المقدمة

يمكننا أن نصف أديان وعقائد بلاد الشام القديمة بمنظومة مركبة من العقائد الأمورية والكنعانية والآرامية التي اختلطت أنسجتها وذابت في محيط واحد، سرعان ما أصبح حاضنًا لعقائد وافدة؛ كالفارسية، والإغريقية، والرومانية، ثم رحمًا لولادة عقائد جديدة موحِّدة، هي اليهودية والمسيحية.

هكذا يبدو لنا المشهد الثاني باذخًا مثيرًا، تحتدم فيه عقائد الشرق والغرب، وهكذا يتوهج نابضًا بالحيوية بعد أن خبت حوله العقائد القديمة وصبَّت فيه جذواتها.

وإذا كنا قد تناولنا العقائد الآرامية في كتاب مفصَّل، فإننا سنتناول العقائد الأمورية في كتاب قادم، وسنكرس كتابنا هذا للبحث في العقائد الكنعانية.

تكاد العقائد الكنعانية تشكل موقع القلب في العبادة الشامية القديمة؛ لخصوصيتها وسعة تراثها ودرجات تنوعها المدهشة في مختلف مدنها وفتراتها التأريخية؛ فهي تشمل التراث الروحي لمدن شرق المتوسط الساحلية، ومدن جنوب المتوسط الساحلية من خليج سِرْت حتى سواحل إسبانيا، مشتملة على جزر البحر المتوسط الأساسية. هذا التراث الذي يمتد منذ الألف الثالث قبل الميلاد وحتى منتصف القرن الثاني قبل الميلاد.

في كتابنا هذا سنناقش الكثير من المسلمات الخاصة بالتأريخ والعقائد الكنعانية. وأعدنا ترتيب وتوصيف بعضها؛ بل وقلبنا بعض هذه المسلمات رأسًا على عقب، وأوجدنا لها تفسيرات ومخارجَ جديدة.

بحثنا في الفصل الأول تأريخ الأقوام الكنعانية الأولى، وحللنا، من منطلق جديد، نشأة هذه الأقوام وأصولها القديمة، كما سردنا المراحل التأريخية للكنعانيين، مرورًا بفينيقيا وانتهاءً بقرطاج. واتضحت بذلك تلك المساحة الواسعة التي شغلها الكنعانيون في الزمان والمكان؛ لنكوِّن أرضية تاريخية نبني عليها مسرى تطور واشتباك العقائد الروحية الكنعانية. وكان أن حللنا مفصلًا في الفصل الثاني الركن الأول من هذه العبارة، وهو المثولوجيا الكنعانية التي تناولنا فيها أربعة مباحث: خصص المبحث الأول لتحليل هيكل الآلهة الكنعانية بمختلف مشاربها الأوغاريتية الفينيقية والبونية، ووضعنا شجرة أنساب شاملة للآلهة الكنعانية، كانت لنا عونًا كبيرًا في تقسيم منطقي للآلهة والأساطير، ومدخلًا صحيحًا لفهمها الدقيق، ووضعنا فرضية جديدة حول أصل الآلهة الكنعانية لم يسبقنا إليها أحد، فقد استنبطنا أسماء الجيل الأول والأقدم منها، ذلك الذي لم تذكره الآثار الدينية ومُسح عمدًا من النصوص، وساهمت الإضافات الهيلنستية والرومانية في تغييبه تمامًا. فقد توصلنا إلى معرفة الأسماء الكنعانية الدقيقة للآلهة الأم الأولى، وآلهة السماء والأرض، تلك الآلهة التي سبقت ظهور الإله الأكبر (إيل)، وقد فسَّر لنا هذا الكشف الكثير من الأمور الغامضة في الأساطير الكنعانية، ونأمل أن الآثار ستجود ذات يوم وتكشف لنا عن ما وضعناه هنا كفرضية؛ ولذلك فإننا نضع توصلاتنا هذه في ذمة التأريخ ريثما تؤكدها لنا حفريات الآثار في المستقبل. ثم تناولنا طبقات شجرة الأنساب هذه ووضعنا انحدارها وتسلسلها الدقيق من الآلهة القديمة إلى آلهة الكون إلى جيل إيل ومن معه، ثم جيل بَعْل، ثم أشكال وأبناء بعل (البعول)، ثم اندماج نهاية شجرة الآلهة الكنعانية بالآرامية وظهور الثالوث الكنعاني الآرامي المكون من «بعل حدد، وعرغاس، وسيميوس». أما في المبحث الثاني فقد التقطنا ما يقرب من ٤٠ رمزًا دينيًّا كنعانيًّا، وأعدنا تخطيطه وشرحه ودلالته، وخصوصًا رموز الآلهة التي نرى أنها تمثل أقصى التجريد الروحي والفني، وتعكس الطبقة العميقة للعقائد الروحية. وفي المبحث الثالث تناولنا «الأساطير الكنعانية» بالتفصيل؛ فقد عرضنا الخليقة الكنعانية من خلق الكون والعناصر الأربعة، وخلق أنصاف الآلهة، والتنين، ثم خلق الإنسان، وبعدها عرضنا لأساطير الإله إيل ودورته المثولوجية، وكذلك لبعلٍ ودورته المثولوجية، ثم كل ما يتعلق بأساطير الآلهة الكبار الآخرين؛ مثل: عناة، وأدونيس، وأشمون، وشدرافا … إلخ، وفي المبحث الرابع تعرضنا للكائنات الأسطورية غير الإلهية؛ مثل: الشياطين، والكائنات الخرافية … وغيرها. وبذلك نكون قد غطينا كل ما يتعلق بأساطير الآلهة ولوازمها. أما الفصل الثالث فكان مقتصرًا على القصص والملاحم الكنعانية، فقد درسنا الآباء والبشر المؤلهين والأبطال منذ بدء الخليقة قبل الطوفان وبعده، ثم في أوغاريت، ثم في فينيقيا، ثم في قرطاج، وهم أبطال ينحدرون، في الغالب، من نسل الآلهة؛ أمثال: كرت، ودانيال، وأمتهات، وقدموس، وأوروبا … إلخ؛ لاشتراكهم مع الآلهة في القصص والخرافات. وقد وجدنا ضرورة تخصيص هذا الفصل لهم لتلافي الخطأ الدائم الذي يقع فيه الباحثون عندما يخلطونهم مع الأساطير الكنعانية، وهم في حقيقة الأمر إما بشرٌ مؤلهون، أو مرايا بشرية لآلهة معروفة، أو ملوك ينحدرون من نسل الآلهة … وهكذا. أما في الفصل الرابع فقد تناولنا دراسة اللاهوت الكنعاني بدءًا من المؤسسة الدينية التي تشمل الآلهة في السماء ومعابدها على الأرض وكُهانها وهم يَصِلون السماء بالأرض. ثم عرجنا على الشعب المختار لإيل والأضاحي، وعلاقة الإله بالإنسان والأصنام، وعقائد ما بعد الموت من عالم آخر رغم قلة المراجع التي تبحث في اللاهوت الكنعاني. وقد حاولنا أن نعطي فكرة موجزة عنه. وينطبق مثل هذا على الطقوس الكنعانية التي ناقشناها في الفصل الرابع؛ حيث حاولنا ترميم صورتها المبعثرة فصنفناها إلى طقوس يومية؛ كالاغتسال، والتطهر، والصلاة، والنذور، والقرابين … وغيرها، ثم طقوس المناسبات؛ كالزواج، وبناء المعابد، والموت، الذي شغلت طقوسه الكنعانيين أينما كانوا، ثم الطقوس الدورية، وخصوصًا الأعياد الأدونيسية، وأعياد ملكارت ورشف وأشمون، والطقوس السبعية، التي كانت تقام كل سبع سنوات. وفي الفصل الخامس تلمسنا بعض أوجه الشرائع والأخلاق الكنعانية التي كانت تشكل المكونات الثانوية للعبادة الكنعانية. هذه هي الصورة التي قدمناها عن العقائد الكنعانية، والتي حاولنا لمَّ شتاتها المبعثر، وبإيجاز شديد، دونما خلط اعتباطي مع العقائد الأخرى، والذي اعتدنا مصادفته في المراجع التقليدية، آملين أن نتلافى ما فاتنا من حقائق جديدة ظهرت عن الحياة الروحية للكنعانيين. لا يفوتني هنا أن أتقدم بالشكر العميق لكل من قدم لي العون في مجال هذا البحث، ولكل المتاحف التي زودتني بصور الآثار اللازمة، والمراجع التي كانت عوننا الأكبر في إنجاز هذا الكتاب. ويطيب لي أن أخص بالشكر صديقي الفنان فاروق كاظم، الأستاذ في جامعة عمر المختار، كلية الآداب والعلوم في درنة، والذي قام برسم وتخطيط معظم صور ولوحات هذا الكتاب.
والله الموفق
د. خزعل الماجدي
مدرس التأريخ القديم وتأريخ الفن
في جامعة عمر المختار، كلية الآداب والعلوم في درنة
١١/ ٧/ ٢٠٠٠م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤