الخاتمة

سرطان جو

لا يمكن أن يكون منظور الحياة لدى الأحياء سوى حالة مؤقتة فحسب. فوجهات النظر تتغير بفعل حقيقة الانجرار؛ فالوصف يرسِّخ الماضي ويخلق قوامًا تجاذبيًّا لم يكُن موجودًا من قبل. ثمة خلفية من المادة المُظلمة — تتمثل في كل ما لم يُقل — تتبقى، والتي تئزُّ من دون توقُّف.

جون أبدايك Updike، وعي الذات

في الربيع التالي في المزرعة، كما أخبروني، كانت أعشاب الملحية أسوأ مما كانت في أيِّ وقت مضى. لم أكُن هناك لكي أراها. خلال تلك السنة انتهى زواجنا، بعد سبعة عشر عامًا من بدايته. ظلَّت حياة كلٍّ منَّا تتباعد عن الأخرى فترةً طويلة. لقد قرَّب السرطان بيننا، ولكنه الآن قد رحل. إن الاقتراب من الموت يجعل المرء يفكر في الكيفية التي يريد أن يقضيَ بها ما تبقَّى من أيامه. وقد كانت لنانسي أسبابها التي دعَتها لاتخاذ قرارها بأنها لا تريد أن تقضيَ أيامها تلك برفقتي.

وخلال تلك الفترة، وصلَتني رسالة بالبريد إلكتروني من أخي الأصغر «جو». كان على الطريق الواصل بين منزله في دالاس وألبوكيركي، يقود سيارته لتوصيل إحدى بناته في طريق عودتها إلى الجامعة. وفي مكانٍ ما من المساحة المنبسطة من شرق نيو مكسيكو، كان جو يتناول وجبةً خفيفةً عندما سمع فجأةً صوت تكسُّر عاليًا وشعر بألم ساحق يهزُّ فكَّه. واصل أخي طريقه إلى ألبوكيركي وظلَّ مستيقظًا طوال الليل قبل أن يستقلَّ الطائرة عائدًا إلى مدينته لمراجعة طبيبه.

وعلى الرغم من أنه لم يتحدث كثيرًا عن ذلك، فقد عانى جو من مشكلة في فمه لسنوات عِدَّة. وقد بدأ الأمر عندما ظهرَت منطقة بيضاء على اللثة المُغطِّية للجانب الأيسر من فكِّه السفلي. وعند إجراء خزعة biopsy، عثر الأطباء على خلايا شاذة وُصفت بأنها سرطانية. أخبروه بأنه لا شيء يدعو للقلق، ما عليه إلا الاستمرار في المتابعة كما كان سيفعل لو ظهرَت على جلده شامة mole مشتبهة. لم تظهر المشكلة مرةً أخرى إلا بعد ثلاث سنوات، عندما شعر بوجع؛ والذي كان أيضًا في الجزء الأيسر من فكِّه السفلي. وخلال الأشهر القليلة التالية، خلص كلٌّ من طبيب الأسنان، والطبيب الباطني، وجرَّاح الفم إلى أن أفضل مسار للمعالجة هو أن ننتظر ونرى ما سيحدث. وهو ما فعله جو حتى ازداد الألم سوءًا، فاكتشف الأطباء إصابته بخُراج في موضع اقتلاع ضرس العقل بفكِّه. وكذلك كان هناك ارتشاف عظمي bone resorption في تلك المنطقة، وزوج من الأسنان النَّخرة. كان كل هذا على الجانب الأيمن من فمه. وقد دعم الأطباء تآكُل الهيكل العظمي بترقيع العظام، واقتلاع السِّنَّين التالفتَين، ومن ثَم شرعوا في تثبيت غرسات اصطناعية. وفي الوقت نفسه، استمرَّ الألم الذي استشعره في فكِّه، والذي سرعان ما ترافق مع طنين في أذنيه والتهاب في الحَلْق. وصف له طبيب الأنف والأذن والحنجرة otolaryngologist غَسولًا للفم يحتوي على مضادٍّ حيوي. أُجريَت له عملية أخرى لغرس طُعم عظمي، وبعد فترة ليست بالطويلة، جاء الحادث الذي تعرَّض له على الطريق السريع.
في دالاس، وفي اليوم التالي، خضع جو للفحص بالأشعَّة المقطعية المُحوسَبة CT scan أظهر وجود خلع في فكِّه، حيث إن كل إجراءات طبِّ الأسنان التي تعرَّض لها جعلَته يمضغ الطعام بطريقة جعلَت عظم الفكِّ ينخلع من محجره. بدَا ذلك تفسيرًا معقولًا، ومن ثَم وصف له الطبيب مُرخيات العضلات ونصحه بتناول أطعمة رخوة وإسفنجية، كما وصفها جو. كانت المنطقة البيضاء التي لُوحِظت لأول مرة قبل ثلاث سنوات لا تزال موجودة، لكنها ازدادت في الحجم. أدَّى شعوره بألم طاعن في أذنه إلى إجراء فحص آخر بالأشعَّة المقطعية المُحوسَبة، كما أُخضِع لأول مرة للتصوير بالرنين المغناطيسي MRI. وكما علمتُ لاحقًا، فإن التصوير بالرنين المغناطيسي قد يكون أقرب احتمالًا لاكتشاف الشذوذات في الأنسجة الرخوة، وقد كان ذلك هو الحال بالفعل. بداخل فمه وتحت الجلد، كان هناك وَرَم، يبلغ طوله نحو بوصة واحدة، يأكل في عظم فكِّ أخي. وعند إجراء خزعة، اتضح أنه سرطانة الخلايا الحرشفية squamous cell carcinoma، وهو نفسه السرطان الذي وجده برسيفال بوت في منظِّفي المداخن، والذي حرَّضه كاتسوسابورو ياماغيوا عند تطبيق قطران الفحم على آذان الأرانب. أظهر التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني PET أنه لم ينتشر في أيِّ مكان آخر في جسمه. ومن خلال تمسُّكه بهذه الحقيقة، أرسل جو إليَّ وإلى أشقَّائي رسالةً عبر البريد الإلكتروني كان عنوانها: «أخبار جيدة!» هذا هو نوع الرجال الذي كانه جو.
كان هناك كمٌّ أكبر بكثير من المعلومات حول هذا السرطان مقارنةً بسرطان نانسي. تشكِّل الخلايا الحرشفية الطبقاتِ الخارجيةَ للبشرة، وهي ذلك الغلاف اللحمي المكشوف للعالم. وتوجَد تحتها الخلايا القاعدية basal cells. وعندما تموت الخلايا الجلدية وتنسلخ، تقوم الخلايا القاعدية بالانقسام لإنتاج خلايا بديلة. تدفع هذه إلى أعلى لتشكيل الجلد الخارجي. بيدَ أن سرطانات الخلايا القاعدية عادةً ما تكون غير مؤذية. قبل سنوات، أُصبت بواحدة منها ومن ثَم أُزيلَت من جانب أنفي. لكن سرطانة المنطقة الحرشفية تكون أكثر عدوانية، ومع ذلك فهي تُظهر معدَّلًا مرتفعًا نسبيًّا للبقاء على قيد الحياة، خاصةً إذا أُصيبَ المرء بها في وقت مبكر. إن ما كان يحتلُّ جسم جو يُشار إليه على وجه التحديد باسم سرطان الخلايا الحرشفية في الرأس والرقبة، وذكر المعهد الوطني للسرطان أن نحو ٥٢ ألف شخص١ سيجري تشخيصُهم للإصابة به في تلك السنة، أمَّا سبب كونه واحدًا منهم فهو سر آخر. وبخلاف كونه ذكرًا وفوق سنِّ الخمسين، لم يكُن يحمل أيًّا من عوامل الخطر؛ لم يكُن يشرب الكحول إلا لمامًا كما أنه لم يدخِّن مطلقًا، ولم يكُن يمضغ جوز التنبول betel nuts، والذي طُرح كتفسير لزيادة معدَّلات الإصابة بذلك السرطان في جنوب شرق آسيا. وقد أُجريَت له اختبارات وجدت أنه خالٍ من فيروس الوَرَم الحليمي البشري، وهو عامل آخر مُحتمَل.

استغرقت العملية الجراحية ثماني ساعات، وكانت ناجحةً بدرجة كبيرة. كان طول الوَرَم قد وصل إلى بوصتَين ونِصف البوصة، وهو أكثر من ضِعف الحجم المُقاس قبل بضعة أسابيع في صورة الرنين المغناطيسي، كما وجد أنه مُلتفٌّ حول العصب، وهو سبب الألم المُعذِّب. استُؤصِلَت الكتلة الوَرَميَّة بنجاح، جنبًا إلى جنب مع الجزء المتضرِّر من فكِّه. وفي غضون ذلك، أُخِذت قطعة من العظم من وركه لمَلء هذه الفجوة. وفي النهاية لم يتمكَّن الأطباء من استخدامها، وبالتالي فقد كان هذا الجزء من الجراحة فاشلًا. لقد انهارَت الشرايين في موضع الزرع بحيث لم يكُن هناك ما يكفي من جريان الدم لدعم الطُّعم. كان لا بدَّ من إجراء عملية أخرى في وقت لاحق، لكن المهم الآن هو أن الأنسجة السرطانية قد اختفَت على ما يبدو. ومن بين واحدة وثلاثين عُقدة لمفاوية استُؤصِلَت، وُجد السرطان في واحدة منها فقط. ربما أدَّت مهمَّتها ومنعَت الخلايا الخبيثة من الانتقال إلى أبعد من ذلك، فمحطتها التالية عادةً هي الرئتان.

ومع إجراء ثَقب القصبة الهوائية (بَضْع الرغامى tracheotomy) لمساعدته على التنفُّس، وتمرير أنبوب تغذية بصورة مؤقتة عبر أنفه، استغرقت فترة نقاهة جو تسعة أيام في المستشفى، ثم عاد إلى بيته. وبعد ذلك، كان عليه الخضوع ستة أسابيع من المعالجة الكيميائية (بدواءَي سيسبلاتين وإربيتوكس Erbitux، وهو أحد الأضداد وحيدة النسيلة) والإشعاع. وكذلك سيُعطَى دواءً يهدف إلى حماية غُدده اللُّعابية من الحروق، وسيُركَّب أنبوب للتغذية في معدته. كان يتلقَّى كل هذا برباطة جأش صاغرة حتى عندما لاحظ وجود تورُّم قُبيل بدء العلاج. كان هناك وَرَم جديد في طور النمو، هذه المرة في الناحية اليسرى من فكِّه العلوي، كما وُجد وَرَم آخر بالقرب من تفاحة آدم لديه.

وقد تحدَّث إلينا قائلا: «كنت أعتقد دائمًا أن سماع عبارة «أنت مصاب بالسرطان» هي أسوأ ما يمكنك سماعُه، لكنني كنتُ مخطئًا؛ فسماع عبارة «لقد وجدنا مزيدًا من الأورام» هو أسوأ من ذلك بكثير … أعتقد أنني أدركتُ الآن كيف أن السرطان مرض شرير خسيس، لا ينفكُّ يطارده الأطباء في جميع أنحاء الجسم.»

فكرتُ مرةً أخرى في رواية سولجينيتسين «عنبر السرطان»، حيث يتحدث أحد المرضى باستسلام متهيِّب عن الوَرَم الخبيث الذي أصابه: «إن الوَرَم الأرومي الميلانيني وَرَم حقير،٢ لا تكاد تمسُّه بسكين حتى يُنتج نقائل ثانوية. وكما ترى، فهو يريد أن يعيش أيضًا، ولكن بطريقته الخاصة.» كان انتكاس إصابة جو بالسرطان يحدث في البقع التي اضطربت بفعل الجراحة، ويعتقد الأطباء أن الأورام الجديدة قد زُرعت بطريقة أو بأخرى خلال العملية. ولكن كانت هناك احتمالات أخرى. عثرتُ على ورقة بحثية تعود إلى العام ١٩٥٣م، والتي تصف مفهومًا يُسمَّى السرطنة الحقلية field cancerization،٣ أيْ ظهور أورام أوَّليَّة متعددة في المكان نفسه وفي الوقت نفسه تقريبًا. كان من المُحتمَل أن تنتشر الخلايا الخبيثة من الوَرَم إلى الأماكن القريبة، ولكن الدراسات أشارت إلى أنه، في مثل حالة جو، تطوَّر كل وَرَم بشكل مستقل. بدَا كأنه مصادفة لا تصدق، ولكن كانت هناك طرقٌ لإمكانية حدوث ذلك. اكتشف الباحثون أن الأنسجة الواقعة بين أورام الخلايا الحرشفية، أي الأنسجة التي تبدو سليمةً بخلاف ذلك، تنطوي على شذوذات جينية، بما في ذلك طفرات الجين p53 الكابت للأورام. يتعرَّض الفم والحَلْق باستمرار للمواد المُسرطِنة. ومن شأن الخلايا التي تضرَّرت بفعل أحد المُطفرات أن تلد ذريةً تحمل جميعها العيب نفسه. ويمكن لواحدة من تلك أن توجِّه ضربةً أخرى، ومن ثَم تنتُج عنها طائفة من الخلايا ذات الطفرات المضاعفة. وفي الوقت المناسب، ومع استمرار الخلايا في الانقسام، سيكون هناك حقل من الخلايا السرطانية، تنطوي جميعها على طفرات متعددة وكلٌّ منها في انتظار الدفعة الأخيرة. كان هناك احتمال آخر، وهو أن الحقل السرطاني قد نشأ عند وقت مبكر أثناء النماء، عندما أنجبت الخلية الأم الطافرة ذريةً أرسلت جميعها لتشكُّل بطانة الفم والحَلْق. ومنذ البداية، كانت هذه الخلايا تتشارك في الشذوذ نفسه، وهو ما يمنحها الأسبقية لأن تصبح سرطانية. ومهما كانت الطريقة التي ظهر بها هذا الحقل إلى حيز الوجود، فسيظلُّ قابعًا هناك في حالة استعداد — ما يشبه «قنبلة موقوتة جرى تفعيلها»٤ كما أسمَته إحدى الأوراق العلمية، للتحوُّل إلى سرطانات متعددة. ومع ذلك، كان لا يزال يبدو مستغربًا أن يمكن لكل هذا العدد الكبير الخلايا اكتسابُ تلك الطفرة المتهورة النهائية — جميعها في الوقت نفسه تقريبًا — وخاصةً في شخص لا يدخِّن أو يشرب أو يمضغ جوز التنبول.

وبعد الصدمة الأولى، تقبَّل جو الخبر باعتباره نكسةً أخرى. لم يكُن ذلك يعني أكثر من توسيع الهدف من الإشعاع وتغيير الكيماوي. كان يمتلك إيمانًا عميقًا بالله وثقةً كبيرةً في أطبائه، كما أن وجود زوجته وبناته جعله يتطلع إلى المستقبل. وكما كتب على صفحة الويب التي أنشأتها أُسرته لإبقاء الناس على علم بأخباره: «لديَّ جيش افتراضي من الناس الذين يُصلُّون من أجل صحتي وشفائي، من جميع الثقافات وجميع الطوائف. ليس لديَّ شكٌّ في أنني سأتخلص من هذا السرطان، وأنني سوف أعود إلى حياتي الطبيعية، مهما كلفني القيام بذلك. إنني ممتن للغاية لأنني أعرف في أعماق نفسي أنني سوف أهزم هذا المرض.» من الجيد أن نؤمن بالله، وقد كُوفئ صبره بعد أسبوعين من العلاج. وكما كتب: «أخبار جيدة! إنني في نهاية الأسبوع الثاني من العلاج، وقد اختفى أحد الأورام! ولم يتبقَّ سوى مجرَّد ثقب في الموضع الذي كان يشغله. وتتبعه الأورام الأخرى عمَّا قريب.»

كان علاجه قد ازداد صعوبةً عن ذي قبل، فقد عاد إلى المستشفى مرتين بغثيان وجفاف، وهما من نتائج العدوى، لكنه تجاوز نقطة منتصف الطريق، وأخبرنا أنه يرى نورًا عند نهاية النفق، ثم بدأ التعافي من العلاج. وقد شعر بتحسن أكثر مما كان عليه منذ أشهر، وكان سعيدًا بمدى سرعة تمكُّنه من العمل مرةً أخرى من المنزل. وبعد ذلك أُصيبَ بالتهاب رئوي، وفي المستشفى لاحظ الأطباء وجود كتلة بالقرب من مرِّيئه. وطمأنوه بقولهم إن هذا قد يكون بعض المخاط لا أكثر، لكنه كان وَرَمًا جديدًا بطبيعة الحال. وفيما كان يستعدُّ لستة أسابيع إضافية من الإشعاع والمعالجة الكيميائية، ظهر وَرَم آخر في فكِّه.

قال الأطباء إن هذا الوَرَم أيضًا يمكن معالجتُه. وقد كتب جو مرةً أخرى: «أخبار سارَّة! سيستغرق العلاج وقتًا أطول، لكنه يمكن الانتصارُ على الوَرَم!»

كنا في شهر يناير عندما سمع صوت التكسُّر المُخيف هذا أثناء تناوله الطعام. وبحلول منتصف أكتوبر، كان قد أنهى الجولة الثانية من العلاج. وفي غضون ذلك الوقت، كان قد استنفد إجازاته المَرَضية. حاول رئيسه أن يحصل له على تمديد آخر، ولكن سرعان ما صار جو عاطلًا عن العمل. يمكنك أن تفصل موظفًا لأنه مُصاب بالسرطان، أمَّا جو فقال إنه يتفهم ذلك. كان على يقين من أنه سيستعيد وظيفته بمجرَّد أن يستردَّ عافيته. مرَّ أكثر من شهر قبل أن يشعر بوجع جديد، هذه المرة حول التَّرقُوة. وفي يوم عيد الشكر، كتب من المستشفى: «اربط حزام الأمان الخاص بك؛ لديَّ الكثير مما يجعلني مُمتنًّا في هذا العام … لقد أجريتُ عمليةً جراحيةً بالأمس، لمساعدتي في التنفُّس (عن طريق إزالة الخلايا الميتة التي خلَّفها العلاج الإشعاعي)، ولأخذ خزعة من وَرَم التَّرقُوة. هناك أخبار جيدة على الجبهتَين؛ فقد استعدتُ القدرة على التنفُّس الطبيعي! كما أن الوَرَم القريب من التَّرقُوة يمكن علاجُه بالإشعاع! أنا في انتظار العودة منزلي الآن.» بالنسبة إليه، لم يكُن هناك شيء اسمه أنباء سيئة تمامًا.

ولكنْ بعد ذلك ظهر مزيدٌ من الأورام، والتي كان عددها أكبر من أن يمكن علاجُها بالإشعاع. هناك قدرة محدودة للجسم البشري. وكما ذكر جو: «يمكننا تقليصُ حجمها بقدْر ما نستطيع بالمعالجة الكيميائية المباشرة، لكن هذا لن يقتلها. لا أعرف إن كان ما تبقَّى في حياتي هو ستة أشهر أو ست سنوات.» كان ذلك في الثلاثين من نوفمبر، ولم يكُن لديه حتى ستة أسابيع.

أمضى جو عيد الميلاد في المنزل مع عائلته. في ذلك الوقت، كانت المعالجة الكيميائية تُصيب جسده بالضرر نفسه الذي يُحدِثه السرطان، ولذلك عمد الأطباء إلى وقف جميع أدويته باستثناء تلك المُستخدَمة في تسكين الألم. وقالوا إنه إذا استعاد قوته، فبالإمكان دائمًا استئنافُ العلاج. حاولنا أن نصدِّق أن ذلك قد يحدث حقًّا. كان جو يشعر بالنعاس دائمًا كما كانت تعتريه تشنُّجات، لكنه بعد عيد الميلاد مباشرةً استيقظ صافي الذهن ويشعر بأنه أفضل حالًا مما كان عليه طوال أيام. وقد ابتسم لزوجته وأمسك بذراعها، ونظر في عينيها وقال: «متى؟» ثم سقط نائمًا. وكما ذكرتُ لاحقًا، فقد كان ذلك يشبه أحداث فيلم سينمائي. وقد استيقظ مجدَّدًا، ودخلت بناته إلى الغرفة. كانوا جميعًا يضحكون معًا، وكان يقول لهنَّ إنه يحبُّهن. لقد استعاد جو نفسه مرةً أخرى، وقبل أن يدركن ذلك، كان قد ذهب إلى غير رجعة.

وفي حفل تأبينه، تحدَّث الكاهن عن غموض الموت، وعن الحبِّ الذي لا يمكن للسرطان أن يسلبه أبدًا، وقدرة الله على حلِّ أغلال الروح وتحريرها. وذكر كيف أن جو بعث إليه برسالة عبر البريد الإلكتروني في صباح اليوم السابق للجراحة، وقال إنه كان يشبه القائد أداما في مسلسل الخيال العلمي Battlestar Galactica، فقد كان متوجِّها للقضاء على الغازي.
ضمن مجموعتي من الأجهزة العلمية القديمة، يوجَد جهاز يُسمَّى منظار نفيح الراديوم (عدَّاد الجُسيمات ألفَا spinthariscope)، والذي اشتُقَّ اسمه من لفظة يونانية بمعنى شرارة spark. يبدو الجهاز كعينية نحاسية لمِجهَر من الطراز القديم، ومنقوش على جانبه عبارة «و. كروكس ١٩٠٣م». كان هذا هو العام الذي كشف فيه مخترعه وليام كروكس Crookes٥ النقاب عن الجهاز في حفل٦ عقَدَته الجمعية الملكية. أشكُّ في أن كروكس هو الصانع الحقيقي لنسختي من الجهاز، فلا تزال السوق تضمُّ عددًا من مناظير نفيح الراديوم التي تحمل النقش نفسه على جانبها.٧ وربما أُصدِر كجزء من بعض الفاعليات التذكارية. داخل الأنبوب النحاسي، توجَد قطعة من الراديوم المثبَّتة بجانب حاجز مصنوع من كبريتيد الزنك، وهو مادة كيميائية ذات وميض فسفوري مُزِجَت لصُنع الطلاء المتوهِّج الذي سمَّم فتيات الراديوم.
مع اضمحلال الراديوم، فإنه يقذف الجُسيمات ألفَا التي يمكن تسجيلُها كومضات صغيرة من الضوء. تنتُج كل ومضة عن تفتُّت نواة واحدة من ذرات الراديوم، ويمكنك مشاهدةُ العرض من خلال العدسة على الطرف الآخر من الجهاز، ولذلك تأثير ساحر، والذي شبَّهه كروكس ﺑ «بحر مضيء متلاطم الأمواج».٨ وفي بعض الأحيان، عندما لا أستطيع النوم، ألتقط الجهاز من الخزانة بجوار السرير لكي أشاهد تلك الرشقات النارية العشوائية، والتي تُشبه انفجاراتٍ نوويةً مصغَّرة. فكرتُ في عشوائية الطفرات التي تسبِّب السرطان، وفي حقيقة أنني أمسك بجسم مُشع على مقربة من عيني. صحيحٌ أن الجُسيمات ألفَا محتواة بأمان في داخل الآلة، لكنني إذا قمتُ بكشط ندفة من الراديوم وابتلعتُها، فقد أموت. كيف يمكن أن تكون الحياة بمثل هذه القوة، وبمثل هذا الضعف أيضًا؟
تمثِّل ومضات الذرات المضمحلَّة أنقى أنواع العشوائية. ووفقًا للقانون الأساسي للطبيعة، أيْ ميكانيكا الكَم quantum mechanics، ليست هناك طريقة للتنبؤ بزمن اضمحلال أيِّ نواة منفردة. ومهما طالت مدَّة تحديقك أو درجة تركيزك في منظار نفيح الراديوم فلن تجد نمطًا معيَّنا مطلقًا، وكذلك فلن تجد سببًا في أن واحدةً بعينها من ذرات الراديوم تقذف بالجُسيم ألفَا في هذه اللحظة بالذات، وليس في اللحظة التالية مثلًا. تقبع نواتان متطابقتان تجلسان جنبًا إلى جنب، وفجأةً تضمحلُّ واحدة منهما من دون سبب على الإطلاق، تاركةً الأخرى جالسةً في مكانها لألف سنة أخرى. أمَّا الشيء الوحيد الذي يمكن توقُّعُه، فهو كيفية تصرُّف كتلة، أو جمهرة، من الراديوم؛ سيضمحل نحو نصف الأنوية على مدى ستة عشر قرنًا من الزمن، لكننا لن نتمكَّن أبدًا من معرفة أيها ستفعل ذلك.

وهذا بالتحديد هو الحال مع السرطان. وفي وجود مجموعة كبيرة بما فيه الكفاية من الاشخاص، يمكننا أن نتنبأ بالنسبة المئوية لمَن سيصيبها المرض منها، لكننا لن نتمكَّن من معرفة أيها ستُصاب على وجه التحديد. ليست هذه عشوائيةً غير قابلة للاختزال مثل تلك الموجودة بداخل الذرات، ففي وجود ما يكفي من المعلومات — الديموغرافية، والجغرافية، والسلوكية، والغذائية — يمكننا تضييقُ المجموعة المعرَّضة لخطر الإصابة ببعض أنواع السرطان. وباستخدام الفحوص الجينومية والبروتيومية المستقبلية، إضافةً إلى تقنيات لم تُختَرع بعد، قد نستطيع تضييق نطاق الإصابة المُحتمَلة أكثر فأكثر، لكن لذلك حدًّا لن نستطيع تجاوزه؛ فاحتمالية أن يُصاب أيُّ شخص بالسرطان أو لا يُصاب به ستظلُّ دائمًا عمليةً عشوائيةً في معظمها.

أعدتُ منظار نفيح الراديوم مرةً أخرى إلى مكانه فوق الطاولة. لا توجَد وسيلة لوقف تشغيله، فالومضات تتواصل من دون أن نراها طوال الليل والنهار، وعامًا بعد عام. سيواصل الراديوم نفسه الاضمحلال لعِدَّة قرون، لكن شاشة الومضان scintillation screen والعدسة الزجاجية ستبلَيَان أولًا. ربما سيبقى النحاس الأصفر لكي يتساءل علماء الآثار عن كُنهه، مثل القطع النقدية القديمة. أتخيَّل كيف سيبدو فِناء منزلي في ذلك الوقت إذا لم يعتنِ به أحد. أولًا، ستملؤه الأعشاب الضارَّة، طاردةً أشكال الحياة أقل عدوانية. ستتساقط أوراق الأشجار على الفِناء patio، ومن ثَم تتحلَّل ببطء مكوِّنةً تربةً سينمو فيها مزيدٌ من الأعشاب الضارَّة. أمَّا بذور الدردار السيبيري Siberian elm، وهي الأشجار الطفيلية التي لا يمكن التخلُّصُ منها، والتي انتشرَت في جميع أنحاء الغرب (وهي إيختروي Echthroi آخر من أوراسيا)، فستُرسِّخ جذورها في الشقوق الموجودة في الخرسانة، ومن ثَم تمزِّقها إربًا ببطء أثناء نموِّها. ستتسع الشقوق تدريجيًّا، وسوف تزحف الجذور تحت أساس بيتي الذي سينهار في نهاية المطاف. أفكر في اللوحات الموجودة في المتاحف عن الآثار الرومانية الكبرى المُغطَّاة بالنباتات، والتي يجري هضمُها ببطء مرةً أخرى إلى باطن الأرض.
بداخل جسدي، توجَد عشرة تريليونات خلية (عفاريت ماكسويل الصغيرة هذه) تقاتل الانهيار نفسه الذي لا مفرَّ منه تجاه الإنتروبيا. من الغريب أن نفكر في أنه بداخل كلٍّ منها تحدث كثير من الأشياء، والتي لا تدركها العين. لا تعلم الخلية بامتلاكها للدنا، أو الرنا، أو التيلوميرات أو المتقدرات، ولا تعرف أن الأدينوزين A يرتبط بالتيروزين T، أو أن السيتوزين C يرتبط بالغوانين G، أو أن CTG ترمز إلى الحمض الأميني ليوسين leucine، أو أن GCT ترمز إلى الألانين alanine؛ وهي الخرزات الجُزيئية التي تنتظم معًا لصُنع البروتينات. ليست هناك بطاقات تعريف، ولا أبجدية جينية مكتوبة في أيِّ مكان، كما لا توجَد تعليمات. يقوم كل شيء بمهمَّته بطريقةٍ ما، وعندما لا يفعل ذلك نستشيط غضبًا ضدَّ الآلة.

ملاحظات المؤلِّف

إن عناوين الإنترنت غير العملية التي يُطلق عليها اسم URLs (اختصار «محدِّدات مواقع المعلومات الموحَّدة») لم يكُن أبدًا مقصودًا لها أن تظهر في الطباعة؛ فهي توجيهات من وراء الكواليس لحاسوب ينفِّذ دون تفكير تعليمات نقرة من الفأرة على رابط تشعُّبي hyperlink. وقد استبعدتُها من قسم الملاحظات في الإصدارات المطبوعة من هذا الكتاب. وبالنسبة إلى الغالبية الساحقة من الأوراق البحثية التي استشهدتُ بها، فإن الملخَّص والنصَّ الكامل في كثير من الأحيان يمكن العثورُ عليها بسهولة من خلال البحث عبر الإنترنت، وهو أسهل بكثير من الكتابة، حرفًا بحرف، وخطًّا مائلًا وراء الآخر، ومن ثَم عنوان الإنترنت المحدد لكلٍّ منها. وكذلك يمكن بسهولة العثورُ على صفحات الويب التي استشهدتُ بها، والتي كانت متاحةً عندما مثل هذا الكتابُ للطبع. أمَّا نسخة الإنترنت من الملاحظات، والمتوفرة على موقع الويب الخاص بي، talaya.net، فتتضمن روابط لكافة المراجع، وكذلك طبعات الكتاب الإلكترونية.
١  “Head and Neck Cancers,” National Cancer Institute website.
٢  Alexander Solzhenitsyn, Cancer Ward, trans. Nicholas Bethell and David Burg (New York: Farrar, Straus and Giroux, 1969), 202.
٣  D. P. Slaughter, H. W. Southwick, and W. Smejkal, “Field Cancerization in Oral Stratified Squamous Epithelium: Clinical Implications of Multicentric Origin,” Cancer 6, no. 5 (September 1953): 963–68.
٤  Boudewijn J. M. Braakhuis et al., “A Genetic Explanation of Slaughter’s Concept of Field Cancerization Evidence and Clinical Implications,” Cancer Research 63, no. 8 (April 15, 2003): 1727–30.
للاطِّلاع على مراجع حول السرطنة الحقلية:
Gabriel D. Dakubo et al., “Clinical Implications and Utility of Field Cancerization,” Cancer Cell International 7 (2007): 2; and M. G. van Oijen and P. J. Slootweg, “Oral Field Cancerization: Carcinogen-induced Independent Events or Micrometastatic Deposits?” Cancer Epidemiology, Biomarkers & Prevention 9, no. 3 (March 2000): 249–56.
٥  W. Crookes, “The Emanations of Radium,” Proceedings of the Royal Society of London 71 (January 1, 1902): 405–8.
٦  Paul W. Frame, “William Crookes and the Turbulent Luminous Sea,” Oak Ridge Associated Universities website. The piece originally appeared in the Health Physics Society Newsletter.
٧  Robert Bud and Deborah Jean Warner, eds., Instruments of Science: An Historical Encyclopedia (New York: Garland, 1998), 572-73.
٨  W. Crookes, “Certain Properties of the Emanations of Radium,” Chemical News 87, no. 241 (1903).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤