يا ليتها كانت إجازة

يظل الإنسان في الدول المتحضِّرة حائرًا حتى يصدر قانون يتصل بموضوع حيرته، فيجد فيه الهدى من الحيرة والطريق الأقوَم من الضلال والنور من بعد الظلمة، والوضوح من بعد الإبهام.

إلا في مصر وهي أعظم دولة قانونية في المنطقة صدر فيها القانون المدني وقانون المرافعات، فإذا أغلب الدول العربية تأخذهما بنصوصهما ليكونا هما القانونَين الناريَّين بين ربوعها في المدني والمرافعات، ويصل النقل إلى أقصى مداه حتى لتنقل إحدى الدول مادةً من قانون المرافعات تنص على أن محكمة القاهرة هي المختصة بنظر الدعوى، فإذا المشرِّع الذي ينقل القانون للدولة العربية يضع المادة كما هي، ويذكر أن محكمة القاهرة هي المختصة، ولم يتنبَّه الناقل أن يجعل المحكمة المختصة محكمة العاصمة للدولة التي ينقل لها القانون.

والدساتير في أغلب الدول العربية وضعَها مشرِّعون مصريون وعلماء القانون في أغلب الدول العربية مصريون. ولا يزال المحامون المصريون هم المرجع الأول والمترافعين في القضايا الكبرى في الدول العربية.

ومع كل هذا فإن الاضطراب القانوني الذي تعانيه مصر لا مثيل له في العالم الذي يسود مجتمعه قانون ما، فقد أصبحت القوانين باخرة تصدر في سهولة ويُسرٍ لم يكُن القانون يتصوَّرها في يوم من الأيام، وقد أدَّى هذا إلى صدور القوانين وهي لم تنضج بعدُ، فما تلبث عند الإعمال أن يتبين نقصها، فيعدل النقص بقانون ويعدل التعديل بقانون، وهكذا دواليك حتى أصبحت غابة القوانين اليوم مُستغلِقة على القاضي والمتقاضين جميعًا، فالقوانين اليوم حيرة من الهدى وضلال عن الطريق وظلمة من بعد نور، وإبهام من بعد وضوح.

وما هذا بعجيب، فحين ارتفع شعار القانون في إجازة كان شعارًا مُضحِكًا لا لأن القانون أُعطي إجازة، ولكن لأن القانون أصلًا لم يكُن موجودًا ليمنح إجازة، فالإجازة لا تُمنَح لمعدوم. وهكذا لم يكُن عجيبًا أن أسمع قصة عن أحد وزراء ذلك الزمان تأكَّدتُ من حقيقتها بحُكم مهنتي كقصَّاص وروائي، فهذه القصة كما سمعتها وكما سأرويها لكم ليس من شأنها أن تختلق اختلاقًا أو تصنع صنعًا، فإن لم تكن قد وقعت فعلًا فإنه يستحيل على العقل البشري أن يبتدعها. يقول وزير ذلك الزمان: إن مجلس الوزراء اجتمع في يوم من الأيام، وكان يرأسه رئيس جمهورية عهد الطغيان. وكان ضمن الوزراء وزير جديد يحضر أول جلسة في مجلس الوزراء.

وبدأ الرئيس يعطي أوامره بشأن مسألة مالية مُعيَّنة، فحين انتهى من إصدار الأوامر، وحين همَّ بأن يواصل حديثه في موضوع آخَر قاطعَه الوزير الجديد في براءة الأطفال.

– ولكن الذي تقوله سيادتكم مخالِف للقانون؟

ونظر إليه رئيس العهد في دهشة بالغة.

– ماذا تقول؟

وظنَّ الوزير في صدق المستشارين وأساتذة الجامعة.

إن الرئيس يريد أن يعرف القانون الذي يخالفه بأوامره، فبدأ يقول: المادة …

ولم يكمل؛ لأن رئيس العهد تحوَّل عنه والتفت إلى الوزراء الآخَرين في دهشة بالغة وما يزال، وقال لهم: بيقول إيه الجدع ده؟!

وسارع الوزراء يقولون في جُمَل يقاطع بعضها بعضًا: إن الوزير جديد ولا يعرف بعدُ ما يجري عليه العمل، وراح رئيس العهد يكمل أوامره حتى انتهى منها، وقفَ يتهيأ للانصراف حتى إذا بلغ الباب وقف والتفت مرة أخرى إلى الوزراء، وقال لهم: وغيَّروا القانون علشان أخينا ده يستريح.

وانصرف.

وقد كنا تعلمنا في كلية الحقوق أن القانون لا بد أن يتسم أولًا بالثبات والاستقرار، أما القوانين التي تتغير بأوامر الحاكم فهي ليست قوانين، وإنما هي أوامر كان يطلق عليها في عهد محمد علي ومن قبله فرمانات، ولعلها كلمة تركية أو هي كذلك على الأرجح، وفي ظل الأوامر والفرمانات ينعدم القانون تمامًا؛ لأن القانون إنما يصدر للكافة، وهو يقيِّد الحاكم قَدْر ما يقيِّد المحكومين، فإذا لم يكن كذلك فهو معدوم.

فالقانون إذَن لم يكن في إجازة؛ لأن الذي يخرج في إجازة إنما يخرج لمدة معلومة محدَّدة طالت هذه المدة أم قصرت، ولا بد قبل هذا أن يكون موجودًا وليس متلاشيًا بغير وجود، فهذه الإجازة إذَن لو وقعت لكانت أملًا؛ لأنها تعني في ثناياها أن الغائب قد يعود، ولا شك أن العودة للقتيل أمل عند أهله، وقد كان القانون آنذاك قتيلًا.

وكثرة القوانين طريقة من طرق قتل القانون، ولكن الذي لا شك فيه أن القوانين الأصلية لمصر عظيمة. ولا شك أيضًا أن هناك في حياة مصر أمورًا جدَّت بعد صدور هذه القوانين تحتاج إلى مواجهة، ولا شك أيضًا أن طبيعة الحياة بعد زوال الطغيان تحتاج إلى إعادة النظر، ولهذا أتمنى أن تهتم وزارة العدل بتكوين لجان من الفقهاء في القانون المدني وقانون المرافعات والقانون الجنائي وقوانين الإصلاح الزراعي؛ لتنظر في كل ما صدر من قوانين في الفترة الأخيرة، وتُوائِم بين هذه القوانين حتى لا يتعارض قانون مع قانون ولا مادة مع مادة، فإني أعتقد أن الحالة القانونية التي تواجهها القوانين اليوم تشبه الحالة التي نعانيها في المياه والكهرباء والتليفونات، وإن كان إصلاح هذه المرافق يحتاج إلى مال، فإن إصلاح الاضطراب القانوني لا يحتاج لغير الجدية فقط، ومع أنني أعتقد أنها عُملة أكثر صعوبة في الوجود من المال والعملة الصعبة، إلا أنها في نفس الوقت ليست مستحيلة على أولي العزم، والله يوفق العاملين الجادين إلى أحسن سبيل وأقومه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤