الفصل الثاني والأربعون

معرض الأزهار في باريس

 باريس في أول نوفمبر سنة ١٩٣٠

تفضل المسيو بلانشو فأرسل إليَّ دعوة إلى حضور معرض الأزهار في الشانزليزيه على شاطئ السين، وكتب مع تذكرة الدعوة كلمة رقيقة جاء فيها: «ولكن أسرع يا صديقي فإن الأزهار سريعة الذبول»!

أي كلمة هذه؟ وأي قوة سحرية ثار بها قلبي حين قرأت هذه الكلمة؟ لقد كنت أعرف كما يعرف سائر الناس أن الأزهار سريعة الذبول، وكنت أعرف فوق ذلك أن هذا معنى قديم لم ينفرد بإثارته كتاب الغرب وشعراؤه، فقد أثاره أحد شعرائنا الأقدمين حين قال:

عهدتك ذا عهد هو الورد نضرة
وما هو مثل الورد في قصر العهد

ولكني تلفت إلى قلبي أبحث عما كان ثار فيه من أمان وآمال كانت أندى وأعطر من الأزهار الغضة في أسحار الربيع، ثم ذبلت وذوت قبل أن تعمر أعمار الأزهار. فكم من وعد جذاب أخلف قبل أن يمضي عليه يوم أو بعض يوم! وكم من لقاءة حلوة حسبتها مَشرق وصال فكانت مَغرب وداع! وكم برق من برق الحب تألق ثم غاب! وكم حلم من أحلام الصبابة بددت غفواته صروف الحياة! وكم لحظة من لحظات العتاب شهدها القمر وغاب عنها الرقيب، ثم عصف بها الدهر فأدرجها في أكفان الفناء! وكم غفلة من غفلات العيش أويتُ إلى ظلالها في طمأنينة الطفل ثم ثارت من حولها العواصف فألقتني في وادي الخطوب!

ويحك يا قلبي! تعال أقاسمك العزاء، فقد كنت نعم الصاحب ونعم الرفيق، وإنك لتذكر كيف كنت أحنو عليك فأطوف بك بين سعير الحب ونعيم الجمال، وتذكر كيف بكيتك يوم قلّ خفوقك، وخفّ وجيبك، وإنك لأهل لذلك، فقد عرفت بك معاني الحب والعطف والشوق والحنين، فلأقف بجانبك أشاطرك ما جنت عليك الملاحة من ألوان العناء.

«أسرع يا صديقي فإن الأزهار سريعة الذبول»

إني لأعود إلى هذه الكلمة فأذكر أن لي في دنياي معارض من الأزهار تختلف عن معرض الشانزليزيه على شاطئ السين، فإن هذا المعرض يقع في أسبوع من بعض الفصول، ثم يمضي وله في نفوس مشاهديه ذكرى طيبة، ولكنها سريعة الذهاب، فقد تطغى عليها حفلة راقصة من حفلات المساء، والأزهارُ على جمالها لا يعرف الناس ما لها من الأنفس والأرواح، فهم يشهدون ذبولها في حسرات خفيفة لا يمكن أن تقارَن بحسرات من يشهدون أنات العليل، والأزهار أضعف من أن تهم بقبلات النسيم، وضمات التوديع، وهي بعد ذلك حُسنٌ مكرر تجود به الطبيعة ويسمح بلقائه الزمان.

أما معارض الأزهار التي يسوقها إلينا الحب، وينظّم أحواضها وعيونها في أودية الذكريات فهي فُرص تعرض في جميع الفصول، ومن عجب أنها تكثر في فصل الشتاء. وهي معارض تثير جوى القلب لأنها في الأغلب تقيم دقائق أو لحظات ثم تغيب، فلن يقال فيها: «يقام معرض الأزهار من ٢٦ أكتوبر إلى ٣ نوفمبر»، حيث تمكن المشاهدة مرة وثانية وثالثة، كلا، فقد تكون لمحة مخطوفة في المترو، أو في المسرح أو في الملعب، ثم لا يمكن بعد ذلك قرب أو لقاء.

ولهذه الأزهار، أزهار الحسن والصباحة أنفس وأرواح، فهي إلى نفوسنا أقرب، وإلى أرواحنا أسرع، وقد تتلاقى النظرتان فيكون فيهما من التناجي والتشاكي والتعاطف معان دقيقة تلقيها العيون وتفهمها القلوب، ثم يفترق المتلاقيان وقد نهلت قلوبهما من نمير الحب في حال لم يقع فيها تعارف ولا يُرجى معاد، إلا أن يقدَّر التلاقي في عالم الأرواح.

وأنت في معرض الأزهار قد تشتري لوحة فنية تذكر بها ما يفوت من أرج الزهر النضير، ولكنك في معارض الجمال لا تملك شيئًا من ذلك، أو لا تملك إلا الحسرات الباقية في حنايا الأحشاء. وفي معرض الأزهار قد تقول: إلى اللقاء! لأن كل وردة وكل بنفسجة، وكل قرنفلة تلهي النفس عن نظيراتها في عالم الأزهار، ولكنك في معارض الجمال لا تقول: إلى اللقاء! لأن النفس التي ألفت دراسة الجمال تعرف أن كل وحدة من وحداته لا تغني عن نظيراتها في عالم الجمال، فلكل عين سحر ولكل ثغر فتون.

ومهما تعشّق الناس الزهر فلن يأرق لهم من أجله جفن، ولن يقض لهم مضجع، لأنه إن مات فسيبعث من جديد، أما الجمال فحلم مشرَّد يذهب فلا يعود، ولقد أعذر من قال:

قالوا عشقتَ فقلت كم من فتنة
لم تغن فيها حكمة الحكماء
إن الذي خلق الملاحة لم يشأ
إلا شقائي في الهوى وبلائي١

•••

معذرة إليك أيها القارئ؛ فقد شغلتك بنفسي وإني لعائد إلى موضوع الحديث.

أول ما يلفت النظر في معرض الأزهار أنه أقيم في اللحظة التي يفصل فيها بين الخريف والشتاء. فكأنه تذكرة لما مر من أيام الصحو، وتوديع لأيام الشعر والخيال. وكأن الذين أقاموه أرادوا أن يحشروا في صعيد واحد ما تفرق من بقايا الزهر ليستطيع شعراء الطبيعة وعشاقها أن يصافحوها للمرة الأخيرة من هذا العام على شاطئ السين.

وهو كذلك دلالة على مهارة الجنَّان الفرنسي، فهو يعرف كيف يغرس الأزهار وكيف يعدها لمواجهة الزائرين في يوم معلوم. وغرسُ الحدائق وتنسيق البساتين فن من الفنون العالية التي يشغل بها أصحاب الأذواق في الغرب. وحسب القارئ أن يعرف أنه كان في هذا المعرض مئات من الكتب القيمة في تربية النحل والطير والأزهار والأشجار، وليس من الحرج في شيء أن أقول إن ما ألفه الفرنسيون في هذا الباب يربي بكثير على ما ألفته أي من أمم الشرق الأدنى في أهم ما يعنيها من الآداب في نحو قرن من الزمان. وليسمح لي أن أقول إن كلية الطب المصرية لم تنتج في نيف ومائة عام عشر ما أنتجه البستانيون الفرنسيون في نحو عشرة أعوام.

ولست بهذا أريد الغض من الجهود المصرية، ولكنني أريد أن أوقظ من طال عليهم السبات، فقد أصبح من العار أن نعلل أنفسنا بأننا أمة صغيرة العدد وأنهُ يكتفى منا بالقليل. هذا خطأ فإن الجمهور المصري كاد يقارب نصف الجمهور الفرنسي. على أن الأمم لا يقاس جهدها بالعدد، ولكنه يقاس بالحذر والحرص واليقظة والطمع في امتلاك نواصي المجد. ونحن نملك أخصب الأراضي في العالم، ولكننا حين نقيم معرضًا للأزهار يكفينا بهو من أبهاء فندق سميراميس، على أن فينا مع الأسف الشديد زهادة تامة في استغلال الأرض، ولا نكاد نعرف من أنواع الفواكه والأزهار والبقول غير أنواع معدودات، ولا يهوي إلى مدرسة الزراعة إلا الطلبة الذين عُرفوا بالتخلف في الحياة المدرسية، مع استثناء من أعرف من الشبان الأذكياء، وفي هذا دليل على أننا نقبل على الطبيعة بقلوب تعوزها الحرارة وسواعد ينقصها النشاط. والشعر العالي الذي يوجد في عوالم الزراعة بعيد من أذهاننا، فقليل من طلبة الزراعة في مصر من يدرك أن ليلة مقمرة في سهول الريف أحفل بالشعر والموسيقى والغناء من ليلة صاخبة في ملاهي القاهرة. وما أريد أن أزيد!

يرى الزائر أول ما يرى في ذلك المعرض أودية مهندمة من الأشجار المثمرة ولكل طائفة منها وضع خاص يروع الذوق، وهي تريك مبلغ مهارة الإنسان في تهذيب الطبيعة، وكيف يمكنه أن يروض الأشجار على مسايرة الأوضاع الهندسية بحيث يصبح الشجر مَخْدع زينة ومجنى فاكهة. والقوم هنا يريدون أن يملئوا الصور المادية بالحقائق المعنوية، ففي كل شجرة سر، ولكل حوض روح.

وقد صُفَّت الفواكه من كل نوع على جانبي كل ممر من ممرات المعرض بطريقة مغرية فاتنة تقنعك بأن من الضِّعة أن يعيش الإنسان على الخبز والماء، على حين أنه لو جدَّ ونشط لعرف كيف يحيا من فضل ما تنتج الحدائق والأعناب.

وفي كل ركن من أركان المعرض تقوم مدارس صغيرة تعلمك كيف تصنع بنفسك مربَّيات الفواكه، وكيف تربي النحل والطير وكيف تقي الزهر آفات الجو، وكيف تحرث الأرض بمحاريث دقيقة، وكيف تجني، وكيف تحصد، وكيف تنقل الماء إلى المشاتل والأحواض.

وكم تمنيت لو أتيح لي أن أرى كيف صُفّت أزهار المعرض، فأنها وضعت بحيث يظن الرائي أنها هكذا خلقت، وأنه لم يقم بتنسيقها إنسان، فحينما تلفتّ فسهول مبسوطة قام فيها البنفسج والقرنفل والشقيق، أو نجود عالية تسامت إليها الأزهار فكستها في رفق وحنان.

وما أنس لا أنس كيف لاحظت أن الحظوظ تصيب الأزهار كما تصيب الرجال، فمن الأزهار ما كان حظه أن لامسَ الأرض فوجد بذلك سبيلًا إلى النضرة والنماء، ومنها ما كان حظه أن يوجد في تربة صناعية مجتلبة فكان يجاهد في مطاردة الذبول.

كان معرض الأزهار شعرًا كله، وما كان ينقصه إلا الندى فقد وضعت من فوقه سقيفة من الزجاج حالت بينه وبين أنداء السماء، فصار بذلك كالعروس بين الستائر والحجال.

•••

ولقد رأيت أن أتأمل ما يصنع المشاهدون في مثل هذا الجو العطر، ورأيت الرجال يكثرون فحص الأشجار المثمرة ويجمعون ما تناثر حولها من الإعلانات، ويوغلون في الأبراج المشيدة لتربية النحل والطير، ويقبلون على الكتب التي وضعت في أروقة المعرض. أما النساء فكن يجتمعن حول الفواكه في حماسة دونها حماسة الفتيان في تعقب أسراب الفتيات، وكن يكثرن فحص الزهريات وأدوات صنع المربى، ومنهن من كانت تقبل على مشاهدة ما كان هناك من صغار التماثيل.

وقد رأيت ثلاثة رجال يدرسون المعرض بعناية، فسألتهم السماح بمصاحبتي لهم لأرى كيف يدرسون وكيف يفهمون، فأنا رجل فلاح ولي حديقة مثمرة، ولكن الجنَّان المتواضع الذي أقمته فيها يستفيد من غربتي فيقيم المواشي في جانب ويبذر البرسيم في جانب! وكذلك يكون الفلاح ابن الفلاح.

ولكنني لم أستطع الصبر أكثر من ساعة، ثم انصرفت عنهم بعد التحية والثناء، وعدت أتأمل وحدي خمائل الأزهار، وبعد لحظة عدت على نفسي باللائمة، ولكني اقتنعت بأن الآثار الأدبية والفنية والطبيعية لا تعطي سرها إلا للرجل المنفرد، وهي أشبه بالغواني تنفر من الصاحب والشريك.

وقد أعياني التعب من فرط التأمل، فاكتفيت في النهاية بنظرة باكية ودّعت بها الزهر المهدد بأرواح الشتاء، وخرجت أتأمل المعارض الحية في أحياء الشانزليزيه بقلب مقسم محزون.

وإني لأكتب هذه الرسالة في نفس اللحظة التي تقوض فيها خمائل المعرض، وأكاد أشهد من وراء حجاب كيف يُقبل العمال بسواعد قوية فيجمعون الأزهار أكداسًا بلا رحمة ولا حنان إلى حيث تُلقى ذابلة في تيار السين.

فإليك يا مرتع النواظر بالأمس أقدم التحية، تحية شاعر مغترب، مفطور القلب لمصرع الزهر النضير، ولو ملكت في تكريمك غير هذه السطور لقدمت نفسي فدية خالصة في عالم قلّ فيه من يفدي الجمال.

١  من شعر المؤلف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤