الفصل التاسع والأربعون

بين الرشد والغواية

١٥ يناير سنة ١٩٣١

صديقي عبد المجيد

أكتب إليك هذا وقد قهرني البرد على المكث في غرفتي، فإن الجليد يتساقط على الناس وهم سائرون في الطرقات، وليس لديّ من مرافق الحياة ما يتمتع به أكثر الجيران، فنحن في يوم أحد، ولكل جار فنوغراف يستمع إلى أناشيده وموسيقاه، أو أهل يعطفون عليه، أو أصدقاء يسألون عنه، في حين لا أجد ما أدفع به السأم والملال غير ثلاثين كتابًا أو تزيد، مبعثرة في أرجاء الغرفة في اضطراب له روعته وجماله في ساعات النشاط، ولكنه في ساعات السآمة ثقيل ممجوج؟ أضف إلى ذلك أن هذه الكتب قلَتني وقليتها لطول ما اصطحبنا وتجاذبنا الأحاديث في الصباح والمساء، وهي فوق ذلك متنافرة الطباع، متباينة الأشكال، فمن لغة إلى أدب، ومن فلسفة إلى تشريع، ومن جد إلى هزل، حتى لأحسب أنه لا يمنعها من العراك غير خوف البوليس!

وقد فكرت فيما أقتل به هذه الساعات الباردة فلم أجد غير الكتابة إليك، ولكن ماذا أكتب؟ أتريد شيئًا جديًّا! هيهات فإن الجد في هذه الساعات أقسى من البرد! فلم يبق إلا أن أحدثك عن بعض الغوايات التي تقع في باريس، ثم نظرت فرأيت أن هذه الرسالة ستصل إليك في شهر الصيام، وهو شهر له حرمة وكرامة فمن الخير أن نباعد بينه وبين جميع ألوان الرفث والفسوق. والغواية في جملتها ترجع إلى الدنايا التي عناها الشاعر حين قال:

إذا ما المرء صام عن الدنايا
فكل شهوره شهر الصيام

ولكني تذكرت أن هناك مخرجًا من هذا المأزق، فقد كنت أرى ناسًا يُقتدى بهم، وينعمون بجميع مظاهر التبجيل والإجلال، كنت أرى أولئك الفضلاء المبجلين يعرضون لمحارم الله في غير تورع ولا تحرج، وينالون من أعراض الناس بلا توقر ولا عفاف، فإذا نالوا من شهوات اللسان والزهو والخيلاء ما يبتغون رفع الرجلُ منهم بصره إلى السماء وقال: اللهم إني صائم! اللهم إني صائم!

وكانوا يقولون ذلك في ضراعة وخشوع، بحيث لا مجال للشك في أنه قد غُفر لهم، فإن وصلت إليك رسالتي بخير فاقرأها كلها، ولا تنس أن تقول في ختامها: اللهم إني صائم! اللهم إني صائم!

أما أنا فسأقول عند الفراغ من تحريرها: اللهم إني في باريس! اللهم إني في باريس! وأنت تعلم معنى ذلك، فإن رحمة الله وغفرانه يشملان هنا سكان الأرض والسماء، وما ظنك بمدينةٍ اللهوُ في عُرف أهلها لباقة والوقارُ عندهم جمود، أول ما تقع عليه عين الوليد فيها أكواب الشراب، وأول ما تسمع أذنه أغاني الفتك والمجون. ولله حكمة في كل ذلك فلو مشينا هنا على الصراط المستقيم كما تمشون في مصر لهلكنا، إن كان صحيحًا ما نسمع من أنكم تمشون على الصراط السوي في شهر رمضان، ولو شاء ربك لهدى الناس أجمعين.

•••

بسم الله أفتح الحديث

لي صديق فرنسي يحمل أكبر الدرجات وأعظم الألقاب مضت به الأيام حتى ألقته في حدود السبعين، ولكنه كشاعرنا شوقي قد بقيت في وجهه بقايا من عهد الشباب، فإن الذي يرى شوقي حين يبتسم يقدر أنه كان جميل الملامح في صباه، وكذلك صديقنا الأستاذ (ب) قد بقيت في وجهه على الزمن آثار ملاحة وصباحة، بحيث يقدر الرائي أنه كان من أجمل الشبان في عهده القديم.

جلسنا مرة نتحادث في حفلة ساهرة، وكان الراقصون والراقصات يتناهبون لذات الوجد المكبوت، فسألني: أتجيد الرقص؟ فأجبت: لا أحسن منه غير الجنجلة! ثم قلت: وأنت يا سيدي الأستاذ؟ فأجاب: كنت قديمًا أرقص، ثم تركت الرقص منذ ثلاثين سنة!

– يا ساتر! ثلاثين سنة!

– نعم ثلاثين سنة، فقد تركته في حدود الأربعين.

وهنا دفعني الفضول فقلت: لقد بقيت في وجهك يا سيدي الأستاذ علائم وسامة وجمال، فكيف كان حظك عند النساء؟

– النساء؟ ماذا تريد؟ أنا طول عمري رجل مستقيم!

– العفو يا سيدي الأستاذ، إن كنت وجدت في سؤالي ما يُحرجُك، وأنا في بساطة أسألك: هل كانت لك وقائع تشبه وقائع ألفريد دي ميسيه، أو كانت لك صبوات تذكِّر بصبوات لامرتين؟

– الآن فهمت ما تريد، ويظهر أن سمعة فرنسا في الخارج سيئة جدًّا من هذه الناحية! وأحب أن أجيبك بأنه لم يقع لي من حوادث الحب ما يذكِّر بمن تعرف من شعراء الوجدان. الحب صعب المرام جدًّا يا صديقي. فما رأيك؟ إن الرجل المحترم لا يتاح له الحب إلا في حالين: أن يحب فتاة، أو أن يحب امرأة. والرجل لا يحب فتاة إلا إذا كان يريد الزواج. وما عدا ذلك من حب الفتيات خطر لا يقدم عليه رجل يحسب حساب العواقب، أما حب المرأة — المرأة المتزوجة — فهو من كبريات المشاكل في هذا الوجود، وذلك أن الحب لا يراد به ذلك العبث الكلامي الذي يجري في الأندية والحفلات، فإن هذا حب الأطفال، والمرأة لا يرضيها ذلك. والعاشق الذي يكتفي بمعسول الأماني والأحاديث عاشق أحمق مأفون لا تحبه النساء، فلم يبق إلا العشق الجدي الرصين الذي يتغلغل في المشاعر والأحشاء، وهذا العشق كثير التكاليف، لأن المرأة عندنا حين تحب تعصف بكل ما يملك محبها من عقل وثروة وجاه. وأنت تعرف أن العشق لا بد له من ساعات خَلوة. وغيرُ معقول أن يكتفي العاشقان بغرفة في فندق فإن هذا ابتذال، فلا بد إذن من جناح خاص في منزل مقبول. ولا بد إذن من أثاث ورياش وطعام وشراب. وهذا كله ماذا يتكلف؟ رباه! إن العشق شيء ثقيل! ولنفرض أننا وجدنا السبيل إلى المغارم المادية. فكيف نجد الوقت، أتحسب أنه تكفي ساعة أو ساعتان؟ هذا عندكم يا أهل الشرق، أما العشق عندنا فحسابه طويل! وكيف تنتظر أن يجد رجل مثلي فرصة للحب، وهو يكدح من الصباح إلى المساء؟ ومن هي المرأة المتزوجة التي تستطيع الفرار من تكاليف الزوجية لتسعف عاشقها بما يحتاج إليه قلبه من عطف وحنان؟

ثم سكت الرجل فجأة وقد علت وجهه غبرة الحزن والقنوط وما هي إلا لحظة حتى قال:

– وأنت ما شأنك؟ وكيف حالك في الحب؟

فأجبت في ابتئاس:

– لم يكن لي من الحب نصيب غير الخيبة والإخفاق، والآن عرفت سبب شقائي، فقد كنت أحسب أن حرارة الوجد كافية لامتلاك القلوب، وفي ذلك السبيل ألفت كتاب «مدامع العشاق»، وزاد حزني حين رأيته لم يقدمني خطوة نحو «تلك النفس» التي أوحت إلى قلبي فصوله الطوال، وفي هذه اللحظة فقط عرفت أن العشق كثير التكاليف، وأن القلب وحده لا يغني في امتلاك المرأة، وأن عالم العواطف إنما هو عالم قلوب وجيوب! ويرحم الله من قال:

إذا اجتمع الجوع المبرح والهوى
على الرجل المسكين كاد يموتُ

والله المستعان على الغربة والحب والإفلاس!

•••

وعلى ذكريات الحب أذكر لك الفكاهة الآتية:

أكثر الأجانب المقيمين في باريس لا يعرفون غير النساء العموميات؛ ومن النادر أن يتصل رجل أجنبي بامرأة فرنسية شريفة، لأن المرأة الشريفة هنا لا تقع إلا حين تحب، وهي لا تحب بسهولة كما يتوهم أكثر الناس، وقول شوقي:

نظرة فابتسامة فسلام
فكلام فموعد فلقاء

لا يمثل غير الفتاة الساقطة التي تنتظر أول قادم، أما المرأة الشريفة فالوصول إليها من أعسر ما ينال، على أن الفتيات الساقطات لا ينلن أيضًا بتلك السهولة التي يمثلها بيت شوقي، ومن هنا يقع ذلك المنظر المضحك حين تجد جماعة من الشبان المصريين يجلسون في قهوة من قهوات الحي اللاتيني ثم يتشاكون ويتباكون لتعاسة حظوظهم في الحب، والسعيد منهم من يختلق قصص الحب اختلاقًا ليغيظ بها إخوانه، ويوهمهم أنه من دونهم سعيد، على حين لا يعرف من فصول الحياة غير فصل الجفاف!

وقد حدث مرة أن وجدت في بعض المكاتب كتابًا عنوانه «الحب الأثيم» فاشتريته في الحال علني أجد فيه وصايا مفيدة أنفع بها أولئك الإخوان المحرومين، وقد كنت أختلق لهم حكايات أوهمهم بها أني أعيش في باريس عيشة عمر بن أبي ربيعة في المدينة، وكانوا ينتظرون أن أعود عليهم بشيء من الفضل، والمحسنون قليل!

أتدري ماذا وجدت في ذلك الكتاب؟

وجدته أولًا يصور الحب بصورة الشيء الممنوع، ورأيته يشترط فيمن يؤهل نفسه لمخاطر الحب أن يحسن الرقص، وركوب الخيل، ولعب السلاح، إلى غير ذلك من الشئون الدقيقة التي يجب أن يبرع فيها المتأنقون، ورأيته في النهاية يبحث عن الأماكن الخالية المأمونة التي يذهب إليها العاشق مع معشوقته. وهي في رأيه تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
  • القسم الأول: الأماكن المأمونة أمنًا مطلقًا لا ريب فيه. ثم قال: وهذه الأماكن كضرورات الشعر لا سلامة منها، فمن الحمق أن يأمل العاشق في الظفر بمكان خال بعيد عن أعين الرقباء وأهل الفضول.
  • القسم الثاني: الأماكن التي اشتهرت بكثرة الزائرين، مثل متحف اللوفر، وسان كلو، وفونتيبلو، وهي أماكن لا يليق بعاشق يحترم معشوقته أن يصحبها هناك وإلا عرضها للقيل والقال.
  • القسم الثالث: الأماكن التي اشتهرت بالهدوء وقلة الواردين. وفي رأى المؤلف أن هذه الأماكن خطرة جدًّا؛ لأن العشاق جميعًا يتوجهون إليها معتقدين أنها خالية، وأنها مأمونة الجوانب، فلا عاذل ولا رقيب.

لكن أتدري يا صديقي ما هي تلك الأماكن المشهورة بالهدوء والسكون، التي تصلح لمواعيد الحب؟

إن المؤلف لم يذكر إلا موضعًا واحدًا، أتدري ما هو؟ وأين يقع؟

إن ذلك الموضع هو: «قسم الآثار المصرية في متحف اللوفر»!

قسم الآثار المصرية؟ غضبة الله على باريس، وعشاق باريس! أهكذا يكون احترام ما ترك الفراعنة من معجزات الفنون؟ ألا يخشى أولئك الداعرون أن تحل بهم لعنة خوفو ورمسيس؟

كذلك ثارت نفسي حين وصلت إلى هذه النقطة من ذلك الكتاب، ثم عدت فذكرت أنه لا ضير على التماثيل المصرية أن تشهد انحلال الأخلاق في مدينة من مدن الطغيان، فإنه لا يذهب هناك للغزل والعبث إلا رجل يخون زوجته أو خطيبته، أو امرأة تدوس على ما في ضميرها من بقايا كرامة الزوجية، أو فتاة تعق أباها وأخاها وخطيبها حين تنسى حرمة العرض في سبيل الغواية، إنه لا ضير على التماثيل المصرية أن تشهد نزق العابثين والعابثات في المدينة التي تسمى «مدينة النور» فستظل التماثيل المصرية هي هي خالدة، وستفنى كل هذه اللذات المخطوفة في أقل من لمح البصر حيث لا بقاء إلا للحق، ولا كرامة إلا للخُلُق الجميل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤