الفصل الخامس

مرض المعلومات

جاء أول تلميح إلى أن السرطان مرضٌ يتعلق بالمعلومات في أحد مُختبَرات جامعة تكساس، في أواخر عشرينيات القرن العشرين، حيث كان هيرمان ج. مولر Müller يُجري تجاربه على ذباب الفاكهة.١ كان مولر يعمل وفق تقليد طويل بدأ مع مندل Mendel، الذي اكتشف في حديقته الملحقة بالدير٢ أن بعض الصفات، مثل ألوان الزهور، تنتقل بين أجيال نباتات البازلاء وفقًا لأنماطٍ يمكن التنبؤُ بها. يتسم اللون الأرجواني بكونه عاملًا سائدًا، في حين أن البياض يمثل صفحةً متنحية. إذا ورث نبات البازلاء العامل الأرجواني من كلا النباتَين الوالدَين، فسوف تكون أزهاره أرجوانية، وتنطبق نفس القاعدة إذا كان كلا العاملَين الموروثَين ذا لونٍ أبيض. غير أنه إذا كان أحدهما أبيض والآخر أرجوانيًّا، فلن يمتزجا لصنع نبات الخزامى lavender. يتفوق الأرجواني على الأبيض بحيث يكون هو اللون الذي يظهر في الذُّريَّة. أمَّا الطريقة الحديثة لقول ذلك فهي أن هناك جِينًا للون الزهور — ثمة نواة مجهرية من المعلومات الوراثية — والذي يأتي في شكلَين. في حالة ذباب الفاكهة fruit flies، الذي يتوالد بسرعة كبيرة، يتكشَّف خلط هذه الصفات في صورة حركة سريعة إلى الأمام، وسواءٌ كانت العيون حمراء أم بيضاء، والشعيرات الهُلْب bristles مستقيمةً أم متشعبة، فإن هذه الصفات الوراثية، والتي تتسم بكونها منفصلةً بعضُها عن بعض بقدْر تميُّز الآحاد والأصفار في الشفرة الثنائية binary code، يمكن تتبُّعها وتخطيط مسارها خلال ارتحالها عبر خطِّ العائلة.

وكطالب، درس مولر كيف ينبثق عن العملية المندلية بعضُ النتائج غير المتوقعة في بعض الأحيان.

بعد أجيال عديدة، فإن الذباب الأصيل الأحمر العينين قد يُنتج عفويًّا نُسخًا طافرةً ذات عيون بيضاء، كما تظهر أنواعٌ أخرى من الطفرات أيضًا. كان هذا قبل وقت طويل من التعرُّف على الدنا DNA باعتباره مادة الجينات، ذلك الجزيء الحلزوني الشكل الذي يحمل المعلومات الوراثية في أبجدية ذات أربعة حروف، وهي النيوكليوتيدات التي تُعرف اختصارًا بالحروف G وC وA وT. وإذا تغيَّر حرفٌ منها، فقد يتشوه المعنى، ومن ثَم تُصبح الإشارة ضجيجًا أو يجري إسكاتُها تمامًا.
بيدَ أن هذا النوع من الوضوح٣ لم يأتِ إلا بعد ذلك بعقود، مع اكتشافات أوزوالد آفري Avery في العام ١٩٤٤م، وألفريد هيرشي Hershey ومارثا تشيس Chase في العام ١٩٥٢م، وبعد ذلك بعام عندما قام جيمس واطسون Watson وفرانسيس كريك Crick معًا بصُنع نموذجهما البدائي للحلزون المُزدوِج double helix من الورق المقوَّى، والصفائح المعدنية، والأسلاك. وحتى ذلك الوقت، كانت مساهمة مولر هي إظهار أنه أيًّا كانت المادة المكوِّنة للجينات وأيًّا كانت طريقة عملها، فلست مضطرًّا إلى انتظار حدوث الطفرات، فمن الممكن إنتاجُها حسب الرغبة عن طريق تعريض الذباب للأشعَّة السينية.
وفي معظم الأحيان، تؤدِّي الطفرات إلى إصابة الذباب بالعُقم أو قتله. وقد خمَّن مولر أن ذلك قد يفسِّر سبب كون الأشعَّة بمثل هذه الفعالية في تدمير الخلايا السرطانية السريعة الانقسام، وهي ضرب المعالجة الذي دخل حيز الاستخدام في الوقت نفسه تقريبًا الذي جرى فيه إنتاج الأشعَّة السينية لأول مرَّة٤ في مُختبَر فيلهلم رونتغن Röntgen في العام ١٨٩٥م. ومع كل عملية للانقسام الخلوي، لا بدَّ من نسخ الجينات. يمكن للطاقة المتولدة من الأشعَّة السينية النافذة أن تدمِّر البنية المِجهريَّة؛ الأمر الذي يؤدِّي إلى طفرة مُميتة ومن ثَم إخراج تلك الخلية من اللعبة. هناك شيءٌ أعمق بكثير هنا، وهو معرفة أن الأشعَّة السينية التي استخدمها مولر يمكنها أيضًا خلق طافرات حيَّة living mutants؛ ذباب الفاكهة الأمهق albino، أو ذباب الفاكهة ذو الشعيرات المتشعبة أو الأجنحة المنكمشة. وقد أشار مولر إلى أن هذه القدرة على تغيير المادة الوراثية قد تفسر المفارقة: لماذا يمكن للأشعَّة التي تقتل السرطان أن تُسبِّب السرطان أيضًا، محولةً الخلايا الطبيعية إلى خلايا خبيثة. إن السرطان، هذا المرض العديم الشكل ظاهريًّا، هذا التوسُّع العشوائي للخلايا المهتاجة، قد يكون نتيجةً لطفرات جينية مُحكَمة.
كانت القرائن موجودة، لكنها ظلَّت بالكاد مرئية، منذ أوائل القرن العشرين عندما تساءل عالم البيولوجيا الألماني، تيودور بوفري Boveri، عن سبب امتلاك الخلايا السرطانية لكروموسومات صبغيات chromosomes غريبة المظهر.٥ ربما، وفقًا لتخمين بوفري، تعرَّضت للتلف بطريقة أدَّت إلى توجيه ضربة قاضية ﻟ «العوامل»، أيًّا كانت هُوِّيتها، التي كان من شأنها في الحالة الطبيعية أن تثبِّط النمو، ما يسمح للخلايا بأن «تتضاعف من دون ضابطٍ ولا رادع».٦
وعند نكوصها إلى حالةٍ أكثر بداءة، تتخلى الخلية السرطانية عن فرض الكفاية الذي يُوجِب عليها ألَّا تتناسخ سوى عندما «تتطلب ذلك احتياجات الكائن الحي بأكمله». وبالتالي، فإن ما كان عضوًا مسئولًا في منظَّمة يصبح مثلَ كائن وحيد الخلية يحركه هدفٌ واحد، والذي لا يهدف إلا، كما كتب بوفري، إلى إكثار نفسه بدافعٍ من الأنانية. وقبل نصف قرن من فكِّ شفرة الدنا، تجرَّأ حتى على القول بأن الخلية السرطانية تُصبح واطنة native؛ لأن «التدخلات الكيميائية والفيزيائية» تُتلف بعض آليَّات عملها الداخلية بدون قتل الخلية تمامًا. لقد كتب ذلك في العام ١٩١٤م. وبعد خمس سنوات، مستلهمين كتابات بوفري، وجد عالِمَا الوراثة، توماس هانت مورغان Morgan وكالفين ب. بريدجز Bridges، أنه «من المعقول على الأقل أن السرطان في الثدييات٧ قد ينتُج عن طفرات جسدية متكررة في بعض الجينات».
تحدث عالِمٌ آخر عن السرطان باعتباره «نوعًا جديدًا من الخلايا»٨ التي «تحدث فيها عملية متكررة دومًا من الطفرات، مع وجود نزعة، على أيِّ حال، للانحراف أكثر وأكثر عن النوع العادي». إن مدى اقترابهم من كبد الحقيقة لَهُو أمرٌ مثيرٌ للإعجاب بقدْر ما هو مُحبِط.
وكذلك فقد ظلَّت الأدلة تتراكم على أن النشاط الإشعاعي، مثل الأشعة السينية، يمكنه التسبُّب في حدوث الطفرات. ومنذ أيام روما القديمة، جرى التنقيب عن اليورانيوم uranium واستخراجه من صخور تُسمَّى خَلْطَة القار pitchblende، وذلك لاستخدامه كصبغةٍ صفراء في صُنع الزجاج والسيراميك، ولم يتعرف أحدٌ على أكثر صفاته غرابةً حتى العام ١٨٩٦م، عندما اكتشف هنري بيكريل Becquerel،٩ مصادفةً، أن أملاح اليورانيوم الملفوفة في ورق مُعتم أو المغلَّفة بالألومنيوم يمكنها تشويشُ ألواح التصوير الفوتوغرافي. لقد اعتقد في البداية أن تلك البلورات تمتصُّ أشعَّة الشمس ومن ثَم تُعيد بثَّ تلك الأشعَّة الثاقبة. أفكر في القُشعريرة التي لا بدَّ أنه شعر بها عندما أدرك أن اليورانيوم لم يكُن يمتصُّ الطاقة، بل يُنتجها ذلك الضوء غير المرئي والثاقب.
لم يزدَد الوضع إلا غرابةً عندما لاحظَت ماري كوري Curie١٠ أن خَلْطَة القار تحتفظ بقوتها حتى بعد إزالة اليورانيوم. في الواقع أن الخام المتبقي كان أكثر إشعاعًا بكثير من اليورانيوم المُنقَّى نفسه. لا بدَّ أن هناك شيئًا آخر في الصخرة، والذي يتسم بكونه أكثر سخونة. تمكنت هي وزوجها، بيير، من عَزْل وتسمية عنصر مشع جديد، وهو البولونيوم polonium، على اسم بولندا، وهي وطنها الأم، لتكتشف أن الصخرة المتبقية كانت لا تزال مُشعَّةً للغاية. ثمة شيءٌ لا يزال مخفيًّا بداخلها، والذي كان يُطلِق هذه الأشعَّة العجيبة.
«بيير، ماذا لو كان العالَم يحتوي على نوع من المواد١١ التي لم نكُن حتى نحلم بها قط؟ ماذا لو كانت هناك مادةٌ ليست خاملةً بل مفعمة بالحيوية؟» كانت هذه غرير غارسون Garson، والتي مثَّلت دور كوري في فيلم «مدام كوري» الذي أُنتج في العام ١٩٤٣م، في مشهد تعليمي بقدْر ما هو ميلودرامي. وتحت سقيفة معرَّضة للتيارات الهوائية في جامعة باريس، تقوم ماري بغربلة أكوام من خَلْطَة القار ومن ثم استخراج أصغر ذرة مما أطلقت عليه اسم الراديوم. وفي أفضل جزء من الفيلم، تأتي هي وبيير إلى السقيفة ليلًا ليجداها تسطع بتوهُّج غريب. بيدَ أن القصة الحقيقية، من دون حشوٍ أو دراما، تتسم بكونها مؤثرةً بالقدْر نفسه. إليكم ما وصفته كوري في مذكراتها الخاصة: «كان التوجُّه إلى غرفة عملنا في الليل أحد مباهجنا،١٢ وكنا حينئذٍ نلاحظ كل الجوانب والصور الظليَّة الخافتة الإضاءة للزجاجات أو الكبسولات التي تحتوي على مستحضراتنا. كان ذلك مشهدًا جميلًا حقًّا ومتجددًا دومًا بالنسبة إلينا. كانت الأنابيب المتوهِّجة تبدو كأضواء خافتة من وحي الخيال.» أمَّا ما كان يشاهده الزوجان كوري فهو غيوم الضوء contrails التي تُنتِجها الجُسيمات المشحونة التي تبثُّ شحناتها في الهواء، وهي المقابل البصري لدويٍّ صوتي.١٣
يُضيء الراديوم أيضًا عندما تسقط أشعَّته على مادة كيميائية ذات وميض فسفوري phosphorescent مثل كبريتيد الزنك، وبالتالي فقبل مُضيِّ وقت طويل، كان يجري مزج المادتين لصُنع أقراص الساعات watch dials التي تتوهَّج في الظلام. مثَّل رسم الأرقام مهمةً شاقةً، فالمعلاق الموجود في الجزء العلوي من الرقم ٢ يترقَّق لإنتاج خطٍّ ضيِّق للأسفل، قبل أن تزداد سماكته مرةً أخرى لتشكيل خطِّ القاعدة. وكان رسم الأرقام ٣ و٦ و٨ ينطوي بدوره على الصعوبة نفسها. ولتنظيف أطراف الفُرَش والاحتفاظ بها مُدبَّبة، جرى تدريبُ العاملات على ترطيبها وتشكيلها بشفاههن وألسنتهن. وعلى افتراض أن الطلاء كان غير مؤذٍ، فإن بعض رسامات أقراص الساعات — اللاتي صرن يُعرَفن في التقارير الإخبارية باسم فتيات الراديوم — اعتدن استخدامها لتزيين أسنانهن، وأظافرهن، وحواجبهن.١٤ لا بدَّ أن ذلك كان مناسبًا تمامًا كزينةٍ لعيد القدِّيسين؛ الهالووين Halloween.
ولكون الجسم يتعرف عليه بالخطأ على أنه كالسيوم، فقد اندمج الراديوم في عظامهن، حيث ظلَّ قابعًا هناك يبثُّ الإلكترونات العالية السرعة، وجُسيمات ألفَا alpha particles، وأشعَّة غامَا، مع قتل الخلايا أو تحويلها، ومن ثَم التسبُّب في حدوث بعض السرطانات النسائية في نهاية المطاف.
وهنا تظهر المفارقة مرةً أخرى؛ كانت كوري نفسها تروِّج لاستخدام الراديوم، مثل الأشعَّة السينية، كعلاج لتقليص حجم الأورام السرطانية، لكنه يتسبَّب هنا في ظهور أورام من الخلايا السليمة. وفي العام ١٩٢٧م، عندما تصدرت فتيات الراديوم عناوين الأخبار، نُشر بحث مولر، الذي خمَّن فيه أن القوة المُطفِرة mutagenic power للأشعَّة السينية قد تكون مسئولةً عن قدرتها على إحداث السرطان. وإذا كان الأمر كذلك، فالأمر نفسه قد ينطبق على الضوء الخرافي المنبعث عن الراديوم.
وقبل وقت طويل من الاشتباه في وجود أشعَّة غير مرئية، لاحظ الأطباء أدلةً على أن السرطان قد ينتُج أيضًا عن أشياء أكثر وضوحًا. ففي العام ١٧٧٥م، لاحظ جرَّاح لندني أن «ثآليل السخام» soot warts،١٥ وهي القروح التي تظهر على أصفان scrotums مُنظفي المداخن، لم تكُن أمراضًا تناسليةً بل كانت أورامًا خبيثةً تنتُج، على ما يبدو، عندما يتلامس الجلد مع القطران والغبار الأسود المتخلِّف عن الفحم المحروق. اكتُشف السرطان نفسُه لاحقًا١٦ في العمال القائمين على تصنيع البارافين paraffin وغيره من نواتج تقطير قطران الفحم. وبحلول أوائل القرن العشرين، تمكَّن العلماء من إحداث السرطانات عن طريق تطبيق قطران الفحم مرارًا وتكرارًا على آذان الأرانب.١٧ وجد أن قطران الفحم (coal tar) يتألف من خليط غير متجانس من المركَّبات المشتقَّة من الكربون — البنزين، والأنيلين، والنفثالين والفينولات — وخلال العقود القليلة التالية، اكتشف العلماء أن كثيرًا منها تُحدِث أورامًا في حيوانات المُختبَر.١٨ كان من غير الأخلاقي بالنسبة إليهم تعريضُ البشر للمُسرطِنات من أجل معرفة ما إذا كانت تلك تسبِّب السرطان. بيدَ أنهم لم يكونوا بحاجة إلى ذلك؛ فمع نمو صناعة السجائر، بدأ الناس يقومون بإجراء التجارب على أنفسهم.
وبحلول منتصف القرن العشرين، كنا نعرف أن الإشعاع يسبِّب كلًّا من الطفرات والسرطان. وقد علمنا أن طائفةً من المواد الكيميائية المختلفة تسبِّب السرطان أيضًا، وسرعان ما ثبت أن العديد منها مُطفِرة. تعمل تلك المواد على تغيير البرامجيات الوراثية للخلية عن طريق تغيير جذاذات من شفرة الدنا. وفي أوائل السبعينيات، جاء بروس إيمز Ames (وهو العالِم الذي اشتهر بإثباته أن الفواكه والخضراوات العادية تحتوي على موادَّ مُسرطِنة) بملاحظة لافتة للنظر. فبدلًا من ذباب الفاكهة، أجرى أبحاثه على بكتيريا السالمونيلا salmonella، وبالتحديد على السلالات التي فقدت القدرة على صنع الهستيدين histidine، وهو حمض أميني تحتاج إليه من أجل التكاثر. وإذا وضعت في طبق يحتوي على مُغذيات من بينها قدْرٌ ضئيلٌ من هذا العنصر الحيوي، فإن البكتيريا ستنمو، ولكن فقط حتى تستنفد الموجود من الهستيدين. وبعد ذلك، فإن المستعمرة بأسرها تموت. اكتشف إيمز أنه إذا أضيفت موادُّ مُسرطِنة إلى المزيج، فستظلُّ بعض بكتيريا السالمونيلا على قيد الحياة، حيث تتوسع وتملأ الطبق. كانت المواد الكيميائية، على ما يُفترض، تُنتِج الطفرات عشوائيًّا. لكن جينوم كل بكتيرة bacterium لا يحتوي سوى على قدْرٍ ضئيلٍ للغاية من المعلومات، كما كان هناك عدد هائل من تلك الميكروبات — المليارات منها — إلى درجة أن الطفرات ستشمل تلك التي اتُّفق أنها استعادت القدرة على تخليق الهستيدين.
صار الإجراء يُعرف باسم اختبار إيمز Ames test،١٩ وهي طريقة سريعة وعملية لمعرفة احتمال كون مادة كيميائية مُطفِرة. وفي حالةٍ بعد حالة، فإن المواد الكيميائية التي اجتازت اختبار إيمز أنتجت أيضًا أورامًا في حيوانات المُختبَر. بدت الحُجَّة حاسمةً تقريبًا؛ فما يُسبِّب السرطان، سواء كان عاملًا كيميائيًّا أو طاقيًّا energetic، يفعل ذلك عن طريق تغيير المعلومات الوراثية. كانت القطع المكوِّنة لنظرية تتساقط في مكانها، فيما عدا استثناء عنيد، فبعض أنواع السرطان على الأقل يبدو أنها غير ناتجة عن موادَّ كيميائية أو عن أشعَّة مخترقة، بل عن الفيروسات.
وبالنظر إلى ما مضى، فإن هذا الأمر لا يثير الاستغراب. فلكونها تعيش على الحدِّ الفاصل بين الكيمياء والحياة، تمثل الفيروسات حُزمًا من المعلومات في صورة متواليات منظمة من الدنا أو الرنا RNA،٢٠ والمغلَّفة بغمدٍ واقٍ، وهي جينومات جائلة من البساطة بحيث تتكون بعضها من ثلاثة جينات فقط. ومثل فيروسات الإنترنت الاصطناعية التي استلهمتها لاحقًا، فإنها تتسلَّل إلى مضيفيها (الحواسيب البيولوجية المُسمَّاة بالخلايا)، ومن ثَم تُصادر آليَّاتها الداخلية. وهناك يجري نسخُ جينات الغُزاة بكل خضوع، ومن ثَم يُعاد تجميعُها مرارًا وتكرارًا، بحيث تنتشر النُّسخ الفيروسية إلى الخلايا الأخرى، حيث تقوم بتنفيذ الروتين نفسه بصورة آليَّة، فالحياة نفسُها قد جُرِّدت من قدرتها على القيام بأيِّ شيء باستثناء التكاثر.
هناك عدد قليل من التي تعمل بطريقة أكثر التواءً؛ فهي تنسخ وتلصق جيناتها في صبغيات (كروموسومات) الخلية مباشرةً. تقوم هذه الخوارزمية المخترقة بأمر المضيف نفسه بالتكاثر بوتيرة متسارعة، ومن ثَم يصبح خليةً سرطانية. ذُكر أول مثال على ذلك في العام ١٩١٠م من قِبَل بيتن راوس (Rous)، وهو عالِم في معهد روكفلر للأبحاث الطبية، والذي كان يدرس الأورام في الدجاج.٢١ بدأ أبحاثه باستخراج السوائل من كتلة غير منتظمة الشكل تنمو في صدر دجاجة من نوع بلايموث روك Plymouth Rock، ومن ثَم حقنها في طائر آخر.
بعد خمسة وثلاثين يومًا من موت الدجاجة الأولى بالسرطان، وهو من نوع الساركومة، كانت الدجاجة الثانية قد أُصيبَت بوَرَم من النوع نفسه. إذَن فالمادة المأخوذة من الوَرَم يمكنها، بدورها، أن تُستخدَم لنقل السرطان إلى طائر آخر، وهكذا انتقلت من دجاجة إلى أخرى. بيدَ أن العامل المحول اتضح أنه أحد الفيروسات القهقرية retrovirus، من النوع الذي يمكنه تهريبُ الجينات المسبِّبة للسرطان إلى الخلايا السليمة بخلاف ذلك.
كان هناك الجين src، الذي كان جزءًا من الفيروس المسبِّب للساركومة في الدجاج. ثمة جين آخر، يُسمَّى ras، والذي يحرِّض الساركومة في الجرذان، في حين يفعل الجين fes الشيء نفسه في القطط. يحرِّض الجينان myc وmyb حدوث بعض أنواع السرطان في الخلايا الدموية في الدواجن، مثل الورام النقوي myelocytomatosis، ووجود أرومات النقويات بالدم myeloblastosis. لو كانت الأبحاث قد انتهت هنا، لكانت تركت صورةً مُرتَّبة. من الممكن أن ينتُج السرطان عندما تسبِّب المواد الكيميائية أو الإشعاع حدوث طفرات في جينات موجودة مسبقًا، أو عندما تقوم الفيروسات خُلسةً بإدخال جينات جديدة تمامًا يُطلق عليها اسم تلك الجينات الوَرَميَّة oncogenes، والتي يمكنها إحداثُ السرطان بالفعل. تمثِّل هاتان طريقتَين أساسيتَين لتعديل المعلومات الوراثية، لكن اتضح أن القصة الحقيقية أكثر إثارةً للاهتمام بكثير.
كانت هناك مشكلة التوفيق بين اكتشاف راوس وما يبدو أنه يحدث في الواقع. لم يكُن السرطان يتصرف كمرضٍ مُعدٍ يجتاح المجموعات السكانية مثل شلل الأطفال؛ فهو يظهر بشكل متقطع في أماكن مختلفة. حتى فيروس راوس الذي يصيب الدجاج لا ينتشر إلا عندما يجري حقنُه، وقد باءت بالفشل جميع محاولاته لنقله إلى غيرها من الحيوانات؛ الحمام، والبط، والجرذان، والفئران، والخنازير الغينية، والأرانب. ولم يتمكن، إلا بصعوبة بالغة، من نقله إلى أنواع الدجاج الأخرى باستثناء تلك القريبة للغاية من دجاج بلايموث. كان الأمر الأكثر دلالةً هو أن العلماء لم يعثروا على الفيروسات القهقرية بداخل الأورام البشرية، فما كانوا يجدونه بدلًا من ذلك هو أن جينومات المخلوقات من كل أرجاء المملكة الحيوانية كانت تحتوي على ما يبدو أنه نُسَخ طبيعية من الجينات src، وras، وfes، وmyb، وmyc،٢٢ وليس تلك التي أُدخِلت خُلسة. لم تكُن هذه جيناتٍ مكسورةً أو طافرة، مثل نظيراتها الفيروسية. وكان الغرض منها هو التحكم في الكيفية التي تنقسم بها الخلايا السليمة، وهي العملية التي يطلق عليها علماء البيولوجيا اسم الانقسام الفتيلي mitosis.

من الواضح أن ما يحدث هو أنه في بعض الأحيان يقوم فيروس يعيش حياته كالمعتاد — من دون قصد — بنسخ واحد من هذه الجينات «المضيفة» البريئة إلى جينومه هو.

وفي أثناء انتقاله من فيروس إلى فيروس، يطفر الجين إلى شكل يسبِّب السرطان. لكن كل ذلك كان مجرَّد مصادفة. كان الفيروس فاعلًا عارضًا في القصة، باعتباره الموضع الأول الذي اتُّفق فيه، وأنه جرى اكتشافُ هذه الجينات. قد تنتُج بعض أنواع السرطان عن غزو فيروسي مباشر، مثل فيروس الوَرَم الحليمي البشري، وسرطان عنق الرحم، وفيروسات التهاب الكبد، وسرطان الكبد. غير أن هذه مجرَّد استثناءات، فالأغلبية العُظمى من حالات السرطان تنشأ عندما يتعرض الجين الأصلي، وهو يقبع آمنًا في خليته الخاصة، لطفرة عشوائية، أيْ تلك الناجمة عن عوامل خارجية بفعل مادة مُسرطِنة أو داخلية بسبب خطأ غير مُبرَّر في عملية النسخ. وهنا تنحرف الوظيفة الطبيعية للجين بطريقة أو بأخرى، ما يدفع الخلية نحو الخباثة. وباعتبار أن جينات مثل هذه يمكنها أن تتحول جذريًّا إلى جينات سرطانية، فقد جرت تسميتُها بطليعة الجينات الوَرَميَّة proto-oncogenes.٢٣ ولو كان قد جرى اكتشافُ وظيفتها الحقيقية قبل تلك الشاذة، فلا بدَّ أنه كان سيُطلَق عليها اسمٌ آخر.

ومن خلال دراسة الجينات عن كثب، اكتشف الباحثون كيف تقوم بتنظيم الطرق التي تنمو وتتكاثر بها الخلايا بصورة متناغمة. تسيطر بعض الجينات على إنتاج المستقبلات التي تنتأ من سطح الخلية، وهي جزيئات مُبرمَجة بحيث تستجيب للإشارات الواردة من الخلايا الأخرى. وعندما تتلقى هذه الهوائيات الجزيئية رسالةً ما، فهي تقوم بترحيل المعلومات داخليًّا إلى نواة خليتها الخاصة، وهي تعليمات لتفعيل الآليَّات المتخصِّصة في الانقسام إلى خلايا وليدة، فإذا صار الجين طافرًا، فقد تُنتج الخلية عددًا أكبر من اللازم من المستقبلات أو مستقبلات تتسم بحساسية مفرطة. وبسبب فزعها، فهي تستجيب للصمت، ومن ثَم تُمطر الخلية بوابلٍ من الإنذارات الكاذبة. كذلك فإن بعض الجينات المعطوبة الأخرى قد تُطلق العنان لرسائل تحثُّ جيران الخلية لإغراقها بمزيد من الكيماويات المحفِّزة للنمو، أو أن الخلايا السرطانية، في حالتها المتهيِّجة، قد تُفرط في الاستجابة لإشاراتها الخاصة، صارخةً في نفسها لكي تنمو.

تطفر الجينات المتعلقة بالجين src في سرطان القولون والعديد من أنواع السرطان الأخرى، وتظهر الجينات ras المَعيبة في مجموعة متنوعة من الأورام الخبيثة البشرية، مثل سرطان البنكرياس، والقولون والمستقيم، والغُدَّة الدرقية، والجلد، والرئة. كل ما يلزم لتحويل جين ras جيد إلى جين ras سيئ هو طفرة نقطية — أي انقلاب الحرف G إلى T، أو A، أو C — وهو خطأ مطبعي عشوائي في رسالة يبلغ طولُها مئات الحروف.
تحدث طفرات أخرى في أثناء الانقسام الخلوي عندما يجري نسخ جين سوي مراتٍ عديدة. عُثر على الجينات ras المتكررة في سرطان الرئة، والمِبيَض، والمثانة، وأنواع أخرى من السرطان. يساعد تلعثم الجين mycs على الإصابة بضربٍ من سرطان الدماغ في الأطفال يُسمَّى الوَرَم الأرومي العصبي neuroblastoma. وتكون بعض الطفرات أكثر تشويهًا من ذلك؛٢٤ فقد ينكسر أحد الصبغيات ثم يلتحم بآخر، ما يقرِّب جينَين كانا متباعدَين سابقًا أحدهما عن الآخر. وفي لمفومة بوركيت، تقذف طفرة مثل هذه بالجين myc إلى جانب جين غريب متغطرس يدفع شريكه الجديد لكي يُفرِط في التعبير عن نفسه overexpress، ومن ثَم يقذف بإشارات تحرِّض الخلية على الانقسام، والانقسام، والانقسام.
كانت هذه احتماليةً مُرعبة، والمتمثلة في أن طفرةً واحدةً قد تكون كافيةً لتحويل جين ما إلى وضع التسارع المُفرط، ما يؤدِّي إلى وَرَم مُميت. غير أنه حتى الجين الوَرَمي لا يمتلك مثل هذه القوة. وجد الباحثون أن إدراج واحد، أو حتى اثنين، من الجينات الوَرَميَّة في خليةٍ ما لا يكفي عادةً لإحداث سرطان ما لم تكُن الخلية قد راكمت بالفعل بعض العيوب السابقة. تُحكم الأجهزة الحيَّة بواسطة توازن جيروسكوبي gyroscopic balance تحدث فيه مقابلة قوة مُفرطة من اتجاهٍ ما بدفع من الاتجاه المقابل. وفي حين أن السبعينيات كان عقد الجين الوَرَمي، بدأ العلماء في الثمانينيات يكتشفون مضادَّات الجينات الوَرَميَّة anti-oncogenes، وهي الجينات التي تتمثل وظيفتها في الاستجابة للهبَّات السريعة للانقسام الخلوي عن طريق إبطاء وتيرة العملية.
ومثل طليعة الجينات الوَرَميَّة، كانت هذه الجينات المقيِّدة للنمو جزءًا من الرموز الطبيعية للخلية، كما جرى اكتشافها أيضًا عندما حدث أمر خطأ. إن الوَرَم الأرومي الشبكي هو سرطان يصيب الأطفال، ويتميز بنموٍّ خارجٍ عن السيطرة للخلايا المُستشعِرة للضوء في العينَين. قد تتمثل أولى علامات الوَرَم في توهُّج أبيض غريب في نظرة الطفل عند تصويره بوميض flash آلة التصوير. وإذا لُوحِظ في وقت مبكر بما فيه الكفاية، فمن الممكن علاجُ الحالة بالمعالجة الكيميائية، أو الإشعاع، أو الجراحة بالليزر، أو استئصال العين. وإذا لم يحدث ذلك، فقد تكون النتيجة مُرعِبة؛ إذ يلفظ الوَرَمُ المتوسعُ العينَ من محجرها. تُظهر الصور المرسومة في الكتب الدراسية الطبية التي تعود إلى القرن التاسع عشر هذه النتائج البشعة التي لا تزال تحدث بين الفقراء في البلدان النامية. يبدأ السرطان عندما يتعرض جين يُسمَّى Rb٢٥ — وهو اختصار retinoblastoma؛ أي «الوَرَم الأرومي الشبكي» — للتلف بسبب طفرة، ومن ثَم يفقد قدرته على كبح النمو المُفرط.
لكن الجين Rb قد سُمِّي، مثل كثير من الجينات الأخرى، بسبب الظروف العَرَضية لاكتشافه، فهو لم يُوجَد لغرض وحيد هو قمع الوَرَم الأرومي الشبكي. وبمجرَّد أن بدأ العلماء في البحث عن الجينات Rb، عثروا عليها في جميع أنحاء الجسم، كما كانت غائبةً أو مُعطَّلةً في سرطانات المثانة والثدي والرئة. وخلافًا لجين وَرَمي مثل myc أو ras، يجري التعرف على الجينات المقيِّدة للنمو، مثل الجين Rb، عن طريق غيابها. ولأننا نرث الصبغيات من كلا الوالدين، توجَد الجينات في أزواج. وفي خلية منفردة، يكفي أن يشرع جين وَرَمي واحد في إساءة التصرف لكي تبدأ المتاعب. وفي جينات مثل Rb، لا بدَّ من غياب كلتا النسختين؛٢٦ فإذا فُقدت واحدةٌ فقط، فستظلُّ الأخرى موجودةً لإرسال الإشارات الملطفة.
وقد اكتُشفت عشرات الجينات ذات الأغراض المماثلة: PTEN وapc وvhl وp53 المعروفة باسم «كابتات الأورام»، وهو اسم أخرق آخر قُذف على العالم بفعل النزعة البشرية لعدم ملاحظة الأشياء إلا عندما تتحطم. في أجهزة المذياع القديمة، كان بوسع المرء أن يمدَّ يده المرتدية قفازًا لنزع صمام مفرغ vacuum tube ساخن متوهج من مقبسه، مما يطلق العنان لزعقة طويلة حادة من مُكبِّر الصوت. يمكن لشخص يشاهد هذه الظاهرة لأول مرة أن يطلق على المكوِّن اسم كابت الزعيق squeal suppressor. لكن الآليَّات تكون أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير، كما هو الحال مع الجينات الكابتة. تُنتج بعضُها مستقبلاتٍ تستمع إلى الإشارات المثبطة؛ أي الأوامر الواردة من الخلايا المجاورة بالتوقف عن تجاوز حدودها، فيما تقوم أخرى بتشفير الإنزيمات التي تخمد الأوامر الصادرة من الجينات المحفِّزة للنمو. يُحكَم إيقاع الانقسام الخلوي بواسطة التروس الجزيئية لساعة دورة حياة الخلية، وكذلك فإن الجينات الكابتة للأورام مكتنفة أيضًا في ضبط الوقت.٢٧
أمَّا أحدها، وهو الجين p53، فيقبع في وسط شبكة٢٨ من السُّبُل الكيميائية التي تتحكم في دورة حياة الخلية. فإذا رغبت في بدء سرطان، فعليك تعطيل الجين p53. وإذا كانت الخلية معطوبةً وتنقسم بسرعة كبيرة للغاية، فستلتقط المستشعرات الخارجية إشارات إنذار من جيرانها التي تعاني من الازدحام، كما تكتشف المستشعرات الداخلية وجود اضطرابات في التوازن الكيميائي أو تعطُّل الدنا. ومع إعلان حالة الطوارئ، يتدخل الجين p53 لإبطاء وتيرة الساعة بحيث يمكن إصلاحُ الدنا. تقوم الإنزيمات المدققة بمسح الجينوم، فإذا كان أحد طاقَي strand الحلزون المُزدوِج للدنا تالفًا، فمن الممكن استخدامُ الطاق الآخر كقالب لتوجيه عملية الإصلاح. يمكن استئصال الأقسام التالفة، واصطناع أجزاء بديلة، ومن ثَم وضعها في مكانها.
وإذا تعطلت عملية إصلاح الدنا ولم يكُن بوسع التدابير الأخرى أن تنقذ الخلية الطافرة بصورة خارجة عن السيطرة، يستهلُّ الجين p53 عملية الموت الخلوي المُبرمَج، أو الاستماتة apoptosis.٢٩ وقد اشتُقَّ الاسم من كلمة يونانية تصف أوراق الشجر المتساقطة. عندما يكون الجنين في طور النماء إلى جسم ضئيل، فهو يُنتج عددًا من الخلايا يزيد بكثير على ما يحتاج إليه. وبالتالي فإن الموت الخلوي المُبرمَج هو الوسيلة التي يتخلص بها من الخلايا الفائضة. تُشذَّب الوترات webs الموجودة بين أصابع اليدين والقدمين، كما تُنحت كُتَل العصبونات إلى دماغ مفكر. ليس الموت الخلوي المُبرمَج مجرَّد انفجار خلوي كبير منفرد، بل هو إجراء معقَّد تنطلق فيه إشارات الموت من المقابل الجزيئي لقنابل الأعماق المزروعة في مواقع استراتيجية. تنفجر النواة إلى الداخل، وينهار الهيكل الخلوي (cytoskeleton) للخلية، كما تُبتلع البقايا المِجهرية من قِبَل الخلايا الأخرى، وبالتالي يختفي ما كان سيتحول إلى وَرَم خبيث.
ومن خلال الطفرات العشوائية، تتعلم بضع خلايا تثبيط أو تجاهل إشارات الموت، ومن ثَم تتضاعف، وتتضاعف مرارًا وتكرارًا. لا يمكن للخلية الطبيعية أن تنقسم سوى خمسين أو ستين مرةً فحسب، وفقًا لمبدأ يُسمَّى حدَّ هايفليك Hayflick limit.٣٠ يُضبَط العدُّ بواسطة القسيمات الطرفية telomeres،٣١ وهي قلنسوات تُوجَد على نهايات الصبغيَّات، والتي يقصُر طولُها قليلًا في كل مرة. وبمجرَّد أن تقلَّ القسيمات الطرفية عن حجم معيَّن، يتوقف الانقسام الفتيلي ويُتخلَّص من الخلايا البالية. أمَّا خلايا مثل تلك الموجودة في الجهاز المناعي، التي يجب أن تنقسم بصورة متكررة، فتُصنِّع التيلوميراز telomerase، وهو إنزيم يضمن إعادة القلنسوات مرةً أخرى فوق نهايات الصبغيَّات. وكذلك فقد تعلَّمت الخلايا السرطانية هذه الخدعة بدورها، فتحصل من خلال عملية التجربة والخطأ، التي تنطوي عليها الطفرات، على المعلومات اللازمة لإنتاج إنزيمات التيلوميراز الخاصة بها، وبالتالي يمكنها التكاثر إلى أجلٍ غير مُسمَّى.
ومقارنةً بأقرب ما بلغته الطبيعة من الخلود، تتزايد الخلية وذُريَّتها في العدد بطريقة أُسِّية؛ حيث يُفضي كل انقسام إلى فرع جديد من شجرة العائلة. وتنقسم الفروع بطريقة شِبهَ كسرية fractal-like إلى مزيد من الفروع، وتقوم كلٌّ من هذه السلالات — تلك السُّبُل المتشعبة العديدة — بتكديس الطفرات.٣٢ ولكونها مجهَّزةً بإجراءات ومهارات مختلفة للبقاء على قيد الحياة، فإن العشائر تتنافس على الهيمَنة.
ومع تكشُّف ملامح هذا التطور،٣٣ يكتسب الوَرَم الآخذ في الظهور مزيدًا من أدوات التسرطُن carcinogenesis، حيث تقوم إنزيمات تُسمَّى البروتيازات بالتهام الأنسجة السليمة، فيما تحافظ جزيئات التصاق الخلية على تماسك الكتلة المتوسعة. ومن خلال أخذ الغزو إلى مستوًى جديدٍ كليًّا، يجري إرسالُ إشارات إلى الخلايا السليمة٣٤ لتجنيدها للانضمام إلى الهجوم.
تقوم الخلايا المُسمَّاة بالأرومات الليفية fibroblasts بتخليق البروتينات لأغراض الدعم البنيوي للوَرَم. وتُستدعى الخلايا البطانية endothelial cells، التي تبطن الجهازَين الدوري واللمفاوي، للمساعدة في صنع الأوعية التي تغذِّي الوَرَم، وتوفير سُبُل لانتشار النقائل. أمَّا البلاعم macrophages وغيرها من الخلايا الالتهابية،٣٥ التي تتدفق لمحاربة الغزو، فيجري إقناعُها بدلًا من ذلك بالمساعدة في توسيع نطاقه من خلال إنتاج موادَّ تحفِّز تولُّد الأوعية الدموية، وتولُّد الأوعية اللمفاوية، وبناء المزيد من الأنسجة الخبيثة. وهنا تكمن مفارقةٌ أخرى للسرطان. فالدرع الواقية المتمثلة في الأجهزة التي تُستخدم عادةً لشفاء الجروح — بتدمير الأنسجة المريضة القديمة واستبدالها بنمو صحي جديد — تنقلب رأسًا على عقب، حيث يتغير مساره تمامًا لتعزيز الوَرَم الخبيث.
تتسم كل هذه الآليَّات بكونها متشابكةً إلى درجة يصعُب معها معرفةُ أين تنتهي واحدةٌ وتبدأ الأخرى. ما الذي تقوم به الخلايا السرطانية وماذا تفعله توابعها؟ كان يُنظر في الماضي إلى الأورام باعتبارها كُتلًا متجانسةً من الخلايا الخبيثة. أمَّا الآن، فتُشبَّه بأعضاء الجسم،٣٦ أيْ كأجهزة مؤلَّفة من أجزاء متشابكة. هناك فرق حاسم هنا؛ فالأعضاء ترتبط بشبكة من الأعضاء الأخرى، التي يمارس كلٌّ منها الدور المرسوم له. أمَّا الوَرَم فيحاول أن يصبح مستقلًّا، كأن إحدى الكليتَين قد قررت أن تتحرر وأن تُنشئ حياةً خاصةً بها.
١  H. J. Muller, “Artificial Transmutation of the Gene,” Science 66, no. 1699 (July 22, 1927): 84–87.
٢  An English translation of Gregor Mendel’s landmark paper, “Experiments in Plant Hybridization” (1865), can be found online at MendelWeb.
٣  وُصِفت التجارب التي أجراها Avery, Hershey, and Chase، واكتُشف الحلزون المُزدوِج للدنا، في المرجع التالي:
Horace Freeland Judson’s The Eighth Day of Creation: Makers of the Revolution in Biology, expanded ed. (Cold Spring Harbor, NY: Cold Spring Harbor Laboratory Press, 1996).
وتشمل أهم البحوث في هذا المضمار:
Oswald T. Avery, Colin M. MacLeod, and Maclyn McCarty, “Studies on the Chemical Nature of the Substance Inducing Transformation of Pneumococcal Types,” The Journal of Experimental Medicine 79, no. 2 (February 1, 1944): 137–58; A. D. Hershey and M. Chase, “Independent Functions of Viral Protein and Nucleic Acid in Growth of Bacteriophage,” The Journal of General Physiology 36, no. 1 (May 1952): 39–56; and J. D. Watson and F. H. C. Crick, “A Structure for Deoxyribose Nucleic Acid,” Nature 171 (1953): 737–38.
توجد نسخة مشروحة من ورقة واطسون وكريك على موقع الويب Exploratorium. انظر:
“Origins, Unwinding DNA, Life at Cold Spring Harbor Laboratory”.
٤  للاطِّلاع على ترجمة البحوث الأصلية، انظر:
W. C. Röntgen, “On a New Kind of Rays” (1895), republished in Wilhelm Conrad Röntgen, Sir George Gabriel Stokes, and Sir Joseph John Thomson, Röntgen Rays: Memoirs by Röntgen, Stokes, and J. J. Thomson (New York: Harper & Brothers, 1899), 3–13.
تشمل المجموعة أيضًا مراسلتَي رونتغن الثانية والثالثة. ومثل آل كوري، لم يكُن لديه ما يخشاه في ذلك الوقت بخصوص الإشعاعات المؤيَّنة، وبالتالي فقد وصف ما حدث عندما وجَّه الأشعَّة السينية إلى عينيه. (pp. 7 and 39-40).
٥  للاطِّلاع على تأملات بوفري حول الخلايا السرطانية، انظر:
“Concerning the Origin of Malignant Tumours,” a translation by Henry Harris of Boveri’s Zur Frage der Entstehung maligner Tumoren (1914), Journal of Cell Science 121 (January 1, 2008): 1–84.
وقد نُشرت الورقة ككتاب:
Theodor Boveri, Concerning the Origin of Malignant Tumours, 1st ed. (Cold Spring Harbor, NY: Cold Spring Harbor Laboratory Press, 2007).
٦  Boveri, “Concerning the Origin”.
٧  Volker Wunderlich, “Early References to the Mutational Origin of Cancer,” International Journal of Epidemiology 36, no.1 (February 1, 2007): 246-47.
٨  Wunderlich, “Early References”.
٩  “On Radioactivity, a New Property of Matter,” Nobel Lectures, Physics 1901–1921 (Amsterdam: Elsevier Publishing Company, 1967), 52–70.
تتوافر هذه المحاضرة، التي أُلقيَت في ١١ ديسمبر ١٩٠٣م، على موقع جائزة نوبل الإلكتروني.
١٠  جرى وصفُ تجارب آل كوري في محاضرة بيير كوري التي ألقاها يوم ٦ يونيو ١٩٠٥م، والمتوافرة على موقع جائزة نوبل الإلكتروني:
“Radioactive Substances, Especially Radium,” in Nobel Lectures, Physics 1901–1921 (Amsterdam: Elsevier Publishing Company, 1967).
انظر أيضًا:
Eve Curie, Madame Curie: A Biography, trans. Vincent Sheean (Garden City, NY: Doubleday, Doran & Co., 1937); and Barbara Goldsmith, Obsessive Genius: The Inner World of Marie Curie (New York: W. W. Norton, 2005).
١١  رُشِّح الفيلم الذي كان بطولة كلٍّ من غرير غارسون ووالتر بيدجيون، للحصول على أوسكار أفضل فيلم للعام ١٩٤٤م، والتي فاز بها فيلم «كازابلانكا».
١٢  Marie Curie, Pierre Curie (With the Autobiographical Notes of Marie Curie), trans. Charlotte Kellogg (New York: Macmillan Co., 1923), 187.
١٣  كان الزوجان كوري يريان، على وجه التحديد، إشعاع شيرينكوف Cherenkov radiation.
١٤  للاطِّلاع على تقارير حول فتيات الراديوم، انظر:
Frederick L. Hoffman, “Radium (Mesothorium) Necrosis,” Journal of the American Medical Association 85, no. 13 (1925): 961–65; R. E. Rowland, Radium in Humans: A Review of U. S. Studies, Argonne National Laboratory, Environmental Research Division, 1994; and Ross Mullner, Deadly Glow: The Radium Dial Worker Tragedy (Washington, DC: American Public Health Association, 1999).
١٥  “Cancer Scroti,” in The Chirurgical Works of Percival Pott, vol. 3 (London: Johnson, 1808), 177–80.
١٦  H. A. Waldron, “A Brief History of Scrotal Cancer,” British Journal of Industrial Medicine 40, no. 4 (November 1983): 390–401.
١٧  K. Yamagiwa and K. Ichikawa, “Experimental Study of the Pathogenesis of Carcinoma,” Journal of Cancer Research 3 (1918): 1–29. Republished in CA: A Cancer Journal for Clinicians 27, no. 3 (December 31, 2008): 174–81.
١٨  انظر، على سبيل المثال:
J. W. Cook, C. L. Hewett, and I. Hieger, “The Isolation of a Cancer-producing Hydrocarbon from Coal Tar,” Journal of the Chemical Society (January 1, 1933): 395–405.
١٩  Bruce N. Ames et al., “Carcinogens Are Mutagens: A Simple Test System Combining Liver Homogenates for Activation and Bacteria for Detection,” Proceedings of the National Academy of Sciences 70, no. 8 (August 1973): 2281–85.
٢٠  الحمض النووي الريبي Ribonucleic Acid.
٢١  فيما يلي قائمة ببحوث راوس:
“A Transmissible Avian Neoplasm,” Journal of Experimental Medicine 12, no. 5 (September 1, 1910): 696–705 and “A Sarcoma of the Fowl Transmissible by an Agent Separable from the Tumor Cells,” Journal of Experimental Medicine 13, no. 4 (April 1, 1911): 397–411.
٢٢  وصف هذا الخيط من المسمَّيات باسم «ثورة العام ١٩٧٦م»، والتي انطلقت في المرجع التالي:
Harold Varmus and J. Michael Bishop (D. Stehelin, H. E. Varmus, J. M. Bishop, and P. K. Vogt, “DNA Related to the Transforming Gene(s) of Avian Sarcoma Viruses Is Present in Normal Avian DNA,” Nature 260, no. 5547 [March 11, 1976]: 170–73).
وهي موصوفة في:
in Robert Weinberg’s One Renegade Cell: The Quest for the Origin of Cancer (New York: Basic Books, 1999).
وقد استعنتُ أيضًا بالمراجع التالية:
Weinberg’s “How Cancer Arises,” Scientific American 275, no. 3 (September 1996): 62–70; Douglas Hanahan and R. A. Weinberg, “The Hallmarks of Cancer,” Cell 100, no. 1 (January 7, 2000): 57–70; and D. Hanahan and R. A. Weinberg, “Hallmarks of Cancer: The Next Generation,” Cell 144, no. 5 (March 4, 2011): 646–74.
وقد ذكرَت ناتالي أنغيير قصة فينبرغ في:
Natural Obsessions: Striving to Unlock the Deepest Secrets of the Cancer Cell (New York: Warner Books, 1989).
كما ذكر فينبرغ روايته الخاصة في:
Racing to the Beginning of the Road: The Search for the Origin of Cancer (New York: Harmony, 1996).
٢٣  C. Shih, R. A. Weinberg, et al., “Passage of Phenotypes of Chemically Transformed Cells via Transfection of DNA and Chromatin,” Proceedings of the National Academy of Sciences 76, no. 11 (November 1979): 5714–18; and C. J. Tabin, R. A. Weinberg, et al., “Mechanism of Activation of a Human Oncogene,” Nature 300, no. 5888 (November 11, 1982): 143–49.
٢٤  أفضل مثال معروف على ذلك هو كروموسوم فيلاديلفيا، المكتنف في ابيضاض الدم النقوي المزمن. للاطِّلاع على التقرير الأصلي، انظر:
Peter Nowell and David Hungerford, “A Minute Chromosome in Chronic Granulocytic Leukemia,” Science 132, no. 3438 (November 1960): 1497.
٢٥  S. H. Friend, R. A. Weinberg, et al., “A Human DNA Segment with Properties of the Gene that Predisposes to Retinoblastoma and Osteosarcoma,” Nature 323, no. 6089 (October 16, 1986): 643–46; and J. A. DeCaprio et al., “The Product of the Retinoblastoma Susceptibility Gene Has Properties of a Cell Cycle Regulatory Element,” Cell 58, no. 6 (September 22, 1989): 1085–95.
٢٦  تُعرف هذه باسم «فرضية الضربتَين» (two-hit hypothesis)، انظر:
Alfred G. Knudson, “Mutation and Cancer: Statistical Study of Retinoblastoma,” Proceedings of the National Academy of Sciences 68, no. 4 (April 1970): 820–23.
٢٧  انظر، على سبيل المثال:
DeCaprio et al., “The Product of the Retinoblastoma Susceptibility Gene”.
٢٨  C. A. Finlay, P. W. Hinds, and A. J. Levine, “The P53 Proto-oncogene Can Act as a Suppressor of Transformation,” Cell 57, no. 7 (June 30, 1989): 1083–93; and M. B. Kastan, B. Vogelstein, et al., “Participation of P53 Protein in the Cellular Response to DNA Damage,” part 1, Cancer Research 51, no. 23 (December 1, 1991): 6304–11.
٢٩  J. F. Kerr, A. H. Wyllie, and A. R. Currie, “Apoptosis: A Basic Biological Phenomenon with Wide-ranging Implications in Tissue Kinetics,” British Journal of Cancer 26, no. 4 (August 1972): 239–57.
٣٠  L. Hayflick and P. S. Moorhead, “The Serial Cultivation of Human Diploid Cell Strains,” Experimental Cell Research 25, no. 3 (December 1961): 585–621.
٣١  ذُكرت قصة الاكتشاف في:
Elizabeth H. Blackburn, Carol W. Greider, and Jack W. Szostak, “Telomeres and Telomerase: The Path from Maize, Tetrahymena and Yeast to Human Cancer and Aging,” Nature Medicine 12, no. 10 (October 2006): 1133–38.
وتتضمن الأوراق البحثية الرئيسية:
J. W. Szostak and E. H. Blackburn, “Cloning Yeast Telomeres on Linear Plasmid Vectors,” Cell 29, no. 1 (May 1982): 245–55; C. W. Greider and E. H. Blackburn, “Identification of a Specific Telomere Terminal Transferase Activity in Tetrahymena Extracts, Cell 43(1985): 405–13; and C. W. Greider and E. H. Blackburn, “A Telomeric Sequence in the RNA of Tetrahymena Telomerase Required for Telomere Repeat Synthesis,” Nature 337 (1989): 331–37.
٣٢  إن تسريع وتيرة العملية قد يمثِّل ظاهرةً تُسمَّى اللاثبات الجينومي genomic instability. انظر:
Simona Negrini, Vassilis G. Gorgoulis, and Thanos D. Halazonetis, “Genomic Instability: An Evolving Hallmark of Cancer,” Nature Reviews Molecular Cell Biology 11, no. 3 (March 1, 2010): 220–28.
٣٣  للمحة عامة على تلك الظاهرة، انظر:
Hanahan and Weinberg’s, “The Hallmarks of Cancer” and “Hallmarks of Cancer: The Next Generation”.
٣٤  نشأت هذه الاكتشافات عن البحوث المبكرة التي أُجريَت على دور البيئة المكروية للأورام. انظر، على سبيل المثال:
D. S. Dolberg and M. J. Bissell, “Inability of Rous Sarcoma Virus to Cause Sarcomas in the Avian Embryo,” Nature 309, no. 5968 (June 7, 1984): 552–56; and D. S. Dolberg, M. J. Bissell, et al., “Wounding and Its Role in RSV-mediated Tumor Formation,” Science 230, no. 4726 (November 8, 1985): 676–78.
٣٥  Lisa M. Coussens and Zena Werb, “Inflammation and Cancer,” Nature 420, no. 6917 (December 19, 2002): 860–67.
٣٦  Mina J. Bissell and Derek Radisky, “Putting Tumours in Context,” Nature Reviews Cancer 1, no. 1 (October 2001): 46–54.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤