الفصل السادس والعشرون

الأدب والحياة

إلى الأستاذ محمد السباعي

صديقي …

اسمح لي أولًا أن أصارحك بأنك ظلمت نفسك وظلمت قراءك في الكلمة التي وجهتها إليّ منذ أيام، ظلمت نفسك حين ظننت أنك كابن الرومي حين يقول:

ما لي أراني كأني قد زرعت حصى
في عام جدب وظهر الأرض صفوان

في حين أنك لم تزرع إلا كريم البذور في أرض خصبة مغمورة بروافد النيل. فإن كانت هناك لحظات ضجر تخيل إليك أنك منسي مجهول فلا تنس أن تستعيذ بالله من شر اليأس والوسواس، وإن كنت ترى ناسًا أنصفهم دونك الزمان، فأرفق بنفسك فسيطغى النسيان على خلق كثير ويبقى اسمك في الخالدين. وظلمت قراءك حين حسبتهم غافلين عن فضلك، وكان ينبغي أن تذكر أنك قضيت أكثر من عشرين عامًا وأنت في أقدس مكان من أنفس القراء. والواقع أن القراء في مصر جديرون بالإعجاب، فإن إحساسهم قوي جدًّا بروائع الفنون والآداب. ولك أن تنظر إلى رقي الصحف المصرية التي كادت تفوق الصحف الأوربية، إذا استثنينا الصحف الإنجليزية، فإن هذا الرقي تعاون في إيجاده القراء والكتاب، وكان فضل القراء أكبر لأنهم أعانوا أرباب الصحف على الاتقان والتجميل. فلا تبتئس أيها الصديق الفاضل وامض في طريقك غير هياب، وثق أن القراء فوق ما يظن المتشائمون.

•••

وأعود فأحدثك أني أردت أن أوجه إليك هذه الرسالة لأبين لك أن القارئ والكاتب قد يتوافقان وقد يتنافران، فلا تنتظر أن يوافقك القراء جميعًا، أو يخالفوك جميعًا، لأنك وإياهم تستمدون حماستكم من الحياة. وأنت رجل تدل آثارك الأدبية على أنك فهمت كيف يطيب العيش، وعرفت أن الأديب يجب أن تكون له حوادث يرويها قبل أن يشغل برواية حوادث الناس. فهل تظن أن الناس جميعًا يجب أن يستطيبوا ما تكتب في حين لم يقدر لهم جميعًا أن يعيشوا كما عشت، وأن يفهموا كيف يكون نعيم الحواس!

على أنه لو كان يُنتظر من كل كاتب أن يرضى جميع القراء لتقصفت مئات الأقلام. والعقل يفرض علينا أن نطمئن إلى أن قراءنا لهم ألوف مؤلفة من الأهواء والميول والأذواق. فإن أزعجك أن ينصرف عنك قارئ لأنه يواجه الحياة بذوق غير ذوقك، فثق أن هناك من يُقبل عليك وينتظر، لأنك تحدثه عن نفسه حين تتحدث عن نفسك. ولعلك تدرك تمام الإدراك أن الأديب العبقري يجب أن يكون. في شغل بفنه وفكره وإلهامه عما يحب الناس وما يكرهون. فعلى البلبل أن يغرد حيث يطيب له التغريد، وليس عليه أن يفتن صُم الآذان، أو غلف القلوب.

وإني لأقدم إليك مثالًا من فهم بعض القراء للشعر البليغ، وأذكر لك أن للبحتري قصيدة رائية بعث بها إلى ابن المدبر يستوهبه تحفة من تحف الجمال في عيد المهرجان، وتلك الرائية تعد من نوادر قصائد البحتري، ويطيب لي دائمًا أن أطوف بها كلما واجهت شعره الرنان. وقد استعرت ديوان البحتري في هذه الأيام من أحد الأصدقاء المقيمين في باريس، وهذا الصديق يرتفع عن القارئ العادي لأنه في حكم المتأدبين، ومن عادته أن يضع على هوامش الصفحات حكمه على ما يقرأ، وهو يكتفي بكلمة (جيد) أو كلمة (سخيف).

وإليك القطعة المختارة من تلك القصيدة، وسأخبرك عن حكمه عليها بعد ذلك:

وقد زعموا أن ليس يغتصب الفتى
على عزمه إلا الهديةُ والسحرُ
فإن كنتَ يومًا لا محالةَ مُهديًا
ففي المهرجان الوقت إذ فاتنا الفطرُ
فان تُهد ميخائيل ترسل بتحفة
تقضَّى لها العُتْبَى ويُغتفر الوِزْرُ
غَريرٌ تراءاه العيون كأنما
أضاءَ لها في عُقب داجيةٍ فجرُ
ولو يَبتدي في بضعَ عشرةَ ليلة
من الشهر ما شكَّ امرؤٌ أنه البدرُ
إذا انصرفت يومًا بعطفيه لفتة
أو اعترضت من لحظه نظرة شزر
رأيت هَوَى قلبٍ بطيئًا نزوعه
وحاجة نفس ليس عن مثلها صبر
ومثلك أعطى مثله لم يضق به
ذراعًا ولم يَحْرَج به أو له صدر
على أنه قد مر عمر لطيبه
ومن أعظم الآفات في مثله العمر
غدًا تفسد الأيام منه ولم يكن
بأول صافي الحسن غيَّره الدهر
ويُمنَى بخطَّيْ لحية مُدلهمَّة
لخديه منها الويل إن ساقها قَدْرُ
تجاوزْ لنا عنه فإنك واجد
به ثمنًا يغليه في مدحك الشعر
ولا تطلب العلات فيه وترتقي
إلى حيل فيها لمعتذر عذر
فقد يتغابى المرء في عُظم ماله
ومن تحت بُرديه المغيرة أو عمرو

فما رأيك في هذا الشعر؟ ألا ترى أنه لو تُرجم إلى اللغة الفرنسية لاستطاع أن يزاحم شعر بودلير وفرلين؟ ومع هذا لم يُعفه صاحبنا من الحكم عليه بأنه (سخيف).

وهذا السقم في الأذواق مرجعه إلى فقر الحيوية في أنفس بعض الناس، وقد حدث مرة أن ثارت بيني وبين أحد المتأدبين مناقشة حول المبالغات والتهويلات التي يصادفها القارئ في المؤلفات العربية، وكان رأيه أن حقائق الأدب العربي كلها خيالات، وأن الشعراء والكتاب كانوا يصفون ما يتوهمون لا ما يشعرون، وقد ضرب المثل بالتعابير الآتية في وصف الرسائل الإخوانية:

كتاب كتب لي أمانًا من الدهر، وهنأني أيام العمر … كتاب لو قرئ على الحجارة لانفجرت، أو على الكواكب لانتثرت … كتاب كدت أبليه طيًّا ونشرًا، وقبلته ألفًا ويد حامله عشرًا … كتاب هو من الحسن روضة حزن، بل جنة عدن، وفي شرح النفس، وبسط الأنس، برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب … كتاب تمتعت منه بالنعيم الأبيض والعيش الأخضر، ووكلت طرفي من سطوره بوشي مهلل، وتاج مكلل. وأودعت سمعي من محاسنه ما أنساني سماع الأغاني، من مطربات الغواني … كتاب كتب لي أمانًا من الزمان، وتوقيع وقع مني موقع الماء من العطشان.

وقد سألت ذلك الصاحب عما يأخذه على هذه التعابير، أهو الديباجة والصياغة الفنية؟ أم هو ما تنطوي عليه من مستور الأغراض؟ وكان جوابه أنه لا يعقل أن تصل الرسائل إلى هذا الحد من سحر النفوس، وأن الكتاب كالشعراء كلهم كاذبون!

ولم أجد ساعتئذ ما أقنع به صاحبي غير رسالة فرنسية كانت وصلت في الصباح فعرضتها عليه، فما كاد يتم قراءتها حتى اصفر لونه وقال: أهكذا تعيش في باريس؟!

ولا أكتمك يا صديقي أن تلك الرسالة كانت تعد — لو صدقت في الوعد — بليلة سباعية، لولا أنها كانت من إحدى اللواتي عناهن من قال:

ألا إنما ليلى عصا خيزرانة
إذا غمزوها بالأكف تلين
تمتع بها ما ساعفتك ولا يكن
عليك شجا في الصدر حين تبين
وإن هي أعطتك الليان فإنها
لآخر من خلانها ستلين
وإن حلفتْ لا ينقض النأي عهدها
فليس لمخضوب البنان يمين

فلا تنس حين تبكي مصاب الإنسانية في مصابك أن تذكر أن أخاك يقاسي أضعاف ما تقاسي أنت والإنسانية جمعاء!

•••

بقي يا صديقي أن اعترف لك في صراحة وإخلاص أنني أصبحت أحقد أشد الحقد على كائنين من كائنات الحياة، وهما الأدب والمرأة.

أحقد على الأدب لأنه لا يستقيم له حال إلا إذا حمل صاحبه على المخاطرة في ظلماء الوجود، ولن تجد في العالم كله أديبًا ذا مكانة إلا وله في ميادين الحياة ثارات وحزازات لن تموت. والقراء الذين يحيا على حسابهم الأدب وأهله لا يؤمنون بوجود الأديب إلا إن رأوا أحشاءه تحترق بين السطور. وقد ترى أحيانًا ناسًا يهاجمون الأديب ويتهمونه بالخروج على التقاليد. وهؤلاء الناس لا يفعلون ذلك حرصًا على الأخلاق، وإنما يقعون في أعراض الأدباء حسدًا منهم على ما رُزق النابغون من مواجهة أسرار الحياة … ولكن ما قيمة ذلك، وما الذي فيه من العزاء؟ إن الأديب سيظل — ولو انتصر — كالشمعة تضيء للناس وهي تحترق.

وأحقد على المرأة لأنها لئيمة، وأي لؤم أشنع من أن تراها تتلمس أسباب الفتنة لتريك أنها تستطيع دائمًا أن تجد إنسانًا سواك … وهي مع هذا اللؤم شر لا بد منه، لأن الحياة قضت بذلك، وعلى من يعشق الجمال أن يطمئن طائعًا أو كارهًا إلى سلطان تلك الحية النضناض!

وقد فكرت كثيرًا في شر الأدب على أهله، ولكنني لم أستطع الخلاص، لأنه كُتب عليَّ أن أحيا من مهنة الصحافة ومهنة التدريس. فهل تراني أفلح إذا اقتصرت على أن أُحادث قرائي وتلامذتي في فضل الصمت وشرح دلائل الخيرات؟!

وكذلك فكرت في شر المرأة، ولكنني كذلك لم أستطع الخلاص؛ لأن المرأة شُبهت صدقًا بالشمس، فهي تلقانا في كل مكان، وليس عن سحرها محيد.

أضف إلى ذلك يا سيد سباعي أن هنا إنسانة في الحي — الحي اللاتيني لا الحي الحسيني — إنسانة من بنات حواء، حواء المذكورة في التوراة والقرآن، حواء التي نقلت أبانا آدم إلى صفوف المناكيد وأخرجته من عالم الأزهار والثمار إلى عالم الشطة والفلفل والفول!

فبالله لا تنس أخاك حين تبكي مصاب الإنسانية، لأن أخاك أيضًا إنسان، وهو فوق ذلك عاشق وأديب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤