا يؤمنون بالخرافات. كذلك زرار أقل قدر من المخاطرة وأعلى قدرًا من العائد هو ما يجعل الناس تستثمر في اليانصيب حتى وإن كانت فرص الفوز متناهية الضآلة (برودي، ١٩٩٦م).

والملاحَظ أن أصحاب نظريات الميمات لديهم ميل خاص نحو نظريات المرجعية الذاتية؛ ذلك أن النظريات العلمية ميمات، ونظرية الميمات نفسُها غالبًا ما يسمُّونها ميمة الميمات memes meme أو الميمة المرجعية meta meme، وحين يناقض أصحاب نظريات الميمات العلمية فإنهم عادةً ينتقون أمثلة من بين العلوم التي يأْلفونها أكثر من غيرها. وإن هذا الوعي الذاتي العلمي الزائد عن الحد قاد كثيرين من أصحاب نظرية الميمات إلى عرض نظرياتهم بأكثر الأساليب عامية، مع هدف متعمَّد وصريح في أكثر الأحيان لنشر ميمة الميمات بطريقة أكثر فعالية (مثال لينش، ١٩٩٦م؛ وبرودي، ١٩٩٦م).

(٩) علما الاجتماع والأنثروبولوجيا

نظرية الانتخاب غير رائجة بين علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا المحدَثين (بيرغ Berghe، ١٩٩٠م)، وقليلون فقط من ينظرون إليها نظرة إيجابية (مثال ذلك بلوت Blute، ١٩٨٧م). ويزعم خصوم النظرية أنْ ليس ثمة تماثُلٌ ثقافي مع الجينات، وأن نظرية الانتخاب تولي أهمية كبيرة للمنافسة، بينما تُغفل التعاون والتخطيط الواعيَين (هولبايك Hallpike، ١٩٨٥م؛ وآدمز، ١٩٩١م). ويدَّعي النقاد على أنصار النظرية أنهم يلتزمون القياس على النظرية الداروينية على نحو أكثر مما يقررون؛ وذلك حتى تبدو النظرية باطلة. وشخَّص عالمَا البيولوجيا بوليام Pulliam ودنفورد Dunford الهُوَّة بين البيولوجيا والعلوم الاجتماعية على النحو التالي:

«يبدو أن عقودًا من التطور في عزلة فكرية عن بعضنا بعضًا سمحت بأن يتباعد علماء البيولوجيا وعلماء الاجتماع من حيث المصالح والأفكار، وكذا اللغة بوجه خاص، إلى حد أن العلماء من الطرازَين يجدون الآن من الصعوبة بمكان أن يتواصلوا.»

(بوليام ودنفورد، ١٩٨٠م)

وهذا ليس مبالغة؛ ذلك أن كثيرين من علماء الاجتماع رفضوا البيولوجيا الاجتماعية ولأسباب وجيهة. ونورد فيما يلي اقتباسًا من جدل إذاعي دار بشأن كتاب لامسدين وويلسون تحت عنوان: الجينات والعقل والثقافة (١٩٨١م):

«جون مادوكس John Maddox: ترى هل من المحتمل أم من غير المحتمل أن تستطيع — تأسيسًا على نظريتك — التنبؤ بمن مِن الناس سيتجهون إلى الباب الخلفي، وأيهم إلى الباب الأمامي، حين يذهبون لزيارة جون تيرنر John Turner في ليدز؟
إدوارد أو. ويلسون: إذا كان بالإمكان البرهنة على حدوث تباين جيني موضوعي في بعض قواعد النشوء اللابنيوي epigenetic rules التي يتولد عنها انحياز قوي، فإن الإجابة نعم. ولكن من الصعب الالتزام؛ ونحن عند هذا المستوى المبكر جدًّا والبدائي جدًّا مِن فِهْمنا لعلم وراثة السلوك البشري.»
(مادوكس وآخرون، ١٩٨٤م)
ولكن حين نرى ويلسون، الذي نعتبره مؤسس وأهم من يمثل البيولوجيا الاجتماعية، يصل به الأمر إلى تبني نزعة اختزالية بيولوجية باطلة، فلا غرابة إذ يعزف غالبية علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا عن البيولوجيا الاجتماعية، ويعمِدون بدلًا من ذلك إلى تطوير نظرياتهم هم. ويصور الكثير من علماء الاجتماع المجتمع في صورة منظومة مستقلة ذاتيًّا بهدف تجنُّب النزعة الاختزالية البيولوجية والسيكولوجية (ينجويان Yengoyan، ١٩٩١م).
مع هذا توجد أوجه تشابه مهمة بين النظريات البيولوجية والنظريات البيولوجية الاجتماعية عن الثقافة. ودرس عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو تكاثر الهياكل الاجتماعية في المنظومة التربوية (بورديو وباسيرون Pierre Bourdieu & Passeron، ١٩٧٠م). كما عمل عالم الاجتماع الثقافي البريطاني رايموند ويليامز Raymond Williams على تطوير هذه النظرية، وأثبت أن التكاثر الثقافي يخضع لعملية انتخاب واعية.

«من البديهي أن التراث (إرثنا الثقافي) عملية اتصال متعمدة، ومع هذا فإن بالإمكان عن طريق الدراسة التحليلية بيانَ أن أي تراث هو انتخاب وإعادة انتخاب لتلك العناصر التي تلقيناها واستعدناها من الماضي، والتي تمثل استمرارًا مرغوبًا فيه، وليس مجرد استمرار ضروري. ويشبه في هذه الحالة التعليمَ الذي هو بالمثل انتخابٌ لمعارف منشودة وأنماط تعلُّم وسلطة مرجعية نريدها.»

(ويليام آر، ١٨٨١م، ص١٨٧)

وأوضح ويليامز بذكاء شديد كيف ترتبط أشكال ثقافية مختلفة بدرجات مختلفة من الاستقلال الذاتي وبدرجات من الحرية، ومن ثم بإمكانات غير متساوية للانتخاب. ويحلل ويليامز كلًّا من الابتكار والتكاثر والانتخاب الثقافي، ولكنه، ويا لِلغرابة، لم يحاول ربط هذه المفاهيم الثلاثة في صورة نظرية تطورية متماسكة منطقيًّا. ونراه يُغفل أيَّ إشارة إلى العلماء التطوريين (ويليامز آر، ١٩٨١م). وربما يرجع هذا الإغفال إلى رفضه للتعميمات المفرطة وإلى الخوف — كما هو محتمل — من أن يرتبط اسمه بالداروينية الاجتماعية.

وحاول الفيلسوف روم هاري Rom Harré صَوْغ نظرية عن التغير الاجتماعي تأسيسًا على إطار فكري اجتماعي رئيسي. وناقش فكرة الابتكارات وهل هي عفوية أم لا، ومن ثم هل يمكن تشخيص التطور الاجتماعي على أنه دارويني أم لاماركي. ومايَز هاري بين المعلومات الثقافية والممارسة الاجتماعية الناتجة عنها. بيد أنه لم يذهب إلى حد بيان تفاصيلَ تتعلق بعملية الانتخاب وآلياتها (هاري، ١٩٧٩م؛ ١٩٨١م).
واقترح عالم الاجتماع ميشيل شميد Michael Schmid إعادة بناء نظرية العمل الجمعي القائم على فكر انتخابي، ولكن مع الرجوع إلى البيولوجيا في نقاط قليلة محدودة. ويؤكد أن الأعمال الجمعية التي تنظمها قواعد اجتماعية تترتب عليها نتائج؛ تفضي إلى استقرار أو زعزعة هذه القواعد. وهذه آلية تطورية يسميها شميد الانتخاب الباطني internal selection؛ نظرًا لأن جميع العوامل تحتويها المنظومة الاجتماعية. ويرى أن التأثير الانتخابي للموارد الخارجية على استقرار النظم الاجتماعية هو انتخاب خارجي external selection (شميد، ١٩٨١م؛ ١٩٨٧م؛ وكوب Kopp وشميد، ١٩٨١م). وكان لنظريته بعض التأثير على المنظومات الاجتماعية التي أثرت بدورها في السيبيرينات الاجتماعية sociology cybernetics (لوهمان Luhmann، ١٩٨٤م؛ وزووين Zouwen، ١٩٩٧م).

(١٠) محاولة صوغ توليفة من البيولوجيا الاجتماعية والأنثروبولوجيا

من الأمور الواضحة أن تُجرى محاولة لملاءمة النظرية البيولوجية الاجتماعية مع الأنثروبولوجيا، وظهر بطبيعة الحال عديد من المحاولات في هذا الاتجاه، ولكن للأسف إن من حاولوا ذلك تعذَّر عليهم بالكاد التخلصُ من القيود التي تفرضها عليهم أُطُرهم الفكرية القديمة، ومن ثم نادرًا ما كانت النتائج التي توصلوا إليها مقنعة.

ففي عام ١٩٨٠م أصدر عالمَا البيولوجيا رونالد بوليام Ronald Pulliam وكرستوفر دنفورد Christopher Dunford كتابًا من نوع الكتب العلمية الشعبية لهذا الغرض. ولكن على الرغم من النوايا التي حفَزتْهما إلى أن يجعلا من كتابهما كتابًا يلتزم بالمنهج متداخل البحوث؛ إلا أنهما كشفا عن محدودية معارفهما عن العلوم الإنسانية.
كذلك فإن دافيد رندوس David Rindos، وهو عالم نباتات وأنثروبولوجيا في آنٍ واحد، كتب مقالاتٍ عديدةً عن الانتخاب الثقافي (١٩٨٥م؛ ١٩٨٦م)، وتشتمل مقالاته على بعض الأخطاء والمفاهيم الخاطئة التي لن أذكرها هنا توخيًا للإيجاز، وسأكتفي بدلًا من ذلك بالإشارة إلى نقد روبرت كارنيرو Robert Carneiro (١٩٨٥م).
وفي مقال كتبه عالم الأنثروبولوجيا مارك فلين Mark Flinn وعالِم الحيوان ريتشارد ألكسندر Richard Alexander (١٩٩٢م)، انقلبت نظرية التطور المشترك رأسًا على عقب؛ نتيجةَ رفض التقسيم الثنائي للثقافة/البيولوجيا والاختلاف بين الملاءمة الثقافية والجينية، وفنَّد دورهام (١٩٩١م) وآخرون حُجَجهم.
كذلك حاول عالِم الدراسات السلوكية المقارنة روبرت هند Robert Hinde أن يسد الثغرة بين البيولوجيا وعلم الاجتماع، غير أن مناقشاته ظلت إلى حد كبير أسيرة الإطار الفكري لعلم السلوكيات المقارن، وجاء ذكر نظرية الانتخاب الثقافي على نحو سريع؛ بينما لم يناقش الملاءمة الثقافية (هند، ١٩٨٧م).
وجمع عالم الاجتماع جاك دوجلاس Jack Douglas فرعًا خاصًّا لعلم الاجتماع اسمه سوسيولوجيا الانحراف مع نظرية الانتخاب الثقافي، وابتكر دوجلاس بجمعه بين علم الاجتماع والبيولوجيا الاجتماعية وعلم النفس نموذجًا للتغير الاجتماعي؛ حيث تبدو القواعد الاجتماعية مناظرة للجينات، وتؤدي الانحرافات عن القواعد الدور نفسه في التطور الاجتماعي الذي تؤديه الطفرات في التطور الجيني. وتتناول نظرية دوجلاس المشكلة الخاصة بكيفية ظهور الانحرافات الاجتماعية، وكيفية تغلُّب الناس على ما يسببه الانحراف عن القواعد من خزي (دوجلاس، جي، ١٩٧٧م).
وقدَّم عالم الآثار باتريك كيرش Patrick Kirch نظرية تفصيلية إلى حد كبير عن الانتخاب الثقافي، وعمَد كيرش — على عكس غالبية الباحثين الآخرين في نظرية الانتخاب — إلى دعم نظريته بالكثير من الأمثلة المحددة. وكما ذكرنا في صفحة سابقة فإن كيرش لم يولِ اهتمامًا كبيرًا للانتخاب الواعي أو النفسي، وإنما رأى أن بقاء الفرد أو الجماعة هو المعيار الأقصى للانتخاب، وأن مثل هذه الظواهر الثقافية التي لا تكشف عن أهمية واضحة للبقاء، شأن الفن أو اللعب على سبيل المثال، إنما يراها حدثًا عفويًّا ومحايدًا فيما يتعلق بالانتخاب (كيرش، ١٩٨٠م).
وذهب الأنثروبولوجي ميشيل روزنبرج Michael Rosenberg مذهب باتريك كيرش، وأكد أن الابتكارات الثقافية ليست عفويةً بالضرورة، بل غالبًا ما تكون نتاج ردود أفعال هادفة إزاء موقف ضاغط؛ شأن الزيادة السكانية الكبيرة. ويؤكد بوجه خاص أن الزراعة ظهرت، أولَ ما ظهرت، ردَّ فعل لزيادة الكثافة السكانية:

«… يفيد نموذج توزيع الحصص أنه في أنماط معينة من المواطن سوف يعمِد القائمون على الصيد وجمع الثمار إلى حل أعراض مشكلة الضغط السكاني إلى توزيع حصص المواد البرية الثابتة؛ سواء على نحو طوعي أو لا إرادي. ويفيد — إضافةً إلى ذلك — أنه في عدد من الحالات الأكثر محدودية وقيودًا (في ضوء التنظيم الإداري للأراضي) سوف يدرك الناس أن النتائج المترتبة على الضغوط الناجمة عن الزيادة السكانية سوف تخفُّ حدَّتها بفضل الإنتاج الغذائي، دون الحرب أو غير ذلك من سلوكيات تهدف إلى التصدي لنتائج مماثلة. أخيرًا يفيد النموذج أيضًا بأنه في ظل مثل هذه الظروف تحديدًا يجري انتخاب نظام الإقامة الدائمة وتخزين المواد الغذائية، وغير ذلك من سلوكيات يسود الظن أنها جزء من العملية.»

(روزنبرج، إم، ص١٩٩)
ولكن على الرغم من التقدم الذي أحرزه العلماء سالفي الذكر، سوف أدفع بأن محاولاتهم لصوغ توليفة من العلوم المختلفة لا تزال غير كافية. ولم يحدث حتى الآن أنْ ظهرت محاولة ناجمة تجمع بين علم الاجتماع والبيولوجيا الاجتماعية. وفي عام ١٩٩٢م أصدر عالمَا الاجتماع توم بيرنز Tom Burns وتوماس دييتز Thomas Dietz نظريةً عن التطور الثقافي مبنية على نظرية العلاقة بين الفعالية الفردية والهيكل الاجتماعي. ويتحدد معنى الثقافة بأنها طائفة من القواعد تأسست وانتقلت واستُخدمت على أساس انتخابي. ويفسر بيرنز ودييتز كيف أن أي هيكل اجتماعي قائم يفرض قيودًا على نوع الأفكار والأفعال الممكنة، وأن ثمة انتخاب ضمني كامن في شرط يقتضي أن تتساوق الأفعال والأفكار مع الهيكل الاجتماعي، وأن هياكل فرعية مختلفة لا بد وأن تكون متوائمة مع بعضها البعض. ويرى بيرنز ودييتز أن الانتخاب الثقافي يجري على خطوتين: يخصَّص جزءٌ صغير أو كبيرًا من الموارد المتاحة لأفراد أو جماعات مختلفة حسب قواعدَ معينة. ويمكن استخدام هذه الموارد بعد ذلك للحفاظ على الجماعة ودعمها أو المؤسسة المعينة وقواعدها. ويذكر بيرنز ودييتز بطبيعة الحال أيضًا الانتخاب الواضح الذي يحدث بفضل ممارسة القوة، وكذا القيود التي تفرضها البيئة المادية والإيكولوجية (بيرنز ودييتز، ١٩٩٢م).

وعلى الرغم من حقيقة أن هذين العالمَين الاجتماعيَّين استطاعا دمج أُطُر فكرية مختلفة على نحو أفضل مما فعل غالبية العلماء الآخرين؛ إلا أن نظريتهما صادفت انتقادًا؛ لأنها نظرية اختزالية ولم تولِ اهتمامًا كافيًا لأجزاء معينة ذات أهمية في الحياة الاجتماعية. (ستراوس، ١٩٩٣م).

وطبقت مؤخرًا عالمة السياسة آن فلوريني Ann Florini نظرية الانتخاب على تطور المعايير الدولية. ويفيد نموذجها أن من الضروري الوفاء بثلاثة شروط لضمان انتشار معيار دولي؛ أولًا: أن يحظى المعيار بالشهرة؛ وذلك بأن يدعمه منظم مشروعات معياري. ثانيًا: يجب أن يكون متوائمًا مع المعايير السابقة. ثالثًا: يجب أن يتلاءم مع الظروف البيئية. وتؤكد أن معاييرَ جديدة يجب تبنيها أساسًا عن طريق محاكاة عناصر فاعلة ذات نفوذ، وليس عن طريق تقييم عقلاني لجميع البدائل المتاحة (فلوريني، ١٩٩٦م).

(١١) علم النفس الاجتماعي

إن الدراسات المعنيَّة بالانتخاب الثقافي من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي وعلم النفس المعرفي قليلة جدًّا بحيث لا تفي لتشكِّل تقليدًا بحثيًّا مستقلًّا، وواضح أن هذا مجال بحث مهمل.

وقدم كل من هاييس Heyes وبلوتكين Plotkin، ١٩٨٩م، وسبيربر Sperber (١٩٩٠م و١٩٩٦م) تفسيرًا لتشوش الميمات عبر التواصل المنقوص بين البشر، ويبدو هذا كفارق مهم بين التطور الجيني والتطور الثقافي؛ ذلك أن المعلومات الثقافية تتحول أو تتعدل عادةً في كل عملية استنساخ لها؛ ومن ثَم فإن الاستنساخ الكامل بمثابة استثناء وليس القاعدة، وهذا مغاير تمامًا للتطور الجيني حيث استنساخ الجينات كقاعدة يحدث كاملًا؛ بينما الطفرة هي الاستثناء. ويوضح نموذج سبيربر أن التمثيلات الثقافية cultural representations يطرأ عليها عادةً تحوُّل مع كل عملية استنساخ، وغالبًا ما يحدث هذا التحول في اتجاه عملية التمثيل الأكثر جاذبيةً من الناحية النفسية أو الأكثر تواؤمًا مع بقية الثقافة أو الأيسر على المرء أن يتذكره. ويسمى هذا العرض الأمثل «المحور الجاذب» أو محور الجذب، كما وأن عملية التشوش المتكررة من خلال عملية الاستنساخ تكون في صورة المسار ذي التموجات العشوائية؛ الذي ينزع نحو محور الجذب الأقرب (سبيربر، ١٩٩٦م).
وبينما يعرض العلماء الآخرون نموذجًا بسيطًا للميمات، سواء ماثلةٌ أو غير ماثلة في مخ بشري، يؤكد دان سبيربر Dan Sperber أن ثمة سبلًا مختلفة للإيمان بعقيدة ما. إنه يمايز بين معتقدات حدسية intuitive beliefs التي هي نتاج عمليات إدراكية واستدلالية آنية وغير شعورية، وبين معتقدات تأملية التي يأتي الإيمان بها تأسيسًا على معتقدات من المرتبة الثانية تتعلق بها. ومثال المعتقد التأملي دعوى غير مفهومة ولكنها مع ذلك تكون موضع تصديق؛ لأنها صادرة عن سلطة مرجعية. ويمكن أن يتباين الالتزام بعقيدة ما تباينًا واسعًا ما بين آراء فضفاضة غير إلزامية أو معتقدات أساسية جوهرية، أو ما بين مجرد أحاسيس باطنية إلى معتقدات راسخة بناءً على تفكير عميق.

ويمكن أن يكون للعوامل النفسية والمعرفية تأثيرها المهم على انتخاب المعلومات. وذكر سبيربر العوامل التالية: سهولة تذكر عرض بذاته؛ وتوفر خلفية من المعارف وثيقة الصلة بعملية العرض؛ وكذا توفر حافز لتوصيل المعلومات (سبيربر، ١٩٩٠م).

(١٢) المنافسة الاقتصادية

ثمة تشبيه ذائع يشبِّه التطور الدارويني بالمنافسة الاقتصادية بين مشروعات الأعمال. واقترن هذا التشبيه أساسًا باسم عالمَي الاقتصاد ريتشارد نلسون Richard Nelson وسيدني ونتر Sidney Winter، اللذين استحدثا نموذجًا مفيدًا عن التغير الاقتصادي. ووصفا نظريتهما بأنها تطورية في مقابل النظرية الاقتصادية المعروفة باسم النظرية التقليدية. وتتميز نظريتهما بما لها من قدرة أفضل على التلاؤم مع التغير الثقافي. ويؤكد نلسون ووينتر على أن الابتكار والتقدم في مجال التقانة لهما دور مهم في النمو الاقتصادي الحديث، وهو ما قصرت النظرية الاقتصادية التقليدية عن دراسته. والمعروف أن المؤسسات المختلفة لها استراتيجيات بحثها المختلفة ومواردها المختلفة؛ من حيث كمياتها اللازمة لاستثمارها في البحث والتطوير، ومن ثم فرصها غير المتكافئة لاستحداث ابتكارات تقانية من شأنها تحسين القدرة التنافسية لها، ويذهب نلسون ووينتر إلى أن المعرفة تراكمية؛ ولذلك يريا تعذر إلغاء عملية الابتكار.

وينتقد الباحثان النظرية الاقتصادية التقليدية بسبب اعتمادها الكبير على افتراض أن المؤسسات تسلك النحو الذي يزيد من أرباحها إلى أقصى حد، ويستلزم اكتشاف الاستراتيجية المثلى توفر معرفة كاملة ومهارات حسابية. ويقال إن المعرفة لا تكون كاملة أبدًا، وإن البحث باهظ التكلفة؛ ومن ثم ليس بالإمكان أبدًا معرفة الحد الأمثل نظريًّا. ويؤكد نلسون ووينتر في مقابل النظرية الاقتصادية التقليدية أن التوازن الاقتصادي يمكن أن يتوفر في سوق لا يبلغ فيها شيء حدَّه الأمثل، وأن مؤسساتٍ كثيرةً يمكنها أن تتشبث بأساليب عملها التقليدية القديمة ما لم تحفزها عوامل خارجية إلى البحث عن استراتيجيات جديدة:

«ليس لنا أن نتوقع عملية تاريخية للتغير التطوري «تختبر» كل الملابسات السلوكية الممكنة لمجموعة مفترضة من الروتينيات، ناهيك عن اختبارها كلها مرارًا وتكرارًا (…) لذا ليس ثمة من سبب يدعونا إلى الاعتقاد بأن ما تبقَّى على قيد الحياة من أنماط سلوك عملية انتخاب تاريخية هي أنماط متكيفة على نحو جيد مع ظروف جديدة لم يسبق مواجهتها مرارًا ضمن تلك العملية (…) لذلك ليس لأحد في سياق عملية تغير مرحلي مطرد أن يتوقع مشاهدة تكيف مثالي مع ظروف راهنة بفضل نتاج العمليات التطورية.»

(نلسون ووينتر، ١٩٨٢م، ص١٥٤)

وعمد نلسون ووينتر (١٩٨٢م) إلى تطوير نظريتهما التطورية لعلم الاقتصاد؛ بحيث بلغت مستوًى رفيعًا من الصقل الرياضي يهدف أن تفسر على نحو أفضل مما تستطيع أن تفسر النظرية الاقتصادية التقليدية جوانبَ مهمةً للنمو الاقتصادي، والتي تحدث بفعل التقدم التقاني.

ونشر عالم الاجتماع هوارد ألدريتش Howard Aldrich (١٩٧٩م) نظرية أكثر عمومية وشمولًا عن تطور مشروعات الأعمال وغير ذلك من منظمات. ويبني نظريته على أساس قانون عام للتباين والانتخاب والاستبقاء، وإذا كان نلسون ووينتر يؤكدان على الأسلوب الهادف لحل المشكلات كمصدر مهم للتباين، فإن ألدريتش على خلافهما يؤكد على الابتكارات الهادفة، ويولي أهميةً أكبر للتباينات العشوائية. وتتضمن آليات الانتخاب البقاء الانتخابي لتنظيمات كاملة والانتشار الانتخابي للابتكارات الناجحة بين التنظيمات، والاستبقاء الانتخابي للأنشطة الناجحة داخل تنظيم ما.

ويمثل أثر البيئة عنصرًا مهمًّا في نظرية ألدريتش. ويصنف البيئات وَفق أبعاد عديدة؛ مثل القدرة والتجانس والاستقرار وقابلية التنبؤ والتمركز مقابل تشتت الموارد … إلخ. والملاحظ أن توليفات مختلفة من هذه المحددات يمكنها أن تهيئ بيئات استيطان ملائمة ومختلفة، والتي يمكن لتنظيم ما أن يتكيف معها (ألدريتش، ١٩٧٩م).

وجدير بالذكر أن النمو الاقتصادي داخل منظور طويل المدى يمكن ألا يكون ثابتًا مستقرًّا، بل يتميز بمراحل من الاستقرار والقصور الذاتي الهيكلي النسبي، وتفصِل بينهما تحولاتٌ سريعة من تنظيم هيكلي إلى آخر، وهذا ما يفسره جيوفري هودجسون Geoffrey Hodgson (١٩٩٦م) على أنه مُناظر لنموذج التوازنات المتقطعة punctuated equilibria للمنظور البيولوجي. وثمة نظرية مشابهة جرى تطبيقها على تطور التنظيمات في مجال المنافسة الاقتصادية؛ إذ ترى أن قدرة مؤسسة ما على التكيف مع التغيرات في موقف السوق يمكن أن تعوقها قيودٌ ميمية memetic constraints داخل التنظيم تمامًا؛ مثلما أن قدرة الأنواع البيولوجية على التكيف يمكن أن تَعوقها قيود جينية. ويفضي التغلب على هذه القيود إلى حدوث طفرة في تطور المؤسسة، وهو ما يشبه عملية التوازنات المتقطعة في التطور البيولوجي (برايس Price، ١٩٩٥م).

(١٣) نظرية الانتخاب الشاملة

وضحت فائدة نظرية الانتخاب في تفسير كثير من الظواهر في العالم؛ لذلك اهتم فلاسفة عديدون بدراسة أوجه التشابه بين الفئات المختلفة من الظواهر، والتي تعتمد جميعها على القاعدة نفسها للداروينية الجديدة: تباين عشوائي واستبقاء انتخابي (كزيكو Cziko، ١٩٩٥م).

ويعتبر التطور البيولوجي والتطور الثقافي مثالين واضحين هنا، ولكن تبين كذلك أن نمو التطور الفردي وتعلُّم الفرد يتضمنان مثل هذه العمليات، ويعتبر علم المناعة خير مثال مقنع هنا؛ حيث يشتمل تطور الأجسام المضادة في الكائن الحي على عملية تشبه بدرجة ملحوظة التطور البيولوجي (كزيكو، ١٩٩٥م). وإن الأمثلة في عالم اللاعضويات أكثر دقة؛ إذ يلاحظ خلال عملية نمو البلُّورة أن كل جزيء جديد يطوِّف عشوائيًّا إلى أن يصطدم مصادفة بمكان ملائم داخل البيئة البلورية الشبكية. والملاحظ أنه حين يصادف جزيئًا ما موضعًا ملائمًا، فإن الشيء المرجح أكثر من سواه أن يبقى هذا الجزيء حيث هو على عكس الحال بالنسبة لجزيء يصادف موضعًا غير ملائم. ويفسر لنا هذا كيف تتولد بنية بلورية أو كتلة ثلجية رقيقة على درجة عالية من التنظيم.

ويلحظ القارئ أن قاعدة التطور البيولوجي في الداروينية الجديدة تعدلت هنا؛ ذلك أن كلمة عرضي blind أبدلت بكلمة عشوائي random، كما وأن كلمة تكاثر reproduction تحولت إلى استبقاء retention. وثمة سبب لإدخال هذه التعديلات؛ مثال ذلك أن التباين نادرًا ما يحدث عشوائيًّا بالكامل في التطور الثقافي؛ إذ غالبًا ما تكون الابتكارات الثقافية موجهةً نحو هدف؛ حتى وإن كانت لا تزال في مرحلة التجربة. ويتصدى الفلاسفة للنقد القائل بأن التباين يمكن أن يكون غير عشوائي بقولهم إن الابتكار الجديد ليس مضمون النجاح، ومن ثم يمكن القول بأنه عرضي blind؛ أي غير واعٍ بنتيجة التباين التجريبي (كاميل، ١٩٧٤م). ولكن هذا النقد لم يوقف عملية التغير؛ نظرًا لأن الابتكارات يمكن أن تكون في آنٍ واحد هادفة وعقلانية بحيث يكون التنبؤ على درجة عالية من المصداقية (هال Hull ١٩٨٢م).
واستخدام كلمة استبقاء retention بدلًا من تكاثر يعني ضمنًا بقاء الخاصية المنتخبة، دون أن يعني تكاثرها بالضرورة. والملاحظ في مثال النمو البلوري أن كل جزيء جديد يمر بالعملية ذاتها.

إن كل جزيء جديد يمر بذات العملية العفوية التباين والانتخاب والاستبقاء، وليس استنساخ «المعرفة» من سوابقها، وهذه آلية أقل فعاليةً من التطور البيولوجي، حيث كل جيل جديد يرث الناتج المتراكم عن جميع الانتخابات السابقة. وليس لزامًا على الأجيال الجديدة أن تنتظر تكرار الطفرات الناجحة. وهذا فارق مهم يخفق فلاسفة كثيرون في التعرف عليه.

وأضاف كامبل فرعًا جديدًا إلى نظرية الانتخاب الشاملة يحمل اسم مبحث المعرفة التطويرية «الأبستمولوجية التطورية»، ويؤكد فيه أن أي تكيف من جانب الكائن الحي مع بيئته يمثل شكلًا من المعرفة بالبيئة؛ مثال ذلك أن هيئات أجسام السمك والحيتان تمثل معرفة وظيفية بالهيدروديناميكا، وأن عملية التباين — الانتخاب — الاستبقاء العفوية تولد مثل هذه المعرفة في عملية تشبه الاستقراء المنطقي. ويزعم كامبل أن أي زيادة في ملاءمة منظومة ما مع بيئتها لا تتحقق إلا من خلال عملية كهذه، وتفضي نظريته إلى ثلاثة مبادئ هذا هو أولها.

والجدير بالملاحظة أن حجة كامبل تناظرية؛ حيث إنه لا يقول فقط إن التكيف معرفة، بل يقول أيضًا إن المعرفة تكيف. معنى هذا أن المعرفة البشرية برمَّتها تنبع في النهاية من عمليات تباين — انتخاب — استبقاء عفوية الطابع، ومن هنا جاء مصطلح مبحث المعرفة «الأبستمولوجية» التطورية.

وثمة عمليات تتجاوز عمليات الانتخاب الأساسية، وتشتمل هذه على الانتخاب عند المستويات الأعلى، والتغذية المرتدة، والانتخاب البديلي … vicarious selection إلخ. ويعتبر الحل الذكي للمشكلات أوضح مثال على آلية الانتخاب البديلي، إنه أكثر فعاليةً وأقل كلفةً من العمليات البدائية المرتكزة على الطفرة العشوائية والبقاء على أساس انتخابي.

بيد أن كل هذه العمليات التي تتجاوز المستوى الأدنى من عمليات الانتخاب هي ذاتها تماثلات لمعارف تحققت في نهاية الأمر عن طريق: التباين، الانتخاب، الاستبقاء؛ على نحو عفوي، وهذا هو المبدأ الثاني عند كامبل.

المبدأ الثالث أن جميع آليات التجاوز المماثلة تشتمل أيضًا على عملية عفوية من التباين والانتخاب والاستبقاء عند مستوًى ما من نشاطها. وأكثر من هذا أن بعض الوسائل غير المؤقتة لاكتساب المعرفة شأن الملاحظة البصرية أو إدراك تعليمات لفظية من شخص آخر لديه معرفة، هي أيضًا، وحسب المبدأ الثالث عند كامبل، عمليات متضمنة تباينًا وانتخابًا واستبقاءً على نحو عفوي (كامبل، ١٩٧٤م؛ ١٩٩٠م).

وليسمح لي القارئ أن أناقش ببعض التفاصيل هذا الزعم المثير للجدل، إننا قد نرى أن أكثر عمليات اكتساب المعرفة حتمية وتحررًا من الخطأ هي استخدام الكمبيوتر للوصول إلى نتيجة معادلة رياضية. إذن من أين حصل الكمبيوتر الحديث على خاصية التحرر من الخطأ؟ من الصياغة الرقمية أو الرقمنة digitalization؛ ذلك أن الدائرة الرقمية الأساسية ليس لها سوى حافتين ثابتتين ممكنتين فقط، هما صفر و١، وأن أيَّ تشوش أو انحراف مهما كان طفيفًا عن هاتين الحالتين يجري تصويبه فورًا بالعودة إلى أقرب حالة مستقرة، والحقيقة أن هذا التصويب التلقائي للخطأ هو عملية استبقاء انتخابي.
وإذا نزلنا حتى إلى مستوًى أكثرَ أساسية سوف نجد أن دوائر الكمبيوتر مصنوعة من ترانزستورات transistors، وأن العمليات الإلكترونية داخل الترانزستور تشتمل على تباين وانتخاب واستبقاء عفوي للإلكترونيات في بلورة شبه موصلة semi-conductor crystal.
وتبدو هذه الحجة في ظاهرها دفاعًا عن المبدأ الثالث عند كامبل، ولكن هذا في الظاهر فقط، ولم تكن خطتي هنا الدفاع عن هذا المبدأ بل إثبات بطلانه، ويقول لنا كامبل إن تحول الدنا DNA إلى بروتينات عملية عفوية للتباين والانتخاب والاستبقاء، ولكن الشيء الذي لم يقله لنا أن هذا ينطبق على كل التفاعلات الكيميائية. والحقيقة أن كل ما يحدث للجزيئات والذرات والجسيمات دون الذرية sub-atomic particles يمكن تفسيره على أساس عملية عفوية للتباين والانتخاب والاستبقاء، وحيث إن كل شيء في الكون مؤلَّف من هذه الجسيمات، فإن بالإمكان القول إن كل شيء قائم على عملية عفوية للتباين والانتخاب والاستبقاء.
والمشكلة مع الزعم بأن الوسائل المتقدمة لاكتساب المعرفة تشتمل على تباين وانتخاب واستبقاء عفوي هي أنه زعم اختزالي إلى أقصى حد reductionistic. ويتضمن المبدأ الثالث المغالطة الاختزالية الشائعة المتمثلة في إغفال أن أي منظومة معقدة يمكن أن تتميز بخواصَّ ليست في العناصر المكونة لها. والملاحظ أن كل شيء عند المستوى الأكثر أساسيةً يتضمن عملية عفوية للتباين والانتخاب والاستبقاء، بيد أن هذا قد يكون غير ذي صلة بتحليل الأداء الوظيفي للمستوى الأعلى.

وأعترف هنا بأن المبدأين الأول والثاني عند كامبل يهيئان حلًّا واعدًا لمشكلة فلسفية أساسية تتعلق بمصدر المعرفة وماهية المعرفة، ولكنني أرى المبدأ الثالث اختزاليًّا إلى أقصى حد؛ مما يجعله غير ذي صلة بالموضوع.

بيد أن الشيء الذي لا يمكن إنكاره هو أن المبدأ الدارويني العام يمثل آلية ممتازة لاكتساب معارف جديدة، واستخدمت هذه الآلية في وسائل كمبيوترية أو محوسبة computerized كل مشكلات صعبة تتعلق بالوصول إلى أفضل وضع بالنسبة لكثير من المقادير متغيرة القيمة. ويتضمن المبدأ المسمى الحوسبة التطورية evolutionary computation محاكاةً حاسوبية (كمبيوترية) لمجموعة من الحلول الممكنة لمشكلة معينة. وتتولد حلول جديدة نتيجة طفرة وإعادة توحد على أساس تزاوجي بين الحلول السابقة، ويخضع كل جيل جديد من الحلول للانتخاب على أساس صلاحيته (باك Back وآخرون، ١٩٩٧م).

(١٤) الخلاصة

لم يكن هذا الباب سردًا لتاريخ الأفكار التطورية، بل دراسة عن كيفية استخدام مبدأ الانتخاب لتفسير التغير الثقافي، وعلى الرغم من أن التفكير التطوري اشتمل في الغالب على مبدأ الانتخاب، فإن هذا المبدأ كان له دور متواضع فقط؛ نظرًا لأن النزعة التطورية التقليدية ظلت معنيةً باتجاه التطور دون آليات التطور (رامبو Rambo، ١٩٩١م)، وهذا هو أحد أسباب انتقاد النزعة التطورية بأنها نزعة غائية. واكتفينا هنا بعرض موجز للنقد الواسع النطاق الموجه ضد النزعة التطورية.

افتقر التطوريون في القرن التاسع عشر إلى التمييز الواضح بين الوراثة العضوية والاجتماعية؛ لأنهم لم يكونوا على علم بقوانين مندل عن الوراثة؛ ومن ثم كانت «السلالة» و«الثقافة» مترادفَين في نظرهما، وكان مبدأ البقاء للأصلح يعني عندهم أن التطور يعتمد على أقوى الأفراد الذين ينتصرون على من هم أضعف. واعتبروا هذه عملية طبيعية؛ ومن ثم لم يمايزوا بين التطور والتقدم، وكانت النتيجة المنطقية لهذه الفلسفة القول بمبدأ «سياسة حرية العمل»؛ حيث السيادة حق للقوي الأعظم. وتجلت النزعة العرقية في أقصى صورها تطرفًا عند من يسمون الداروينيين الاجتماعيين الذين اعتقدوا أن سلالتهم وثقافتهم هما الأسمى قياسًا إلى سلالة وثقافة الآخرين جميعًا. وترتب على هذا إيمانُهم بأن حقهم وواجبهم غزو العالم كله وإخضاعه لمشيئتهم.

وظهر تناقض شديد بين الداروينية الاجتماعية والاشتراكية؛ وسبب ذلك أن فلسفة الداروينية الاجتماعية تفترض أن الضعف خاصية فطرية، ولا بد وأن تفضي بطبيعتها إلى مصير غير كريم؛ هذا بينما يؤمن الاشتراكيون بأن الفقر والضعف نتيجةٌ لعوامل اجتماعية؛ ومن ثم يتعين علاجها.

ونجد في فلسفة هربرت سبنسر أن جميع أنواع التطور متشابهة: الكون والأرض والأنواع والأفراد والمجتمع؛ إذ تتطور جميعُها وَفق عملية واحدة متماثلة، ورفض المفكرون هذه النظرية فيما بعد، ولكن لسوء الحظ لا نزال نستخدم الكلمة نفسها «التطور» للدلالة على مختلف أنواع التغير. وماثل سبنسر المجتمع بالكائن الحي، ورأى مؤسسات المجتمع المختلفة موازية لأعضاء الجسم، وشاعت هذه الصورة المجازية في علم الاجتماع، ولكن إذا كانت صورة مجازية ملائمة بالنسبة لنموذج مجتمع سكوني، شأن النزعة الوظيفية، إلا أنها يمكن أن تفضي إلى مغالطات خطيرة عندما يكون التغير الاجتماعي موضوع دراسة. وإن من نتائج تشبيه المجتمع بجسم الكائن الحي أنْ توضع نظرية التغير الاجتماعي في تطابق مع تطور الفرد دون تطور النوع. إننا نعرف أن كل شيء محدد مسبقًا في التطور الجيني للجسم، وأن علة التغير كامنة فطريًّا في الجسم المتغير، ولكن إذا انتقلنا إلى تطور المجتمع فإن هذا النهج في التفكير يقودنا إلى فلسفة حتمية؛ أحادية الخط وغائية. والملاحظ أن فكرة التناظر بين مختلف أنواع التطور بُعثت مؤخرًا من جديد ضمنَ نظرية الانتخاب الشاملة.

وجدير بالذكر أن كلمة الداروينية الاجتماعية والحتمية والتوجه أو المسار أحادي الخط unilinearity والغائية؛ إنما هي عبارات استهجانية استخدمها أساسًا خصوم النزعة التطورية. وجرى تحديد هذه المفاهيم على نحو غامض؛ حتى إنه كان بوسع النقاد إدراج أية نظرية تحت هذه العناوين؛ بينما كان باستطاعة دعاة النزعة التطورية أن يبرهنوا بنفس السهولة على أن نظرياتهم لم تكن في حقيقتها نظرياتٍ حتميةً أو دعائية … إلخ.

وسادت الجدلَ — ولا يزال — نزاعاتٌ بين نظرات وآراء متنافرة عن الطبيعة البشرية. ولا ريب في أن الخلافات بشأن الطبيعة مقابل التنشئة، والبيولوجيا مقابل الثقافة، والحتمية مقابل حرية الإرادة … إلخ، جعلت من المستحيل الوصول إلى اتفاق ومن ثم استمرار النزاع بين الأطر الفكرية المختلفة على مدى تجاوز القرن. وبالغ كل طرف من موقفه وتطرف في نزعته الاختزالية التي جعلتهم هدفًا سهلًا للنقد. والتمس أنصار فلسفة حرية الإرادة وصفًا لحالات فردية؛ بينما طالب العلماء أصحاب التوجه البيولوجي عرضًا يمثل قانونًا عامًّا.

وكان غالبية التطوريين الاجتماعيين أكثر اهتمامًا بوصف اتجاه أو هدف التطور دون وصف أسبابهما. وأخفق كثيرون في تحديد وحدة الانتخاب أو آلية الانتخاب أو نموذج التكاثر؛ بينما مايز القليلون منهم بين الصلاحية الجينية والثقافية؛ لهذا اتسمت نظريتهم بقدرة تفسيرية ضعيفة، وافتقدت بخاصة أي تفسير يوضح لماذا يتعين على التطور اتخاذُ الاتجاه المزعوم.

ولم يتضاءل استقطاب الآراء عندما أخذ علماء البيولوجيا الاجتماعية موقع الريادة في سبعينات القرن العشرين؛ ذلك أن المفكرين أفرطوا في استخدام معادلات رياضية أدت إلى تباعدهم أكثر فأكثر عن ظواهر العالم الواقعي التي يعتزمون وصفها، وبات لزامًا تقديمُ إيضاحات تبسيطية وافتراضات ملتبسة؛ بغيةَ جعل النماذج مستساغة رياضيًّا. واشتملت النماذج الرياضية على كثير جدًّا من المقادير متغيرة القيمة، والتي أصبح من المستحيل تحديد قيمتها العددية؛ لذلك لم يكن بالإمكان سوى استخلاص نتائج كيفية ومشروطة، على الرغم من التركيز الشديد على نماذج كمية. وطبيعي أن أدت اللغة الرياضية إلى توسيع هوَّة الاتصال بين علماء البيولوجيا الاجتماعية والأنثروبولوجيين.

ولم تصبح بعدُ نظريةُ الانتخاب الثقافي مبحثًا مستقلًّا، ولكنها كانت موضوع بحث من جانب علماء في فروع علمية عديدة ومختلفة. نذكر منها الفلسفة والاقتصاد وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي وعلم اللغة والبيولوجيا الاجتماعية وغيرها. وأدت فجوات الاتصال الشديدة بين العلوم المختلفة وإهمال البحث في أدبيات العلوم إلى نسيان ذات الأفكار التي يقدمها الباحثون، وإعادة ابتكارها مراتٍ عديدةً دون تحقيق تقدم كبير؛ وهذا هو السبب في أن نظريات بدائية وقديمة تعود لتظهر من جديد. ويخفق علماء كثيرون في الاعتراف بالفوارق الأساسية بين الانتخاب الوراثي والانتخاب الثقافي (مثال ريوز Ruse، ١٩٧٧م؛ هيل Hill، ١٩٧٨م؛ هاربندنج Harpending، ١٩٨٠م؛ فان باريجس Van Parijis، ١٩٨١م؛ ميلي Mealy، ١٩٨٥م؛ رسل ورسل Russell & Russell، ١٩٨٢م–١٩٩٢م، ١٩٩٠م). بل إن بعض هذه النظريات أكثر قصورًا من نظرية ليزلي ستيفن Leslie Stephen التي أغفلها الباحثون منذ عام ١٨٨٢م.

وأحدث التطورات تمثله مدرسة المبحث الميمي التي لم تعُد بعدُ مبحثًا علميًّا مضبوطًا ومحكمًا، شأنها في ذلك شأن البيولوجيا الاجتماعية، وكثيرًا ما كان افتقار المبحث الميمي إلى الدقة والصقل موضع استهجان؛ بيد أن ليونة هذا الإطار الفكري ربما تساعد على تجسيد الهوَّة مستقبلًا بين البيولوجيا والعلوم الإنسانية.

وكثيرًا ما قيل فيما يتعلق بنظرية الانتخاب الثقافي أن المعرفة تراكمية، وإنها لمفارقة يتعذر تصديقها أن نعرف أن هذه النظرية ذاتها انحرفت كثيرًا جدًّا عن هذا المبدأ عند النظر إليها باعتبارها مسألةً واقعية في تاريخ الأفكار. والملاحَظ أن نظريات التغير الاجتماعي اتبعت مسارًا دراميًّا متعرجًا حيث ترفض كلُّ بدعة نظرية جديدة كل ما سبقها رفضًا كاملًا دون محاولة تعديلها وتحسينها؛ ولهذا نجد أن الأفكار والمبادئ ذاتها يطويها النسيان ويعاد ابتكارها هي ذاتها مراتٍ ومرات على مدى أكثر من قرن.

١  صدرت المساهمات في هذه الورشة ضمن Ethology and Sociology مجلد ١٠، ١-٣، ١٩٨٩م، تحرير جيروم إتش باركو Gerome H. Barkow.
٢  يمكن الاطلاع على مدخل لعلم النفس التطوري عند باركو Barkow وآخرين، ١٩٩٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤