رواية رجل مجهول

١

لأسبابٍ لا مجال لها للحديث عنها بالتفصيل الآن، كان عليَّ أن ألتحق خادمًا عند أحد مُوظفي بطرسبرج. كان رجلًا في حوالي الخامسة والثلاثين، يُدعى جيورجي إيفانيتش، واسم عائلته أرلوف.

وقد التحقتُ بخدمة أرلوف من أجل والده، الذي كان رجل دولةٍ مشهورًا، وكنت أعتبره عدوًّا خطيرًا لقضيتي. وبنَيتُ حساباتي على أنني سأستطيع بإقامتي لدى الابن، وعن طريق الأحاديث التي سأسمعها والأوراق والمذكرات التي سوف أجدها على مكتبه، أن أدرس بالتفصيل خُطط الأب ونواياه.

في حوالي الحادية عشرة صباحًا، في العادة كان الجرس الكهربائي يدقُّ في غرفة الخدم الخاصة بي مُعلِنًا لي أن السيد استيقظ. وعندما كنت أدخل غرفة النوم، وقد نظفتُ حُلَّة جيورجي إيفانيتش وحذاءه، أجده جالسًا في الفِراش بلا حَراك، ليس نعسانَ بقدْر ما هو مُرهَق من النوم، يُحدِّق في نقطة واحدة، دون أن يصدُر عنه ما يُعبِّر عن سروره باستيقاظه. وأساعده على ارتداء ملابسه، أمَّا هو فيستجيب لي، بلا رغبة، وفي صمت، دون أن يلاحظ وجودي. وبعد ذلك يتوجَّه إلى غرفة الطعام برأس مُبلَّل من الغسيل، ورائحة العطر المُنعِش تفوح منه، ليشرب القهوة. كان يجلس إلى المائدة يشرب القهوة ويتصفح الجرائد، أمَّا أنا والخادمة بوليا فكُنَّا نقف بجوار الباب في احترام ونتطلَّع إليه. كان على شخصَين بالغَين أن يتطلَّعَا بكل جدية واهتمام إلى شخص ثالث وهو يشرب القهوة ويقرقش الخبز المُقدَّد. وهذا، على الأرجح، شيء مُضحك وفظيع، ولكنني لم أكُن أجد ثمة ما يُهين في اضطراري إلى الوقوف بجوار الباب، رغم أني كنتُ من النبلاء، ورجلًا مُتعلمًا مثل أرلوف نفسه.

كنت آنذاك قد مرضتُ بالسُّل، ومعه بدأ يصيبني شيءٌ قد يكون أخطر من السُّل. ولستُ أدري هل كان ذلك بتأثير المرض، أم بتأثير التحول الذي بدأ يطرأ على معتقداتي، والذي لم ألحظه آنذاك، فقد أخذ يتملَّكني، يومًا بعد يوم، ظمأ جارف مُنغِّص إلى الحياة العادية التافهة. كنتُ أريد هدوء النفس، والصحة، والهواء النقي، والشِّبع. وأصبحتُ حالمًا، وكحالمٍ لم أكُن أعرف ما الذي أريده بالضبط. فتارةً كنت أودُّ أن أصبح راهبًا في دير، فأجلس هناك أيامًا بطولها إلى جوار النافذة وأتطلَّع إلى الأشجار والحقول، وتارةً أتصور أنني اشتريتُ قطعةً من الأرض وأعيش مالكًا، وتارةً أقطع على نفسي عهدًا بأن أتفرغ للعلم وأصبح حتمًا أستاذًا في إحدى الجامعات الإقليمية. إنني ملازم بحُرية متقاعد. ومن ثَم رحتُ أحلُم بالبحر، وبوحدتنا البحرية، وبالسفينة الحربية التي طفَت على ظهرها حول العالم. كنت أودُّ أن أُحسَّ من جديد بذلك الشعور الذي لا يُوصَف، عندما تتسمر من شدة الإعجاب، وفي الوقت نفسه تحنُّ إلى الوطن وأنت تتجول في غابة استوائية أو تتطلَّع إلى مَغيب الشمس في خليج البنغال. وتراءت لي في الحلم الجبال، والنساء، والموسيقى، فكنت أتفرَّس بفضول، كصبي، في الوجود وأنصت إلى الأصوات. وعندما كنتُ أقف بجوار الباب، وأتطلَّع إلى أرلوف وهو يشرب القهوة، لم أكُن أشعر بنفسي خادمًا، بل إنسانًا يُهمُّه كل شيء في الدنيا، حتى أرلوف.

كانت هيئة أرلوف هيئةً بطرسبرجية؛ مَنكِبان ضيِّقان، خَصر طويل، صُدغان غائران، عينان بلا لون محدَّد، وشعر ينبُت شحيحًا، كابي اللون، في رأسه ولحيته وشاربه. وكان وجهه مُرفَّهًا، مُرهقًا ومُنفرًا. وكان مُنفرًا بصفة خاصة عندما يكون أرلوف مستغرقًا في التفكير أو نائمًا. ولا أعتقد أنه ثمة داعٍ لوصف هيئة عادية. وعلاوةً على ذلك فبطرسبرج ليست كإسبانيا، فليس لهيئة الرجال هنا أهمية كبيرة حتى في شئون الغرام، ولا ضرورة لها إلا للخدم المهيبين والحوذية. وما أشرتُ إلى وجه أرلوف وشعره إلا لأنه كان في هيئته شيء مُعيَّن يستحقُّ الذكر، وبالتحديد عندما كان أرلوف يتناول جريدةً أو كتابًا، أيًّا كان، أو عندما يقابل أناسًا، أيًّا كانوا، كانت عيناه تشرعان في الابتسام بسخرية، ويكتسب وجهه كله تعبير استهزاءٍ خفيف غير خبيث. وقبل أن يقرأ أو يسمع شيئًا ما، تكون السخرية جاهزةً لديه دائمًا، مثلما الدرع لدى المتوحش. كانت تلك سخرية مألوفة، من طينة قديمة، وفي الآونة الأخيرة كانت ترتسم على وجهه، في الغالب دون أدنى إرادة، وإنما بمثابة ردِّ فعل. ولكن سنتحدث عن هذا فيما بعد.

في بداية الساعة الواحدة كان يتناول حقيبته المَحشوَّة بالأوراق، وعلى وجهه تعبير السخرية، ويرحل إلى عمله. ولم يكُن يتناول غداءه في البيت، ويعود بعد الثامنة. وكنت أشعل المصباح والشموع في غرفة المكتب، فيجلس في الفوتيل، ويمدد ساقيه فوق الكرسي، وإذ يضطجع بهذه الصورة، يشرع في القراءة. وكان يعود كل يوم تقريبًا بكُتب جديدة أو يرسلونها إليه من المتجر، فكانت تستقرُّ في أركان غرفتي وتحت سريري كُتب كثيرة بثلاث لغات عدا الروسية، مقروءة ومُهمَلة. كان يقرأ بسرعة فائقة. ويقال: قُل لي ماذا تقرأ، أقُلْ لك مَن أنت. وربما كان ذلك صحيحًا، بَيْدَ أنه لا يمكن بحال الحُكم على أرلوف من الكُتب التي كان يقرؤها. كان ذلك خليطًا ما. كُتب فلسفة، وروايات فرنسية، واقتصاد سياسي، ومالية، وشعراء جُدُد، ومطبوعات دار «الوسيط»١ … وكان يقرؤها كلها بنفس السرعة، وبنفس تعبير السخرية في العينين.
وبعد العاشرة كان يرتدي ثيابه بعناية، وكثيرًا ما يرتدي حُلَّة الفراك، ونادرًا جدًّا الحُلَّة الرسمية لضابط البلاط،٢ ويغادر المنزل، ويعود قُبَيل الصبح.

عشنا معًا في هدوء وسلام، ولم يقع بيننا أيُّ سوء تفاهم. وفي العادة لم يكُن يلاحظ وجودي، وعندما كان يتحدث إليَّ لم يكُن وجهُه يحمل تعبير السخرية؛ إذ يبدو أنه لم يكُن يعتبرني إنسانًا.

لم أرَه غاضبًا سوى مرة واحدة. فذات يوم، وكان ذلك بعد أسبوع من التحاقي بخدمته، عاد من حفل غداءٍ ما في حوالي التاسعة، وكان وجهه نزقًا، مرهقًا. وعندما سِرتُ خلفه إلى غرفة المكتب لأشعل الشموع هناك قال لي: هناك رائحة كريهة في البيت.

فأجبته: كلَّا، الهواء نظيف.

فردَّ بعصبية: قلتُ لك رائحة كريهة.

– إنني أُهوِّي الغرف كل يوم.

فصاح بي: لا تجادل يا غبي!

أحسستُ بالإهانة وهمَمتُ أن أعارضه، والله يعلم كيف كان سينتهي ذلك كله لولا أن تدخَّلَت بوليا، التي كانت تعرف سيدها أحسن مني.

بالفعل هناك رائحة كريهة! (قالت وهي ترفع حاجبيها) من أين جاءت يا تُرى؟ يا ستيبان، افتح الشراعات في غرفة الجلوس وأشعل المدفأة.

وتأوَّهَت وهرولَت، وأسرعَت تطوف بالغرف كلها وهي تخشخش بجونلاتها وتفحُّ برشاشة العطور. أمَّا أرلوف فظلَّ مُعتلَّ المزاج، ويبدو أنه كان يكبح نفسه كي لا يصرخ غاضبًا وهو جالس إلى المكتب يخطُّ رسالةً بسرعة. وبعد أن كتب عِدَّة أسطر زفر بغضب ومزَّق الرسالة، ثم عاد يكتب من جديد.

ودمدم قائلًا: فليذهبوا إلى الجحيم! يريدون أن تكون لدي ذاكرة رهيبة!

وأخيرًا فرغ من كتابة الرسالة، فنهض من أمام المكتب، وقال متوجهًا إلي: اذهب إلى شارع زنامينسكايا وسلِّم هذه الرسالة إلى زينائيدا فيودوروفنا كراسنوفسكايا شخصيًّا. ولكنْ قبل ذلك اسأل الحاجب هل عاد زوجها (أي السيد كراسنوفسكي)، فإذا كان قد عاد فلا تُسلِّم الرسالة وعُد بها. مهلًا … إذا سألتك هل عندي أحدٌ ما فقُل لها إن هناك شخصَين يجلسان عندي منذ الساعة الثامنة ويكتبان شيئًا ما.

وذهبتُ إلى زنامينسكايا، وقال لي الحاجب إن السيد كراسنوفسكي لم يعُدْ بعد، فصعدتُ إلى الطابق الثالث، وفتح لي الباب خادمٌ طويل القامة، بدين، ثقيل الوجه، بسالفَين أسودَين، وسألني عمَّا أريد بصوت ناعس ذابل فظ، كما يمكن لخادم أن يخاطب خادمًا، وقبل أن أجيبه جاءت من الصالة بسرعة سيدةٌ في ثوب أسود ودخلَت الرَّدهة. وحدَّقَت فيَّ بعينَين مزرورتَين، فسألتُها: زينائيدا فيودوروفنا موجودة؟

فقالت السيدة: إنها أنا.

– هذه رسالة من جيورجي إيفانيتش.

فضَّت الرسالة بفراغ صبر وأمسكَت بها بكلتا يديها، كاشفةً لي عن خواتمها الماسيَّة، وشرعَت تقرؤها … تأملتُ وجهها الأبيض بقسماته الناعمة، وذقنها البارز إلى الأمام، وأهدابها الطويلة الداكنة. ومن مظهرها الخارجي لم تكُن، في تقديري، تتجاوز الخامسة والعشرين.

وقالت بعد أن فرغت من القراءة: بلِّغ تحياتي وشكري. ثم سألَت بنعومة وفرحة، وكأنما تخجل من شكها: هل هناك أحدٌ عند جيورجي إيفانيتش؟

فقلت: هناك سيدان يكتبان شيئًا ما.

فردَّدَت: بلِّغ تحياتي وشكري.

وخرجَت دون صوت، وقد أمالت رأسها وهي تقرأ الرسالة أثناء سيرها.

لم أكُن آنذاك قد التقيتُ بنساء كثيرات، فتركَت هذه السيدة التي رأيتها لمحًا، أثرًا في نفسي. وعندما عُدت سائرًا إلى المنزل تذكرتُ وجهها، ورائحة عطرها الرهيف، وأخذتُ أحلم. وحينما وصلتُ كان أرلوف قد غادر المنزل.

٢

وهكذا فقد عشتُ مع السيد في هدوء وسلام، ومع ذلك فإن الشيء القذر المهين، الذي جِدُّ ما خشيتُه عندما التحقتُ خادمًا، كان موجودًا، يفصح عن نفسه كل يوم. كانت علاقتي ببوليا سيئة؛ كانت كائنًا مدملجًا، مدللًا، تعبد أرلوف لأنه سيد وتحتقرني لأني خادم. ومن المحتمل أنها كانت مُغريةً من وجهة نظر الخادم الحقيقي أو الطاهي؛ خدَّان أحمران، أنف مشرئب، عينان مزرورتان، وجسم بدين قد مال إلى الاكتناز. وكانت تضع البودرة، وتصبغ حاجبَيها وشفتَيها، وتشدُّ جسمها بالكورسيه، وترتدي أردافًا مستعارةً وأسورةً من قِطَع النقود. وكانت مشيتها قصيرة الخطوات، قافزة، وعندما تسير كانت تهز، أو كما يُقال، ترعش كتفَيها ومؤخرتها. وكانت خشخشة جونلاتها، وطقطقة كورسيها ورنين أسورتها، وهذه الرائحة الوقحة لطلاء الشفاه وخل الزينة والعطور المسروقة من السيد، تثير فيَّ صباحًا، عندما كنَّا ننظف الغرف، إحساسًا كأنني كنتُ أصنع وإياها شيئًا وضيعًا.

وربما لأني لم أكُن أشاركها السرقة، أو لأني لم أظهر أدنى رغبة في أن أصبح عشيقها، الأمر الذي أهانها في الغالب، أو ربما لأنها استشعرَت فيَّ رجلًا غريبًا، فقد مقتَتني من أول يوم. وبدَت لها عدم مهارتي وهيئتي التي لم تكُن تشبه هيئة الخدم والمرضى؛ بدَت لها مُزريةً وأثارت فيها شعورًا بالتقزُّز. وكنتُ آنذاك أسعل بشدة، وأحيانًا أزعج نومها بذلك، لأنه لم يكُن يفصل غرفتي عن غرفتها سوى حاجز خشبي، فكانت تقول لي كل صباح: أنتَ أقلقتَ منامي مرةً أخرى. مكانك في المستشفى لا في منزل السادة.

وكانت تعتقد بإخلاصٍ أنني لستُ إنسانًا، بل شيءٌ أدنى منها بمراحل، حتى إنها كانت، مثل عقيلات روما اللائي لم يكُنَّ يخجلن من الاستحمام عرايا أمام عبيدهن، تسير أحيانًا في حضوري في قميص النوم فقط.

وذات يوم أثناء الغداء (وكنا نحصل من الحانة كل يوم على حساء ولحم مشوي)، وكنت في مزاج رائع حالم، سألتها: هل تؤمنين بالله يا بوليا؟

– وكيف لا؟!

فاستطردتُ قائلًا: إذَن فأنتِ تؤمنين بأن يوم الحساب آتٍ، وأننا سنُسأل أمام الله عن كل عمل سيئ ارتكبناه!

فلم تقُل شيئًا، بل رسمَت تعبير احتقار على وجهها، وحينما نظرتُ هذه المرة إلى عينيها الشبعانتين الباردتين أدركتُ أنه ليس لدى هذه الشخصية المكتملة المتحددة تمامًا إله أو ضمير أو قوانين، وأنني لو كنت بحاجة إلى قتل أحد أو سرقته أو إشعال حريق، لما وجدت أفضل منها شريكًا مأجورًا.

وفي هذا الجو غير المألوف، ومع عدم تعودي على مخاطبة الآخرين بصيغة المفرد، وعلى الكذب المستمر (أن تقول «ليس السيد موجودًا» بينما هو موجود)، لم تكُن حياتي عند أرلوف سهلةً في الأسبوع الأول، وأحسستُ بنفسي في حُلَّة الخدم كأنما في دروع، لكنني فيما بعدُ تعودتُ، وكخادم حقيقي كنت أخدم، وأنظف الغرف، وأجري وأتنقل مؤدِّيًا شتَّى التكليفات. وعندما لا يرغب أرلوف في الذهاب إلى موعد مع زينائيدا فيودوروفنا، أو عندما ينسى وعده بزيارتها، كنتُ أرحل إلى زنامينسكايا وأسلمها شخصيًّا رسالته وأكذب. وفي محصلة الأمر حدث غير ما كنتُ أنتظره تمامًا عندما التحقتُ خادمًا. فقد كان كل يوم من حياتي الجديدة هذه يضيع هدرًا بالنسبة لي ولقضيتي، لأن أرلوف لم يكُن يتحدث عن أبيه أبدًا، وكذلك ضيوفه. ولم أعرف عن نشاط رجل الدولة المعروف إلا ما كنتُ قبلًا أستطيع الحصول عليه من الصحف ومراسلات رفاقي. ولم يكُن لمئات المذكرات والأوراق التي كنتُ أجدها في غرفة المكتب وأقرؤها علاقة، ولو من بعيد، بما أبحث عنه. كان أرلوف غير مبالٍ تمامًا بنشاط أبيه المدوي، وكان منظره يبدو كأنه لم يسمع به، أو كأنما مات أبوه منذ زمن طويل.

٣

في أيام الخميس كان يزورنا الضيوف.

فكنتُ أوصي في المطعم على قطعة روزبيف، وأتصل تليفونيًّا بمتجر يليسييف ليرسلوا لنا بعض الكافيار والجبن والقواقع البحرية وغيرها. وأبتاع ورق اللعب. أمَّا بوليا فكانت تُعِدُّ منذ الصباح آنية الشاي وأدوات المائدة للعشاء. وللحقيقة فإن هذا النشاط الصغير كان يُضفي تجديدًا ما على حياتنا الفارغة، فكانت أيام الخميس بالنسبة لنا أكثر الأيام متعة.

لم يكُن يأتي من الضيوف غير ثلاثة، وكان أكثرهم رصانة، وربما أكثرهم متعة، ذلك الضيف اللقب ﺑ «بيكارسكي»؛ كان رجلًا طويلًا نحيفًا، في حوالي الخامسة والأربعين، بأنف طويل أحدب، ولحية سوداء كبيرة وصلعة. كانت عيناه واسعتَين جاحظتَين، وعلى وجهه يرتسم تعبير الجدية والتفكير كما على وجه فيلسوف إغريقي. وكان يعمل في إدارة السكك الحديد وفي مصرف، وكان مستشارًا قانونيًّا لمؤسَّسة حكومية مهمَّة ما، وعلى علاقة عمل مع عدد كبير من الأفراد كوصي وكرئيس مجلس الوصاية … إلخ، ولم تكُن رُتبته كبيرة، وكان يقول عن نفسه بتواضع إنه محلف موثق، ولكن نفوذه كان هائلًا. كانت بطاقته أو رسالة قصيرة منه كافيةً لكي يستقبلك طبيب مشهور أو مدير السكك الحديد أو موظف مُهم بدون انتظار دَورك. ويُقال إنه كان من الممكن بواسطته أن تحصل على وظيفة حتمًا من الدرجة الرابعة، وأن تحفظ أيَّ قضية مزعجة ضدَّك. وكان يُعَدُّ رجلًا ذكيًّا جدًّا، بَيْدَ أن ذكاءه كان غريبًا، من نوع خاص، فقد كان بوسعه في برهة واحدة أن يضرب ٢١٣ × ٣٧٣ في ذهنه، أو يُحوِّل الجنيهات الإسترلينية إلى ماركات دون الاستعانة بالقلم أو بجداول التحويل، وكان مُلمًّا بصورة رائعة بشئون السكك الحديد والمالية، ولم تكُن بالنسبة له ثمة أسرار في كل ما يتعلق بأمور الإدارة. وكان في الشئون المدنية، كما يُقال، محاميًا بارعًا ليس من السهل مجاراته. ولكن هذا العقل غير العادي كان لا يفقه البتة كثيرًا من الأمور التي قد يدركها حتى الشخص الغبي. فعلى سبيل المثال لم يستطع أبدًا أن يفهم لماذا يشعر الناس بالملل ويبكون ويتبارزون، بل ويقتلون الآخرين، ولماذا ينفعلون بأشياء وأحداث لا تمسُّهم شخصيًّا، ولماذا يضحكون عندما يقرءون جوجول أو شيدرين.٣ فكل ما كان مجرَّدًا، محلقًا في سماء الفكر والأحاسيس، كان بالنسبة له غير مفهوم ومُملًّا، مثل الموسيقى لشخص لا يتذوقها. وكان ينظر إلى الناس من وجهة نظر عملية فقط، ويُصنِّفهم إلى موهوبين وغير موهوبين، وأيُّ تقسيم آخر لم يكُن له وجود لديه. فالشرف والاستقامة ليسا إلا علامةً على الموهبة.

والعربدة ولعب الورق والفسق ممكنة، بشرط ألَّا تعوق العمل. والإيمان بالله غباء، بَيْدَ أن الدين ينبغي أن يكون مَصونًا لا يُمس، لأن الشعب بحاجة إلى قوة رادعة وإلا فلن يعمل. والعقوبات ضرورية فقط للتخويف. ولا حاجة للتصييف في الدور الريفية، لأن المعيشة في المدينة أيضًا طيبة … وهكذا دواليك. كان أرمل وليس لديه أطفال، بَيْدَ أنه كان يحيا حياةً بحبوحةً عائليةً ويدفع ثلاثة آلاف روبل سنويًّا إيجارًا للشقة.

أمَّا الضيف الآخر، كوكوشكين، مستشار الدولة الجديد، فقد كان قصير القامة، ويتميز بتعبير كريه إلى أقصى حدٍّ يُضفيه عليه عدم التناسق بين جذعه البدين المكتنز ووجهه الصغير النحيل. وكانت شفتاه على شكل قلب، وشاربه المقصوص يبدو كأنه قد لُصق باللاك. كانت حركاته كحركات السحلية؛ فلم يكُن يدخل بل يدلف زاحفًا وهو يبدل بقدميه بسرعة ويتمايل ويهأهئ، وعندما يضحك يُكشَّر عن أنيابه. كان موظفًا للمهمَّات الخاصة لدى شخصٍ ما، ولم يكُن يفعل شيئًا رغم أنه يتقاضى مرتبًا كبيرًا، وخاصةً صيفًا، عندما يخترعون له شتَّى المأموريات. كان وصوليًّا لا إلى النخاع فحسب، بل إلى أعمق من ذلك، إلى آخر قطرة دم، وفوق ذلك، وصوليًّا تافهًا، غير واثقٍ من نفسه، يبني مستقبله على الصَّدَقات وحدها. فمن أجل وسامٍ أجنبيٍّ ما، أو من أجل أن تكتب الصحف أنه حضر جنازًا أو قُدَّاسًا مع شخصيات كبيرة، كان مستعدًّا لأيِّ مَهانة، لأن يستعطف ويتملَّق ويعد. وبدافع الجبن كان يتملَّق أرلوف وبيكارسكي، لأنه كان يعتبرهما من الأقوياء، ويتملَّق بوليا ويتملَّقني لأننا نخدم عند شخص ذي نفوذ. وعندما كنتُ أنزع عنه المعطف كان دائمًا يهأهئ ويسألني: «هل أنت متزوج يا ستيبان؟» وتتلو ذلك مداعبة مبتذلة فجَّة، كنوع من الاهتمام الخاص بي. كان كوكوشكين ينافق نقائص أرلوف وفساده وشبعه. ولكي يعجبه تظاهر بأنه ساخر شرير ومُلحد، وكان ينتقد معه أولئك الذين كان يرائيهم بمذلة في مكان آخر. وعندما كان الحديث يتطرق أثناء العشاء إلى النساء والحب، كان يتظاهر بأنه فاسق داهية ذواقة. وعمومًا فمن الجدير بالذكر أن ماجني بطرسبرج يحبُّون التحدث عن أذواقهم الفريدة. فقد يُقنع أحد مستشاري الدولة الجدد كل القناعة بملاطفات طاهيته أو إحدى البائسات المتسكعات في شارع نيفسكي، فإذا ما سمعتَه يتحدث خُيِّل إليك أنه مُصاب بكل رذائل الشرق والغرب، وأنه عضو فخري في عشرات الجمعيات السرية المشبوهة وأصبح تحت رقابة الشرطة. وكان كوكوشكين يروي عن نفسه الأكاذيب بلا خجل، وليست المسألة أن أحدًا لم يكُن يُصدِّقه، بل لم يكونوا يعيرون أذنًا صاغيةً لأكاذيبه.

أمَّا الضيف الثالث فهو جروزين؛ ابن أحد الجنرالات العلماء المحترمين، من عمر أرلوف، أشقر طويل الشعر، ضعيف النظر، يضع نظارةً مُذهبة. وأذكر أصابعه الطويلة الشاحبة كأصابع عازف البيانو، وعمومًا فقد كان في هيئته كلها شيءٌ ما موسيقي، حاذق، وأشخاص بمثل هذه الهيئة يلعبون في الأوركسترات دَور العازف الأول. كان يسعل ويعاني من الصداع، وعمومًا كان يبدو مريضًا وضعيفًا. وأغلب الظنِّ أنهم في البيت كانوا ينزعون عنه ثيابه ويُلبسونه كطفل. وقد درس القانون في معهدٍ والتحق بوظيفةٍ في إدارة المَحاكم، ثم نقل إلى مجلس الشيوخ، ولكنه استقال وحصل بالواسطة على وظيفة بوزارة الممتلكات الحكومية، ثم سرعان ما ترك الوظيفة مرةً أخرى. وفي فترة خدمتي كان يعمل في قسم أرلوف رئيسًا لقلم، ولكنه كان يُصرِّح بأنه سينتقل ثانيةً إلى إدارة المَحاكم. كان ينظر إلى الخدمة وإلى تنقلاته من مكان إلى مكان باستهتار نادر، وعندما كانوا يتحدثون في حضوره بجدية عن الرُّتَب والأوسمة والرواتب، كان يبتسم ببشاشة ويُردِّد قول بروتكوف٤ المأثور: «في الوظيفة الحكومية فقط يدرك المرء الحقيقة!» وكانت لديه زوجة صغيرة بوجه مُغضَّن، غيورة جدًّا، وخمسة أطفال هزالى. وكان يخون زوجته، ويحبُّ أطفاله فقط عندما يراهم، وعمومًا كان يعامل أُسرته بلا مبالاةٍ ويسخر قليلًا منها. وكان يعيش هو وأُسرته على الدَّين، ويستدين من أيِّ شخصٍ حيثما كان، وفي أيِّ فرصة مناسبة، ولا يستثني حتى رؤساءه والفرَّاشين. كان شخصيةً رخوة، كسولة إلى حدِّ اللامبالاة التامة بالنفس، تسبح مع التيَّار دونما وجهة أو غرض معلومَين، فحيثما يسوقونه يمضي، فإذا ساقوه إلى حانةٍ مضى، وإذا وضعوا أمامه خمرًا شرب، فإن لم يضعوا لم يشرب. وإذا سبُّوا أمامه الزوجات سبَّ زوجته، مؤكدًا أنها أفسدَت عليه حياته، وإذا مدحوا الزوجات مدحها أيضًا وقال بإخلاص: «إنني أحبُّها جدًّا، هذه المسكينة.» لم يكُن لديه مِعطفٌ فِراء، فكان دائمًا يحمل حِرامًا تفوح منه رائحة فراش الأطفال. وعندما كان يشرد أثناء العشاء فيكوِّر من لُبِّ الخبز كراتٍ صغيرةً ويجرع كثيرًا من النبيذ الأحمر، كان يراودني، ويا للغرابة! إحساس يبلغ اليقين تقريبًا بأن هناك شيئًا ما يقبع في داخله، شيئًا يدركه هو نفسه على الأرجح بصورة مبهمة، لكنه في غمار المشاغل والابتذال لا يجد الوقت لفهمه وتقديره. كان يعزف قليلًا على البيانو، فكان يجلس أحيانًا إلى البيانو فيدقُّ بضعة أنغام ثم يشرع في الغناء بصوت خافت: ماذا تخبئ يا غدي الآتي؟

ولكنه ينهض على الفور، كأنما فزع، ويبتعد عن البيانو.

كان الضيوف يَفِدون عادةً في حوالي العاشرة، يجلسون في غرفة مكتب أرلوف يلعبون الورق، ونُقدِّم لهم أنا وبوليا الشاي. وهنا فقط كنتُ أستطيع أن أدرك، كما يجب، كل لذة الخدمة؛ أن تقف طوال أربع أو خمس ساعات بجوار الباب، وتهتم بألَّا تفرغ الأكواب، وتغير منافض السجائر، وتُهرَع إلى المائدة لترفع قِطَع طباشير أو ورقة لعب سقطَت، والمُهمُّ أن تقف وتنتظر وتكون منتبهًا، وإياكَ أن تتكلم أو تسعل أو تبتسم … إنني أؤكد لكم أن ذلك أشقُّ من أشقِّ عملٍ فِلاحي. في زمنٍ ما كنتُ أقف في نوبة الحراسة أربع ساعاتٍ في ليالي الشتاء العاصفة، وأرى أن الوقوف في نوبة الحراسة أسهل بما لا يُقارن.

كانوا يلعبون الورق تقريبًا حتى الساعة الثانية صباحًا، وأحيانًا حتى الثالثة، ثم يتوجهون، وهم يتمطَّون، إلى غرفة الطعام لتناول العشاء، أو كما كان أرلوف يقول، لأكل لقمة. وأثناء العشاء يدور الحديث، كان يبدأ عادةً بأن يشرع أرلوف، بعينَين ضاحكتَين، في الحديث عن أحد المعارف، أو عن كتابٍ قرأه مؤخرًا، أو عن تعيين أو مشروع جديد. وسرعان ما يلتقط الخيط كوكوشكين المنافق، وتبدأ، حسب مزاجي آنذاك، موسيقى مُقرفة. ولم تكُن سخرية أرلوف وأصدقائه تعرف حدودًا، ولا ترحم أحدًا أو شيئًا. فإذا تحدثوا عن الدين فهي سخرية، وإذا تحدثوا عن الفلسفة ومغزى وأهداف الوجود فهي سخرية، وإذا أثار أحدُهم قضية الشعب فهي سخرية. ثمة في بطرسبرج طراز خاص من الناس لا عمل لهم إلا التندُّر بكل ظاهرة من ظواهر الحياة. وهم لا يستطيعون أن يمرُّوا حتى بجائع أو منتحر دون أن يتفوَّهوا بأشياء وضيعة. لكنَّ أرلوف وأصدقاءه لم يكونوا يمزحون أو يتندَّرون، بل يتحدثون بسخرية. كانوا يقولون إن الله غير موجود، وإن الفرد يفنى تمامًا بموته، أما الخالدون فلا وجود لهم إلا في المجتمع الفرنسي.٥ ولا وجود للنعمة الحقيقية، ولا يمكن أن تُوجَد، لأن وجودها رهن بالكمال الإنساني الذي هو لغو منطقي. وروسيا بلد مُمل تعيس مثلها مثل بلاد فارس. والمثقفون لا أمل فيهم، فالغالبية العُظمى منهم، في رأي بيكارسكي، تتألف من أشخاص غير أكفاء ولا جدوى منهم. أمَّا الشعب فأدمن الشراب واستسلم للكسل وتفشَّت فيه السرقة وأخذ ينقرض. وليس لدينا علم، والأدب شائه، والتجارة لا تقوم إلا على الاحتيال، «بلا خداع، لا شيء يباع»، وكل شيء على هذا النحو، وكل شيء مُضحك.

وبفعل الخمر يدبُّ المرح في ختام العشاء، فينتقل الضيوف إلى أحاديث مرحة، فيهزءون بحياة جروزين العائلية، وبانتصارات كوكوشكين أو بيكارسكي الذي كان دفتر حساباته، كما يُقال، يتضمن صفحةً بعنوان لأعمال البر، وصفحةً أخرى بعنوان لمتطلبات الجسد. وكانوا يقولون إنه ليس هناك زوجاتٌ مخلصات، وليس هناك زوجةٌ لا يمكن أن تحصل منها، بشيء من الخبرة، على الودِّ دون أن تغادر غرفة الجلوس، بينما يجلس زوجها قريبًا في غرفة المكتب، والفتيات المراهقات فاسقات وأصبحن يعرفن كل شيء. ويحتفظ أرلوف لديه برسالة تلميذة في الرابعة عشرة، كانت عائدةً من المدرسة ﻓ «علَّقَت في شارع نيفسكي ضابطًا»، وحسب قولها أخذها إلى بيته ولم يتركها إلا في ساعة متأخرة، أمَّا هي فأسرعَت تكتب عن ذلك إلى صديقتها لكي تُفضي إليها بإعجابها. وكانوا يقولون إن طهارة الأخلاق لم تُوجَد أبدًا ولا وجود لها إطلاقًا، فالظاهر أنه لا حاجة إليها، فالبشرية عاشت حتى الآن في غِنًى عنها تمامًا. أمَّا الضرر الناشئ عمَّا يُسمَّى بالفسق فمُبالغٌ فيه بالتأكيد، والشذوذ الذي تشير إليه لائحة العقوبات عندما لم يمنع ديوجين من أن يصبح فيلسوفًا ومُعلمًا. وكان قيصر وشيشرون فاسقَين، وفي الوقت نفسه رجلَين عظيمَين. أمَّا العجوز كاتون فتزوَّج فتاةً شابَّة، ومع ذلك ظلَّ يعد تقيًّا صارمًا وقيِّمًا على الأخلاق.

وفي الثالثة أو الرابعة يتفرق الضيوف أو يرحلون معًا إلى خارج المدينة أو إلى شارع أفيتسيرسكايا، إلى سيدة تُدعى فارفارا أو سيبوفنا، أمَّا أنا فأذهب إلى غرفة الخدم وأظلُّ طويلًا لا أستطيع النوم بسبب الصداع والسعال.

٤

بعد حوالي ثلاثة أسابيع من التحاقي بخدمة أرلوف، وفي صباح يوم أحد، على ما أذكر، قرع أحدُهم الجرس. كانت الساعة تقارب الحادية عشرة وأرلوف ما زال نائمًا. وذهبت لأفتح الباب. وبوسعكم أن تتصوَّروا مدى ذهولي؛ فعلى بسطة السُّلَّم، خلف الباب، كانت تقف سيدةٌ ترخي «الفوال» على وجهها.

وسألَت: هل استيقظ جيورجي إيفانيتش؟

ومن صوتها عرفتُ أنها زينائيدا فيودوروفنا، التي كنت أحمل إليها الرسائل في شارع زنامينسكايا. ولستُ أذكر هل تمكنتُ من الإجابة إذ كنتُ مرتبكًا برؤيتها أمامي. وعلى كلٍّ فلم تكُن بحاجة إلى إجابتي، ففي لحظة واحدة مرقَت بجواري، وبعد أن عبأت المدخل بأريج عطرها الذي ما زلتُ أذكره جيدًا حتى الآن، غابت في الشقة وخفَت وقعُ خطواتها. ولمدة نصف ساعة على الأقلِّ بعد ذلك لم يُسمع شيء. ولكن أحدًا آخر قرع الجرس ثانية؛ كانت في هذه المرة فتاة متأنقة بتكلف، يبدو أنها خادمة في بيت ثري ومعها حاجبنا، وكان كلاهما يلهث وهما يحملان إلى داخل الشقة حقيبتَين وسلَّة سفر.

وقالت الفتاة: هذا لزينائيدا فيودوروفنا.

وانصرفَت دون أن تضيف كلمةً أخرى. وبدَا كل ما حدث غامضًا، أثار لدى بوليا التي كانت تُجلُّ شقاوات سيدها، ابتسامةً ماكرةً كأنما كانت تريد أن تقول: «انظر، ما أروعنا!» وظلَّت طول الوقت تمشي على أطراف أصابعها. وأخيرًا تردَّد وقعُ خطوات، ودلفَت زينائيدا فيدوروفنا إلى المدخل بسرعة، وعندما رأتني واقفًا على باب غرفتي قالت: يا ستيبان، ساعد جيورجي إيفانيتش على ارتداء ملابسه.

حينما دخلتُ إلى أرلوف حاملًا البدلة والحذاء كان جالسًا على السرير مُدليًا ساقَيه فوق فِراء الدب. وكانت هيئته كلها تُعبِّر عن الخجل. ولم يلحظني ولم يكُن مهتمًّا برأيي كخادم، إذ يبدو أنه كان خجِلًا مرتبكًا أمام نفسه، أمام «عينه الباطنية». وارتدى ملابسه، واغتسل ثم سوَّى شعره بالفُرَش والأمشاط، كل ذلك في صمت وعلى مهل، كأنما يعطي لنفسه وقتًا أطول للتفكير في وضعه ولتدبُّره، وكان واضحًا حتى من ظهره أنه خجِلٌ وغير راضٍ عن نفسه.

وشربَا القهوة معًا؛ صبَّت زينائيدا فيودوروفنا من الإبريق لها ثم لأرلوف، ثم وضعَت مرفقَيها على الطاولة وضحكَت قائلة: ما زلتُ لا أصدق. عندما تنتقل طويلًا ثم تأتي إلى الفندق، فإنك تظلُّ غير مُصدِّق أنه لن يكون عليك أن ترحل بعد. ما أطيب أن تتنفس بحرية!

وتنفَّسَت بحرية كفتاة صغيرة ترغب بقوة في أن تتشاقى، وضحكَت من جديد.

وقال أرلوف مُومِئًا إلى الصحف: أرجو أن تعذريني، فقراءة الصحف مع القهوة عادةٌ لا تُقهر عندي، ولكني أستطيع أن أقوم بعملَين في وقت واحد؛ أن أقرأ وأستمع.

– اقرأ، اقرأ … عاداتك وحريتك ستظلُّ كما هي. ولكن لماذا يبدو وجهكَ ممتعضًا؟ هل أنتَ دائمًا هكذا في الصباح أم اليوم فقط؟ ألستَ مسرورًا بي؟

– بالعكس، ولكني، بصراحة، مأخوذ قليلًا.

– ولماذا؟ كان لديك الوقتُ لكي تستعدَّ لهجومي، لقد كنتُ أهدِّدك بذلك كل يوم.

– نعم، ولكني لم أتوقَّع أن تُنفِّذي تهديدكِ اليوم بالذات.

– وأنا أيضًا لم أتوقَّع، ولكن هذا أفضل، أفضل يا صديقي. اخلع السنَّ المريضة دفعةً واحدةً وانتهينا.

– نعم، طبعًا.

فقالت وهي تغمض عينيها: آه يا حبيبي! كل ما ينتهي بخير فهو حسن، ولكنْ كم كان من مواجعَ قبل أن ينتهيَ بخير! لا تنخدع بضحكي، فأنا مسرورة، سعيدة، ولكني أرغب في البكاء أكثر من الضحك. واستطردَت تقول بالفرنسية: بالأمس خضتُ معركةً طويلة، الله وحده يعلم كم قاسيت، ولكني أضحك لأني ما زلتُ لا أُصدِّق. يُخيَّل إليَّ أنني أجلس معكَ وأشرب القهوة لا في اليقظة، بل في الحلم.

ثم واصلَت الحديث بعد ذلك بالفرنسية، فروَت كيف انفصلَت بالأمس عن زوجها، وكانت عيناها تغرورقان بالدموع، وتارةً تضحكان وتنظران إلى أرلوف بإعجاب. وروَت أن زوجها كان يشكُّ فيها منذ زمن طويل، ولكنه كان يتحاشى المصارحة. وكثيرًا ما كانت تدبُّ بينهما الخلافات، ولكنه كان عادةً، في ذروة الشجار، يصمت، وينصرف إلى مكتبه كي لا يُفضي فجأةً بشكوكه في لحظة غضب، وحتى لا تبدأ هي المصارحة. أمَّا هي فكانت تحسُّ بنفسها مُذنبة، تافهة وغير قادرة على اتخاذ خطوة جريئة جادة، وبسبب ذلك كانت في كل يوم تزداد كراهيةً لنفسها ولزوجها، وتتعذب كما في الجحيم. ولكن بالأمس، أثناء الشجار، عندما صرخ بصوتٍ باكٍ: «متى ينتهي هذا كله يا إلهي؟!» وانصرف إلى مكتبه، انطلقَت وراءه كالقطة وراء الفأر، ومنعَته من إغلاق الباب خلفه، وصاحت بأنها تكرهه من صميم قلبها. عندئذٍ تركها تدخل غرفة المكتب، فصارحَته بكل شيء واعترفَت له بأنها تحبُّ شخصًا آخر، وأن هذا الشخص هو زوجها الحقيقي، الشرعي بحق، وأن ضميرها يُملي عليها أن تنتقل إليه اليوم فورًا، بالرغم من كل شيء، حتى لو أطلقوا عليها النار من مدفع.

فقاطعها أرلوف دون أن يُحوِّل عينيه عن الصحف: فيكِ ينبض عِرق رومانسي قوي.

فضحكَت ومَضَت تتحدث دون أن تمسَّ قهوتها. وتورَّد خدَّاها، فأحرجها هذا بعض الشيء، فراحت تتطلع إليَّ وإلى بوليا بارتباك. وعرفتُ من بقية روايتها أن زوجها ردَّ عليها بالعتاب والتهديد، وفي النهاية بالدموع، وكان من الأصوب القول بأنه هو، لا هي، الذي خاض المعركة.

ومضَت تقول: نعم يا صديقي، لقد سار كل شيء بصورة رائعة عندما كانت أعصابي متماسكة، ولكن ما إن حلَّ الليلُ حتى انهارت معنوياتي. أنتَ يا جورج لا تؤمن بالله، أمَّا أنا فأومن قليلًا وأخشى القِصاص. الله يأمرنا بالصبر والتسامح والتفاني، وإذا بي أرفض أن أصبر، وأريد أن أرتِّب حياتي كما يحلو لي، فهل هذا طيِّب؟ ماذا لو أنه من وجهة نظر الربِّ ليس طيبًا؟ في الساعة الثانية صباحًا جاء زوجي إلى غرفتي وقال: «لن تجرئي على الذهاب، سأرغمكِ على العودة بفضيحة عن طريق الشرطة.» وبعد فترة قصيرة رأيته ثانيةً عند بابي كالظل، قال: «ارحميني، هروبكِ قد يضرُّ بمركزي في العمل.» كان لهذه الكلمات وقعٌ فظٌّ في نفسي، أحسستُ كأنما علاني الصدأ منها، وفكرتُ في أن القِصاص قد بدأ، فأخذتُ أرتعش من الخوف وأبكي. وخُيِّل إليَّ أن السقف سينهار فوقي، وأنهم سيسوقونني الآن إلى الشرطة، وأنكَ ستكفُّ عن حُبِّك لي، باختصار تصوَّرتُ أشياءَ لا يعلمها إلا الله! فقلتُ لنفسي سأدخل الدير، أو أعمل مُمرضةً في مستشفًى ما، ولأتخلَّ عن السعادة، ولكني أتذكر على الفور أنكَ تحبُّني، وأنه لا يحقُّ لي التصرف في نفسي دون الرجوع إليك، فيختلط كل شيء في ذهني، فلا أدري من اليأس فيمَ أفكر ولا ماذا أفعل! ولكن الشمس أشرقَت، فعاد إلي المرح. وانتظرتُ حلول الصباح وطرتُ إليك. آه، كم تعذبتُ يا حبيبي! لم أنَم ليلتَين متتاليتَين!

كانت مُرهقةً ومُنفعلة. كانت تريد، في وقتٍ واحد، أن تنام، وأن تتحدث بلا نهاية، وأن تضحك، وأن تبكي، وأن تذهب إلى المطعم للإفطار لكي تحسَّ بنفسها حُرة.

وبعد أن تناولَت القهوة قالت وهي تتفقد جميع الغرف بسرعة: شقتك لطيفة، ولكني أخشى أن تكون ضيِّقةً لشخصَين. أيُّ غرفة ستُخصِّصها لي؟ تعجبني هذه، لأنها مجاورة لغرفة مكتبك.

وفي الساعة الثانية غيَّرت ملابسها في الغرفة المجاورة للمكتب، والتي أصبحَت تُسميها غرفتها، ورحلَت مع أرلوف لتناول الإفطار. وتغدَّيَا أيضًا في المطعم، وفي الفترة الطويلة الواقعة بين الإفطار والغداء طافَا بالمتاجر. وظلِلْتُ حتى ساعة متأخرة من المساء أفتح الباب لوكلاء وسُعاة المحلات وأتسلَّم منهم شتَّى المشتريات. وكان من بين ما أتَوا به تسريحة رائعة، وطاولة تواليت، وسرير، وطقم شاي فاخر لم نكُن بحاجة إليه. وأتَوا بعائلة كاملة من قُدور الطبخ النحاسية، وضعناها صفًّا على رفٍّ في مطبخنا الخاوي البارد. وعندما كنا نفضُّ لفَّة طاقم الشاي اتقدَت عينَا بوليا، ونظرَت نحوي عدة مرات بحقد وخوف من أن أكون أنا، لا هي، ربما البادئ بسرقة قدح من هذه الأقداح الرشيقة. وجاءوا بطاولة مكتب حريمي، غالية جدًّا، ولكنها غير مريحة. يبدو أن زينائيدا فيودوروفنا كانت عازمةً على الاستقرار هنا بصورة راسخة، كربَّة بيت.

وعادت مع أرلوف في حوالي العاشرة. ولمَّا كانت مُشبَعةً بإدراك فخور بأنها أقدمَت على شيء جريء وغير عادي، عاشقةً بهيام، وكما خُيِّل إليها، معشوقةً بهيام، ساهمة، مُمنيةً نفسها بنومٍ عميقٍ سعيد، فقد سكرَت زينائيدا فيودوروفنا بنشوة الحياة الجديدة. كانت من فرط السعادة تفرك يديها بقوة، مؤكِّدةً أن كل شيء رائع، وتُقسِم إنها ستحبُّ إلى الأبد، وهذه الأيمان وتلك الثقة الساذجة، الطفولية تقريبًا، بأنها هي أيضًا محبوبة بقوة وستظلُّ محبوبة إلى الأبد، جعلَتها تبدو أصغر بخمس سنوات، وراحت تتفوَّه بهُراءٍ جميلٍ وتضحك من نفسها.

وقالت وهي تجبر نفسها على أن تقول شيئًا ما جادًّا وذا أهمية: ليس هناك نعمةٌ أسمى من الحرية! انظر إلى هذه السخافة. إننا لا نُقدِّر أبدًا رأينا الخاص، حتى ولو كان سديدًا، بينما نرتعش وجلًا أمام رأي شتَّى الحمقى. كنتُ أخشى آراء الآخرين حتى آخر لحظة، ولكنْ ما إن اتبعتُ رأيي أنا، وقرَّرتُ أن أعيش كما أرى، حتى تفتَّحَت عيناي، وتغلَّبتُ على خوفي الأحمق، وأصبحتُ الآن سعيدةً وأتمنى للجميع مثل هذه السعادة.

ولكن سرعان ما ينقطع حبل أفكارها، فتعود للحديث عن الشقة الجديدة، وعن أوراق الحيطان، والخيول، وعن رحلة إلى سويسرا وإيطاليا. أمَّا أرلوف فكان مرهقًا من الذهاب إلى المطاعم والمتاجر، وظلَّ يعاني من ذلك الخجل الذاتي الذي لاحظَته عليه في الصباح. كان يبتسم ولكنْ بدافع الأدب أكثر منه بدافع السرور، وعندما تتحدث عن شيءٍ ما جِدِّيٍّ كان يؤمِّن بسخرية: «أوه، نعم!»

وقالت تخاطبني: يا ستيبان، ابحث بسرعة عن طباخ جيد.

فقال أرلوف وهو يرمقني بنظرة باردة: لا داعي للاستعجال بالمطبخ، ينبغي أن ننتقل أولًا إلى الشقة الجديدة.

لم يكُن يحتفظ لديه أبدًا بمطبخ أو خيول، فقد كان على حدِّ قوله «لا يحبُّ اقتناء الأقذار لديه»، ولم يكُن يطيق بقاءنا أنا وبوليا في شقته إلا لحاجته إلينا. فما يُسمَّى بالعُشِّ العائلي، بأفراحه وأتراحه العادية، كان يُهين ذوقه بابتذاله. وأن تكون المرأة حبلى أو يكون لديها أولاد وتتحدث عنهم، لهو قِلَّة ذوق وسوقية. ومن ثَم فقد كان في غاية الطرافة بالنسبة لي أن أتصوَّر كيف سيتعايش في شقة واحدة هذان المخلوقان؛ هي السيدة المنزلية، ربَّة الدار، بقدورها النحاسية وأحلامها بطباخ جيد وبالخيول … وهو الذي كثيرًا ما كان يقول لأصحابه إنه في شقة الرجل القويم النظيف، كما في السفينة الحربية، لا ينبغي أن يكون هناك شيءٌ زائد … لا نساء، لا أطفال، لا خِرَق، لا أواني مطبخ …

٥

والآن سأروي لكم ما حدث في أقرب خميس. في هذا اليوم تغدَّى أرلوف وزينائيدا فيودوروفنا في مطعم «كونتان» أو «دونون»، وعاد أرلوف إلى البيت وحده، أمَّا هي فرحلَت، كما علمتُ فيما بعد، إلى مُربِّيتها العجوز في ضاحية بطرسبرج، لكي تبقى عندها إلى أن ينصرف الضيوف من عندنا. لم يُرِد أرلوف أن يُقدِّمها لأصحابه، وقد أدركتُ أنا ذلك في الصباح، أثناء تناولهما القهوة، عندما أخذ يؤكد لها أنه من أجل راحتها ينبغي إلغاءُ حفلات الخميس.

جاء الضيوف كالعادة في وقت واحد تقريبًا.

وسألني كوكوشكين همسًا: السيدة في البيت؟

فأجبته: كلَّا يا سيدي.

فدلف بعينَين ماكرتَين مداهنتَين وهو يبتسم في غموض ويفرك راحتيه من البرد.

وقال لأرلوف وبدنه كله يرتعش من الضحك المُرائي المتزلِّف: يشرفني أن أهنئكم، وأتمنَّى لكما النماء والتكاثر كأرز لبنان.

وذهب الضيوف إلى غرفة النوم، وتندَّروا هناك على الحذاء الحريمي والبساط المفروش بين السريرين والبلوزة الرمادية المُدلَّاة على مسند السرير. كانوا مسرورين لأن هذا العنيد الذي كان يحتقر في الحبِّ كل ما هو عادي، قد سقط فجأةً في شِباك امرأة بهذه البساطة والعاديَّة.

ما كنا نسخر منه، أصبحنا نسجد له. ردَّد كوكوشكين الذي كان لديه بالمناسبة مَيل مُنفر إلى التباهي بترديد العبارات السلافية الكنسية. ثم أضاف هامسًا وهو يرفع إصبعه إلى فمه، عندما انتقلوا من غرفة النوم إلى الغرفة المجاورة للمكتب: هس! هنا تحلم مرجريتا بفتاها فاوست.

وأُغرِق في الضحك، كأنما قال شيئًا مُضحكًا للغاية. وتفرَّستُ في وجه جروزين، مُتوقِّعًا ألَّا تطيق روحُه الموسيقية هذا الضحك، ولكني أخطأت. كان وجهه الطيب النحيل يتهلَّل بالمتعة. وعندما جلسوا ليلعبوا الورق، أخذ يقول، وهو يلثغ ويختنق بالضحك، إنه لم يبقَ لجورج، لكي تكتمل سعادتُه العائلية، إلا أن يقتنيَ غليونًا من خشب الكرز وجيتارًا. وضحك بيكارسكي برصانة، بَيْدَ أنه كان واضحًا، من نظرته المستغرقة، أن قصة غرام أرلوف الجديدة تثير نفوره. لم يكُن يفهم كُنه ما حدث.

وبعد أن لعبوا ثلاث دوراتٍ سأل مُستغرِبًا: ولكنْ ماذا عن زوجها؟

فأجاب أرلوف: لا أعرف.

فمشَّط بيكارسكي لحيته الكبيرة بأصابعه واستغرق في التفكير، ولزم الصمت حتى العشاء. وعندما جلسوا إلى المائدة قال ببطء، ماطًّا كل كلمة: عفوًا، ولكني عمومًا لا أفهمكما. كان بوسعكما أن تُحبَّا بعضكما بعضًا وتخالفَا الوصية السابعة كما يحلو لكما … هذا مفهوم. نعم هذا مفهوم لي، ولكنْ ما الداعي لإطلاع الزوج على أسراركما؟ هل هذا ضروري؟

– أليس الأمر سواءً؟

– إم … واستغرق بيكارسكي في التفكير. إذَن فلتسمع ما سأقوله لكَ يا صديقي العزيز (استطرد بتوتر واضح في التفكير) لو أنني في وقتٍ ما تزوجتُ مرةً ثانية، وتراءى لكَ أن تُركِّب لي قرنَين، فلتفعل ذلك بحيث لا ألحظ أنا، فمن الأشرف بكثير أن تخدع الرجل على أن تُفسد عليه نظام حياته وسُمعته. أنا أفهمكما. إنكما تظنَّان أنكما بالعيش هكذا علانيةً تتصرفان بأمانة وليبرالية غير عادية، ولكني لا أستطيع أن أوافق على هذه اﻟ… ما اسمها؟ على هذه الرومانسية.

لم يرُد أرلوف بشيء، كان مُعتلَّ المزاج، فلم يشأ أن يتكلم. أمَّا بيكارسكي فمضى في استغرابه، ونقر على الطاولة بأصابعه، وفكر ثم قال: إنني مع ذلك لا أفهمكما، فلستَ أنتَ طالبًا، وليست هي خياطة، كلاكما من أصحاب الموارد. أعتقد أنه كان بإمكانك أن تستأجر لها شقةً منفردة.

– كلَّا، ليس بإمكاني ذلك. فلتقرأ تورجينيف.

– وما الداعي لقراءته؟ لقد قرأتُه.

– تورجينيف يُعلمنا في مؤلَّفاته أنه على كل فتاة سامية، شريفة التفكير، أن تمضيَ مع رجلها الحبيب إلى آخر الدنيا وتخدم فكرته (قال أرلوف زارًّا عينيه بسخرية) إن «آخر الدنيا» هي licentia poetica.٦ فالدنيا كلها، بجميع أواخرها، تتركز في شقة الرجل الحبيب. ولذلك فألَّا تعيش مع المرأة التي تُحبُّك في شقة واحدة، يعني أنك تحرمها من أسمى غاياتها ولا تشاطرها مُثُلها العُليا. نعم يا عزيزي، تورجينيف كتب، وها أنا ذا أتجرَّع الكأس بدلًا منه.
– ما دخلُ تورجينيف هنا؟ لستُ أفهم (قال جروزين بصوت خافت وهزَّ كتفَيه) أتذكَّر يا جورج كيف كان في «ثلاثة لقاءات» يسير في مكانٍ ما بإيطاليا في ساعة متأخرة. وفجأة سمع: Vieni pensando a me segretamente!٧ (غنَّى جروزين: جميل.)

فقال بيكارسكي: ولكنها لم تنتقل إليك عنوة، أنتَ أردتَ ذلك.

– كيف تقول؟! ما أردتُ ذلك أبدًا، بل حتى لم يدُر بذهني أن هذا سيحدث قط. عندما كانت تقول إنها ستنتقل إليَّ كنتُ أظنُّ أنها تمزح بلطف.

فضحكوا جميعًا.

ومضى أرلوف يقول بنبرة توحي وكأنما اضطروه إلى التبرير: لم يكُن من الممكن أن أريد ذلك. أنا لستُ بطلًا من أبطال تورجينيف، وإذا ما تطلَّعتُ في وقتٍ ما إلى تحرير بلغاريا فلن أحتاج إلى صُحبة نسائية.٨ إنني أنظر إلى الحبِّ قبل كل شيء باعتباره حاجةً جسدية، مُنحطةً ومُعاديةً لروحي. وينبغي إشباعُها بحكمةٍ أو التخلِّي عنها تمامًا، وإلا فإنها ستُدخل إلى حياتك عناصرَ ملوثةً مثلها هي، ولكنْ تصبح متعةً لا عذابًا، أحاول أن أجعلها جميلةً وأحيطها بكمية من الأوهام، فأنا لن أذهب إلى امرأة ما لم أكُن واثقًا مسبقًا من أنها جميلة وجذابة، كذلك لن أذهب إليها ما لم أكُن أنا نفسي في أفضل حالاتي. وفي ظلِّ هذه الظروف فقط نستطيع أن نخدع بعضنا بعضًا، فيُخيَّل إلينا أننا نحبُّ وأننا سعداء. ولكنْ هل يمكن أن أريد قدورًا نحاسيةً وشَعرًا غير مُمشَّط، أو أن يراني أحدٌ قبل أن أغتسل، ومُعتلَّ المزاج؟ إن زينائيدا فيدوروفنا تريد بقلبها البسيط أن تجعلني أحبُّ ما كنتُ أتحاشاه طوال حياتي، إنها تريد أن تفوح في شقتي رائحة المطبخ وغسيل الأواني، وهي بحاجة إلى الانتقال إلى شقة جديدة في صخب، وإلى التنقل على جيادها الخاصة، بحاجة إلى أن تحصي غياراتي وتهتمَّ بصحتي. إنها بحاجة إلى التدخل كل دقيقة في حياتي الخاصة، ومراقبة كل خطوة من خطواتي، وفي الوقت نفسه تؤكد بإخلاص أن عاداتي وحريتي ستظلُّ ملكي. وهي على يقين من أننا، كعروسين، سنقوم في أقرب وقت برحلة شهر العسل؛ أيْ إنها تريد أن تبقى إلى جواري بلا فكاك في مقصورات القطارات وفي الفنادق، بينما أحبُّ أثناء السفر أن أقرأ، ولا أطيق الحديث.

فقال بيكارسكي: إذَن نبِّهها إلى ذلك.

– كيف؟ أتظنُّ أنها ستفهمني؟ رُحماك، إننا نفكر بطريقة جد مختلفة! فمن وجهة نظرها أن الرحيل عن ماما أو بابا أو عن الزوج إلى الرجل الحبيب هو قمة الشجاعة الأدبية، أمَّا أنا فلا أرى فيه إلا عملًا صبيانيًّا. في رأيها أن الحبَّ والاتصال بالحبيب يعني بداية حياة جديدة، أمَّا أنا فأرى أن ذلك لا يعني شيئًا. الحبُّ والرجل يُشكِّلان جوهر حياتها الحقيقي، وربما من هذه الزاوية تُحركها فلسفة اللاوعي. فلتحاول إذَن أن تُقنعها بأن الحبَّ هو مجرَّد حاجة، كالطعام والملبس، وأن العالم لن يفنى أبدًا، لأن الأزواج والزوجات سيئون، وأنه من الممكن أن تكون فاسقًا ومُفسدًا وفي الوقت نفسه عبقريًّا ونبيلًا، ومن وجهة أخرى يمكن أن تتخلَّى عن مُتع الحبِّ وتكون في الوقت نفسه حيوانًا غبيًّا وشريرًا. إن الإنسان المثقف المعاصر، حتى الذي يقف في أسفل السُّلَّم، كالعامل الفرنسي مثلًا، ينفق على غدائه في اليوم عشرة «سو»، وعلى نبيذ الغداء خمسة «سو»، وعلى المرأة من خمسة إلى عشرة «سو»، بينما يعطي العمل كل عقله وأعصابه. أمَّا زينائيدا فيودوروفنا فلا تعطي الحبَّ بضعة «سو»، بل كل روحها. سأنبِّهها على الأرجح، ولكنها في المقابل ستُصرِّح بإخلاص بأنني قضيتُ عليها وأنه لم يعد لديها أيُّ شيء في الحياة.

فقال بيكارسكي: لا تقُل لها شيئًا. فقط استأجر لها شقةً منفردةً وكفَى.

– سهلٌ أن تقول هذا …

وصمتوا قليلًا.

وقال كوكوشكين: ولكنها لطيفة. إنها رائعة. مثيلاتها يتصوَّرن أنهنَّ سيُحببن إلى الأبد، ويستسلمن بحماسة.

فقال أرلوف: ولكن ينبغي أن يكون لديهم عقل، ينبغي أن يفكرن. إن جميع الخبرات المعروفة لنا من الحياة اليومية والمُدوَّنة على صفحات الروايات والدرامات العديدة تؤكد بالإجماع أن شتَّى أنواع الغرام والمعاشرة عند الأشخاص القويمين، ومهما كان الحبُّ في بدايتها، لا تستمر أكثر من عامين، وإن طالت فلا أكثر من ثلاثة. عليها أن تعرف هذا؛ ولذلك فإن كل هذه التنقلات، والقدور، والأحلام بالحبِّ والوفاق الخالدين، لا تعدو أن تكون رغبةً في استغفال نفسها واستغفالي. إنها لطيفة ورائعة … مَن ذا يعارض؟ ولكنها قلَبَت عربة حياتي. كل ما كنت أعتبره حتى الآن تافهًا وسخيفًا تريد هي مني أن أجعله في مستوى القضايا المُهمَّة. إنني أعبد صنمًا لم أعتبره أبدًا إلهًا. إنها لطيفة ورائعة، فلماذا إذَن أصبحتُ أشعر بالانقباض وأنا عائد من الخدمة إلى البيت، كأنما أتوقَّع أن أرى في بيتي شيئًا مُنغصًا، من نوع بُناة المدافئ، الذين نقضوا كل المدافئ وكوَّموا جبالًا من الطوب. وباختصار فلم أعد أدفع مقابل الحبِّ «سو»، بل جزءًا من راحتي وأعصابي، وهذا شيء سيئ.

فتنهَّد كوكوشكين قائلًا: إنها لا تسمع ما يقوله هذا الشرير!

ثم قال بنبرة مسرحية: سيدي المحترم، إنني أعفيك من الواجب الثقيل بحُبِّ هذا المخلوق الرائع! سوف أنتزع منك زينائيدا فيودوروفنا!

فقال أرلوف بلا مبالاة: تفضَّل.

وظل كوكوشيكين نصف دقيقة يضحك بصوت رفيع وبدنه كله يهتز، ثم قال: انتبه، إنني لا أمزح، أرجو ألَّا تتقمَّص فيما بعدُ دَور عطيل!

وشرع الجميع يتحدثون عن دأب كوكوشكين الذي لا يكلُّ في شئون الغرام، وأنه صاعق بالنسبة للنساء وخطير على الأزواج، وكيف ستشويه الشياطين على النار في العالم الآخر جزاءً على حياته الماجنة. أمَّا هو فلزم الصمت وهو يزرُّ عينيه، وعندما كانوا يذكرون أسماء نساء معروفات كان يُهدِّد بسبَّابته، كأنما يُحذِّر من إفشاء أسرار الآخرين. وفجأةً نظر أرلوف إلى الساعة.

فهم الضيوف وبدءوا يستعدُّون للانصراف. وأذكر أن جروزين، وقد انتشى من الخمر، ظلَّ يرتدي ملابسه هذه المرة طويلًا؛ ارتدى معطفه الذي يشبه تلك القبوطات التي يرتديها الأطفال في الأُسر غير المُوسرة، ورفع ياقته، وأخذ يروي قصةً طويلةً عن شيءٍ ما. وعندما رأى أن أحدًا لا ينصت إليه وضع على كتفه حِرامه الذي فاحت منه رائحة فراش الأطفال، وطلب مني بوجه ضارع مُذنب أن أجد له قُبَّعته.

وقال بصوت رقيق: جورج يا ملاكي! أصغِ إليَّ يا عزيزي، ولنذهب الآن إلى خارج المدينة!

– اذهب، أمَّا أنا فلا أستطيع، أنا الآن في وضع الأزواج.

– إنها رائعة ولن تغضب. يا رئيسي الطيِّب فلنرحل! الطقس رائع، عاصف وقارس … أقسم بشرفي إنك بحاجة إلى تغيير الجو، فمزاجك مُعتل، الشيطان يعرف لماذا …

تمطَّى أرلوف وتثاءب، ثم نظر إلى بيكارسكي، وسأله مُفكرًا: هل ستذهب؟

– لا أعرف. أظن.

– أم ربما أسكر، هه؟ وقرَّر أرلوف بعد تردُّد قصير: حسنًا، سأذهب. انتظروا، سأحضر نقودًا.

وذهب إلى غرفة المكتب فتبعه جروزين مُتعثرًا يُجرجر حِرامه خلفه. وبعد دقيقة عادَا معًا إلى المدخل. كان جروزين الثمل والمسرور جدًّا يُجعِّد في قبضته ورقةً من فئة العشرة روبلات.

ومضى يقول: غدًا سأردُّها. أمَّا هي فطيبة، لن تغضب، هي التي عمَّدَت ابنتي ليزا، إنني أحبُّها، هذه المسكينة (وفجأةً ضحك بفرح وألصق جبينه بظهر بيكارسكي): آه أيها الرجل الحبيب، بيكارسكي يا روح قلبي! محامٍ حتى النخاع، أعجف الفؤاد، ومع ذلك تراه يحبُّ النساء.

– أضف: السمينات (قال أرلوف وهو يرتدي معطف الفراء) ولكنْ هيَّا بنا نرحل، وإلا فقد نلقاها على العتبة.

فغنَّى جروزين:

Vieni pensando a me segretamente.

وأخيرًا رحلوا. ولم يَبِت أرلوف ليلته في المنزل، وعاد في اليوم التالي قُرب الظُّهر.

٦

ضاعت ساعة زينائيدا فيودوروفنا الذهبية التي أهداها لها والدُها في زمنٍ ما، وقد أدهشها وأخافها هذا الضياع. ظلَّت نصف النهار تطوف بالغرف وهي تتفحَّص الطاولات والنوافذ بنظرات مرتبكة، ولكن كأنما كانت الساعة قِطعَة ملح ذابت.

وبعد ذلك بزمن قصير، حوالي ثلاثة أيام، عادت زينائيدا فيودوروفنا من مكانٍ ما، فنسيَت في المدخل حافظة نقودها. ولحسن حظي لم أكُن أنا الذي ساعدتُها هذه المرة على خلع معطفها، بل بوليا. وعندما تذكرَت المحفظة لم تجدها في المدخل.

قالت زينائيدا فيودوروفنا مستغربة: غريبة! إنني أذكر جيدًا أنني أخرجتُها من جيبي لكي أنقد الحوذي، ثم وضعتُها هنا بجوار المرآة. عجيبة!

لم أكُن سارقًا، ولكنْ تملَّكني إحساسٌ كأنما كنتُ أنا السارق وضبطوني، حتى إن عينيَّ اغرورقتَا بالدموع. وعندما جلسَا للغداء قالت زينائيدا فيودوروفنا لأرلوف بالفرنسية: بيتنا سكنَته الأرواح. فقدتُ اليوم محفظتي في المدخل، وإذا بي أجدها الآن على طاولتي. ولكن الأرواح لم تُقدِّم هذه النمرة مجانًا، فقد أخذَت مقابل عملها قِطعةً ذهبيةً وعشرين روبلًا.

فقال أرلوف: تارةً تُضيِّعين ساعتك، وتارةً نقودك … فلماذا لا يحدث معي أيُّ شيء من هذا القبيل؟

وبعد لحظة لم تعد زينائيدا فيودوروفنا تذكر شيئًا عن النمرة التي دبَّرتها الأرواح، وأخذَت تروي وهي تضحك كيف أوصَت في الأسبوع الماضي على أوراق رسائل، ولكنها نسيَت أن تعطي عنوانها الجديد، فأرسل المتجر الأوراق حسب العنوان القديم إلى زوجها، الذي اضطرَّ أن يدفع اثنَي عشَرَ روبلًا لفاتورة الحساب. وفجأةً توقَّف نظرها على بوليا وثبتَت عليها عينًا فاحصة. وفي نفس اللحظة تضرَّج وجهُها وارتبكت إلى درجة أنها حوَّلت مجرى الحديث إلى موضوع آخر.

وعندما دخلتُ غرفة الكتب حاملًا القهوة، كان أرلوف واقفًا وظهره إلى المدفأة، بينما جلسَت هي في مقعد قُبالته. وقالت بالفرنسية: ليس مزاجي مُعتلًّا أبدًا، لكني أخذتُ أفطن فأدركتُ كل شيء. أستطيع أن أحدِّد لك اليوم، بل وحتى الوقت الذي سُرقت فيه الساعة. والمحفظة؟ هنا لا يمكن أن تكون أيُّ شكوك. أوه! (وضحكت وهي تتناول مني القهوة): الآن أدركتُ لماذا أفقد مناديلي وقفازاتي بهذه الكثرة، كما تشاء، ولكني سأسرِّح هذه اللصَّة وأبعث بستيبان ليُحضر وصيفتي صوفيا، فهذه ليست لِصَّة، وليس لها هذه الهيئة اﻟ … المُنفرة.

– أنتِ مُعتلَّة المزاج. غدًا يختلف مزاجك فتدركين أنه لا يصحُّ طرد شخص فقط لأنك ترتابين فيه.

فقالت زينائيدا فيووروفنا: أنا لا أرتاب بل واثقة. وعندما كنتُ أرتاب في هذا البروليتاري ذي الوجه البائس، خادمك، لم أقُل أيَّ كلمة مُهينة. من المُحزن يا جورج أنكَ لا تُصدِّقني.

فقال أرلوف: إذا كان تفكيرنا مختلفًا حول موضوع مُعيَّن، فهذا لا يعني أنني لا أصدِّقك (واستدار نحو نار المدفأة وألقى فيها سيجارته) ومع ذلك لا داعي للانفعال. وعلى العموم أصارحك بأنني لم أتوقَّع أن تُسبِّب لك مملكتي الصغيرة كل هذه الهموم الجدية والانفعالات. ضاعت قِطعَة نقود ذهبية، فليكُن، لها الله، خُذي مني ولو مائة قِطعَة، أمَّا أن نُغيِّر النظام، ونأخذ من الشارع خادمةً جديدة، وننتظر حتى تعتاد … كل هذا شيء طويل، مُمل، لا يتفق مع طباعي. صحيحٌ أن خادمتنا الحالية سمينة، وربما تعاني من مَيل خاص إلى المناديل والقفازات، ولكنها في المقابل محترمة، منضبطة، ولا تصرخ عندما يقرصها كوكوشكين.

– باختصار أنتَ لا تستطيع أن تفترق عنها … قُل بصراحة.

– هل تغارين؟

– نعم، أنا أغار! قالت زينائيدا فيودوروفنا بحزم.

– أشكرك.

– نعم، أنا أغار! (ردَّدَت ولمعَت في عينيها الدموع) كلَّا، ليست هذه غَيرة، بل شيءٌ أسوأ … لا أعرف كيف أسميه. وأمسكت بصدغيها واستطردَت باندفاع: أنتم الرجال كيف تصبحون كريهين! هذا فظيع!

– لا أرى في ذلك أيَّ فظاعة.

– أنا لم أرَ، ولا أعرف، ولكنْ يُقال إنكم، أنتم الرجال، منذ الطفولة تبدءون مع الخادمات، وبعد ذلك، ومع التعود، لا تشعرون بأيِّ تقزُّز. أنا لا أعرف، لا أعرف، ولكني قرأت … جورج، طبعًا أنت مُحق (قالت وهي تقترب من أرلوف مُغيِّرةً من نبرتها إلى نبرة رقيقة ضارعة بالفعل) أنا اليوم مُعتلَّة المزاج. لكنْ أرجوك افهمني، أنا لا أستطيع. إنها كريهة، وأنا أخافها، أشعر بالضيق من رؤيتها.

فقال أرلوف هازًّا كتفَيه باستغراب ومبتعدًا عن المدفأة: ألا يمكن أن تكوني أرفع من ذلك؟ ليس هناك شيءٌ أسهل من هذا. لا تلاحظيها ولن تكون عندئذٍ كريهة، ولن تحتاجي إلى صُنع مأساة كاملة من شيء تافه.

خرجتُ من المكتب فلم أعرف الإجابة التي تلقَّاها أرلوف. وأيًّا كان الأمر فقد ظلَّت بوليا عندنا، وبعد ذلك لم تعد زينائيدا فيودوروفنا تطلب منها شيئًا، إذ يبدو أنها حاولت أن تستغنيَ عن خدماتها. وعندما كانت بوليا تُقدِّم لها شيئًا، أو تمرُّ فقط من جوارها وهي ترن بأسورتها وتخشخش بجونلاتها، كانت زينائيدا فيودوروفنا تنتفض.

وأعتقد أنه لو طلب جروزين، أو بيكارسكي، من أرلوف أن يطرد بوليا لفعل ذلك دون أدنى تردُّد، ولمَا أرهق نفسه بأيِّ تفسيرات، فقد كان سلس القياد ككل الأشخاص اللامبالين، ولكنه في علاقاته بزينائيدا فيودوروفنا، وحتى في أتفه الأمور، كان لسببٍ ما يُبدي عنادًا يبلغ أحيانًا حدَّ الاستبداد. وهكذا أصبحتُ أعرف مُقدَّمًا أنه إذا ما أعجب شيءٌ ما زينائيدا فيودوروفنا فلن يعجبه بالتأكيد. وعندما كانت تسرع بعد عودتها من المتجر إلى التفاخر أمامه بما ابتاعه، كان يُلقي نظرةً سريعةً إلى تلك الأشياء ويقول ببرود إنه كلما ازدادت الأشياء غير الضرورية في الشقة أصبح الهواء أقل. وكان يحدث أحيانًا، بعد أن يرتدي الفراك ليذهب إلى مكانٍ ما، ويُودِّع زينائيدا فيودوروفنا، أن يبقى في المنزل فجأةً بدافع العناد. وكان يُخيَّل إليَّ آنذاك أنه لم يبقَ في المنزل إلا لكي يشعر أنه تعيس.

لماذا بقيت؟ تقول زينائيدا فيودوروفنا بحزن مصطنع وهي تتهلَّل من السعادة في الوقت نفسه. لماذا؟ لقد تعودتَ ألَّا تبقى في البيت مساءً، وأنا لا أريد أن تُغيِّر عاداتك من أجلي. اذهب أرجوك، إذا كنتَ لا تريد أن أشعر بأني مُذنبة.

فيقول أرلوف: وهل هناك مَن يُحمِّلك ذنبًا؟

ويستلقي في الفوتيل في غرفة المكتب وعليه سيماء الضحيَّة، ويتناول كتابًا، حاجبًا عينيه بيده. ولكن سرعان ما يسقط الكتاب من يده، فيتقلَّب في الفوتيل بتثاقل، ويحجب عينيه ثانيةً كأنما يتقِّي الشمس. الآن أصبح يشعر بالأسى لأنه لم يذهب.

وتقول زينائيدا فيودوروفنا وهي تدخل المكتب بتردُّد: ممكن أدخل؟ أنت تقرأ؟ أمَّا أنا فاشتقتُ إليك وجئتُ لدقيقة واحدة … لألقي نظرة.

وأذكر أنها دخلت عليه ذات مساءٍ بمثل هذا التردُّد، وبغير مناسبة استقرَّت على البساط عند قدمَي أرلوف، وكان واضحًا من حركاتها الوَجِلة الناعمة أنها لم تكُن تفهم مزاجه وتخشاه.

وبدأت تقول بصوت مُتسلِّل وهي ترغب فيما يبدو في مداهنته: ما زلتَ تقرأ؟ أتدري يا جورج ما هو السرُّ الآخر لنجاحك؟ أنك مثقفٌ جدًّا وذكي. ما هذا الكتاب الذي تقرؤه؟

وأجابها أرلوف، ومرَّت بضع دقائق في صمت، فبَدَت لي طويلةً للغاية. كنت واقفًا في غرفة الجلوس أرقبهما من هناك وأنا أخشى أن يداهمني السعال.

وقالت زينائيدا فيودوروفنا بصوت خافت ثم ضحكت: كنتُ أودُّ أن أقول لك شيئًا ما … هل أقول؟ أظنُّ أنكَ ستضحك مني وتُسمي ذلك هدهدةً للنفس، ولكن أتدري أنني أريد، وأريد بشدة، أن أعتقد أنك بقيتَ اليوم في البيت من أجلي لكي نقضي هذا المساء معًا. نعم؟ هل يمكن أن أعتقد ذلك؟

– اعتقدي (قال أرلوف حاجبًا عينيه) الشخص السعيد حقًّا هو مَن يعتقد، ليس فقط بما هو موجود، بل حتى بما ليس له وجود.

– لقد قُلتَ شيئًا طويلًا، فلم أفهم جيدًا. هل معنى ذلك أنك تريد أن تقول بأن السعداء يعيشون بالخيال؟ نعم، هذا صحيح. أنا أحبُّ الجلوس في مكتبك مساءً والانطلاق بأفكاري بعيدًا بعيدًا … أشعر بالراحة أحيانًا إذ أحلم. هيَّا يا جورج نحلم بصوت مسموع!

– أنا لم أذهب إلى الجامعة ولم أدرس هذا العلم.

فسألت زينائيدا فيودوروفنا وهي تتناول يده: أنتَ مُعتلُّ المزاج؟ قُل لي، ما السبب؟ عندما تكون في هذه الحالة أشعر بالخوف. ولا أفهم هل يرهقك الصداع أم إنك غاضبٌ مني.

ومرَّت عِدَّة دقائق طويلة أخرى في صمت.

لماذا تغيَّرت؟ قالت بصوت خافت. لماذا لم تعد رقيقًا ومرحًا كما كنتَ في زنامينسكايا؟ لقد عشتُ عندك شهرًا تقريبًا، لكنْ يُخيَّل إليَّ أننا لم نبدأ حياتنا معًا ولم نتحدث بعدُ عن أيِّ شيء كما يجب. في كل مرة تجيبني بمزحات أو بإجابات طويلة باردة كمُعلِّم. وفي مزحاتك يلوح شيءٌ بارد … لماذا كففتَ عن التحدث معي بجدية؟

– أنا دائمًا أتحدث بجدية.

– إذَن هيَّا نتحدث. أستحلفك بالله يا جورج … هيَّا؟

– هيَّا … ولكنْ عمَّ؟

– سوف نتحدث عن حياتنا، عن المستقبل (قالت زينائيدا فيودوروفنا حالمة) إنني أظلُّ أرسم وأرسم خُططًا للحياة، وكم أشعر بالراحة! جورج، سأبدأ بسؤال: متى ستترك الخدمة؟

فسألها أرلوف وهو يرفع يده عن جبينه: وما ضرورة ذلك؟

– بمثل آرائك يستحيل أن تخدم. أنتَ هناك لستَ في مكانك.

فسأل أرلوف: آرائي! آرائي! أنا حسب معتقداتي وطبيعتي موظف عادي، بطل من أبطال شيدرين. أؤكد لكِ أنكِ تظنينني شخصًا آخر.

– عُدتَ للمزاح يا جورج!

– على الإطلاق. ربما لا ترضيني الخدمة، ومع ذلك فهي بالنسبة لي أفضل من أيِّ شيء آخر. فهناك أَلِفتُ الجو، والناس هناك مثلي، على أيِّ حال أنا هناك لستُ زائدًا عن الحاجة، وأشعر بنفسي لا بأس.

– إنكَ تمقت الخدمة، تشمئز منها.

– حقًّا؟ لو أنني استقلت، وأخذتُ أحلم بصوت مسموع، وأنطلق بأفكاري إلى عالم آخر، فهل تظنين أن هذا العالم سيكون عندي أقلَّ بُغضًا من الخدمة؟

– لكي تعارضني فإنكَ مستعدٌّ حتى للافتراء على نفسك (قالت زينائيدا فيودوروفنا بغضب ونهضت) إنني آسفة إذ بدأتُ هذا الحديث.

– لماذا تغضبين؟ إنني مثلًا لا أغضب من أنكِ لا تخدمين. كلٌّ يعيش كما يحلو له.

– وهل أنتَ تعيش كما يحلو لك؟ هل أنتَ حُر؟ ومضَت زينائيدا فيودوروفنا تقول مُلوِّحةً بيديها في يأس: أن تكتب طول العمر أوراقًا مُنافيةً لمعتقداتك، أن تخضع، وتهنئ الرؤساء بالعام الجديد، ثم هذا اللعب الذي لا ينتهي بالورق، والأهمُّ من ذلك أن تخدم نُظمًا لا يمكن أن تكون قريبةً إلى نفسك … كلَّا يا جورج، كلَّا! لا تمزح بهذه الفظاظة. هذا فظيع. أنتَ رجل عقيدة، وعليك أن تخدم عقيدتك فقط.

فتنهَّد أرلوف قائلًا: حقًّا، إنكِ تظنينني شخصًا آخر.

فدمدَمَت زينائيدا فيودوروفنا من خلال الدموع: قُل ببساطة إنكَ لا تريد أن تتحدث معي. أنتَ لا تطيقني، هذا هو الأمر.

فقال أرلوف بلهجة نصح وهو يتململ في الفوتيل: اسمعي يا عزيزتي، أنتِ تفضَّلتِ بالقول بأنني رجل ذكي مُثقف، وتعليم المتعلم لا يؤدِّي إلا إلى إفساده. إن جميع المعتقدات، الصغيرة منها والكبيرة، والتي أشرتِ إليها عندما سمَّيتِني رجل عقيدة، معروفةٌ جيدًا لي. وبالتالي فإذا كنتُ أفضِّل الخدمة ولعب الورق على هذه العقائد، ففي الغالب لديَّ أساسٌ لذلك. هذا أولًا. وثانيًا، فأنتِ بقدْر علمي، لم تخدمي أبدًا، ومعلوماتك عن الخدمة في الدولة تستطيعين استقاءها من النِّكات والروايات السيئة فقط. ولهذا فلا بأس أن نتفق اتفاقًا لا رجعة فيه؛ ألَّا نتحدث عمَّا نعرفه منذ زمن بعيد، أو عمَّا يتجاوز نطاق أهليَّتنا.

لماذا تتحدث معي هكذا؟ (قالت زينائيدا فيودوروفنا وهي تتراجع إلى الوراء كأنما فزع) لماذا؟ جورج، أفِق أرجوك!

تهدَّج صوتُها وتحشرج، ويبدو أنها كانت تحاول كبت دموعها، ولكنها انتحبَت فجأة: جورج، يا عزيزي، إنني أهلك! (قالت بالفرنسية وهي تتهاوى بسرعة أمام أرلوف، ووضعَت رأسها على رُكبتَيه) إنني مُعذَّبة، مُنهَكة، أنا لا أستطيع أن أتحمَّل بعد، لا أستطيع … في طفولتي كانت زوجة أبي البغيضة المُنحلَّة، ثم زوجي، والآن أنتَ … أنتَ … أنتَ تردُّ على حبي المجنون بالسخرية والبرود … وهذه الخادمة الفظيعة الوقحة! (استطردَت وهي تنتحب) نعم، نعم إنني أرى. أنا لستُ زوجةً لك، لستُ صديقًا، بل امرأة لا تحترمها لأنها أصبحَت عشيقتك … سأقتل نفسي!

لم أكُن أتوقَّع أن يكون لهذه الكلمات وهذا البكاء مثل هذا التأثير القوي على أرلوف، فقد تضرَّج وأخذ يتململ بقلقٍ في الفوتيل، وبدلًا من السخرية ظهر على وجهه خوف صبياني بليد.

ودمدم بارتباكٍ وهو يلمس كتفَيها وشعرها: يا عزيزتي، أنتِ لم تفهميني، أقسم لكِ. سامحيني. أتوسَّل إليكِ. أنا لم أكُن على حقٍّ و… أمقت نفسي.

– إنني أهينك بشكوايَ وأنيني … أنتَ إنسان شريف، نبيل، نادر، وأنا أدرك هذا في كل لحظة، ولكن الكآبة عذَّبَتني طوال هذه الأيام.

وعانقَت زينائيدا فيودوروفنا أرلوف بتوتر، وقبَّلَته على خدِّه.

ودمدم أرلوف: فقط لا تبكي، أرجوكِ.

– كلَّا، كلَّا … لقد شبعتُ بكاءً، وأشعر بالراحة.

– بخصوص الخادمة، فمن الغد لن تكون هنا (قال وهو لا يزال يتململ في مقعده بقلق).

– كلَّا، بل يجب أن تبقى يا جورج! أتسمعني؟ أنا لم أعد أخشاها … ينبغي أن أكون أرفع من هذه التفاهات وألَّا أفكر بالحماقات. أنتَ على حق! أنتَ إنسان نادر … رائع!

وسرعان ما كفَّت عن البكاء وجلسَت على رُكبتَي أرلوف، والدموع لم تجف بعدُ على رموشها، وأخذَت تروي له شيئًا مؤثرًا، أشبه بذكريات الطفولة والصِّبَا، وتمسح براحتها على وجهه، وتُقبِّل يديه وتتفحَّصهما بعنايةٍ بأصابعهما ذات الخواتم، وكذلك المدلاة ذات السلسلة. وجذبَتها روايتها وقُربها من شخص حبيب، وربما لأن الدموع الأخيرة قد طهَّرَت روحها وأنعشَتها فقد رنَّ صوتُها بصفاء وصدق غير عاديَّين. أمَّا أرلوف فكان يلعب بشعرها الكستنائي ويلثم يديها بشفتَيه دون صوت.

وبعد ذلك شربَا الشاي في غرفة المكتب، وقرأت زينائيدا فيودوروفنا رسائلَ ما بصوت مسموع. وفي بداية الساعة الواحدة ذهبَا إلى غرفة النوم.

في تلك الليلة انتابني ألمٌ شديدٌ في جنبي، فلم أنَم ولم أشعر بالدفء حتى الصباح. وسمعتُ أرلوف يخرج من غرفة النوم ويذهب إلى مكتب. وإذ جلس هناك حوالي ساعة دقَّ الجرس. ومن الألم والإرهاق نسيتُ ما يقتضيه النظام والأصول في المجتمع الراقي، فذهبت إلى المكتب حافيَ القدمين وفي ملابسي الداخلية فقط. وكان أرلوف يقف في الباب وينتظرني في الروب والطاقية.

وقال بصرامة: عندما يستدعونك ينبغي أن تأتيَ بملابسك. هاتِ شموعًا أخرى.

وأردتُ أن أعتذر، ولكن نوبة سعال قوية داهمَتني، فتعلَّقتُ بعارض الباب بإحدى يديَّ حتى لا أسقط.

فسألني أرلوف: هل مرضتُم؟

يبدو أنها المرة الأولى طوال فترة تعارفنا التي يخاطبني فيها بصيغة الجمع، والله يعلم ما السبب، ربما لأنني بملابسي الداخلية، وبوجهي الذي شوَّهه السعال، كنت لا أجيد تمثيل دَوري، ولا أشبه الخادم كثيرًا.

وقال أرلوف: إذا كنتُم مَرضَى، فلماذا تخدمون؟

فأجبتُه: لكيلا أموت جوعًا.

فدمدم بصوت خافت متجهًا إلى مكتبه: ما أقذر هذا في الواقع!

وإلى أن ألقيتُ على كتفيَّ السُّترة، ووضعتُ الشموع الجديدة وأشعلتُها، ظلَّ هو جالسًا بجوار المكتب، مُمددًا ساقيه على المقعد وهو يفضُّ صفحات كتاب.

وتركته وهو مُنهمك في القراءة، ولم يسقط الكتاب من يده كما حدث مساءً.

٧

الآن، وأنا أدون هذه السطور، يمنع يدي خوف ربي فيَّ منذ الطفولة من أن أبدوَ حساسًا ومُضحكًا. فعندما أريد أن ألاطف وأقول كلماتٍ رقيقة، لا أدري كيف أفعل ذلك بإخلاص. وبسبب هذا الخوف بالذات، ولعدم تعوُّدي، فإنني لا أستطيع أبدًا أن أعبِّر بكل وضوح عمَّا جاش آنذاك في نفسي.

لم أكُن مُتيَّمًا بحُبِّ زينائيدا فيودوروفنا، ولكن الشعور الإنساني العادي الذي كنتُ أكنُّه لها كان يحمل من الصِّبَا والطزاجة والفرحة أكثر بكثير ممَّا يحمل حبُّ أرلوف.

عندما كنت أعمل صباحًا بفرشة الأحذية أو بالمكنسة، كنت أنتظر بقلب واجف متى أسمع أخيرًا صوتها وخطواتها، أن أقف وأتطلَّع إليها وهي تشرب القهوة، ثم وهي تفطر، أن أقدِّم لها معطف الفِراء في المدخل، وأضع الخفَّ في قدمَيها الصغيرتَين، بينما تعتمد بيدها على كتفي، وأن أنتظر بعد ذلك جرس الحاجب مُعلنًا عودتها، فألقاها عند الباب، مُتورِّدة، باردة، مرشوشة بالثلج، وأن أسمع هتافاتها اللاهثة عن الصقيع والحوذي … آه لو تعلمون كم كان ذلك كله مهمًّا بالنسبة لي! كنتُ أودُّ أن أعشق، وأن تكون لي أُسرة، وأن يكون لزوجتي مثل هذا الوجه بالضبط ومثل هذا الصوت. كنتُ أحلم أثناء الغداء، وفي الشارع عندما يرسلونني إلى مكانٍ ما، وفي الليل عندما أكون مستيقظًا. كان أرلوف يُنحِّي عنه باشمئزاز الملابس النسائية والأطفال والمطبخ، والقدور النحاسية، أمَّا أنا فكنتُ ألتقط كل ذلك وأرعاه بحرص في أحلامي، وأحبُّ، وأتوسل إلى القَدَر، وأرى في الخيال الزوجة، وغرفة الأطفال، والممرات في الحديقة، والمنزل الصغير …

كنتُ أدرك أنني لو أحببتُها فلن أجرؤَ على الأمل بمعجزة أن تبادلني الحب، ولكن هذا الاعتبار لم يزعجني، فلم يكُن في شعوري الهادئ المتواضع، الذي يشبه تعلقًا عاديًّا، غَيرة تجاه أرلوف، ولا حتى حسد، لأني كنتُ أدرك أن السعادة الشخصية لعاجز مثلي، مستحيلةٌ إلا في الأحلام.

وعندما كانت زينائيدا فيودوروفنا تنتظر في الليالي جورجها، وهي تُحدِّق بجمود في الكتاب دون أن تقلب صفحاته، أو عندما كانت تنتفض وتشحب لأن بوليا مرَّت عبر الغرفة، كنت أتعذب معها، وتراودني الرغبة في أن أشقَّ بسرعة هذا الدمل المؤلم، أن أفعل بسرعة شيئًا يجعلها تعرف كل ما يُقال هنا أثناء العشاء في أيام الخميس، ولكن كيف أفعل ذلك؟ لقد أصبحتُ أرى دموعها أكثر فأكثر. في الأسابيع الأولى كانت تضحك وتشدو بأغنيتها، حتى عندما لا يكون أرلوف في المنزل، أمَّا في الشهر الثاني فقد خيَّم على الشقة صمتٌ كئيب، لا يتبدَّد إلا في أيام الخميس.

كانت تتملق أرلوف، ولكي تحصل منه على ابتسامة غير صادقة أو قبلة، تجثو أمامه على رُكبتَيها وتلاطفه وتتمسح به ككلبٍ صغير. وعندما كانت تمرُّ بجوار مرآة، حتى وهي تشعر بانقباض شديد، لم تكُن تستطيع أن تمسك نفسها عن النظر فيها وتسوية شعرها. وبدَا لي غريبًا أنها ما زالت تهتمُّ بالأزياء ويستولي عليها الإعجابُ من مُشترَياتها، فلم يكُن ذلك يتفق وحزنها الصادق. كانت تتابع الموضة وتُفصِّل فساتين غالية، فمن أجل مَن، ولأيِّ داعٍ؟ أذكر بصفة خاصة فستانًا جديدًا كان ثمنه أربعمائة روبل. أن تدفع مقابل فستان زائد، لا حاجة إليه، أربعمائة روبل، في الوقت الذي تحصل فيه عاملات اليومية عندنا على عشرين كوبيكًا في اليوم مقابل عملهن الشاق، وفي الوقت الذي تحصل فيه حائكات الدانتلا في البندقية وبروكسل على نصف فرنك فقط في اليوم، اعتمادًا على أن الباقي سيحصلن عليه بالدعارة … كان غريبًا بالنسبة لي ومؤسفًا أن زينائيدا فيودوروفنا لا تدرك ذلك. ولكنْ ما إن تغادر البيت حتى أغفر لها كل شيء، وأبرِّر كل شيء، وأنتظر دقَّ الحاجب للجرس.

كانت تعاملني كخادم، كمخلوق من درجة أدنى، فمن الممكن أن تربت على كلب، وفي الوقت نفسه لا تلاحظه. كانوا يأمرونني، ويوجهون إليَّ الأسئلة، ولكنهم لم يلاحظوا وجودي. وكان السادة يعتبرون من غير اللائق أن يتحدثوا معي أكثر من المعهود، لو أني أثناء قيامي بالخدمة على الغداء تدخَّلتُ في الحديث أو ضحكتُ لاعتبروني في الغالب مجنونًا وسرَّحوني. ومع ذلك كانت زينائيدا فيودوروفنا تعطف عليَّ، فعندما كانت ترسلني إلى مكانٍ ما، أو تشرح لي كيف أستعمل المصباح الجديد أو شيئًا من هذا القبيل، كان وجهها يبدو صافيًا بصورة غير عادية، وطيِّبًا وبشوشًا، أمَّا عيناها فتنظران في وجهي مباشرةً. وعلاوةً على ذلك كان يُخيَّل إليَّ في كل مرة أنها تتذكر بعِرفان كيف كنتُ أنقل إليها الرسائل في زنامينسكايا. وعندما كانت تقرع الجرس فإن بوليا التي كانت تعتبرني الأثير لديها وتمقتني لذلك، تقول بتهكُّم لاذع: اذهب، صاحبتُك تدعوك.

كانت زينائيدا فيودوروفنا تعاملني كمخلوق أدنى دون أن تخمِّن أنه لو كان ثمة في المنزل شخصٌ مُهانٌ فإنها هي وحدها ذلك الشخص. لم تكُن تعلم أنني، الخادم، أعاني من أجلها، وأسأل نفسي في اليوم عشرين مرةً عمَّا ينتظرها في المستقبل وكيف ستكون نهاية ذلك كله. كانت الأمور تسير بوضوح من سيئ إلى أسوأ يومًا بعد يوم، فبعد ذلك المساء الذي تحدثَا فيه عن الخدمة أصبح أرلوف، الذي كان يخشى الدموع، يخاف الأحاديث فيما يبدو ويتحاشاها، وعندما تشرع زينائيدا فيودوروفنا في النقاش أو التوسُّل، أو تَهُمُّ بالبكاء، كان ينصرف متذرِّعًا بحُجَّة لائقة إلى مكتبه، أو حتى يغادر البيت. وأصبح يُكثر من المبيت خارج المنزل، وتكرَّر أكثر تخلُّفه عن الغداء. وفي أيام الخميس كان هو الذي يطلب من أصحابه أن يأخذوه معهم إلى أيِّ مكان، أمَّا زينائيدا فيودوروفنا فظلَّت كما في السابق تحلم بمطبخها، وبالشقة الجديدة، وبالسفر إلى الخارج، بَيْدَ أن أحلامها بقيَت أحلامًا. فقد كانوا يُحضرون الغداء من المطعم، وطلب أرلوف ألَّا تُثار قضية الشقة إلى حين عودتهما من الخارج، أمَّا عن السفر فكان يقول إنه لا يمكن أن يسافر إلى أن يصبح شعره طويلًا، لأنه لا يجوز التردُّد على الفنادق وخدمة العقيدة بدون شعر طويل.

وفوق ذلك كله أصبح كوكوشكين يتردَّد علينا في أوقات المساء في غياب أرلوف. لم يكُن في سلوكه أيُّ شيء خاص، إلا أنني لم أستطع أبدًا أن أنسى ذلك الحديث الذي قال فيه إنه ينوي انتزاع زينائيدا فيودوروفنا من أرلوف. كنَّا نُضيِّفه شايًا ونبيذًا أحمر، أمَّا هو فكان يهأهئ، ورغبةً منه في التفوُّه بأشياء لطيفة، كان يؤكد أن الزواج المدني من جميع الوجوه أسمى من الزواج الكنسي، وأن جميع الناس القويمين ينبغي في واقع الأمر أن يأتوا الآن إلى زينائيدا فيودوروفنا ويركعوا أمامها احترامًا.

٨

مرَّت أعياد الميلاد بملل، في توقُّع غامض لحدوث شيءٍ ما شرير. وعشية رأس السنة، أعلن أرلوف فجأة، أثناء تناول قهوة الصباح، أن رؤساءه يرسلونه بصلاحيات خاصة إلى عضو مجلس الشيوخ الذي يقوم بالتفتيش على إحدى المحافظات.

وقال بأسًى: لا أرغب في السفر، ولكني لا أجد ذريعةً للتخلف. ينبغي أن أسافر، ما باليد حيلة.

ولدى سماع هذا النبأ احمرَّت عينَا زينائيدا فيودوروفنا على الفور. وسألت: ستغيب طويلًا؟

– حوالي خمسة أيام.

فقالت بعد تفكير قصير: في الحقيقة أنا سعيدة بسفرك. ستُسرِّي عن نفسك، وربما أحببتَ امرأةً ما في الطريق، وعندئذٍ ستحكي لنا.

كانت تحاول في كل فرصة مناسبة أن تُوحيَ إلى أرلوف بأنها لا تحدُّ أبدًا من حريته، وأنه يستطيع أن يتصرف كما يحلو له، لكن هذه السياسة الساذجة لم تكُن تخدع أحدًا، بل كانت تذكر أرلوف مرةً أخرى بأنه ليس حُرًّا.

سأسافر مساء اليوم (قال أرلوف وأخذ يقرأ الجريدة).

وعزمَت زينائيدا فيودوروفنا على توديعه إلى المحطة، ولكنه أقنعها بالعدول قائلًا إنه ليس مسافرًا إلى أمريكا ولن يغيب خمس سنوات، بل مجرَّد خمسة أيام، وحتى أقل.

وفي الساعة الثامنة جرى الوداع؛ عانقها بذراع واحدة وقبَّلها في جبينها ثم في شفتيها.

وقال بلهجة رقيقة قلبية أثرت في أيضًا: كوني عاقلة، ولا تسأمي في غيابي، فيرعَكِ الخالق.

وتفرَّسَت في وجهه بنهم لكي تطبع ملامحه الحبيبة في ذاكرتها بقوة، ثم طوَّقَت عنقه بيديها في رشاقة، ووضعت رأسها على صدره.

وقالت بالفرنسية: اغفر لي سوء تفاهمنا. الزوج والزوجة لا يمكنهما إلا أن يتشاجرَا إذا كانَا يُحبَّان بعضهما البعض، وأنا أحبُّك بجنون. لا تنسَني … أبرق لي كثيرًا وبالتفصيل.

وقبَّلها أرلوف مرةً أخرى، وخرج مرتبكًا دون أن يقول كلمة. وعندما صرَّ قُفل الباب خلفه توقف متردِّدًا في منتصف السُّلَّم وتطلَّع إلى أعلى. وخُيِّل إليَّ أنه لو أن صوتًا واحدًا تردَّد من أعلى لعاد، ولكن الصمت كان مخيِّمًا، فسوَّى معطفه ومضى يهبط بتردُّد.

كان الحوذية ينتظرونه أمام الباب منذ وقت طويل، فجلس أرلوف في عربة، وجلستُ أنا ومعي حقيبتان في العربة الأخرى. كان الصقيع قارسًا، وتصاعد دخان نيران التدفئة عند مفترقات الطرق، ومن سرعة السير لسع الهواءُ الباردُ وجهي ويدي، واحتبَسَت أنفاسي، فأغمضتُ عيني وفكرت؛ يا لها من امرأة رائعة! كم تُحبُّه! حتى الأشياء التافهة يجمعونها الآن من الأهالي ويبيعونها لأغراض خيرية، وحتى الزجاج المكسور يُعَدُّ سلعةً طيِّبة، ولكن هذا الشيء النفيس، النادر، كحُبِّ هذه المرأة الرشيقة الشابَّة الذكية القويمة، يضيع هدرًا تمامًا. كان أحد علماء السوسيولوجيا القُدامى ينظر إلى كل عاطفة سيئة كقوة يمكن توجيهُها، إذا توفَّرَت المقدرة، إلى فعل الخير، أمَّا عندنا فحتى العاطفة النبيلة الجميلة تُولَد ثم تذبل، كالعجز، دون أن تُوجَّه إلى شيء ودون أن تُفهَم، أو أنها تُبتذَل، فما السبب؟

توقَّفَت العربتان فجأة، ففتحتُ عينيَّ ورأيتُ أننا نقف في شارع سرجييفسكايا، بجوار بيتٍ كبيرٍ كان يقطنه بيكارسكي. ونزل أرلوف من العربة واختفى في المدخل. وبعد حوالي خمس دقائق ظهر خادم بيكارسكي بدون قُبَّعة، وصرخ يناديني غاضبًا من الصقيع: هل أنتَ أطرش؟ اصرف الحوذية واصعد، إنهم ينادونك!

صعدتُ إلى الطابق الثاني وأنا لا أفهم شيئًا، كنتُ قبلًا في شقة بيكارسكي، أعني أنني وقفتُ في المدخل مُتطلعًا إلى الصالة، فكانت في كل مرة، وخاصةً بعد عتمة الشارع الرطبة، تبهرني ببريقٍ أطَّر لوحاتها، وبرونزها وأثاثها الغالي. والآن رأيتُ وسط هذا البريق جروزين وكوكوشكين، وبعده بقليل رأيتُ أرلوف.

اقترب مني وقال: اسمع يا ستيبان، سأبقى حتى الجمعة أو السبت، إذا وصلَت رسائل أو برقيات أحضِرها إلى هنا، قُل لهم في البيت، بالطبع، إنني سافرتُ وأبعث بتحياتي. اذهب الآن.

عندما عدتُ إلى المنزل كانت زينائيدا فيدوروفنا مُستلقيةً على الكنبة في غرفة الجلوس وهي تقضم كمثرى، ولم تشتعل سوى شمعة واحدة مُثبَّتة في الشمعدان.

وسألتني زينائيدا فيودوروفنا: ألم تتأخروا عن القطار؟

– كلَّا يا سيدتي. أُمِرتُ أن أُبلغكِ التحيات.

ذهبتُ إلى غرفتي واستلقيتُ أيضًا. لم يكُن لدي ما أعمله، ولم أرغب في القراءة، لم تتملَّكني الدهشة أو السخط، بل كنتُ أُجهد فكري لكي أفهم الداعي إلى هذا الخداع، فالمراهقون وحدهم هم الذين يخدعون عشيقاتهم بهذه الصورة. أمن المعقول أنه، وهو الشخص الواسع الاطلاع والتفكير، لم يستطع أن يبتكر شيئًا أذكى من ذلك؟ في الحقيقة كنتُ أُقدِّر ذكاءه. وأعتقد أنه لو أراد أن يخدع وزيره أو أيَّ شخص كبير آخر، لأنفق في ذلك الكثير من الجهد والمهارة، أمَّا هنا، ولكي يخدع امرأة، فيكفي، على ما يبدو، أول شيء يطرأ على ذهنه، فإذا نجحَت الخدعة فحسنًا، وإذا لم تنجح فلن يخسر كثيرًا، وسيكون بإمكانه أن يكذب مرةً ثانيةً بنفس البساطة والسرعة دون أن يجهد عقله.

في منتصف الليل عندما حركوا المقاعد وصاحوا «هورا» وهم يحتفلون بالعام الجديد في الطابق الأعلى فوقنا، دقَّت زينائيدا فيودوروفنا الجرس واستدعَتني إلى غرفتها المجاورة للمكتب. كانت جالسةً إلى الطاولة تكتب شيئًا ما على قِطعَة ورق، وكانت تبدو ذابلةً من كثرة الرُّقاد.

ينبغي إرسالُ برقية (قالت لي ثم ابتسمَت) اذهب بسرعة إلى المحطة واطلب منهم أن يرسلوها في أثره.

وعندما خرجتُ إلى الشارع قرأتُ على قِطعَة الورق:

«عامًا جديدًا، عامًا سعيدًا، أبرِق بسرعة، مشتاقة جدًّا. مرَّ دهرٌ كامل، يؤسفني أنني لا أستطيع أن أرسل بالبرق ألف قُبلة وقلبي ذاته. كُن مرِحًا يا سعادتي.»

زينا

أرسلتُ هذه البرقية، وفي صباح اليوم التالي سلَّمتُها الإيصال.

٩

أسوأ شيء أن أرلوف أطلَعَ بوليا، دون تدبُّر، سرَّ خداعه إذ أمرها أن تبعث بقمصانه إلى شارع سرجييفسكايا. وبعدها أخذَت تنظر إلى زينائيدا فيودوروفنا بتشفٍّ وكراهيةٍ غير مفهومة لي، ولم تكُفَّ عن إطلاق ضحكات متعة مكتومة في غرفتها أو في المدخل.

كانت تُردِّد بإعجاب: عاشت ما يكفي، فلتعرف الحدود! عليها أن تفهم من نفسها.

لقد أدركَت بحاسَّتها أنه لم يَبقَ أمام زينائيدا فيودوروفنا إلا أيام معدودة في هذا المنزل، ولكيلا تفلت الفرصة أخذَت تسرق كل ما تقع عليه عيناها؛ قوارير العطور، وبنس الشعر العاجية، والمناديل، والأحذية. وفي اليوم التالي لرأس السنة دعَتني زينائيدا فيودوروفنا إلى غرفتها وأخبرَتني همسًا أن فستانها الأسود فُقد، وبعد ذلك أخذَت تطوف بالغرفة شاحبةً، بوجه مذعور غاضب، وهي تُحدِّث نفسها: هكذا إذَن، هكذا! هذه وقاحة لا مثيل لها!

وأثناء الغداء أرادت أن تغرف لنفسها حساءً فلم تستطع، إذ كانت يداها ترتعشان، وارتعشَت شفتاها أيضًا، وأخذَت تتطلع إلى الحساء والشطائر بعجز في انتظار أن تهدأ الرعشة، وفجأةً لم تتمالك نفسها ونظرَت إلى بوليا.

وقالت لها: تستطيعين يا بوليا الانصراف. يكفي ستيبان فقط.

فأجابتها بوليا: لا بأس، سأبقى هنا.

– لا داعي لبقائك. انصرفي من هنا نهائيًّا … نهائيًّا! (واستطردَت زينائيدا فيودوروفنا وهي تنهض في انفعال شديد): يمكنك أن تبحثي عن مكانٍ آخر. انصرفي حالًا!

– لا أستطيع أن أنصرف بدون أمر السيد، هو الذي استأجرني. سأفعل ما يأمر به.

فقالت زينائيدا فيودوروفنا وهي تتضرج تمامًا: أنا أيضًا آمُرك! أنا هنا السيدة!

– ربما كنتِ السيدة، ولكنْ لا يستطيع أن يصرفني سوى السيد، فهو الذي استأجرني.

فصاحت زينائيدا فيودوروفنا وضربَت الطبق بالسكين: إياكِ أن تَبقي هنا دقيقةً واحدة! إنكِ لِصَّة! هل تسمعين؟

وألقَت زينائيدا فيودوروفنا بالمنشفة على المائدة وخرجت من غرفة الطعام بسرعة، بوجه بائس مُعذَّب، وخرجت بوليا أيضًا وهي تنتحب بصوتٍ عالٍ وتُدمدِم بكلماتٍ ما، وبرد الحساء والديك البري. ولسببٍ ما بدَت لي مأكولات المطعم، هذه الفاخرة، الموضوعة على المائدة، بدَت لي الآن شحيحة، لصوصية، مثل بوليا نفسها، وبدَت الشطيرتان الموضوعتان على الطبق أكثر شيء بؤسًا وإجرامية، وكأنما كانتَا تتحدثان: «اليوم سيعودون بنا إلى المطعم، وغدًا يُقدِّموننا ثانيةً للغداء لمُوظفٍ ما أو مُغنيةٍ مشهورة.»

وتناهى إلى سمعي من غرفة بوليا: تزعم نفسها سيدةً مُهمَّة! لو أردتُ لأصبحتُ سيدةً كهذه، ولكني لم أفقد الحياء! فلننتظر مَن منَّا التي ستذهب أولًا، نعم!

ودقَّت زينائيدا فيودوروفنا الجرس. كانت جالسةً في غرفتها، في الزاوية، وعلى وجهها تعبيرٌ وكأنما وضعوها في الزاوية عقابًا لها.

وسألتني: لم تأتِ برقيات؟

– كلَّا يا سيدتي.

– اسأل الحاجب، فربما تكون قد وصلَت برقية (ثم قالت في أثري): لا تغادر المنزل، أخاف البقاء وحدي.

وبعد ذلك كان عليَّ أن أهبط كل ساعة إلى الحاجب لأسأله هل وصلَت برقية. كم كان ذلك وقتًا رهيبًا في الواقع! فلكي تتجنَّب زينائيدا فيودوروفنا رؤية بوليا كانت تأكل غداءها وتتناول الشاي في غرفتها، وهناك أيضًا كانت تنام على كنبة قصيرة تشبه القوس وتُسوِّي الفراش بنفسها. وفي الأيام الأولى كنتُ أنا الذي أرسل البرقيات، ولكنها عندما لم تتلقَّ ردًّا، لم تعد تثق فيَّ، وأخذَت تذهب بنفسها إلى مكتب البرق، وأصبحتُ أنا أيضًا مثلها أنتظر برقيةً على أحرِّ من الجمر، كنت آمُل أن يُدبِّر أيَّ كذبة، كأنْ يأمر بأن يرسلوا إليها برقيةً من محطةٍ ما، وقلتُ لنفسي: لو أنه انهمك بشدة في لعب الورق، أو فتنَته امرأة أخرى، فسوف يُذكِّره بنا بالطبع جروزين وكوكوشكين، لكنْ عبثًا كنَّا ننتظر. كنتُ أدخل إلى زينائيدا فيودوروفنا عِدَّة مراتٍ في اليوم لكي أرويَ لها الحقيقة كلها، لكنها كانت تبدو كالعنزة؛ كتفاها مُهدلتان وشفتاها ترتعشان، فأعود أدراجي دون أن أتفوَّه بكلمة. لقد سلبَتني الشفقةُ والحسرةُ كل شجاعتي، أمَّا بوليا فكانت كأنما لم يحدث شيء، مَرِحةً وراضية، تُنظف مكتب السيد وغرفة النوم، وتُنقِّب في الخزانات وتُقرقع بالآنية، وعندما تمرُّ من أمام الباب زينائيدا فيودوروفنا تُدندِن بشيءٍ ما وتسعل، كان يعجبها أن السيدة تختبئ منها، وفي المساء كانت تذهب إلى مكانٍ ما، وتعود في الثانية أو الثالثة صباحًا فتدقُّ الجرس، فكان عليَّ أن أفتح لها وأصغيَ لتوبيخها بخصوص سعالي. وفي نفس اللحظة يتردَّد جرسٌ آخر، فأركض إلى الغرفة المجاورة للمكتب فتسألني زينائيدا فيودوروفنا مُطِلةً برأسها من الباب: «مَن الذي دقَّ الجرس؟» وتنظر إلى يدي عسى أن تكون فيهما برقية.

وأخيرًا عندما دقَّ الجرس في الأسفل يوم السبت، وتردَّد على الدَّرَج الصوتُ المألوف، فرِحَت إلى درجة أنها انخرطت في النحيب، وانطلقَت لمُلاقاته، فعانقَته، وقبَّلَت صدره وكُمَّيه، وهي تقول أشياءَ يصعُب فهمُها. وحمل الحاجبُ الحقائب، وتردَّد صوتُ بوليا المَرِح، كأنما عاد الطلاب في الإجازة!

وقالت زينائيدا فيودوروفنا وهي تلهث من الفرحة: لماذا لم تُبرِق؟ لماذا؟ كم تعذَّبت، أمضيتُ هذه الفترة بالكاد … أوه، يا إلهي!

المسألة في غاية البساطة؛ ذهبتُ مع عضو مجلس الشيوخ في اليوم الأول إلى موسكو، فلم أتلقَّ برقياتك (قال أرلوف)، بعد الغداء سأقدِّم لك يا روحي تقريرًا مُفصَّلًا، أمَّا الآن فإلى النوم، إلى النوم، إلى النوم … أرهقتني الرحلة.

كان واضحًا أنه لم ينَم طول الليل، يبدو أنه كان يلعب الورق وشرب كثيرًا. ووضعَته زينائيدا فيودوروفنا في الفِراش، وبعدها ظلِلْنا جميعًا نمشي على أطراف أصابعنا حتى المساء. ومضى الغداء بسلام، ولكنْ عندما انصرفَا إلى المكتب لتناول القهوة بدأت المُصارحة. تحدثَت زينائيدا فيودوروفنا بسرعةٍ عن شيءٍ ما، بصوتٍ خافت، وكانت تتكلم بالفرنسية، فتدفَّق حديثُها كخرير الجدول، ثم تناهت زفرة عالية لأرلوف وسمع صوته.

قال بالفرنسية: يا إلهي، أليس لديك أنباء جديدة غير هذه الأغنية عن الخادمة الشريرة؟

– ولكنها سرقَتني يا عزيزي، وخاطبَتني بعباراتٍ وقحة.

– فلماذا لا تسرقني أنا ولا تخاطبني بعباراتٍ وقحة؟ لماذا لا ألاحظ أنا أبدًا الخادمات والخدم والبوابين؟ أنتِ يا عزيزتي ببساطة تنساقين وراء نزواتك ولا تريدين أن تكون لك شخصية … بل إنني أظنُّك حُبلى. عندما عرضتُ عليكِ تسريحها طلبتِ أنتِ أن تبقى، والآن تريدين مني أن أطردها، لكني في هذه الأحوال عنيدٌ أيضًا، وأردُّ على النزق أيضًا بالنزق. أنتِ تريدينها أن تذهب، أمَّا أنا فأريدها أن تبقى، هذه هي الوسيلة الوحيدة لعلاجك من أعصابك.

طيب، خلاص، خلاص (قالت زينائيدا فيودوروفنا بذُعر) كفانا حديثًا عن ذلك … فلنؤجله إلى الغد. فلتحدثني عن موسكو … ماذا في موسكو؟

١٠

في اليوم التالي، وكان ذلك في السابع من يناير، عيد يوحنا المعمدان، ارتدى أرلوف بعد الإفطار الفراك الأسود والوسام ليذهب إلى أبيه مُهنئًا بعيد شفيعه. كان عليه أن يذهب في الساعة الثانية، وعندما انتهى من ارتداء ملابسه كانت الساعة الواحدة والنصف فقط. ففيم ينفق نصف الساعة هذا؟ أخذ يسير في غرفة الجلوس ويُلقي أشعار تهنئةٍ كان قد قرأها لأبيه وأمه في وقتٍ ما في طفولته. وكانت زينائيدا فيودوروفنا، وقد عزمَت على الذهاب إلى الخياطة أو إلى المتجر، تجلس هنا أيضًا وتصغي إليه بابتسامة. ولا أعرف كيف بدأ الحديث بينهما، ولكني عندما أحضرتُ القفاز لأرلوف، كان واقفًا قُبالة زينائيدا فيودوروفنا يقول لها بوجهٍ نزِقٍ ضارع: بحقِّ الله، بحقِّ كل المقدسات، لا تتحدثي عمَّا هو معروف لكل فرد! ما هذه الملكة التعيسة لدى سيداتنا الذكيات المُفكرات بأن يتحدثن بهيئة تفكير رصينة وحماس عمَّا ملَّه منذ زمن بعيد حتى التلاميذ. آه لو أنكِ تحذفين من برنامج حياتنا الزوجية كل هذه القضايا الجادة! كم أكون ممتنًّا لك!

– نحن النساء لا نجرؤ على أن تكون لنا آراؤنا.

– أنا أعطيكِ كامل الحرية، فلتكوني ليبرالية، ولتستشهدي بمَن تريدين من الكُتَّاب والمُفكرين، ولكن قدِّمي لي تنازلًا، لا تتحدثي أمامي عن شيئَين فقط؛ عن فساد المجتمع الراقي وعن مساوئ الزواج. آن لكِ أن تفهمي أخيرًا أنهم يلعنون المجتمع الراقي دائمًا لكي يضعوا في مقابله ذلك المجتمع الذي يعيش فيه التجار، والقساوسة، وصغار البرجوازيين، وشتَّى الفلاحين والخدم. كلا المُجتمعَين كريهٌ بالنسبة لي، ولكن لو خُيِّرتُ عن صدق بين هذا وذاك، لاخترتُ المجتمع الراقي دون تردُّد، ولمَا كان ذلك كذبًا مني أو مُراءاة؛ ذلك لأن كل ميولي وذوقي متفقة معه. إن مجتمعنا الراقي مبتذلٌ وخاوٍ، ولكننا في المقابل، على الأقل، نتحدث بالفرنسية بصورة لائقة، ونقرأ بعض الأشياء، ولا نتدافع بالأكتاف، حتى ولو تشاجرنا بعنف. أمَّا لدى أولئك الخدم وحضرات التجار فتجدين العبارات السوقية الفجَّة وأخلاق الحانات المطلقة العنان وعبادة الألقاب.

– الفلاح والتاجر يُطعِمانك.

– نعم، فماذا يترتب على ذلك؟ إن هذا لا يُسيء إليَّ فقط، بل إليهم كذلك. إنهم يُطعمونني وينزعون قُبَّعاتهم أمامي، إذَن فليس لديهم من الذكاء والشرف ما يكفي ليتصرفوا بشكلٍ آخر. أنا لا أذم ولا أمدح أحدًا، بل أريد فقط أن أقول: المجتمع الراقي والمجتمع الأسفل كلاهما سيَّان. أنا بقلبي وعقلي ضدُّهما معًا، لكن ميولي وذوقي متفقة مع الأول. واستطرد أرلوف وهو ينظر إلى ساعته: حسنًا، والآن فيما يخصُّ مساوئ الزواج فقد آن لكِ أن تفهمي أنه لا توجَد أيُّ مساوئ، بل توجَد فقط مطالب تجاه الزواج غير محدَّدة بعد. ما الذي تريدينه من الزواج؟ إن كل المعاشرات الشرعية وغير الشرعية، وجميع الروابط والمعاشرات، الحسنة والسيئة، ذات جوهر واحد. وأنتُنَّ النساء، تعشن من أجل هذا الجوهر وحده، وهو بالنسبة لكُنَّ يعني كل شيء، وبدونه لا يصبح لوجودكُنَّ معنًى في نظركن. لستُنَّ بحاجة إلى أيِّ شيء عدَا الجوهر، وأنتُنَّ تأخذنه. ولكن منذ أن حشوتُنَّ رءوسكُنَّ بالروايات، أصبحتُنَّ تخجلن من الأخذ، فرُحتُنَّ تتخبَّطن يمينًا ويسارًا، وتبدَّلن الرجال برعونة، ولكي تُبرِّرن هذا التشوش بدأتُنَّ تتحدثن عن مساوئ الزواج. وما دمتُنَّ لا تستطعن ولا تُرِدن استبعاد الجوهر، أكبر أعدائكُن، شيطانكنَّ هذا، وما دمتُنَّ تُواصِلن خدمته بخنوع، فما معنى الحديث الجدِّي هنا؟ كل ما ستقولينه لي سيكون هراءً وزيفًا. ولن أصدِّقك.

ذهبتُ إلى الحاجب لأعرف هل حضرَت العربة، وعندما عدتُ وجدتهما يتشاجران. وكما يقول البحارة: اشتدَّت الريح.

قالت زينائيدا فيودوروفنا وهي تذرع غرفة الجلوس بانفعال شديد: إنكَ تريد اليوم، كما أرى، أن تصعقني بصَفَاقتك. إنني أشعر بالقرف ممَّا تقوله. أنا طاهرة أمام الله والناس، ولم أفعل ما أندم عليه. لقد هجرتُ زوجي وجئتُ إليك، وأفخر بذلك. نعم أفخر، أقسم لك بشرفي!

– طيب، عظيم.

– لو كنتَ رجلًا شريفًا، مستقيمًا، فينبغي أيضًا أن تفخر بتصرُّفي، فهو يسمو بي وبك فوق آلاف الأشخاص الذين يودُّون لو سلكوا مَسلكي ولكنهم لا يجرءون بسبب الجبن أو الحسابات التافهة. ولكنكَ لستَ مُستقيمًا. إنك تخاف الحرية وتسخر من العاطفة الشريفة خشية أن تبدوَ شريفًا في نظر أحد هؤلاء الجهلة. إنكَ تخشى أن تُقدِّمني لمعارفك، وليس هناك عقاب أقسى لك من أن أكون إلى جانبك في عربة تسير في الشوارع … ماذا؟ أليس ذلك حقيقة؟ لماذا لم تقدِّمني حتى الآن لأبيك وابنة عمِّك؟ لماذا؟ (وصرخت زينائيدا فيودوروفنا ودقَّت بقدمها) كلا، لقد سئمتُ أخيرًا كل هذا! أنا أطالبك بما هو حقِّي. تفضَّل وقدِّمني إلى أبيك!

– إذا كنتِ بحاجة إليه فقدِّمي له نفسك بنفسك. إنه يستقبل الزوَّار كل يوم صباحًا من العاشرة حتى العاشرة والنصف. فقالت زينائيدا فيودوروفنا وهي تلوي ذراعيها بيأس: كم أنت وضيع! حتى لو لم تكُن صادقًا وتقول ما لا تعتقده، فعلى هذه القسوة وحدها تستحقُّ أن أمقتك. أوه، كم أنتَ وضيع!

– إننا نلف وندور هنا وهناك ولا نتطرق إلى الجوهر الحقيقي. أمَّا جوهر الأمر فهو أنكِ أخطأتِ ولا تريدين أن تعترفي بذلك علانية. لقد تخيَّلتِ أنني بطل، وأن لديَّ عقائد وأفكارًا غير عادية، وفي المحكِّ اتضح أنني موظف عادي للغاية، ومُقامر، وليس لديَّ أيُّ ولع بالعقائد. إنني من الذرية الجديرة بذلك المجتمع العفن نفسه، الذي هربتِ أنتِ منه ساخطةً على خوائه وابتذاله. فلتعترفي بذلك ولتكوني عادلة، لا تغضبي مني، بل من نفسك، لأنكِ أنتِ التي أخطأتِ، لا أنا.

– نعم أعترف، لقد أخطأت!

– عظيم جدًّا. لقد اتفقنا على الشيء الرئيسي، الحمد لله، والآن اسمعي التالي، إذا أردتِ، أنا لا أستطيع أن أرقى إليك، لأنني جدُّ فاسد، وأنتِ أيضًا لا تستطيعين أن تهبطي إليَّ لأنكِ جدُّ سامية، إذَن فلم يبقَ إلا شيء واحد …

– ماذا؟ سألَت زينائيدا فيودوروفنا بسرعة وقد احتبسَت أنفاسها وشحبَت فجأة.

– لم يبقَ إلا أن نستعين بالمنطق.

فقالت زينائيدا فيودوروفنا فجأةً بالروسية بصوت مشروخ: جيورجي، لماذا تُعذِّبني؟ علام؟ فلتفهم آلامي!

مضى أرلوف، الذي كان يخشى الدموع، إلى غرفة المكتب بسرعة، ولا أدري لماذا، هل كان ذلك رغبةً منه في إيلامها أكثر، أم إنه تذكَّر أن البعض يفعل ذلك في مثل هذه الأحوال؟ فقد أوصد الباب خلفه بالمفتاح.

وصرخَت هي وانطلقَت لتلحق به يتبعها حفيفُ فستانها.

وسألت وهي تدقُّ الباب: ما معنى هذا؟ (وردَّدَت بنبرة رفيعة ممزقة من السخط) ما معنى هذا؟ هكذا إذَن؟ فلتعلم أنني أكرهك، أحتقرك! انتهى كل ما بيننا! انتهى!

وتناهى بكاء هستيري وضحكات. ووقع في غرفة الجلوس شيءٌ ما صغيرٌ من فوق المائدة وانكسر. وتسلَّل أرلوف من غرفة المكتب إلى المدخل عبر الباب الآخر، وتلفَّت حوله بجبن، وارتدى معطفه وقُبَّعته بسرعة، وخرج.

مرَّ نصف ساعة، ثم ساعة، وهي لا تزال تبكي. وتذكَّرَت أنها بلا أبٍ أو أم أو أقارب، وأنها تعيش هنا بين شخص يكرهها وبوليا التي تسرقها، فتبدَّت لي حياتها جد بائسة! دخلت غرفة الجلوس وأنا لا أدري لماذا فعل هذا. كانت هذه المرأة الضعيفة، العاجزة، ذات الشعر الرائع، والتي تراءت لي مثالًا للرقة والرشاقة، تتعذب كالمريضة. تمدَّدَت على الكنبة، دافنة وجهها، وجسدها كله ينتفض.

وسألتها بصوتٍ خافت: سيدتي، ألا تأمرين باستدعاء الطبيب؟

– كلَّا، لا داعي، بسيطة (قالت ونظرت إلي بعينين دامعتين) عندي فقد صداع بسيط. أشكرك.

فخرجَت. وفي المساء أخذَت تكتب رسالةً تِلوَ رسالة، وترسلني تارةً إلى بيكارسكي، وتارةً إلى كوكوشكين، وتارةً إلى جروزين، وأخيرًا إلى حيث أشاء، بشرط أن أعثر على أرلوف بسرعة أُسلِّمه الرسالة. وعندما أعود في كل مرة بالرسالة، كانت توبِّخني، وتتوسل إليَّ، وتدسُّ في يدي نقودًا كأنها في هذيان الحُمَّى. ولم تنَم الليل بل جلسَت في غرفة الجلوس تُحدِّث نفسها.

وفي اليوم التالي عاد أرلوف قُرب الغداء، فتصالحا. وفي الخميس التالي لذلك شكا أرلوف لأصحابه من حياته الصعبة التي لا تُحتمل. ودخَّن كثيرًا وقال بعصبية: ليست حياة، بل محكمة تفتيش. الدموع والعويل، والأحاديث الجادة، وتوسُّلات الغفران، ثم الدموع والعويل من جديد، وفي المحصلة لم يعد لي مسكني الخاص، وتعذَّبتُ وعذَّبتُها. أمن المعقول أنه سيكون علي أن أعيش هكذا شهرًا آخر أو شهرين؟ معقول؟ وهذا محتمل فعلًا! فقال بيكارسكي: تحدث إليها.

– جربت، فلم أستطع. بوسعك أن تقول بجرأةٍ أيَّ حقيقة لشخص مُستقل، مُفكر، أمَّا في حالتي هذه فأتعامل مع مخلوق لا إرادة لديه ولا شخصية ولا منطق.

أنا لا أطيق الدموع، فهي تجرِّدني من سلاحي، وعندما تبكي أصبح على استعداد لأنْ أقسم لها بحُبِّي الخالد، ولأنْ أبكيَ أنا نفسي.

لم يفهم بيكارسكي، وحكَّ جبينه العريض مُفكرًا وقال: صدِّقني، هلَّا استأجرتَ لها شقةً منفردة؟ هذا بسيط جدًّا!

– إنها بحاجة إليَّ أنا لا إلى شقة (وتنهَّد أرلوف)، ما جدوى الكلام؟ أنا لا أسمع إلا أحاديثَ لا تنتهي، ولا أرى مَخرجًا من وضعي هذا. حقًّا ربٌّ مَلومٌ لا ذنب له! لم أجعل نفسي قنطرةً ولكنْ عليَّ أن أتحمَّل الدَّوس.٩ كنتُ طول عمري أتحاشى دَور البطل، وكنتُ دائمًا لا أطيق روايات تورجينيف. وفجأة، وكأنما سخرية بي، أصبحتُ في عِداد الأبطال الحقيقيين. أقسم لها بشرفي إنني لستُ بطلًا على الإطلاق، وأقدِّم الأدلة الدامغة على ذلك، ولكنها لا تصدقني. لماذا لا تصدقني؟ يبدو أن هناك شيئًا ما بطوليًّا بالفعل في ملامحي.

فقال كوكوشكين ضاحكًا: إذَن فلتسافر للتفتيش على إحدى المحافظات.

– نعم، لم يبقَ إلا هذا.

بعد أسبوع من هذا الحديث أعلن أرلوف أنه كُلِّف مرةً أخرى بالذهاب إلى عضو مجلس الشيوخ، ورحل في مساء اليوم نفسه بحقائبه إلى بيكارسكي.

١١

وقف على العتبة شيخٌ في حوالي الستِّين من عمره، في مِعطف فِراء طويل ينسدل حتى الأرض، وفي طاقية من فِراء القندس. وسأل: جيورجي إيفانيتش موجود؟

في البداية ظننتُ أنه أحد المُرابين من دائني جروزين الذين كانوا يأتون أحيانًا إلى أرلوف لاستيفاء ديون صغيرة، ولكن عندما دلف إلى المدخل وفتح المعطف، رأيت حاجبَيه الكثيفَين، وشفتَيه المزمومتَين بصورة مميزة، واللتين درستهما جيِّدًا في الصورة الفوتوغرافية، وصفَّين من النجوم على سُترته الميري، وعرفتُه … كان والد أرلوف، رجل الدولة المشهور.

أجبتُه بأن جيورجي إيفانيتش غير موجود، فزمَّ العجوزُ شفتَيه بقوة، ونظر جانبًا في تفكير مولِّيًا لي صفحة وجهه الجافة الغائرة.

وقال: سأترك له رسالة. أوصلني.

وترك خُفَّه في المدخل ودون أن ينزع معطفه الطويل الثقيل، توجَّه إلى غرفة المكتب. وهناك جلس في المقعد أمام المكتب، وقبل أن يتناول الريشة ظلَّ حوالي ثلاث دقائق يفكر في شيءٍ ما، حاجبًا عينَيه بيده كأنما اتقاء للشمس، بالضبط كما يفعل ابنه عندما يكون مُعتلَّ المزاج. كان وجهه حزينًا، مستغرقًا في التفكير، يكتسي بتعبير امتثال كنتُ ألاحظه فقط على وجوه الشيوخ أو المُتدينين.

وقفتُ خلفه أتطلع إلى صلعته وإلى النقرة في قفاه، وبدَا لي واضحًا كالشمس أن هذا العجوز الضعيف المريض أصبح الآن في قبضتي؛ إذ لم يكُن في الشقة كلها أحدٌ سواي وعدوِّي. كان يكفي أن أبذل قليلًا من القوة البدنية، ثم أنزع عنه ساعته لتمويه الغرض، ثم أتسلل من الباب الخلفي، وبذلك أحقِّق ما هو أكثر بكثير ممَّا كنتُ أطمح إليه عندما التحقتُ خادمًا. وفكرت؛ من المستبعد أن تسنح لي ثانيةً فرصةٌ أفضل من هذه. ولكنْ بدلًا من أن أتحرك، أخذتُ أتطلع بلا مبالاة تامة تارةً إلى صلعته وتارةً إلى الفِراء، وأفكر بسَكينة في علاقات هذا الرجل بابنه الوحيد. وفي أن الأشخاص المُدلَّلين بالمال والسُّلطة، أغلب الظن، لا يريدون أن يموتوا.

وسألني وهو يخط على الورق بأحرف كبيرة: هل تخدم عند ابني من زمان؟

– منذ ثلاثة أشهر يا صاحب المعالي.

وانتهى من الكتابة ونهض. كان لا يزال أمامي مُتَّسعٌ من الوقت، فأخذتُ أستعجل نفسي وأضمُّ قبضتي، محاولًا أن أعتصر من قلبي ولو قطرةً من الحقد السابق. وأخذتُ أتذكر أيُّ عدوٍّ متوقِّدٍ عنيدٍ لا يكلُّ كنتُه منذ وقتٍ جد قريب، ولكنْ يصعُب أن تشعل الكبريت على حجرٍ رخو. لم يُثِر فيَّ الوجه العجوز الحزين وبريق النجوم البارد سوى أفكار رخيصة ضحلة لا حاجة إليها عن فناء كل الأحياء وعن الموت القريب.

وداعًا يا أخي (قال العجوز مُرتديًا طاقيته، وخرج) لم يعد مجال للشك؛ لقد حدث تحوُّل في نفسي، وأصبحتُ شخصًا آخر. ولكي أختبر نفسي أخذتُ أتذكر، ولكني شعرتُ على الفور بالرهبة، كأنما ولجتُ عفوًا ركنًا رطبًا مظلمًا. تذكرتُ رفاقي ومعارفي فكان أول ما فكرتُ فيه هو، كم سأحمرُّ حجلًا وأرتبك عندما ألقى أحدًا منهم، فمَن أنا الآن؟ وفيمَ أفكر؟ وماذا أفعل؟ وإلى أين أمضي؟ ولأيِّ غرض أعيش؟

لم أفهم شيئًا، ولم أدرك بوعي إلا شيئًا واحدًا؛ ينبغي أن أجمع حاجياتي بسرعة وأرحل. فقبل مجيء العجوز كان عملي كخادم لا يزال له معنى، أمَّا الآن فأصبح مُضحكًا. وتساقطت دموعي في الحقيبة المفتوحة، وتملَّكني حزنٌ لا يُطاق، ولكن كم كنتُ أريد أن أعيش! كنتُ مستعدًّا أن أضمَّ إلى عمري القصير وأضمِّنه كل ما هو مُتاح لإنسان. كنتُ أريد أن أتحدث، وأن أقرأ، وأن أدقَّ بمطرقة في مصنع كبير في مكانٍ ما، وأن أقف في نوبة الحراسة، وأن أحرث. وأحسستُ بمَيل إلى المُضي نحو شارع نيفسكي١٠ وإلى الحقول، وإلى البحر، وإلى كل ما يمتدُّ إليه خيالي. وعندما عادت زينائيدا فيودوروفنا اندفعتُ لأفتح لها الباب، وبرِقَّة خاصة نزعتُ عنها المِعطف لآخر مرة!

بخلاف العجوز زارنا ذلك اليوم شخصان؛ ففي المساء، عندما أظلمَت تمامًا، جاء جروزين فجأةً لكي يأخذ بعض الأوراق لأرلوف. فتح الطاولة، وأخذ الأوراق المطلوبة، وطواها أسطوانة، وأمرني أن أضعها في المدخل بجوار طاقيته، أمَّا هو فذهب إلى زينائيدا فيودوروفنا. كانت مُستلقيةً على الكنبة في غرفة الجلوس، وقد توسَّدَت ذراعيها. كانت قد مرَّت خمسة أو ستة أيام منذ أن رحل أرلوف للتفتيش، ولم يكُن أحدٌ يعرف متى سيعود، لكنها لم تعد ترسل برقياتٍ ولا تنتظرها منه. وبدَا أنها لم تعد تلاحظ بوليا، التي كانت لا تزال تعمل لدينا. وقرأتُ «فليكُن!» على وجهها الخالي من أيِّ تعبيرٍ والشاحب للغاية. أصبحَت تريد، مثل أرلوف، من باب العند، أن تكون تعيسة. ونكايةً بنفسها، وبالعالم أجمع، كانت تستلقي على الكنبة بلا حَراكٍ أيامًا بطولها، وهي لا ترجو لنفسها إلا كل ما هو سيئ، ولا تتوقع إلا ما هو سيئ. كانت فيما يبدو تتخيَّل عودة أرلوف ومشاجراتها الأكيدة معه، ثم بروده، فخيانته، ثم كيف سينفصلان، وربما كانت هذه الأفكار المُضنية تبعث السرور في نفسها. ولكنْ تُرى ماذا تقول لو عرفَت الحقيقة فجأة؟

وقال جروزين وهو يُحيِّيها ويُقبِّل يدها: إنني أحبُّك يا إشبينة. كم أنتِ طيبة! وقال كاذبًا: إذَن فقد رحل جورج، رحل هذا الشرير!

وجلس مُتنهدًا ومسَّد يدها برِقَّة ثم قال: اسمحي لي يا حمامتي أن أجلس لديك ساعة.

لا أرغب في الذهاب إلى المنزل، والوقت مبكر للذهاب إلى آلِ بيرشوف. آلُ بيرشوف يحتفلون اليوم بعيد ميلاد كاتيا. فتاةٌ لطيفة!

وقدَّمتُ له قدح شاي ودورق كونياك، وشرب الشاي ببطء، وبلا رغبة واضحة، وقال بخجل وهو يعيد إليَّ القدح: ألا يوجد لديكم يا صاحبي شيءٌ يؤكل؟ أنا لم أتغدَّ بعد.

لم يكُن لدينا شيء، فذهبتُ إلى المطعم وأحضرتُ له غداءً عاديًّا غير غالٍ.

وقال لزينائيدا فيودوروفنا وهو يشرب كأس فودكا: في صحتكِ يا عزيزتي. طفلتي الصغيرة، ابنتك في العماد، تبعث إليكِ تحيَّاتها. المسكينة أُصيبَت بداء الخنازير! وقال مُتنهدًا: آه، الأولاد! مهما كان يا إشبينة فمن المُبهج أن تكون أبًا. جورج لا يدرك هذا الشعور.

وشرب كأسًا أخرى، وأخذ هذا الرجل الشاحب النحيل، بالمنشفة على صدره وكأنها مريلة، يأكل بنَهَم، ويرفع حاجبَيه وهو يتطلع بعينَين مُذنبتَين تارةً إلى زينائيدا فيودوروفنا وتارةً إليَّ كالطفل. وبدَا كأنما كان سيبكي لو لم أُعطِه الديك البري والجيلي. وبعد أن شبع أصبح مرِحًا، وأخذ يحكي ضاحكًا شيئًا ما عن آلِ بيرشوف، ولكنْ عندما لاحظ أن ما يرويه مُمل لزينائيدا فيودوروفنا وأنها لا تضحك، صمت. وفجأةً أطبق الملل، جلس كلاهما بعد الغداء في غرفة الجلوس، على ضوء المصباح وحده، ولزمَا الصمت. كان من الصعب عليه أن يكذب، أمَّا هي فأرادت أن تسأله عن شيءٍ ما ولكنها لم تجرؤ. وهكذا مرَّ نصف ساعة.

وتطلَّع جروزين إلى ساعته: أظن أنه حان الوقتُ لأذهب.

– كلَّا، ابقَ قليلًا … ينبغي أن نتحدث.

وصمتَا ثانية، وجلس هو إلى المِعزف، ومسَّ أحد المفاتيح، ثم بدأ يعزف، وغنَّى بصوتٍ خافت: «ماذا تُخبِّئ يا غدي الآتي؟» ولكنه كعادته نهض فورًا، وهزَّ رأسه.

وطلبَت منه زينائيدا فيودوروفنا: اعزف شيئًا ما يا أشبين.

– ماذا أعزف؟ (سألها وهزَّ كتفيه) لقد نسيتُ كل شيء، تركتُ العزف من زمان.

وتطلَّع إلى السقف، كأنما يتذكر، وعزف مقطوعتَين لتشايكوفسكي بتعبير رائع، بحرارة وذكاء، وكان وجهه كما هو دائمًا، غير ذكي وغير غبي، وبدَا لي معجزةً حقًّا أن هذا الشخص الذي تعودتُ أن أراه في أكثر الأجواء انحطاطًا وتلوثًا، كان قادرًا على مثل هذا السمو الروحي البعيد المنال بالنسبة لي، وعلى مثل هذا النقاء. وتضرَّجَت زينائيدا فيودوروفنا وأخذَت تذهب وتجيء في الغرفة بانفعال.

وقال جروزين: مهلًا يا إشبينة، لو أتذكَّر فسأعزف إحدى المقطوعات، سمعتُهم يعزفونها على الفيولتشيل.

وعزف، في البداية بتردُّد وبحث، ثم بثقة، «أغنية البجع» لسن سانس. عزفها ثم كرَّرها.

وقال: أليست لطيفة؟

وتوقفَت زينائيدا فيودوروفنا المنفعلة بجواره وسألته: قُل يا أشبين بصراحة، كصديق، ما رأيك فيَّ؟

– ماذا أقول لك؟ (قال وهو يرفع حاجبيه) إنني أحبُّك ولا أرى فيكِ إلا كل خير (واستطرد وهو يمسح كُمَّه عند مرفقه ويعبس): أمَّا إذا أردتِ أن أتحدث بصورة عامة عن المسألة التي تُهِمُّك، فلتعلمي يا عزيزتي أن السير بانطلاق وراء أهواء القلب لا يعود على الناس الطيبين بالسعادة دائمًا. ولكي يشعر المرء بنفسه حُرًّا، وفي الوقت نفسه سعيدًا، فأعتقد أنه لا ينبغي أن يُخفيَ على نفسه أن الحياة قاسية وخشنة وبلا رحمة في تزمُّتها، ويجب أن يردَّ عليها بما تستحقُّه، أيْ أن يكون مثلها خشنًا وبلا رحمة في سعيه إلى الحرية. هذا ما أعتقده.

فابتسمت زينائيدا فيودوروفنا بأسًى وقالت: ما أبعدني عن ذلك! أنا تعبتُ يا أشبين، تعبتُ لدرجة أنني لن أُحرِّك إصبعًا من أجل خلاصي.

– فلتلتحقي بالدَّير يا إشبينة.

قال ذلك مازحًا، إلا أنه بعد كلماته هذه اغرورقَت عينَا زينائيدا فيودوروفنا أولًا، ثم عيناه هو، بالدموع، وقال: وهكذا فقد وصلنا … وداعًا أيتها الإشبينة العزيزة، فليهبكِ الله الصحة.

وقبَّل كلتا يديها ثم مسَّدهما برِقَّة، وقال إنه سيزورها حتمًا مرةً أخرى عمَّا قريب. وبينما كان يرتدي في المدخل مِعطفه الذي يشبه قبوط الأطفال، مضى يبحث في جيوبه طويلًا لينفحني بقشيشًا، ولكنه لم يجد شيئًا.

فقال بأسًى: وداعًا يا عزيزي. وخرج.

لن أنسى أبدًا ذلك المزاج الذي خلَّفه هذا الشخص وراءه. ظلَّت زينائيدا فيودوروفنا تذهب وتجيء في الغرفة بانفعال، لم تركض بل كانت تسير، وهذا وحده حسن. وأردتُ أن أستغل هذا المزاج لكي أتحدث إليها بصراحة ثم أرحل فورًا، إلا أنني ما كدتُ أودِّع جروزين حتى دقَّ الجرس.

كان ذلك كوكوشكين.

سأل: هل جيورجي إيفانيتش موجود؟ هل عاد؟ تقول كلَّا؟ يا للأسف! في هذه الحالة سأذهب لأقبِّل يد السيدة وأمضي. وصاح: أتسمحين يا زينائيدا فيودوروفنا؟ أريد أن أقبِّل يدك. عفوًا على مجيئي في هذا الوقت المتأخر. مكث في غرفة الجلوس فترةً قصيرة، لا تزيد عن عشر دقائق، بَيْدَ أنه خُيِّل إليَّ أنه جالس هناك من زمان ولن يرحل أبدًا. أخذتُ أعضُّ شفتي من الغضب والأسى، وبدأتُ أكره زينائيدا فيودوروفنا، وفكرتُ ساخطًا: «لماذا لا تطرده عنها رغم أنه كان واضحًا أنها تشعر بالملل معه؟» وعندما قدَّمتُ له المِعطف سألني، كنوع من التودُّد إليَّ، كيف أستطيع أن أعيش بلا زوجة؟!

وقال ضاحكًا: ولكني أعتقد أنكَ لا تُضيع وقتكَ عبثًا. لا بدَّ أن لكَ مع بوليا غراميات … يا عفريت!

رغم خبرتي الحياتية فقد كانت معرفتي بالناس قليلة في ذلك الحين، ومن الجائز جدًّا أنني كنتُ كثيرًا ما أضخِّم الأمور التافهة، ولا ألاحظ أبدًا الأمور المُهمَّة. وبدَا لي أن كوكوشكين لا يهأهئ ولا ينافقني عبثًا؛ أتراه يأمُل بأنني، كخادم، سوف أثرثر في غرف الخدم الآخرين والمطابخ بأنه يزورنا مساء، في غياب أرلوف، ويبقى مع زينائيدا فيودوروفنا حتى ساعة متأخرة؟ وعندما تبلُغ ثرثرتي مسامع معارفه يغضُّ بصره في استحياء ويهدِّد بسبَّابته. وفكرتُ وأنا أتطلع إلى وجهه الصغير المعسول: ثم أليس هو نفسه الذي سيتظاهر اليوم وهو يلعب الورق، بل وفي الغالب سيُفضفض بأنه قد انتزع زينائيدا فيودوروفنا بالفعل من أرلوف؟ تملَّكني الآن ذلك الحقد الذي افتقدتُه كثيرًا في النهار، عندما جاء العجوز. وأخيرًا خرج كوكوشكين، وشعرت وأنا أصغي إلى احتكاك نعله الجلدي بدرجات السُّلَّم برغبة شديدة بأن أرسل في أثره عبارة سِباب مُقذع كوداعٍ له، ولكني تمالكت نفسي. وعندما خَفتَ وقْعُ الخطوات على السُّلَّم عُدتُ إلى المدخل، ودون أن أدرك ما أفعله، التقطتُ حزمة الأوراق التي نسيها جروزين واندفعتُ هابطًا بلا تفكير، وخرجتُ إلى الشارع راكضًا بلا مِعطف أو طاقية. لم يكُن الجو باردًا ولكن ثلجًا كبير الندف كان يهبط، وهبَّت الريح.

وصِحتُ وأنا ألحق بكوكوشكين: يا صاحب السعادة! يا صاحب السعادة!

فتوقَّف بجوار عمود نور والتفت باستغراب.

فقلتُ لاهثًا: يا صاحب السعادة! يا صاحب السعادة! وإذ لم أجد ما أقوله صفعتُه بحزمة الأوراق على وجهه مرَّتَين. ودون أن يفهم شيئًا، بل حتى دون أن يُدهش، فقد صعقتُه إلى درجة شديدة، استند بظهره إلى العمود وحمى وجهه بيدَيه. وفي تلك اللحظة مرَّ بي طبيبٌ عسكريٌّ ما فرآني وأنا أضرب شخصًا، إلا أنه نظر فقط باستغراب، وواصل سَيره.

وأحسستُ بالخجل، فعُدتُ ركضًا إلى المنزل.

١٢

دلفتُ إلى غرفة الخدم لاهثًا، برأس مُبلَّل من الثلج، فنزعتُ الفراك فورًا، وارتديتُ السُّترة والمِعطف، وحملتُ حقيبتي إلى المدخل. لا بدَّ من الهرب! ولكنْ قبل أن أرحل جلستُ بسرعة وبدأت أكتب لأرلوف:

«أترك لكَ هُويَّتي المزيفة، وأرجو أن تستبقيَها لديك للذكرى أيها الرجل المُزيَّف، يا حضرة الموظف البطرسبرجي! أن أتسلل إلى منزل مُنتحِلًا اسمًا آخر، وأن أراقب من وراء قناع الخادم حياةَ ساكنه الخاصة، أن أرى وأسمع كل شيء لكي أفضح بعد ذلك كذبه مُتطفلًا … ستقول إن ذلك كله يشبه السرقة. نعم، ولكني الآن لا آبَهُ بالنُّبل. لقد شهدتُ العشرات من ولائم غدائك وإفطارك، عندما كنتَ تقول وتفعل ما تريد، أمَّا أنا فكان عليَّ أن أسمع وأرى وأسكت، ولكني الآن لا أريد أن أُهديَك هذا. وفوق ذلك، إذا لم تكُن بجوارك روح حيَّة تجرؤ على مكاشفتك بالحقيقة ولا تنافقك، فليكُن الخادم ستيبان على الأقلِّ هو الذي يغسل لك وجهكَ الرائع.»

لم تعجبني هذه البداية، ولكني لم أشأ أن أغيِّرها، ثم أليس الأمر سواء؟

بدَت النوافذ الكبيرة بستائرها الداكنة، والفراش والفراك المجعَّد المُلقى على الأرض، وآثار حذائي المُبلَّلة على الأرضية، بدَت صارمةً وحزينة. وكان السكون أيضًا من نوع خاص.

وربما لأني خرجتُ إلى الشارع بلا طاقية أو خُف فقد ارتفعَت حرارتي بشدة؛ كان وجهي مُلتهبًا وساقايَ مُضعضَعتَين … ومال رأسي الثقيل إلى الطاولة، بينما كانت هناك ازدواجيةٌ ما في الأفكار؛ حين يُخيَّل إليكَ أن كل فكرة في ذهنك يتبعها ظلُّها.

ومضيتُ أكتب:

«إنني مريض، ضعيف، مقهور معنويًّا، ولا أستطيع أن أكتب لكَ كما وددتُ أن أكتب. للوهلة الأولى راودَتني الرغبة في إهانتك وإذلالك، أمَّا الآن فيبدو لي أنني لا أملك الحقَّ في ذلك. فأنتَ وأنا، كلانا سقطنا، وكلانا لن ننهض أبدًا، ورسالتي هذه، حتى لو كانت بليغة وقوية وفظيعة، فسوف تكون مع ذلك كالطَّرق على غطاء تابوت، مهما طرقت فلن تُوقظ مَن فيه! فليس باستطاعة أيِّ جهود أن تُدفئ دمكَ البارد اللعين، وأنتَ تعرف ذلك خيرًا مني، لِمَ إذَن الكتابة؟ حسنًا، إن رأسي وقلبي يتَّقدان، فأواصل الكتابة مُضطربًا لسببٍ ما، كما لو كان لا يزال بوسع هذه الرسالة أن تنقذك وتنقذني. ومن الحُمَّى تختلط الأفكار في ذهني، ويَصرُّ القلم على الورق بلا معنًى، إلا أن السؤال الذي أريد أن أوجِّهه إليك يواجهني بوضوح كأنما من نار.

ليس من الصعب تفسير سبب ضعفي وسقوطي المبكر، فأنا، مثل شمشون الجبار، حملتُ على ظهري بوابة غزة لأنقلها إلى قمة الجبل، ولكني لم أشعر بالإعياء إلا عندما انطفأ شبابي وصحَّتي إلى الأبد، فأدركتُ أن هذه البوابة أكبر من طاقتي وأنني خدعتُ نفسي. وفوق ذلك فقد تملَّكني ألمٌ قاسٍ مستمر، وعانيتُ الجوع والبرد والمرض والحرمان من الحرية، ولم أعرف ولا أعرف السعادة الشخصية، وليس عندي مأوًى، وذكرياتي أليمة، وكثيرًا ما يخشاها ضميري. ولكنْ لماذا سقطتَ أنت؟ أيُّ أسباب قدَرية شيطانية عاقت حياتك عن الازدهار بكل ألوان الربيع؟ ولماذا سارعت، حتى قبل أن تبدأ حياتك، بنزع صورة الله ومثاله عنك، وتحوَّلتَ إلى حيوان جبان ينبح ويُخيف الآخرين لأنه هو نفسه خائف؟ إنك تخشى الحياة، تخشاها، كذلك الآسيوي الذي يجلس أيامًا بطولها على الحشايا الناعمة ويُدخِّن النارجيلة. صحيحٌ أنكَ تقرأ كثيرًا، وترتدي حُلَّة فِراك أوروبية مُتقَنة، ومع ذلك فبأيِّ اعتناء رقيق، آسيوي خالص، كاعتناء الخانات، تحمي نفسك من الجوع والبرد والجهد البدني، من الألم والقلق، وكم بكرتَ روحك بالالتفاف بالرداء، وعن أي جبان تمخضتَ أمام الحياة والطبيعة التي يناضل ضدَّها كل إنسان صحيح سوي. كم تحيط نفسك باللين والراحة والدفء، وكم تحيا بملل! نعم، ملل مُطبِق خانق كما في الزنزانة الانفرادية، ولكنك تحاول الهروب من هذا العدوِّ أيضًا، فتلعب الورق ثماني ساعات في اليوم.

وسخريتك؟ أوه، كم أفهمها جيدًا! فالفكر الحي الحر النشط فكرٌ ثاقبٌ ومُتسلط، وهو لا يُحتمَل لعقل كسول فارغ، ولكيلا يزعج هدوءك، أسرعت منذ الصغر، مثل آلاف من أترابك، إلى وضعه في أُطُر. وتسلَّحتَ بنظرة ساخرة إلى الحياة، أو بما شئتَ أن تُسميَه، فلن تجرؤ الفكرة المكتومة المفزوعة على أن تقفز عبر السور الذي وضعتَه أمامها، وعندما تهزأ بالأفكار التي تدَّعي أنكَ تعرفها كلها، فإنك تبدو أشبه بالجندي الهارب بجبن من ميدان القتال، ولكنه، كي يُغطيَ على خِزيه، يسخر من الحرب والشجاعة. إن الصفاقة تكتم الألم. وفي إحدى قصص دوستويفسكي يطأ العجوز صورة ابنته الحبيبة بقدمَيه لأنه مخطئ في حقِّها، أمَّا أنتَ فتسخر بصورة وضيعة مبتذلة من أفكار الخير والحقِّ، لأنكَ لم تعد قادرًا على العودة إليها. ولكَ إشارة صادقة ومخلصة إلى سقوطك تفزعك، ولذلك تحيط نفسك عن عمد بأناس لا يجيدون إلا تملُّق ضعفك. وليس صدفة، أبدًا ليس صدفة، أنك تخشى الدروع إلى هذه الدرجة!

وبالمناسبة، فعن موقفك من المرأة، لقد ورثنا الفجور مع لحمنا ودمنا، وتربَّينا على الفجور، ولكننا نُدعى بشرًا لأننا ينبغي أن نقهر في نفوسنا الوحش. وأنتَ عندما شببتَ رجلًا، وأصبحتَ تعرف كل الأفكار، لم يكُن من المُمكن إلا أن ترى الحقيقة، لقد كنتَ تعرفها، ولكنك لم تمضِ وراءها، بل فزعت منها، ولكي تخدع ضميرك، أخذتَ تؤكد لنفسك جهرًا أنكَ لستَ المُذنب، بل المرأة، وأنها وضيعة أيضًا مثل موقفك منها. أليست نكاتك البذيئة الباردة، وضحكك الذي يشبه صهيل الخيول، وكل نظرياتك العديدة عن الجوهر، وعن المتطلبات الغامضة تجاه الزواج، عن العَشَرة «سو» التي يدفعها العامل الفرنسي للمرأة، واستشهادك الدائم بمنطق المرأة وزيفها وضعفها وغيره … أليس ذلك كله أشبه بالرغبة في إحناء المرأة إلى أسفل نحو الوحل بأيِّ وسيلة حتى تصبح هي وموقفك منها على مستوًى واحد؟ إنكَ رجل ضعيف، تعيس، مُنفر.»

في غرفة الجلوس عزفَت زينائيدا فيودوروفنا على البيانو محاوِلةً أن تتذكر مقطوعة سن سانس التي عزفها جروزين. وذهبتُ أنا فتمدَّدتُ على السرير، ولكني تذكرتُ أن عليَّ أن أرحل، فنهضتُ بصعوبة، وعُدتُ مرةً ثانيةً إلى المكتب برأس ثقيل ساخن.

ومضيتُ أكتب:

«ولكن السؤال هو: لماذا تعبنا؟ ولماذا، ونحن بعدُ في البداية، نكون مُتوقِّدين، جريئين، نُبلاء، مؤمنين، وما إن نصل إلى سنِّ الثلاثين أو الخامسة والثلاثين حتى نصبح مُفلسين تمامًا؟ ولماذا ينطفئ أحدُنا بالسُّل، ويطلق الآخر رصاصةً على رأسه، ويبحث الثالث عن النسيان في الفودكا والورق، ولكي يكبت الرابع الخوف والكآبة، يطأ بصفاقةٍ صورة شبابه الطاهر الرائع؟ ولماذا لا نحاول، وقد سقطنا مرة، أن ننهض، وإذ نفقد شيئًا لا نبحث عن غيره؟ لماذا؟

إن اللصَّ الذي كان مُعلَّقًا على الصليب قد استطاع أن يستعيد فرحة الحياة والأمل الجريء القابل للتحقيق، رغم أنه ربما لم يبقَ له من الحياة أكثر من ساعة واحدة. أمَّا أنتَ فما تزال أمامك سنوات طويلة، وأنا على الأرجح لن أموت هكذا قريبًا كما يبدو. فماذا لو أن معجزةً جعلَت من الحاضر حُلمًا، كابوسًا رهيبًا، وإذا بنا نستيقظ منه بنفوس جديدة، أطهارًا، أقوياء، مُعتزين بحقيقتنا؟

إن الآمال العذبة تكويني، ولا أكاد أتنفس من الانفعال. إنني أريد بشدة أن أعيش، أريد أن تكون حياتنا مقدسة، سامية، مَهيبة كقبة السماء. سوف نحيا! الشمس لا تشرق في اليوم مرَّتَين، والحياة لا تعطي مرَّتَين … فلتتشبَّث بقوةٍ ببقايا حياتك ولتنقذها.»

لم أكتب كلمةً واحدةً بعد ذلك. كانت الأفكار في رأسي كثيرةً إلا أنها اختلطت ولم تنتظم سطورًا، ودون أن أكمل الرسالة وقَّعتُها باسمي واسم عائلتي ورُتبتي، وذهبتُ إلى غرفة المكتب. كانت الغرفة مظلمة، وتحسَّستُ بيدي حتى عثرتُ على المكتب فوضعتُ عليه الرسالة، ويبدو أنني تعثرتُ بالأثاث في الظلام فأثَرتُ ضجيجًا.

مَن هناك؟ تردَّد صوتٌ قلِقٌ من غرفة الجلوس.

وفي نفس اللحظة دقَّت الساعة على المكتب برِقَّةٍ مُعلِنةً الواحدة ليلًا.

١٣

في الظلام أنفقتُ نصف دقيقة على الأقلِّ وأنا أخربش باب غرفة الجلوس وأتحسَّسه، ثم فتحتُه ببطء ودخلتُ الغرفة. كانت زينائيدا فيودوروفنا راقدةً على الكنبة، وقد همَّت مرتكزةً إلى كوعها وهي تنظر نحوي. ولم أجرؤ على الكلام فمررتُ بجوارها وشيَّعَتني هي بنظراتها. ووقفتُ في الصالة برهة، ثم عدتُ فمررتُ بجوارها ثانية، فحدقَت فيَّ باهتمام واستغراب، بل وبرهبة. وأخيرًا توقفت وقلتُ بصعوبة: لن يعود!

هبَّت واقفةً بسرعة ونظرَت إليَّ دون أن تفهم.

لن يعود! (قلتُ مرةً ثانيةً ودقَّ قلبي بشدة) لن يعود لأنه لم يرحل من بطرسبرج. إنه يقيم عند بيكارسكي.

فهمَت وصدَّقَتني … أدركتُ ذلك من شحوبها المفاجئ ومن عَقدها ليديها على صدرها فجأةً بخوف وضراعة. وفي لحظة خاطفة ومض في ذاكرتها ماضيها القريب، وأدركت ورأت بوضوح لا يرحم الحقيقة كلها. ولكنها في الوقت نفسه تذكَّرَت أنني خادم، من جنس مُنحَط … أفاق بشعر مُشعَّث، ووجه أحمر من الحُمَّى، وربما ثمل، في معطف حقير، يتدخل بغلظة في حياتها الخاصة، فأهان ذلك كرامتها. فقالت لي بصرامة: لم يسألك أحد. اغرُب من هنا.

– أوه، صدِّقيني أرجوكِ! (قلتُ بحماسة ومددتُ يدي نحوها) أنا لست خادمًا، أنا شخص حُر مثلك! وذكرتُ اسمى، وشرحتُ لها بسرعة بالغة، حتى لا تقاطعني أو تنصرف، مَن أنا ولماذا أعمل هنا. وأذهلها هذا الاكتشاف الثاني أكثر من الأول؛ فقد كان لديها مع ذلك قبل هذه اللحظة أمل بأن الخادم قد كذب أو أخطأ، أو تفوَّه بحماقةٍ ما، أمَّا الآن، وبعد اعترافي، فلم تبقَ لديها أيُّ شكوك. ومن نظرة عينيها البائستَين وتعبير وجهها الذي أصبح قبيحًا فجأةً لأنه شاخ وفقد مرونته، رأيتُ أنها تعاني عذابًا لا يُطاق، وأنني لم أصنع خيرًا بشروعي في هذا الحديث، ولكني واصلتُ باندفاع: عضو مجلس الشيوخ، والتفتيش قصة مختلقة لخداعك. وفي يناير أيضًا، كما هو الآن، لم يسافر إلى أيِّ مكان، بل أقام عند بيكارسكي، وكنت أتردَّد عليه كل يوم، وشاركتُ في خداعك. لقد أثقلتِ عليهم، وكانوا يكرهون وجودكِ هنا، ويسخرون منكِ … لو أنكِ استطعتِ أن تسترقي السمع إليه هو وأصدقائه وهم يهزءون بكِ وبحُبِّك لمَا بقيَت هنا دقيقةً واحدة! اهربي من هنا! اهربي!

حسنًا، وماذا؟ (قالت بصوت مرتعش ومرَّت بيدها على شعرها) حسنًا، وماذا؟ فليكُن.

كانت عيناها مليئتَين بالدموع وشفتاها ترتعشان، وكان وجهها كله شاحبًا بصورة مذهلة وينفث غضبًا. أثار كذب أرلوف الفظ التافه سخطها، وبدَا لها محتقَرًا ومُضحِكًا. وابتسمَت فلم ترقْ لي ابتسامتها هذه.

حسنًا، وماذا؟ (ردَّدَت ثانيةً ومرَّت بيدها على شعرها من جديد) فليكُن. إنه يظنُّ أنني سأموتُ من المَهانة، ولكنني … ولكنني أضحك. عبثًا يختفي (وابتعدَت عن البيانو وقالت وهي تهزُّ كتفَيها) عبثًا … كان من الأسهل أن يصارحني بدلًا من الاختفاء والتسكع في شقق الآخرين. أنا عندي عينان، وقد رأيت بنفسي منذ زمن بعيد.

كنتُ فقط أنتظر عودته لنتصارح نهائيًّا.

بعد ذلك جلستُ في المقعد بجوار الطاولة، وأمالت رأسها فوق ذراع الكنبة وبكَت بحُرقة. لم يكُن في غرفة الجلوس سوى شمعة واحدة تشتعل في الشمعدان، وكان المكان مُظلمًا بجوار المقاعد حيث جلست، ولكني رأيتُ ارتعاش رأسها وكتفيها، وشعرها، وقد انفرطت تسريحته، يغطي عنقها ووجهها ويديها. وفي نحيبها الهادئ المنتظم، اللاهستيري، النحيب النسائي العادي، تجلَّت الإهانة، والكرامة والمذلَّة والغضب، وذلك الإحساس باليأس والضياع، الذي لم يعد من الممكن إصلاحُه أو التعوُّد عليه. وتردَّد صدى نحيبها في نفسي المضطربة المعذبة، فنسيتُ مرضي، وكل شيء في الدنيا، وأخذتُ أذهب وأجيء في الغرفة وأدمدم بارتباك: ما هذه الحياة؟ كلَّا، لا يمكن الحياة هكذا! لا يمكن! إنه جنون، جريمة وليس حياة!

وقالت هي وسط البكاء: يا للمهانة! يعيش معي … ويبتسم لي في الوقت الذي أثقل عليه، وأبدو مُضحِكة … أوه، يا للمهانة!

رفعَت رأسها ونظرَت إليَّ بعينَين دامعتَين من خلال شعرها المبلل بالدموع، وسألتني وهي تسوِّي هذا الشعر الذي يعوقها عن النظر إليَّ: كانوا يضحكون؟

– هؤلاء الناس كانوا يضحكون منك، ومن حُبِّك، ومن تورجينيف الذي ادَّعَوا أنكِ مولعة به. ولو أننا؛ أنت وأنا، متنا الآن بأسًا، لبدَا ذلك لهم مُضحكًا، وسوف يؤلفون مزحةً مُضحكةً ويروونها في حفل تأبينك. ما لنا نتحدث عنهم؟ (قلتُ بنفاد صبر) ينبغي أن نهرب من هنا. أنا لا أستطيع أن أبقى هنا دقيقةً واحدة.

وعادت إلى البكاء، وابتعدتُ أنا فجلستُ قُرب البيانو. وسألتُ بقنوط: تُرى ماذا ننتظر؟ الساعة تدور في الثالثة.

فقالت: أنا لا أنتظر شيئًا. لقد ضعت.

– لماذا تقولين هذا؟ الأفضل أن نفكر معًا فيما ينبغي عملُه. لم يعد من الممكن لا بالنسبة لك ولا بالنسبة لي البقاء هنا … إلى أين تنوين أن ترحلي من هنا؟

فجأةً دقَّ الجرس في المدخل، وانقبض قلبي؛ أيكون القادم أرلوف بعد أن اشتكى له كوكوشكين مني؟ كيف سنتواجه؟ وذهبتُ لأفتح الباب. كانت تلك بوليا، دخلَت ونفضَت الثلج عن برنسها في المدخل، ومضَت إلى غرفتها دون أن تقول لي كلمةً واحدة. وعندما عُدتُ إلى غرفة الجلوس، كانت زينائيدا فيودوروفنا في وسط الغرفة، شاحبةً كالأموات، وقابلَتني بنظرة من عينَين واسعتين.

وسألَت بصوت خافت: مَن القادم؟

فأجبت: بوليا.

فمرَّت بيدها على شعرها وأغمضَت عينيها بإرهاق، وقالت: سأمضي الآن من هنا. اصنع معروفًا وأوصلني إلى بطرسبرجساكيا ستورونا. كم الساعة الآن؟

– الثالثة إلا ربعًا.

١٤

عندما خرجنا من المنزل، بعدها بقليل كانت الشوارع مُظلمةً وخاوية. وتساقط ثلج مُبلَّل ولفحت الوجه رياح رطبة. وأذكر أن ذلك كان في أوائل مارس، وقد بدأ ذوبان الثلوج، وأخذ الحوذية منذ بضعة أيام يستخدمون العجلات. وتحت تأثير السُّلَّم الخلفي، والبرد، وظلام الليل، والبواب ذي المعطف الثقيل والذي استجوبنا قبل أن يفتح لنا البوابة، خارت زينائيدا فيودوروفنا تمامًا وانهارت معنوياتها. وعندما جلسنا في الحنطور وأسدلنا غطاءه، أخذت تتحدث بسرعة مُعرِبةً لي عن امتنانها، وبدنها كله يرتعش: أنا لا أشكُّ في طيبتك، ولكني أشعر بالخجل من إزعاجك. أوه إنني مدركة، مدركة … عندما زارنا اليوم جروزين شعرت أنه يكذب ويخفي شيئًا. حسنًا، وماذا؟ فليكُن. ومع ذلك أشعر بتأنيب الضمير إذ أسبِّب لك هذا الإزعاج.

لقد بقيَت لديها بعض الشكوك، ولكي أبدِّدها تمامًا، أمرتُ الحوذي أن يمضيَ إلى شارع سرجييفسكايا. وعندما توقفنا عند مدخل منزل بيكارسكي، نزلتُ من الحنطور ودققتُ الجرس. وحينما خرج الحاجب سألته بصوتٍ عالٍ، حتى تسمع زينائيدا فيودوروفنا: هل جيورجي إيفانيتش موجود؟

– موجود (أجاب الحاجب) جاء منذ نصف ساعة.

لا بدَّ أنه نائم الآن. وماذا تريد؟

ولم تتمالك زينائيدا فيودوروفنا نفسها فأطلَّت من الحنطور وسألت: وهل يقيم جيورجي إيفانيتش هنا منذ وقت طويل؟

– للأسبوع الثالث.

– ولم يسافر إلى أيِّ مكان؟

– لم يسافر (أجاب الحاجب ورمقني بدهشة!)

فقلتُ له: أبلغه غدًا مبكرًا أن أخته قد وصلَت من وارسو وداعًا.

ثم واصلنا السير. ولم يكُن في الحنطور مشمعٌ واقٍ فانهال علينا الثلج ندفًا، ونفَذت الريح، وخاصةً على نهر النيفا، إلى عظامنا. وبدأ يُخيَّل إلي أننا نسير بالحنطور منذ أمد طويل، ونعاني منذ أمد طويل، وأنني أسمع منذ أمد طويل تهدُّج أنفاس زينائيدا فيودوروفنا. ونظرتُ نظرةً خاطفة، في شبه هذيان، كأنما أوشك على النعاس، إلى حياتي الغريبة الخرقاء، ولسببٍ ما تذكرتُ ميلودراما «شحاذو باريس» التي شاهدتُها مرَّتين في طفولتي. ولسببٍ ما عندما نظرتُ من فرجة الغطاء، لكي أبدِّد شبه الهذيان هذا، فرأيتُ الفجر. اتحدَت كل صور الماضي، وكل الأفكار الضبابية، في فكرة صافية قوية واحدة؛ لقد هلكتُ أنا وزينائيدا فيودوروفنا، وبلا رجعة. كانت تلك ثقة، كما لو كانت السماء الزرقاء الباردة تنطوي على نبوءة، ولكني بعد لحظة كنت أفكر في شيء آخر، وأومن بشيء آخر. وقالت زينائيدا فيودوروفنا بصوت مبحوح من البرد والرطوبة: ما العمل الآن؟ إلى أين أذهب، وماذا أفعل؟ جروزين قال لي: اذهبي إلى الدَّير. أوه، كم وددتُ لو أذهب! أبدِّل ثيابي ووجهي واسمي وأفكاري … كل شيء، كل شيء، وأختفي إلى الأبد. ولكنهم لن يقبلوني في الدَّير، أنا حبلى.

فقلت لها: غدًا سنسافر معًا إلى الخارج.

– لا يمكن. زوجي لن يسمح لي باستخراج جواز سفر.

– سأسفِّرك بدون جواز.

توقَّف الحوذي بجوار منزل خشبي من طابقَين، مطلي بلون قاتم. ودققتُ الجرس. وعندما تناولَت زينائيدا فيودوروفنا مني سلةً صغيرةً خفيفة — متاعها الوحيد الذي أخذناه معنا — ابتسمت ابتسامةً باهتةً، وقالت: هذا ما أملكه من اﻟ Bijoux١١
ولكنها كانت من الضعف بحيث لم تقوَ على حمل هذه اﻟ Bijoux. ولم يفتحوا لنا طويلًا. وبعد الجرس الثالث أو الرابع لاح ضوء في النافذة وتردَّدَت خطوات وسعال وهمس، وأخيرًا صرَّ المزلاج، وظهرت في الباب امرأة بدينة بوجه أحمر مذعور. وخلفها، على مسافة قصيرة، وقفَت عجوز صغيرة نحيلة، بشعر أبيض قصير، وفي بلوزة بيضاء وفي يدها شمعة. وهرولَت زينائيدا فيودوروفنا إلى المدخل وارتمَت على عنق تلك العجوز.

وأعولت بصوتٍ عالٍ: نينا، لقد خُدِعت! خُدِعتُ بقسوة، بنذالة! نينا! نينا!

سلمت السلة للمرأة، وأُغلق الباب، ولكنْ ظلَّ النحيب وصرخة «نينا!» تتناهى من ورائه. وجلستُ في الحنطور وأمرتُ الحوذي أن يَمضيَ على مهل إلى شارع نيفسكي. كان عليَّ أن أفكر في أمر مَبيتي أنا أيضًا.

في اليوم التالي قُبيل المساء كنت عند زينائيدا فيودوروفنا. تغيَّرت بشدة. لم يعد هناك أثر للدموع على وجهها الشاحب الشديد الهزال، وكان تعبيره مختلفًا، ولستُ أدري هل لأني رأيتُها الآن في ظروف أخرى، أبعد ما تكون عن البذخ، ولأن علاقتنا أصبحَت الآن مختلفة؟ أو ربما لأن الفاجعة الكبيرة قد تركت عليها بصماتها، فلم تعد تبدو لي الآن بمثل تلك الرشاقة والأناقة التي بدَت لي بها دائمًا. وكما لو أن جسمها أصبح أصغر! ولاحظتُ في حركاتها ومشيتها ووجهها عصبيةً زائدةً وحِدَّة، كما لو كانت على عجلة من أمرها، ولم تعد فيها النعومة السابقة، حتى في ابتسامتها. وكنتُ الآن أرتدي حُلَّةً غاليةً اشتريتُها نهارًا. فصوَّبَت نظرتها قبل كل شيء إلى هذه الحُلَّة وإلى القُبَّعة في يدي، ثم سدَّدَت نظرةً قَلِقةً مُتفحِّصةً إلى وجهي وكأنما تدرسه.

وقالت: إن تبدُّلك ما زال يبدو لي أشبه بمعجزة. عفوًا إذ أتأملك بهذا الفضول، أنت حقًّا شخص غير عادي.

فرويتُ لها ثانية من أنا، ولماذا عملت عند أرلوف، رويت بتفصيل واستفاضة أكثر مما بالأمس. وأصغَت إليَّ بانتباه شديد، وقالت دون أن تدعني أكمل: كل شيء انتهى بالنسبة لي هناك. أتدري، لم أتمالك نفسي وكتبت رسالة. وها هو ذا الرد.

على الورقة التي مدَّتها لي كان مكتوبًا بخطِّ أرلوف: «لن ألجأ إلى التبرير، ولكنْ ألا توافقينني على أنكِ أنتِ التي أخطأتِ لا أنا. أتمنى لكِ السعادة وأرجو أن تنسَي بسرعة مَن يحترمك» (ج. أ).

ملحوظة: أرسل لك أمتعتك.

كانت الصناديق والسلال التي أرسلها أرلوف موضوعةً هنا في غرفة الجلوس، وبينها أيضًا حقيبتي البائسة.

وإذَن … (قالت زينائيدا فيودوروفنا ولم تكمل) وصمتنا. وتناولَت مني الرسالة وبسطتها أمام عينيها حوالي دقيقتَين، في تلك الأثناء اكتسب وجهها ذلك التعبير المتغطرس، الهازئ المتكبر والقاسي الذي لاح فيه بالأمس في بداية مكاشفتي لها. وطفرَت من عينيها الدموع، لم تكُن دموعًا وَجِلةً أو مريرة، بل دموعًا أبيَّة غاضبة.

اسمع (قالت وهي تنهض بحِدَّة وتمضي إلى النافذة لكيلا أرى وجهها) هذا هو قراري: غدًا سأسافر معك إلى الخارج.

– رائع. أنا مستعدٌّ أن أسافر ولو اليوم.

– جندني. هل قرأتَ بلزاك؟ (سألتني فجأةً وقد التفتَت نحوي) هل قرأته؟ روايته Père Goriot،١٢ تنتهي بالبطل وهو ينظر من قمة تلٍّ إلى باريس ويتوعد هذه المدينة: «الآن سنصفي حسابنا!» وبعد ذلك يبدأ حياةً جديدة.

وأنا كذلك، عندما أُلقي آخر نظرة من عربة القطار على بطرسبرج سأقول لها: «الآن سنصفي حسابنا!»

وإذ قالت ذلك ابتسمَت لمزحتها هذه، ولسببٍ ما انتفض بدنُها كله.

١٥

في البندقية بدأت تنتابني آلام الرئتين. يبدو أنني أُصبتُ ببرد في المساء عندما توجَّهنا بزورق من المحطة إلى Hôtel Bauer. واضطررتُ من أول يوم إلى ملازمة الفِراش فلم أبرحه مُدَّة أسبوعَين. وطيلة فترة مرضي كانت زينائيدا فيودوروفنا تأتي إليَّ من غرفتها كل صباح لتتناول معي القهوة، ثم تقرأ لي بصوت مسموع من الكتب الفرنسية والروسية التي اشترينا منها الكثير في فيينا. وكانت هذه الكتب معروفةً لي أو غير ممتعة منذ زمن بعيد، ولكن صوتًا رقيقًا طيبًا كان يتردَّد بجواري، بحيث كان محتواها جميعًا في الواقع يتلخَّص بالنسبة لي في شيء واحد؛ أنني لستُ وحيدًا. وكانت تخرج للنزهة وتعود في فستانها الرمادي الفاتح وفي قُبَّعة خفيفة من القش، مَرِحة وقد أدفأتها شمس الربيع، فتجلس بجوار سريري وتنحني مُقتربةً من وجهي، وتروي لي شيئًا ما عن البندقية أو تقرأ هذه الكتب، فكنتُ أشعر بالراحة.

في الليل كنتُ أحسُّ بالبرد والألم والملل، أمَّا في النهار فكنتُ أنهل من الحياة، ولستُ أجد تعبيرًا أفضل من ذلك. كانت الشمس الساطعة الحارة الضاربة في النوافذ المفتوحة وباب الشرفة، والصيحات المتناهية من أسفل، وطرطشة المجاديف، ورنين الأجراس، والدوي الراعد لمدفع منتصف النهار، والإحساس بالحرية، الحرية التامة؛ كان كل ذلك يصنع بي المعجزات. فأحسستُ على جنبي أجنحةً قويةً عريضةً حملَتني إلى حيث لا يعلم إلا الله. وأيُّ سحر، وأيُّ سعادة تراودني أحيانًا من فكرة أن حياةً أخرى تسير الآن بجوار حياتي، وأنني خادم، حارس، صديق، رفيق لا غِنى عنه لمخلوق فني جميل غني، لكنه ضعيف، مُهان، وحيد! حتى المرض يصبح مُحبَّبًا عندما تعرف أن هناك أشخاصًا ينتظرون شفاءك كما ينتظرون العيد. وذات مرةٍ سمعتُها تتهامس مع طبيبي خلف الباب، ثم دخلت غرفتي بعيون دامعة، وكان ذلك نذير سوء، ولكني كنتُ متأثرًا وأحسستُ في نفسي براحة غير عادية.

وها قد سُمح لي بالخروج إلى الشرفة. الشمس والنسيم الخفيف القادم من البحر يهدهدان ويداعبان جسدي المريض. وأنظر أسفل إلى قوارب الجندول المألوفة لديَّ منذ وقت بعيد، والتي تسبح برشاقة نسائية، برفق وعظمة، كأنما تحيا وتشعر بترف هذه الحضارة الأصيلة الجذابة. وتفوح رائحة البحر. وفي مكانٍ ما يتردَّد عزفٌ وتريٌّ وغناءٌ بصوتَين. يا للروعة! ما أبعد الشبه بتلك الليلة البطرسبرجية التي هطل فيها الثلج المُبلَّل وأخذ يلسع الوجه بغلظة! لو نظرت مباشرةً عبر القناة فسيبدو شاطئ البحر، وعند الأفق، في المدى الواسع، تسطع الشمس في الماء بشدة إلى درجة تؤلم العيون. وتنجذب روحي إلى هناك، إلى البحر الحبيب الطيب الذي وهبتُه شبابي. أريد أن أعيش! أن أعيش، ولا شيء أكثر!

بعد أسبوعَين أصبحتُ أتحرك وأذهب إلى حيث أشاء، كنتُ أحبُّ الجلوس في الشمس والإصغاء إلى غناء ملامح الجندول دون أن أفهمه، والنظر ساعاتٍ إلى ذلك المنزل الصغير الذي يُقال إن ديدمونة كانت تسكنه … منزل ساذج حزين، بريُّ المنظر، خفيف كالدانتلا، خفيف إلى درجة يبدو معها كأن من الممكن زحزحته من مكانه بيدٍ واحدة. وكنت أقف طويلًا على قبر كانوفا١٣ دون أن أحوِّل بصري عن الأسد الحزين. أنا في قصر الدوجات، فكان يشدُّني دائمًا ذلك الركن الذي دهنوا فيه بالطلاء الأسود مارينو فالييرو المسكين.١٤ وفكرتُ في أنه من الجميل أن تكون فنانًا، أو شاعرًا، أو مسرحيًّا، ولكن إذا كان ذلك بعيد المنال عني فلأنغمس على الأقلِّ في الغيبيات! نعم، لو كان لديَّ فوق هذه السكينة القريرة والراحة التي تملأ الروح … لو قطعة من أيِّ إيمان.
في المساء كنا نأكل القواقع البحرية ونشرب النبيذ، ونتنزه بالجندول. وأذكر جندولنا الأسود، وهو يتمايل في مكانه، ومن تحته يتناهى خريرُ المياه الضعيف. وهنا وهناك ترتعش وتومض انعكاساتُ النجوم وأضواءُ الشاطئ. وغير بعيدٍ عنَّا يجلس أشخاصٌ ما يغنُّون في جندول مُزيَّن بالمصابيح الملوَّنة التي تنعكس في صفحة المياه. وتتردَّد في الظلام أنغام جيتارات وكمانات وماندولينو وأصوات رجال ونساء، وزينائيدا فيودوروفنا جالسة بجواري شاحبة، بوجه جاد، صارم تقريبًا، وقد زمَّت شفتَيها وعقدَت ذراعَيها بشدة، وتفكر في شيءٍ ما دون أن يطرف لها جفن ولا تسمعني. هذا الوجه، والجلسة، والنظرة الجامدة الخالية من أيِّ تعبير، والذكريات الكئيبة إلى درجة لا تُعقل، المرعبة، والباردة كالثلج، بينما تحيط بها زوارق الجندول والأضواء والموسيقى والأغنية ذات الصيحة النشطة، المنفعلة Jam – mo! … Jam – mo … يا لتناقضات الحياة! عندما تجلس هكذا، عاقدةً ذراعيها، مُتصلبةً، مُجللةً بالحزن، كان يُخيَّل إليَّ أنني وإياها نشارك في روايةٍ ما، من طراز قديم، بعنوان: «البائسة» أو «المهجورة» أو شيء من هذا القبيل. أنا وهي … هي البائسة المتروكة، وأنا الصديق الوفي المخلص الحالم، وإذا شئتم: الخائب الفاشل، الذي لم يعد يصلح لشيء، اللهم إلا لأنْ يسعل ويحلم، وربما أيضًا لأنْ يُضحيَ بنفسه. ولكن مَن بحاجة الآن إلى تضحياتي، ولأيِّ داعٍ؟ ثم حقًّا ما الذي أضحِّي به؟

بعد نزهة المساء كنا دائمًا ما نتناول الشاي في غرفتها ونتحدث. لم نكُن نخشى مسَّ الجراح القديمة التي لم تندمل بعد … على العكس، لقد كنتُ أشعر حتى بالمتعة عندما أحكي لها عن حياتي عند أرلوف، أو أتناول بصراحة علاقاتهما التي كنتُ على علم بها ولم تكُن لتخفى عليَّ. كنت أقول: أحيانًا كنتُ أمقتُك، عندما كان يتدلَّل ويمنُّ ويكذب كان يدهشني أنكِ لا ترين شيئًا ولا تفهمين بينما كل الأمور واضحة تمامًا، تُقبِّلين يدَيه وتركعين أمامه وتنافقينه …

فتقول وهي تتضرج: عندما كنتُ أُقبِّل يدَيه وأركع أمامه، كنتُ أحبُّه.

– أمن المعقول أنه كان صعبًا كشفه؟ يا له من أبي الهول! أبو الهول ضابط البلاط! إنني لا ألومك على شيء، حاشا لله. قلتُ وأنا أشعر أنني فظ، وأفتقر إلى التربية الأرستقراطية وتلك اللباقة التي لا غِنى عنها عندما تتعامل مع روح غريبة. ولم ألاحظ في نفسي هذا النقص فيما مضى، قبل أن أتعرَّف عليها. ولكن كيف لم تستطيعي أن تفطني؟ ردَّدتُ ولكن بنبرة أخفت وأقلَّ ثقة.

فقالت بانفعال شديد: تريد أن تقول إنك تحتقر ماضيَّ، وأنتَ على حق. إنكَ تنتمي إلى ذلك الطراز الخاص من الناس الذين لا يمكن تقييمُهم بالمقاييس العادية، ومتطلباتك الخلقية تتميز بالصرامة المطلقة، وأنتَ لا تستطيع أن تغفر، وأنا أفهم ذلك. إنني أفهمك، وإذا كنتُ أحيانًا أعارضك فذلك لا يعني أن نظرتي إلى الأمور مختلفة عن نظرتك. إنني أتفوَّه بهراء الماضي لأنني ببساطة لم أتمكَّن بعدُ من استهلاك فساتيني وأفكاري القديمة. أنا نفسي أحتقر وأمقت ماضيَّ وأرلوف وحبي … أيُّ حبٍّ هذا؟ الآن يبدو كل ذلك حتى مُضحكًا (قالت مُقتربةً من النافذة ومُحدقةً إلى القناة في الأسفل) كل هذه الغراميات لا تؤدِّي إلا إلى تكدير الضمير وتشتيت العقل. مَغزى الحياة يكمن في شيء واحد؛ في النضال. أن تدوس بكعبك على رأس الحيَّة الغادر حتى يصير منسحقًا! في هذا يكمن المغزى. في هذا وحده، وإلا فليس ثمة مَغزى.

ورويتُ لها قصصًا طويلةً من ماضيَّ، ووصفتُ لها مغامراتي المدهشة بالفعل، ولكني لم أتفوَّه بكلمة عن ذلك التحول الذي طرأ عليَّ، وكانت تصغي إليَّ في كل مرة بانتباه شديد، وتفرك يديها في المواضع الشيِّقة كأنما تأسى عليَّ، إنها لم تتمكَّن من خوض مثل هذه المغامرات والمخاوف والأفراح، ولكنها تشرد فجأةً وتنطوي على نفسها، وأرى في وجهها أنها لم تعد تصغي إليَّ.

عندما أغلق النوافذ المُطلَّة على القناة وأسألها: هل أشعل المدفأة؟

فتقول وهي تبتسم ابتسامةً ذابلة: كلَّا، دعك منها. أنا لا أشعر بالبرد، فقط أحسُّ بضعف في جسمي كله. أتدري، يُخيَّل إليَّ أنني في الفترة الأخيرة ازددتُ ذكاءً بشكل فظيع. لديَّ الآن أفكار غير عادية، أصيلة. عندما أفكر، مثلًا، في الماضي، في حياتي السابقة، وفي الناس عمومًا، يتَّحد كل ذلك عندي في شيء واحد؛ في صورة زوجة والدي. امرأة فظة، وقحة، بلا قلب، زائفة، فاجرة، وفوق ذلك مُدمنة مورفين. كان أبي رجلًا ضعيفًا، بلا إرادة، وقد تزوج أمي طمعًا في نقودها، وأوصلها إلى السُّل، بينما أحبَّ هذه المرأة، زوجته الثانية، بعنف، بجنون.

كم عانيت! حسنًا، ما جدوى الكلام! وهكذا، كما قلت، يتَّحد كل شيء في صورة واحدة. وإني لأشعر بالأسى؛ فلماذا ماتت زوجة أبي؟ كم كنتُ أودُّ لو قابلتها الآن!

– لماذا؟

– هكذا لا أدري! (قالت وهي تضحك وتهزُّ رأسها بطريقة جميلة) طابت ليلتك. تماثل للشفاء، وما إن تُشفى حتى نشرع في أعمالنا … حان الوقت.

وعندما أمسك بمقبض الباب بعد أن نتودع تقول لي: ما رأيك؛ هل بوليا لا تزال تعيش لديه؟

– في الغالب.

وأنصرف إلى غرفتي. وهكذا عشنا شهرًا كاملًا.

وذات يوم مكفهر، وكنَّا واقفَين بجوار النافذة في غرفتي، نُحدِّق صامتَين في الغيوم الزاحفة من البحر وفي القناة المزرقة، وتنتظر هطول المطر بين لحظة وأخرى، وعندما أصبح شريط المطر الضيِّق الكثيف يحجب الشاطئ كالشاش، أحسسنا كلانا فجأةً بالملل. وفي نفس اليوم رحلنا إلى فلورنسا.

١٦

جرى ذلك خريفًا في نيس. فذات صباح، عندما دخلت غرفتها، وجدتُها جالسةً في المقعد، واضعةً ساقًا على ساق، محنيَّة، هزيلة، وقد غطت وجهها بيديها وهي تبكي بحرقة وشهيق، وسقط شعرها الطويل غير المُصفَّف على رُكبتَيها. وفجأةً تبخَّر من نفسي ذلك الانطباع الساحر الرائع عن البحر الذي رأيتُه لتوِّي وكنتُ أودُّ أن أحدِّثها عنه، وعصر الألم قلبي.

ماذا بك؟ سألتُها، فنزعَت إحدى يدَيها عن وجهها وأشاحت لي أن أخرج. ولكن ماذا بك؟ ردَّدتُ، ولأول مرة طوال فترة تعارفنا قبَّلتُ يدها.

فقالت بسرعة: كلا، كلا، لا شيء! آه، لا شيء، لا شيء … اخرج … ألا ترى أنني لم أرتدِ ثيابي؟

خرجتُ في ارتباك شديد. لقد سمَّمَت الشفقةُ تلك السكينة والمزاج الصافي الذي لازمني فترةً طويلة. وتملَّكتني رغبةٌ جارفةٌ في أن أرتميَ على قدمَيها وأتوسَّل إليها ألَّا تبكيَ وحدها، بل تفضي إليَّ ببلواها، وزمجر صخب البحر المنتظم في أذني كنبوءة جهمة، فرأيت في المستقبل دموعًا جديدةً وأحزانًا وخسائرَ جديدة. ما الذي تبكيه؟ ما الذي تبكيه؟ سألتُ نفسي متذكرًا وجهها ونظرتها المُعذِّبة. وتذكرت أنها حُبلى، وكانت تحاول أن تخفي وضعها عن الناس وعن نفسها أيضًا؛ كانت ترتدي في المنزل بلوزةً فضفاضةً أو سُترةً بها ثنايا مُبالَغ في انتفاخها عند الصدر، وعندما تخرج إلى مكانٍ ما تُحكِم الكورسيه على جسدها بشدة، لدرجة أن الإغماء داهمها مرَّتَين أثناء التنزه. ولم تتحدث معي عن حملها أبدًا، وذات مرة، عندما ألمحتُ إلى أنه لا بأس لو استشارت طبيبًا، تضرَّجَت كلها ولم تنبس بكلمة. عندما دخلتُ غرفتها فيما بعدُ وجدتُها مرتديةً ثيابها، مُصفِّفةً الشعر.

– كفى، كفى! (قُلتُ عندما رأيتها تهُمُّ بالبكاء ثانيةً) هيَّا بنا نذهب إلى البحر ونتحدث.

– لا أستطيع أن أتحدث. عفوًا، ولكني الآن في حالة أشعر فيها بالرغبة أن أبقى وحدي. ثم أرجوك يا فلاديمير إيفانوفتش، إذا أردتَ في مرة أخرى أن تدخل فلتدقَّ الباب مُقدَّمًا.

رنَّت «مُقدَّمًا» هذه بصورة خاصة، غير نسائية، فخرجتُ وعاد إليَّ المزاج البطرسبرجي اللعين، وانطوت كل أحلامي وانكمشَت كأوراق الشجر في اللهب، وشعرتُ أنني وحيدٌ من جديد، وليس هناك قَرابةٌ بيننا. إنني بالنسبة إليها مثل خيوط العنكبوت بالنسبة لهذه النخلة، تعلَّقَت بها صدفة وسوف تنزعها عنها الريح وتذهب بها. وتجوَّلتُ في الحديقة، حيث كانت تعزف موسيقى، ودخلت الكازينو. وهنا تأملتُ النساء المتأنقات، المتضوِّعات بشدة، ونظرَت كلٌّ منهنَّ إليَّ وكأنما تريد أن تقول: «أنتَ وحيد، هذا رائع!» ثم خرجتُ إلى الشرفة وتطلعتُ طويلًا إلى البحر. لم يلُح شراعٌ واحدٌ بعيدًا عن الأفق، وعلى الشاطئ الأيسر، في الظلام الليلي، تراءت الجبال والحدائق والأبراج والمنازل، وتراقصَت أشعَّة الشمس فوق ذلك كله، ولكن كل شيء بدَا غريبًا، لا مُباليًا، بدَا اضطرابٌ مشوش.

١٧

ظلَّت تأتي إليَّ، كما في السابق كل صباح، لتشرب القهوة، ولكننا لم نعد نتغدى معًا. لم تشعر — كما قالت — برغبة في الأكل، فلم تكُن تتغدى إلا بالقهوة والشاي وشتَّى الأشياء التافهة كالبرتقال والكرملة.

وفي الأمسيات لم نعد نتحادث. لستُ أدري لماذا.

فبعد أن فاجأتها تبكي أصبحَت تعاملني بلا اهتمام، وأحيانًا بإهمال، بل وحتى بسخرية، وتدعوني لسببٍ ما ﺑ «يا سيدي». وكل ما كان يبدو لها من قبلُ مُخيفًا، مُدهشًا وبطوليًّا، ويثير فيها الحسد والإعجاب، لم يعد الآن يُحرِّك فيها ساكنًا، وبعد أن تسمعني كانت عادةً تتمطى قليلًا وتقول: نعم، يا لها من أيام يا سيدي، يا لها من أيام!

بل كان يحدث ألَّا ألقاها أيامًا كاملة. كنتُ أدقُّ بابها بوَجَل وتهيُّب، ولا مُجيب، وأدقُّ مرةً ثانية … صمت … وأقف بجوار الباب وأصيخ السمع. وها هي ذي الخادم تمرُّ بجواري وتقول ببرود: Madame est partie.١٥ ثم أتجول في طرقة الفندق وأتجول … إنجليزٌ ما، وسيداتٌ بصدور ممتلئة، وخدم يرتدون الفراك، وعندما أحدِّق طويلًا في البساط الطويل المخطط الذي يمتدُّ بطول الطرقة، يَرِد إلى ذهني أنني ألعب في حياة هذه المرأة دَورًا غريبًا، ربما مُزيفًا، وليس في مقدوري قطُّ أن أغيِّر هذا الدَّور، فأركض إلى غرفتي، وأرتمي على السرير، وأفكر، أفكر، ولا أستطيع أن أتوصَّل إلى شيء، ولا أدرك بوضوح إلا أنني أريد أن أعيش، وأنه كلما ازداد وجهُها قبحًا وجفافًا وقسوةً أصبحَت هي أقرب إلى قلبي، وازداد شعوري بقَرابتنا حِدَّةً وإيلامًا. فلأكُن أنا «يا سيدي»، ولتكُن هذه النبرة الخفيفة اللامُبالية، فليكُن أيُّ شيء، لكنْ لا تتركيني يا كنزي، فأنا الآن أخاف الوحدة.

ثم أعود ثانيةً إلى الطرقة، وأصيخ بقلق، ولا أتغدى، ولا ألاحظ حلول المساء. وأخيرًا، في حوالي الحادية عشرة أسمع وقع الخطوات المألوف، وفي الزاوية قُرب السُّلَّم تظهر زينائيدا فيودوروفنا.

وتسألني وهي تمرُّ بجواري: تتمشى؟ الأفضل أن تخرج إلى الشارع … طابت ليلتُك.

– ولكنْ ألن نلتقي اليوم؟

– يبدو أن الوقت متأخر. وعمومًا كما تشاء. وأسأل وأنا أدلف خلفها إلى غرفتها: خبِّريني، أين كنت؟

– أين؟ في مونت كارلو. وتُخرج من جيبها حوالي عشر قِطَع ذهبية وتقول: انظر يا سيدي، كسبتها، في الروليت.

– ولكنكِ لن تمارسي القمار.

– ولمَ لا؟ غدًا سأذهب ثانية.

وتصوَّرتُها بوجهها المريض المشوَّه، حُبلى، مُحزمةً بشدة، تقف بجوار طاولة القمار في حشد من الغانيات والعجائز الخرفات، اللائي يتهافتن على الذهب كالذباب على العسل، وتذكرتُ أنها ذهبَت إلى مونت كارلو خُفيةً عني لسببٍ ما.

قلتُ لها ذات مرة: أنا لا أصدِّقك. لن تذهبي إلى هناك ثانية.

– لا تقلق. أنا لا أستطيع أن أخسر كثيرًا.

فقلتُ بأسًى: ليست القضية في الخسارة. ألم يخطر ببالك وأنتِ تلعبين هناك أن بريق الذهب، وكل هؤلاء النسوة، العجائز والصبايا ومُديري اللعب وكل هذا الجو؛ ألم يخطر ببالك أن كل ذلك هو استهزاء خسيس حقير بكدِّ العامل وبالعَرَق الدامي؟

فسألتني: إذا لم ألعب فماذا أفعل هنا؟ كد العامل والعرق الدامي … هذه البلاغة أجِّلها إلى مرة أخرى. والآن طالما أنكَ بدأت، فلتسمح لي أن أواصل. اسمح لي أن أضع السؤال بحِدَّة: ماذا عليَّ أن أفعل هنا وما الذي سأفعله؟

– ماذا تفعلين؟ (قلتُ وهززتُ كتفي) لا يمكن الإجابة فورًا على هذا السؤال.

فقالت وأصبح وجهُها غاضبًا: أرجو أن تجيبني بصدق يا فلاديمير إيفانيتش.

فطالما تجرأتُ أن أسألك هذا السؤال، لا لكي أسمع عباراتٍ عامة. واستطردَت وهي تدقُّ براحتها على المائدة في إيقاع مصاحب: إنني أسألك: ما الذي عليَّ أن أفعله هنا؟

وليس هنا، في نيس، بل عمومًا!

لزمتُ الصمت ونظرتُ من النافذة إلى البحر، وكان قلبي يدقُّ بعنف.

– فلاديمير إيفانيتش (قالت بصوت خافت، مضطربة الأنفاس، فقد كان الحديث مُجهِدًا لها) فلاديمير إيفانيتش، إذا كنتَ أنتَ نفسك لا تثق بالقضية، وإذا كنتَ كففتَ عن التفكير في العودة إليها، فلماذا إذَن … لماذا سحبتَني من بطرسبرج؟ لماذا وعدتَني؟ ولماذا أيقظتَ فيَّ أحلامًا جنونية؟ لقد تبدَّلَت معتقداتُك، أصبحتَ شخصًا آخر، ولا أحد يُحمِّلكَ الذنب في ذلك، فالمعتقدات لا تخضع دائمًا لسلطاننا، ولكنْ … ولكنْ بالله يا فلاديمير إيفانيتش لماذا لا تكون صادقًا؟ (واستطردَت بصوتٍ خافتٍ وهي تقترب مني) عندما كنتُ أحلم بصوتٍ عالٍ طوال هذه الشهور وأهذي وأُعجَب بخُططي، وأعيد بناء حياتي على أُسُس جديدة؛ لماذا لم تقُل لي الحقيقة، بل صمتَّ أو شجعتَني بقصصك وكنتَ تتصرف كأنكَ تتعاطف معي تمامًا؟

لماذا؟ ما الداعي لذلك؟

فقلتُ مستديرًا ولكنْ دون أن أتطلع إليها: من الصعب أن يعترف المرء بإفلاسه. نعم، إنني لا أومن، وقد تعبتُ وانهارت معنوياتي. من الصعب أن يكون المرء صادقًا، صعب جدًّا، ولذلك صمتُّ. أرجو من الله ألَّا يجعل أحدًا يعاني ما عانيت.

خُيِّل إليَّ أنني سأشرع في البكاء حالًا، فصمتُّ.

فقالت وهي تمسك بكلتا يديَّ: فلاديمير إيفانيتش، أنتَ عانيتَ وخُضتَ الكثير، وتعرف أكثر مني. فلتفكر بجدية ولتُخبرني: ماذا عليَّ أن أفعل؟ علِّمني. إذا لم تعد قادرًا على السَّير وقيادة الآخرين فلتُشر لي على الأقلِّ إلى أين أذهب. إنني إنسان حي، موجود، يفكر، أليس كذلك؟ أن أجد نفسي في وضع زائف … أن ألعب دَورًا أحمقَ … هذا شاقٌّ علي. أنا لا ألومك، ولا أتهمك، بل فقط أرجوك.

وجاءوا بالشاي.

حسنًا، فماذا إذَن؟ (سألتني زينائيدا فيودوروفنا وهي تُقدِّم لي كوب الشاي) ماذا تقول لي؟

فأجبتها: ليس كل الضياع ما ترينه من النافذة، فهناك أناس غيري يا زينائيدا فيودوروفنا.

فقالت بحيوية: إذَن فلتُشر لي إليهم، هذا فقط ما أطلبه منك.

فاستطردتُ قائلًا: وأريد أيضًا أن أقول: بوسع المرء أن يخدم الفكرة في أكثر من مجال، فإذا ما أخطأ أو فقد إيمانه بشيء، فمن الممكن البحث عن شيء آخر. إن عالم الأفكار واسع لا ينضب.

عالم الأفكار! (قالت وهي تُحدِّق في وجهي بسخرية) من الأفضل إذَن أن نكُفَّ … ما جدوى الكلام؟! وتضرَّجَت.

عالم الأفكار! (ردَّدَت ثم ألقَت جانبًا بالمنشفة واكتسب وجهُها تعبيرًا ثائرًا متقززًا) إن كل أفكارك رائعة، كما أرى، تقود إلى خطوة حتمية ضرورية واحدة؛ عليَّ أن أصبح عشيقتك. هذا هو المطلوب. فأن أهيم بالأفكار دون أن أكون عشيقة رجل من أشرف الناس وأكثرهم عقائدية؛ يعني أنني لا أفهم الأفكار. ينبغي البدء من هذه النقطة.

أعني من العشيقة، والباقي تلقائيًّا.

فقلتُ: أنتِ منزعجة يا زينائيدا فيودوروفنا.

– كلَّا، أنا صادقة! (صاحت وهي تتنفس بصعوبة) أنا صادقة.

– ربما كنتِ صادقة، ولكنكِ مخطئة. إنني أتعذَّب من سماع كلامك.

فضحكت قائلة: أنا مخطئة! دع أحدًا غيرك يقول ذلك يا سيدي. فلأبدُ لكَ غير لبقة، قاسية، ولكنْ لا بأس، ألستَ تحبُّني؟ تحبُّني، نعم؟

فهززتُ كتفيَّ.

فاستطردَت تقول بسخرية: نعم، تهزُّ كتفَيك! عندما كنتَ مريضًا سمعتُك تهذي، وعلاوةً على ذلك فهاتان العينان المغرمتان دومًا، وهذه الزفرات، والأحاديث النبيلة عن القرب والصلة الروحية … ولكن المُهم هو لماذا كنتَ حتى الآن غير صادق؟ لماذا أخفيتَ ما هو موجود وتحدَّثتَ عمَّا هو غير موجود؟ كان الأجدر بك أن تقول من البداية أي أفكار في الواقع دفعَتك إلى شدِّي من بطرسبرج، إذَن لكنتُ على بيِّنةٍ من أمري. إذَن لا نتحرك آنذاك كما كنتُ أنوي، ولما كنا الآن في هذه الكوميديا السمجة؟ إيه، ما جدوى الكلام؟! وأشاحت نحوي بيدها وجلسَت.

فقلت مُغضَبًا: إنك تتحدثين بلهجة توحي بارتيابك في وجود نوايا غير شريفة لديَّ.

– حسنًا، كفاك! ما جدوى الكلام؟! أنا لا أرتاب في وجود نوايا لديك، بل في عدم وجود أيِّ نوايا، فلو كانت لديك لعرفتُ بها. لم يكُن لديك شيء سوى الأفكار والحب. الآن الأفكار والحب، وفي المستقبل أنا عشيقة. هكذا طبيعة الأشياء في الحياة وفي الروايات (وقالت وهي تدقُّ بكفِّها على الطاولة): ها أنتَ ذا قد سببتَه، ولكن المرء يجد نفسه رغمًا عنه متفقًا معه، فله العذر في احتقار كل هذه الأفكار.

فصحتُ أنا: إنه لا يحتقر الأفكار، بل يخشاها. إنه جبان وكذاب.

– حسنًا، كفاك! هو جبان وكذاب وخدعني، وأنت؟ اعذرني على صراحتي، ولكنْ مَن أنت؟ لقد خدعني وتركني عُرضةً للمقادير في بطرسبرج، وأنتَ خدعتَني وتركتَني هنا، ولكنه على الأقلِّ لم ينسج خداعه بالأفكار، أمَّا أنت …

– أستحلفكِ بالله لماذا تقولين هذا؟ (قلتُ مرتاعًا وأنا ألوي ذراعي واقتربتُ منها بسرعة) كلَّا زينائيدا فيودوروفنا، كلَّا، هذا ابتذال، لا ينبغي اليأسُ بهذه الدرجة، اسمعيني أرجوكِ. (استطردتُ وقد أمسكتُ بفكرة ومضَت في ذهني فجأةً بصورة غامضة، وبدَا لي أنها يمكن أن تُنقذ كلينا) اسمعيني أرجوك. لقد عانيتُ في حياتي الكثير، الكثير إلى درجة يدور معها رأسي عندما أتذكره، والآن أدركتُ جيدًا بعقلي، وبروحي المُعذَّبة أن رسالة الإنسان إمَّا أن تكون لا شيء وإمَّا أن تكون شيئًا واحدًا، ألا وهو الحب المتفاني للأقرباء. هذا هو ما ينبغي أن نسعى إليه، وهذه هي رسالتنا! ذلك هو إيماني!

أردتُ بعد ذلك أن أتحدث عن الرحمة وعن التسامح، ولكن صوتي رنَّ فجأةً بنبرة غير صادقة، فتملَّكني الحرج.

وقلتُ بإخلاص: إنني أريد أن أحيا! أن أحيا، أن أحيا! أريد السلام والسكينة، أريد الدفء، هذا البحر، القرب منك. أوه، كم وددتُ لو نقلتُ إليك هذا الظمأ الجارف إلى الحياة! لقد تحدثتُ منذ قليل عن الحب، ولكن يكفيني مجرَّد القرب منك، صوتك فقط، تعبير وجهك …

تضرَّجَت وقالت بسرعة لكي تمنعني من الكلام: أنتَ تحبُّ الحياة وأنا أمقتها، إذَن فطريقانا مختلفان.

وصبَّت لنفسها شايًا، ولكنها لم تمسسه، وذهبَت إلى غرفة النوم واستلقَت على السرير.

وقالت لي من هناك: أعتقد أن من الأفضل أن نترك هذا الحديث. بالنسبة لي انتهى كل شيء، ولستُ بحاجة لشيء … ما جدوى الكلام بعد؟!

– كلَّا، لم ينتهِ كل شيء!

– حسنًا، كفاك … أنا أدري! مللت … يكفي.

وقفتُ قليلًا، وتمشيتُ من ركن إلى ركن، ثم خرجت إلى الطرقة. وفيما بعدُ في ساعة متأخرة من الليل، عندما اقتربتُ من بابها وأصختُ السمع، خُيِّل إليَّ بوضوح أنني أسمع بكاء.

في صباح اليوم التالي أخبرني الخادم مبتسمًا، وهو يُقدِّم لي الحُلَّة، أن السيدة من الغرفة رقم ١٣ سوف تلد، فارتديتُ ثيابي كيفما كان وهُرعت إلى زينائيدا فيودوروفنا وأنا أتجمَّد رعبًا. كان في غرفتها طبيب وقابلة وسيدة روسية كهلة من مدينة خاركوف تُدعى داريا ميخايلوفنا. وفاحت رائحة محلول الأثير. وما إن خطوتُ إلى الداخل حتى تردَّد أنينٌ خافتٌ ضارعٌ من الغرفة التي ترقد فيها، وكأنما حملته إلى الريح من روسيا، فتذكرت أرلوف وسخريته، وبوليا، والنيفا، ونُدَف الثلج المنهمرة، ثم الحنطور الخالي من المشمع الوافي، والنبوءة التي قرأتُها في صفحة السماء الصباحية الباردة، والصيحة اليائسة: «نينا! نينا!»

وقالت السيدة: اذهب إليها.

دخلتُ إلى زينائيدا فيودوروفنا يراودني شعورٌ وكأني والد الطفل. كانت ترقد مغمضة العينين، نحيلة، شاحبة، في طاقية بيضاء بالدانتيلا. وأذكر على وجهها تعبيرَين؛ أحدُهما لا مُبالٍ، بارد، ذابل، والثاني طفولي عاجز أضفَته عليه الطاقية البيضاء. لم تسمع حركة دخولي، أو ربما سمعتُ ولكنها لم تلتفت إليَّ. ووقفتُ أنظر إليها وأنتظر.

ولكن وجهها التوى من الألم، ففتحَت عينيها، وأخذَت تُحدِّق في السقف كأنما تحاول أن تفهم ماذا ألمَّ بها، ولاح على وجهها التقزز.

وهمسَت: يا للقرف!

فناديتُها بصوتٍ ضعيف: زينائيدا فيودوروفنا.

فنظرَت إليَّ بلا مُبالاة ووهن ثم أغمضَت عينيها، ووقفتُ قليلًا ثم خرجت.

ليلًا أخبرَتني داريا ميخايلوفنا أنه قد وُلدت طفلة، ولكن الوالدة في حالة خطيرة. ثم تردَّدت في الطرقة هرولة وصخب، وجاءتني داريا ميخايلوفنا ثانيةً وعلى وجهها ارتسم اليأس، ولوت ذراعَيها وهي تقول: أوه، هذا فظيع! الدكتور يظنُّ أنها تناولت سُمًّا! أوه ما أسوأ مسلك الروس هنا!

وفي اليوم التالي، في منتصف النهار، تُوفِّيَت زينائيدا فيودوروفنا.

١٨

مرَّ عامان، وتغيرت الأحوال، فعُدتُ إلى بطرسبرج وأصبح بوسعي أن أعيش هنا دون استخفاء. لم أعد أخشى أن أكونَ أو أبدوَ حسَّاسًا، واستغرقتُ تمامًا في المشاعر الأبوية، أو بالأصحِّ مشاعر عبادة الأوثان، التي أثارتها فيَّ سونيا ابنة زينائيدا فيودوروفنا. كنتُ أطعمها بيدي، وأحمِّمها وأرقِّدها، ولا أحوِّل عيني عنها لياليَ كاملة، وأصرخ عندما يُخيَّل إليَّ أنها ستسقط من يدي المُربِّية الآن. أصبح ظمئي إلى الحياة العادية التافهة بمرور الزمن أكثر حِدَّةً وعصبية، ولكن آمالي العريضة توقفَت بالقرب من سونيا، وكأنما وجدتُ فيها أخيرًا ما كنتُ بحاجة إليه. أحببتُ هذه الطفلة بجنون، ورأيت فيها استمرارًا لحياتي، ولم يكُن يُخيَّل إليَّ، بل كنتُ أشعر وأكاد أومن، بأنني عندما أنضو عني أخيرًا هذا الجسد الطويل المعروق الملتحي، فسوف أحيا في هاتين العينين الزرقاوين، وفي هذه الخصلات الذهبية الحريرية، وفي هاتين الذراعين الصغيرتين الورديتين البضَّتين، اللتين تُمسِّدان بهذا الحبِّ وجهي وتطوقان عنقي.

كنتُ أشعر بالخوف على مصير سونيا، فقد كان أبوها أرلوف، وفي شهادة الميلاد كان اسم عائلتها كراسنوفسكايا، أمَّا الشخص الوحيد الذي كان يعلم بوجودها ويهتمُّ به؛ أيْ أنا، فكانت أغنيته على وشك الانتهاء، كان من الضروري التفكير في مستقبلها بجدية.

في اليوم التالي لوصولي إلى بطرسبرج توجَّهتُ إلى أرلوف، وفتح لي الباب عجوزٌ بدينٌ بسالفَين أحمرَين ودون شارب، يبدو أنه ألماني. ولم تعرفني بوليا التي كانت تنظف غرفة الجلوس، ولكن أرلوف عرفني على الفور.

آه، السيد الخارج على القانون! (قال وهو يتفحَّصني بفضول ضاحكًا) ما هذه الصُّدف؟

لم يتغير إطلاقًا؛ نفس الوجه المدلَّل الكريه، ونفس السخرية. وعلى الطاولة، كما في الزمن الماضي، كتاب جديد وُضع بين صفحاته سكِّينٌ من العاج. يبدو أنه كان يقرأ قبل وصولي. وأجلسني، وقدَّم لي سيجارًا. وبلباقة يتميز بها الأشخاص الممتازو التربية وحدهم، قال بملاحظة عابرة وهو يكتم الإحساس الكريه الذي أثاره فيه وجهي وجسمي الهزيل: إنني لم أتغيَّر بتاتًا، وإنه من السهل التعرُّف عليَّ، حتى بالرغم من أنني أطلقتُ لحيتي. وتحدثنا عن الطقس، وعن باريس. ولكي يتخلَّص بسرعة من السؤال الثقيل الحتمي الذي كان يرهقه ويرهقني، سألني: هل ماتت زينائيدا فيودوروفنا؟

فأجبتُه: نعم، ماتت.

– بسبب الولادة؟

– نعم، بسبب الولادة. كان الدكتور يرتاب في سببٍ آخر، ولكنْ سيكون من المريح، لكَ ولي، أن نعتقد أنها ماتت بسبب الولادة.

وتنهَّد مُراعاةً للأصول وصَمَت. وعبر مُحلِّقًا مَلاكُ الوئام.

هكذا. أمَّا أنا فمثلما كنت، ليس هناك تغيرات تُذكر (قال بحيوية وقد لاحظ أنني أتفحَّص غرفة المكتب) أبي، كما تعلم، متقاعد، يستريح، وأنا ما زلتُ هناك. هل تذكر بيكارسكي؟ هو أيضًا كما كان. جروزين تُوفِّي في العام الماضي بالدفتيريا … حسنًا، وكوكوشكين حي، وكثيرًا ما يتذكرك. وبالمناسبة (استطرد أرلوف وقد غضَّ بصره بخجل) عندما علم كوكوشكين بحقيقتك أخذ يروي في كل مكان أنكَ هاجمتَه وأردتَ أن تقتله، وأنه نجا بالكاد.

ولم أعلِّق بشيء.

– الخدم القُدامى لا ينسون أسيادهم، هذا لطيفٌ منك (قال أرلوف مازحًا) ولكنْ ألا تريد خمرًا أو قهوة؟ سآمر بإعدادها.

– كلَّا، أشكرك. لقد جئتُكَ في أمرٍ مُهِمٍّ جدًّا يا جيورجي إيفانيتش.

– لستُ من هُواة الأمور الهامة، ولكن يسرُّني أن أخدمك. بمَ تأمر؟

فشرعتُ أقول بانفعال: المسألة أنه تُوجَد معي هنا حاليًّا ابنة المرحومة زينائيدا فيودوروفنا، حتى الآن كنتُ أقوم بتربيتها، ولكني كما ترى، سأصبح اليوم أو غدًا صوتًا أجوف. وبوُدِّي أن أموت وأنا أعلم أنها مكفولة.

تضرَّج أرلوف قليلًا وعبس، ونظر إليَّ بصرامةٍ نظرةً خاطفة. لم يُثِر نفورَه «الأمرُ الهام» بقدْر ما أثارته كلماتي عن الصوت الأجوف، عن الموت.

وقال وهو يحجب عينَيه كأنما يتَّقي الشمس: نعم، ينبغي التفكيرُ في ذلك. أشكرك. تقول إنها صبية؟

– نعم صبية. صبية بديعة!

– هكذا. هذا بالطبع ليس جَروًا، بل إنسان … مفهوم، ينبغي التفكيرُ بجدية. أنا مُستعد أن أشارك و… ومُمتن لكَ جدًّا. ونهض، وتمشَّى وهو يقضم أظافره، ثم توقَّف أمام لوحة.

ينبغي التفكيرُ في ذلك (قال بصوت مكتوم مُديرًا لي ظهره)، سأزور اليوم بيكارسكي وأطلب منه أن يذهب إلى كراسنوفسكي. أظنُّ أن كراسنوفسكي لن يماطل طويلًا، وسيوافق على أخذ هذه الصبية.

ولكنْ عفوًا، أنا لا أعرف ما دخل كراسنوفسكي هنا؟ (قلتُ، ونهضتُ أنا أيضًا مُقتربًا من لوحة في الركن المقابل من غرفة المكتب) فقال أرلوف: ولكنها تحمل اسم عائلته كما آمُل!

– نعم، ربما كان مُلزمًا حسب القانون أن يأخذ هذه الطفلة، أنا لا أعرف، ولكني لم آتِ إليكَ يا جيورجي إيفانيتش لكي نتحدث عن القوانين.

– نعم، نعم، أنتَ على حق! (وافقني أرلوف بسرعة) يبدو أنني أتفوَّه بهراء، لكنْ لا تقلق، سوف نجد حلًّا مُرضيًا للطرفَين. بطريقة أو بأخرى أو بثالثة، على أيِّ حال سنجد حلًّا لهذه المسألة الحسَّاسة. سيُرتِّب بيكارسكي كل شيء. لو تكرَّمتَ اترك لي عنوانك وسأُخطِرك فورًا بالحلِّ الذي سنتوصل إليه. أين تسكن؟

سجَّل أرلوف عنواني، وتنهَّد، ثم قال مبتسمًا: فيا له من قَدَرٍ يا خالقي، بأن أكون والدًا لابنة صغيرة!١٦ ولكن بيكارسكي سيُرتِّب كل شيء، إنه رجل «فهيم». وأنت، هل مكثتَ طويلًا في باريس؟

– حوالي شهرين.

وصَمَتنا. كان أرلوف يخشى، على ما يبدو، أن أعود إلى الحديث عن الطفلة، فقال لكي يصرف انتباهي إلى موضوع آخر: أنتَ في الغالب لم تعد تذكر رسالتك.

أمَّا أنا فأحافظ عليها. إنني أفهم مزاجكَ آنذاك، وأصارحكَ بأنني أحترم هذه الرسالة. الدم البارد اللعين، الرجل الآسيوي، الضحك الذي يشبه صهيل الخيل، هذا لطيف ومُعبِّر (استطرد أرلوف مبتسمًا بسخرية) والفكرة الأساسية قريبة من الحقيقة على الأرجح، رغم أنه من الممكن المجادلة بلا نهاية (ثم قال متلعثمًا): أقصد المجادلة ليس في الفكرة نفسها، بل في موقفك من المسألة، في حماستك، إذا جاز التعبير. نعم، إن حياتي غير طبيعية، فاسدة، لا تصلُح لشيء، والجبن يعوقني عن أن أبدأ الحياة من جديد … في هذا أنتَ على حقٍّ تمامًا. أمَّا كونك تنفعل بذلك وتقلق ويبلُغ بك الأمر حدَّ اليأس، فهذا ليس من الحكمة، وأنتَ هنا لستَ مُحقًّا أبدًا.

– الشخص الحي لا يمكنه إلا أن ينفعل ويتملَّكه اليأسُ عندما يرى نفسه يهلك، ويهلك من حوله الآخرون.

– وأنتَ تقول هذا! إنني لا أعظ أبدًا باللامبالاة، بل أريد فقط نظرةً موضوعيةً إلى الحياة. وكلما كانت النظرة أكثر موضوعيةً قلَّت أخطار الوقوع في الخطأ. ينبغي أن ننظر إلى الجذور، وأن نبحث في كل ظاهرة عن عِلَّة كل العلل. لقد ضعفنا، وانحططنا، وأخيرًا سقطنا، وجيلنا يتألف كله من أشخاص مُضطربي الأعصاب وشكَّائين، ولا نجيد شيئًا إلا أن نتحدث عن التعب والإعياء، ولكن المُذنب في ذلك ليس أنتَ أو أنا، فنحن جدًّا تافهون لكي يتعلق بإرادتنا مصير جيل بأكمله. لا بدَّ أن الأسباب هنا، كما أظن، أسباب كبيرة، عامة، لها من وجهة النظر البيولوجية Raison d’être،١٧ الخاص الكبير. نحن مُضطربو الأعصاب، خاملون، مُرتدُّون، ولكنْ ربما كان ذلك ضروريًّا ومفيدًا للأجيال التي ستأتي بعدنا. لا تسقط شعرة واحدة من الرأس بدون مشيئة الأب في السموات. وبعبارة أخرى فلا شيء في الطبيعة أو في المحيط الإنساني بلا غاية؛ كل شيء له أُسُسه وضرورتُه. وإذا كان الأمر كذلك فما الداعي لأنْ نقلق هكذا ونكتب رسائل يائسة؟

فقلتُ بعد تفكير: ليكُن كذلك. إنني أومن بأن الأمور ستكون أسهل وأوضح للأجيال القادمة، وستكون خبرتنا في متناول أيديهم، ولكني أريد أن أعيش بغضِّ النظر عن الأجيال القادمة وليس فقط من أجلها. الحياة تُعطَى لنا مرةً واحدة، وأريد أن أحياها بقوة، بوعي، بجمال. أريد أن ألعب دَورًا بارزًا، مستقلًّا، نبيلًا، أريد أن أصنع التاريخ، حتى لا يكون من حقِّ هذه الأجيال القادمة أن تقول عن كل واحد منَّا: لقد كان تافهًا، أو شيئًا أسوأ من ذلك … أنا أومن بحكمة وضرورة ما يجري حولنا، ولكنْ ما شأني بهذه الضرورة؟ ولماذا ينبغي لذاتي أن تضيع؟

ما باليد حيلة! (تنهَّد أرلوف ونهض كأنما يشير إلى أن حديثنا انتهى) فتناولتُ قُبَّعتي.

جلسنا نصف ساعة فقط، فانظر كم من القضايا حلَلْنا! (قال أرلوف وهو يُودِّعني إلى المدخل) إذَن سوف أهتمُّ بالموضوع … اليوم مباشرةً سأقابل بيكارسكي، لا يكون لديك شك.

وقف منتظرًا حتى أفرغ من ارتداء مِعطفي، ويبدو أنه كان يشعر بالمتعة من أنني سأنصرف حالًا.

قلتُ له: جيورجي إيفانيتش، ردَّ لي رسالتي.

– حاضر.

ذهب إلى المكتب وعاد بعد دقيقة بالرسالة، فشكرتُه وخرجت.

في اليوم التالي تلقَّيتُ منه رسالة؛ هنَّأني بالتوفيق في حلِّ المسألة، كتب يقول إن لدى بيكارسكي سيدةً معروفة، تدير بنسيونًا، أشبه بروضة أطفال، تَقبَل فيه حتى الأطفال الصغار جدًّا، وهي سيدة يمكن الاعتمادُ عليها تمامًا، ولكنْ قبل الاتفاق معها لا بأس من التحدث مع كراسنوفسكي، فالشكليات تتطلب ذلك. ونصحني بأن أتوجَّه فورًا إلى بيكارسكي، آخُذ معي بالمناسبة شهادة الميلاد إذا كانت موجودة: «تقبَّل أصدق الاحترام والولاء من خادمكم المطيع …»

قرأتُ الرسالة بينما كانت سونيا جالسةً على الطاولة تنظر إليَّ بانتباه، دون أن تطرف عيناها، وكأنما كانت تعرف أن مصيرها يتقرَّر.

١  دار نشر شعبية ساهمت في نشر الكتب بأسعار رخيصة، تأسَّسَت عام ١٨٤٤م، واستمرَّت حتى عام ١٩٣٥م. (المعرب)
٢  لقب شرفي كان يمنح لأبناء النبلاء المقربين من البلاط. (المعرب)
٣  سالتيكوف شيدرين (١٨٢٦–١٨٨٩م)؛ كاتب روسي ساخر، اشتهر بنقده اللاذع للنظام البيروقراطي القيصري وبآرائه الديمقراطية الثورية. (المعرب)
٤  كوزما بروتكوف؛ اسم مستعار كان ثلاثةٌ من الكُتَّاب الرُّوس يُوقِّعون به مؤلَّفاتهم الهجائية. وهم الصحفيان الأخوان جيمتشوجنيكوف، والأديب أليكسي قسطنطينوفتش تولستوي (١٨١٧–١٨٧٥م). (المعرب)
٥  كان أعضاء المجتمع الفرنسي يُمنَحون لقب «الخالدون».
٦  خيال شعري (باللاتينية في الأصل).
٧  تعالي وأنتِ تفكرين فيَّ سرًّا (بالإيطالية في الأصل).
٨  الإشارة هنا إلى رواية الكاتب الكبير إيفان تورجينيف «في العشية»، والتي كان بطلها أحد الثوَّار البلغار. وقد أحبَّ فتاةً روسيةً آمنَت بقضيته ومضَت معه إلى بلغاريا، ولكنه تُوفِّي في الطريق. (المعرب)
٩  إشارة إلى المثل: مَن يجعل نفسه قنطرةً فليتحمل الدَّوس. (المعرب)
١٠  شارع رئيسي في بطرسبرج. (المعرب)
١١  الحلي (بالفرنسية في الأصل).
١٢  الأب جورجو (بالفرنسية في الأصل).
١٣  كانوفا (١٧٥٧–١٨٢٢م) نحَّات إيطالي كلاسيكي شهير. (المعرب)
١٤  مارينو فالييرو (١٢٧٨–١٣٥٥م)؛ دوج البندقية، أُعدِم بتُهمة التآمر لإقامة جمهورية ديمقراطية في البندقية. (المعرب)
١٥  السيدة انصرفت (بالفرنسية في الأصل).
١٦  بيت مُحرَّف من الكوميديا الشعرية: «وذو العقل يشقى …» للشاعر الروسي ألكسندر جربيويدوف (١٧٩٥–١٨١٩م)، وأصله: فيا له من قَدَرٍ يا خالقي بأن أكون والدًا لابنة كبيرة! (المعرب)
١٧  مغزاها (بالفرنسية في الأصل).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤