تمهيد

أيها القارئ!

كنت عوّدتك إلف المقدمات الطوال، كالذي فعلت في تقديم كتاب «حب ابن أبي ربيعة» وكتاب «مدامع العشاق» ولكني لا أجد ما أقول في تقديم هذا الكتاب غير السطور الآتية:

عرفت باريس وأهل باريس معرفة قلَّما تُقدَّر لإنسان سواي، ولم يكن ذلك فقط لأني اتصلت بها نحو خمسة أعوام، وإنما كان ذلك لأني وصلت إليها بعد يأس وبعد شوق، وكانت كل زَورَةٍ تبدو لعيني وكأنها الأولى والأخيرة، فكنت أنهب محاسنها في شره ونهم كما يفعل الصب المولع وهو يودّع حسناء ستمضي إلى حيث لا يعرف من أقطار الشمال أو الجنوب. ويا طالما ودعت من أسراب الحسان! أضيف إلى هذا أني يوم دخلت باريس كنت أعرف من دقائق اللغة الفرنسية ما لا يعرفه إلا الأقلون، وكنت قبل ذلك أَلِفتُ تلك اللغة ألفة شديدة، حتى كان لا يتكلم بها جماعة في جد أو هزل إلا تعقبت ما يقولون تعقب الدارس الفاحص الذي يدرك ما ظهر وما بطن من أسرار الحديث (وهذا كل ما عندي من عيوب الفضول) فكان ذلك معوانًا على فهم ما طبع عليه الفرنسيون من شتى الغرائز والخلال.

طالت إقامتي في باريس، وكانت لأغراض علمية سدد الله فيها خطاي وهداني سواء السبيل. ولكن دراساتي لم تحل بيني وبين التأمل فيما يقع في مدينة النور من صراع بين الهوى والعقل، والهدى والضلال. فأنشأت كثيرًا من القصائد والرسائل في أغراض مختلفة بعضها من وحي العقل وبعضها من وحي الوجدان.

وقد عدت إلى تلك الثروة الأدبية فأضفت جزءًا منها إلى أصول كتابي «سرائر الروح الحزين» وجزءًا إلى مواد الطبعة الثانية من كتاب «البدائع» والباقي هو هذه الأقباس التي أقدمها اليوم.

يقول المسيو دي كومنين: إن الكريم لا يذكر البلاد التي رحل منها إلا مصورة بصورة من عرف فيها من كرام الناس، وكذلك تبدو باريس على البعد ممثلة في شمائل إنسانين اثنين هما المسيو بلانشو وابنة خاله كريمة الجنرال بونال. والمسيو بلانشو — سكرتير اتحاد الطيران في باريس — آية من آيات النبل والخلق العظيم، وابنة خاله الآنسة سوزان مثال أعلى لسلامة الذوق وكرم النفس وحياة الوجدان. ويعلم الله ما ذكرت هذين الإنسانين إلا غلبني الدمع وقهرني الشوق وصهرني الحنين. وستظل باريس قبلة روحي ما بقيت في النفس ذكرى ما لقيت عندهما من عطف ورعاية وحنان

تلفت حتى لم يبن من دياركم
دخان ولا من نارهن وقود
وإن التفات القلب من بعد طرفه
طوال الليالي نحوكم ليزيد

بعد هذين الإنسانين تتمثل باريس في صور الأساتذة الكبار الذين انتفعت بعلمهم هناك أمثال دوميك ومرسيه وديمومبين وكولان وماسينيون وتونلاوديبويه وميشو وشامار ومورنيه.

وبعد أولئك وهؤلاء تتمثل باريس في صور تلك الوجوه الصِّباح التي رأتها عيناي وألفها قلبي ثم أقصتني وأقصتها ضرورات الحياة إلى حيث لا أمل في تراسل أو تلاق، برغم ما قيدنا من العناوين، وما حددنا من المواعيد.

يا أخت ناجية السلام عليكم
قبل الرحيل وقبل عذل العذل
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم
يوم الفراق فعلت ما لم أفعل

واليوم يتلفت القلب إلى باريس فتقبل الذكريات أفواجًا في عنف وطغيان، فتغرق الروح في كوثر النعيم المتخيل المرموق، فماذا عسى أن أفعل للنجاة من ذلك الطوفان؟ أأفزع إلى صفحات هذا الكتاب؟ كيف ولم يكن إلا ظلالًا خفيفة لما لقيت في باريس من متع الحياة، وهو مع هذا لم يحو كل الذكريات؛ لأن أطيب الذكريات لا يكتب ولا يقال، وإنما تقلبه النفس في هدآت الليل كما يفعل الشحيح وهو يقلب كنزه المدفون.

رباه! ماذا أبقيت لي من باريس؟ ألا تراني أروح إلى السينما الناطق في صبوة وجنون أتسمَّع كيف يتكلم الباريسيون وأنظر كيف يجدّون وكيف يلعبون؟ إلى اللقاء يا باريس إلى اللقاء يا مدينة المجد والحب والجمال إلى اللقاء يا وطن المسيو بلانشو والآنسة بونال!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤